الاجتهاد - تعريفه

خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (1) تعريفه الاجتهاد لغة واصطلاحا، الاجتهاد بمفهومه العام، أخذ الظن في تعريفه ومناقشته، أخذ العلم فيه ومناقشة التعريف، الاجتهاد بمفهومه الخاص.
------------------------------------------------------------------
الاجتهاد لغة واصطلاحا: الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو بذل الوسع للقيام بعمل ما، ولا يكون إلا في الاشياء التي فيها ثقل، فيقال: اجتهد فلان في رفع حجر ثقيل، ولا يقال: اجتهد في  حمل ورقة مثلا. وهو في الاصطلاح مختلف في تحديده، والذي يبدو أن لهم فيه اصطلاحين مختلفين أحدهما أعم من الآخر. الاجتهاد بمفهومه العام: أما الاول منهما وهو الاجتهاد بمفهومه العام،  فقد اختلفت كلماتهم في تحديده اختلافا كبيرا، والذي عليه الآمدي والعلامة الحلي وابن الحاجب هو أخذ الظن في تعريفه. أخذ الظن في تعريفه ومناقشته: فقد عرفه الآمدي ب‍: (استفراغ الوسع في  طلب الظن بشئ من الاحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه (1)). وعرفه كل من العلامة الحلي والحاجبي ب‍: (استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي  (2)). وجرت على هذا النحو كثير من التعريفات.
(1) ارشاد العقول، ص 250. (2) الكفاية، ج 2 ص 347، طبعة النجف. (*)
------------------------------------------------------------------
والذي يرد على هذه التعاريف ان الاقتصار على ذكر الظن فيها، يجعلها غير جامعة تارة وغير جامعة ولا مانعة أخرى، لان الظن إن أريد منه خصوص ما قام على اعتباره دليل من شرع أو  عقل، كانت التعاريف غير جامعة وذلك: 1 - لخروج العلم بالاحكام عنها لبداهة انها ليست بظن. 2 - وخروج ما لم يفد الظن مما قام عليه دليل بالخصوص وان أريد به الاعم من الظن المعتبر  وغيره كما هو الظاهر من اطلاق التعبير، كانت بالاضافة إلى ذلك غير مانعة لدخول الظنون غير المعتبرة في هذه التعاريف، مع اتفاقهم - ظاهرا - على عدم اعتبارها من أدلة التشريع. وقد حاول  بعض أساتذتنا - فيما نسب إليه - ان يصحح هذه التعاريف على مذهب الاخذين بالظنون القياسية والاستقرائية والاستحسانية ظانا ان هؤلاء انما يعملون بها لانها ظنون فحسب لا لانها ظنون  معتبرة عندهم بقيام الدليل عليها، مع ان لهم أدلة يذكرونها على حجيتها، وقد سبق عرضها في المباحث السابقة عند التعرض لهذه الاقسام في الباب الاول من هذا الكتاب. والذي يبدو ان ذكر الظن  هنا غير ذي موضوع لعدم وجود أية خصوصية له تبرر ذكره في التعريف، لان المدار على ما قامت عليه الحجة، أفاد الظن أم لم يفده. وكأنه لذلك عدل غير واحد من الاصوليين عن ذكره  واكتفوا بأخذ العلم فيه.
------------------------------------------------------------------
أخذ العلم فيه ومناقشة التعريف: فقد عرفه الخضري ب‍ (بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة (1)). وجرى على ذلك جملة من أعلام الاصوليين. والذي يرد على هذا النوع من  التعاريف: ان العلم هنا إن كان قد أرادوا به الاعم من العلم الوجداني والتعبدي، وأرادوا بكلمة الحكم الشرعي الاعم من الواقعي والظاهري، كانت هذه التعاريف سليمة نسبيا لاندفاع المؤاخذات  السابقة عنها، إلا انها تبقى - كسابقتها - محتاجة إلى ضميمة كلمة الوظائف، لتشمل كل ما يتصل بوظائف المجتهد من عمليات الاستنباط، وهذه المؤاخذة واردة على جل الاصوليين حتى  المتأخرين منهم كالاستاذ مصطفى الزرقا حيث عرفه ب‍: (عملية استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة (2)). لبداهة خروج عمليات استنباط الوظائف من بعض الاصول:  كالبراءة، والاحتياط، والتخيير - عن واقع التعريف، لان نتائجها ليست أحكاما شرعية كما مر إيضاحه في بحوثها من هذا الكتاب. والانسب - فيما نرى - ان يعرف ب‍: (ملكة تحصيل الحجج على  الاحكام الشرعية أو الوظائف العملية، شرعية أو عقلية). وهذا التعريف منتزع مما تبنته مدرسة النجف الحديثة في علم الاصول (3). وإنما ذكرنا في التعريف الملكة، خلافا للتعاريف السابقة  جميعا،
(1) أصول الفقه له، ص 357. (2) مجلة حضارة الاسلام، ج 1 عدد 2 ص 7. (3) راجع مصباح الاصول، ص 434. (*)
------------------------------------------------------------------
لنبعد ما تشعر به كلمات بعضهم من اعتبار الفعلية في الاستنباط، وذلك لوضوح ان صاحب الملكة يصدق عليه انه مجتهد، وإن لم يباشر عملية الاستنباط فعلا. الاجتهاد بمفهومه الخاص: وقد  عرفه الاستاذ خلاف ب‍ (بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه (1)). بينما رادف الشافعي بينه وبين  القياس، فقال انهما (اسمان لمعنى واحد (2)). وفي رأي ابي بكر الرازي ان الاجتهاد يقع على ثلاثة معان: ((أحدها القياس الشرعي، لان العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز وجودها خالية عنه  لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فذلك كان طريقه الاجتهاد). (والثاني ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم). (والثالث الاستدلال بالاصول (3)). والذي يتصل من  هذه الثلاثة بالاجتهاد بمفهومه الخاص لدى الاصوليين هو المعنى الاول - أعني القياس - أما الثاني فهو أجنبي عن وظائف المجتهدين، لان الاجتهاد في تشخيص صغريات الموضوعات الشرعية  ليس
(1) مصادر التشريع، ص 7. (2) الرسالة له، ص 477 طبعة مصر. (3) ارشاد الفحول، ص 250. (*)
------------------------------------------------------------------
من وظائف المجتهدين بداهة، والمعنى الاخير هو الاجتهاد بمفهومه العام. واعتبره مصطفى عبد الرزاق مرادفا للرأي والقياس والاستحسان والاستنباط (1). والغريب ان يرادف بين هذه المعاني  وهي مختلفة المفاهيم ويجعلها حاكية عن مفهوم واحد. ولست أظن ان الاستاذ عبد الرزاق يريد ان يقول بالاشتراك اللفظي بينها لعدم التعدد في اوضاعها بداهة. والظاهر ان لفظة الاجتهاد -  بمفهومها الخاص - مرادفة لديهم لمفهوم الرأي والمعاني الاخرى من قبيل المصاديق لهذا المفهوم، وقد وقع الاشتباه نتيجة للاختلاط في استعماله بين المفهوم والمصداق. وحديثنا انما ينصب على  خصوص الاجتهاد بمفهومه العام، لدخول الاجتهاد بالمفهوم الثاني ضمن ما يصدق عليه، وقد سبق ان تحدثنا عن هذه الاقسام من الاصول: القياس، الاستحسان... الخ، وتعرفنا على ما كان حجة  منها من غيره، فلا ضرورة لان نخصها بعد ذلك بشئ من الحديث.
(1) تمهيد لتأريخ الفلسفة الاسلامية، ص 138. (*)
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (2) أقسامه ومعداته تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه، مناقشة هذا التقسيم، الاجتهاد العقلي، الاجتهاد الشرعي، معدات الاجتهاد العقلي، معدات الاجتهاد  الشرعي، ما يتصل بنسبة النص لقائله، ما يتصل منها بمجالات الاستفادة.
------------------------------------------------------------------
تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه: وقد قسموا الاجتهاد بلحاظ طبيعة طرقه وحججه المأخوذة في مفهومه بتقسيمات لعل احدثها تقسيم الدكتور الدواليبي له، يقول: (وتوصلا إلى معرفة الاحكام من  النصوص الشرعية يتكلم العلماء بعد ذلك عن طرق الكشف عن الاحكام الشرعية، ويمكن ان نقسم ذلك إلى ثلاثة طرق: 1 - طريقة الاجتهاد البياني، وذلك لبيان الاحكام الشرعية من نصوص  الشارع. 2 - طريقة الاجتهاد القياسي، وذلك لوضع الاحكام الشرعية للوقائع الحادثة، مما ليس فيه كتاب أو سنة بالقياس على ما في نصوص الشارع من أحكام. 3 - طريقة الاجتهاد  الاستصلاحي، وذلك لوضع الاحكام الشرعية، مما ليس فيه كتاب ولا سنة بالرأي المبني على قاعدة الاستصلاح (1). مناقشة هذا التقسيم: ويرد على هذا التقسيم وبعض ما جاء فيه من تحديدات:  1 - انه غير جامع لشرائط القسمة المنطقية لعدم استيعابه لاقسام المقسم، مع انه في مقام استيعابها بقرينة تعقيبه على هذا التقسيم بقوله: (ولم اتكلم في الاجتهاد الاستحساني، لان بعض حالاته  تدخل في الاجتهاد القياسي وبعضها الآخر في الاجتهاد الاستصلاحي (2)) لوضوح ان الطرق التي اعتبرها العلماء كاشفة واعتمدوها في مجالات الاستنباط، بلغ بها بعضهم
(1 - 2) المدخل إلى علم أصول الفقه، ص 389. (*)
------------------------------------------------------------------
تسعة عشر بابا (1)، وأكثرها لا ترجع لهذه الطرائق الثلاث. 2 - ان القياس - كما سبق بيانه - ليس في جميع اقسامه قسيما للاجتهاد البياني بل في بعضها هو قسم منه كالقياس المنصوص العلة،  والذي يستفاد من عموم أو اطلاق علته عموم الحكم لجميع ما تتعلق به، والاستصلاح بناء على تعريفه له - أعني الدواليبي - داخل هو الآخر في الاجتهاد البياني لاستفادته من الادلة العامة، أمثال:  لا ضرر، وجميع الموارد التي يدعي اعمال الاستصلاح فيها، إنما هي من مصاديق هذا الحكم الفرعي الشرعي الكلي المستفاد من حديث (لا ضرر)، أو قاعدة العدل لا إنه في مقابلها، وقد مضى  منا القول في (مبحث الاستصلاح) بأن التماس المصاديق لاحكام شرعية كلية وتطبيق كلياتها عليها، لا يخرج هذه المصاديق بعد التطبيق عن كونها من السنة، وكل أحكام السنة كلية إلا ما ندر  منها. 3 - تفرقته بين طريقة الاجتهاد البياني والطريقتين الاخريين، باعتباره الاولى بيانا للاحكام الشرعية، والثانية والثالثة (وضعا) لها، مع ان لازم ذلك اعتبار المجتهد مشرعا، وهو خروج على  إجماع المسلمين بالاضافة إلى مناقضته لنفسه حين اعتبرها جميعا من الكواشف عن الاحكام الشرعية. نعم، هذا التعبير لا يلتئم إلا على مبنى من مباني (المصوبة)، وهو المبني الذي ينكر جعل  الاحكام الواقعية في حقوق الجاهلين ويعتبرها تابعة لظنون المجتهدين، إن صح نسبة القول، بوضع الاحكام من قبل المجتهدين إليهم، ولا أظن ان الدكتور ممن يؤمنون به، بل لا أعرف في علماء  الاسلام اليوم من يؤمن به، وستأتي مناقشته. وإذا لم يتم هذا التقسيم فالانسب التركيز - في مجال القسمة لابوابه -
(1) رسالة الطوفي، ص 90. (*)
------------------------------------------------------------------
على ما كنا قد استفدناه من اختلافها - من حيث الطريقية أو الحجية - بالذاتية والجعل الشرعي فنقسمه استنادا إلى ذلك إلى قسمين: 1 - الاجتهاد العقلي: ونريد به، ما كانت الطريقية أو الحجية  الثابتة لمصادره عقلية محضة غير قابلة للجعل الشرعي، وينتظم في هذا القسم كل ما أفاد العلم الوجداني بمدلوله كالمستقلات العقلية وقواعد لزوم دفع الضرر المحتمل، وشغل الذمة اليقيني  يستدعي فراغا يقينيا وقبح العقاب بلا بيان وغيرها. 2 - الاجتهاد الشرعي: ونريد به كل ما احتاج إلى جعل أو امضاء لطريقيته أو حجيته - من الحجج السابقة، ويدخل ضمن هذا القسم: الاجماع  والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والاستصحاب، وغيرها من مباحث الحجج والاصول العملية مما يكشف عن الحكم الشرعي أو الوظيفة المجعولة من قبل الشارع عند عدم اكتشافه.  وإذا صح هذا التقسيم، فإن علينا ان نبحث كل ما يتوقف عليه من معدات تيسيرا لطالبي الاجتهاد في بلوغ مراتبه. معدات الاجتهاد العقلي: ويتوقف الاجتهاد العقلي على خبرة بالقواعد الفلسفية  والمنطقية، وبخاصة تلك التي يرتكز عليها أصول الاقيسة بمختلف أشكالها، لان فيها وفي بقية قواعد المنطق - كما يقال - العصمة عن الخطأ في الفكر، شريطة ان يتعرف عليها في منابعها  السليمة في أمثال معاهد النجف الاشرف من
------------------------------------------------------------------
المعاهد الاسلامية التي عنيت بالدراسات المنطقية والفلسفية، وإدخال الاصلاحات عليها لا مما أخذ وترجم حديثا عن الغرب لكثرة ما رأينا فيه من الخلط في المفاهيم، وتحميلها لوازم غريبة ينشأ  أكثرها من عدم فهمهم لقسم من المصطلحات، وتحديد مداليلها بكل ما حفلت به من قيود وشروط (1). معدات الاجتهاد الشرعي: أما الاجتهاد الشرعي فهو متوقف على الاحاطة بعدة خبرات،  وهي مختلفة باختلاف تلكم الطرق المجعولة أو الممضاة من قبل الشارع المقدس، فبالنسبة إلى الطرق غير المقطوعة أسانيد أو دلالة، أو هما معا، نحتاج إلى عدة خبرات يتصل بعضها بتحقيق  النص وصحة نسبته لقائله، ويتصل بكيفيات الاستفادة من النص في مجالات التماس الحكم أو الوظيفة منه بعد تصحيح نسبته. أ - ما يتصل منها بنسبة النص لقائله: أما ما يتصل منها بالقسم الاول  فمعداته كثيرة وأهمها: 1 - ان يكون على علم بفهرست كل ما يرتبط بهذه النصوص وتبويبها ومعرفة مظانها في كتبها الخاصة، أمثال الصحاح والمسانيد والموسوعات الفقهية، ليسهل عليه  التماس ما يريد استنباط الحكم منه من بينها على نحو يوجب له الاطمئنان بعدم وجود ما يخالفها أو يضفي بعض الاضواء عليها. 2 - ان تكون له خبرة بتحقيق النصوص والتأكد من سلامتها من
(1) للتعرف على أوجه الكثير من هذه المفارقات التي حفلت بها الفلسفات الغربية على اختلافها، يحسن الرجوع إلى كتاب (فلسفتنا) للسيد محمد باقر الصدر، فهو من خير الكتب التي عالجت  هذه الجوانب ادراكا ومناقشة. (*)
------------------------------------------------------------------
الخطأ أو التحريف، وذلك بالبحث عن نسخها الخطية على اختلافها أو المطبوعة على اختلاف طبعاتها ومقارنة بعضها ببعض واختيار أصحها وأسلمها عند الشك في سلامة النص. 3 - التأكد من  سلامة رواتها ووثوقهم في النقل بالرجوع إلى الثقات من أرباب الجرح والتعديل. 4 - التماس الحجية لها من قبل الشارع، باعتبارها من أخبار الآحاد التي توجب قطعا بمضمونها، وقد عرضنا ما  يتصل بهذا الجانب في (مبحث السنة) من هذا الكتاب. 5 - ان تكون لنا خبرة بالمرجحات التي جعلها الشارع أو أمضاها عند التعارض بينها. ب - ما يتصل منها بمجالات الاستفادة: وهي كثيرة  أيضا وأهمها: 1 - أن تكون لنا خبرة لغوية تؤهلنا، لان نفهم مواد الكلمات ونؤرخ لها على أساس زمني، لنتمكن من ان نضعها في مواضعها الطبيعية لها، ونفهمها على وفق ما كانوا يفهمون من  معانيها في زمنها. ولا يشترط فينا، أن نكون مستحضرين لمعاني جميع ما ورد في الكتاب أو السنة من الالفاظ اللغوية بل تكفينا القدرة على استخراجها من مظانها في أمثال كتاب (مفردات  الراغب الاصفهاني) في غريب القرآن، و (مجمع البيان) للطبرسي، و (التبيان) للشيخ الطوسي في التفسير، و (مجمع البحرين) للطريحي، و (النهاية) لابن الاثير في لغة الحديث. 2 - أن نكون  على علم بوضع قسم من الهيئات والصيغ الخاصة، كهيئات المشتقات، وصيغ الاوامر، والنواهي، والعموم، والخصوص،
------------------------------------------------------------------
والاطلاق، والتقييد، والهيئات الدالة على بعض المفاهيم، وما إليها من الهيئات التي عنيت ببحثها كتب (أصول الفقه) القديمة، ولم تعن بها كتب اللغويين عناية هامة. 3 - ان نحيط معرفة بمسائل  النحو والتصريف، بالمقدار الذي يؤهلنا لتمييز حركات الاعراب، وما تكشف عنه من اختلاف المعاني. أما الغوص على استقراء العلل النحوية والآراء المختلفة فيها، فهذا ما ليس له أية ضرورة  بالنسبة إلى وظيفتنا، كطلاب اجتهاد. 4 - أن نكون على درجة عالية في فهم أساليب العرب من وجهة بلاغية وتقييمها وإدراك جملة خصائصها. وهذا ما لا يتأتى لنا في الغالب من دراسة كتب  البلاغة التقليدية، لانشغالها عن مهمتها الاساسية بمماحكات لفظية تتصل اكثر ما تتصل بتكثير المصطلحات وتنويعها وإثارة النقاش حولها. أما التماس النصوص البليغة ودراستها وتقييمها، فهذا ما  لا يتفق أن تعنى به إلا نادرا. وبما ان أهم مصادر التشريع عندنا هو: الكتاب والسنة، وهما في أعلى مستويات البلاغة وبخاصة القرآن الكريم، معجزة الاسلام الخالدة، فإن فهمها مما يحتاج إلى  حس بلاغي لا يتوفر إلا في القليل من البلغاء ممن تكون لديهم ذلك الحس، بفضل تتبع واستظهار وتقييم كثير من النصوص البليغة في عصر القرآن وغيره. 5 - ان تكون لنا إحاطة تاريخية  بالازمان التي رافقت تكون السنة وما وقع فيها من أحداث، لنستطيع ان نضع النصوص التشريعية في موضعها الزمني، وفي أجوائها وملابساتها الخاصة. ومعرفة الملابسة قد تغير دلالة نص  بأكمله، وما اكثر ما تنطوي
------------------------------------------------------------------
الملابسات على قرائن يصلح بعضها لصرف ذلك النص عن ظاهره أو تقييده في حدود تلكم الملابسة. وبهذا نرى أنفسنا في أمس الحاجة إلى معرفة أسباب النزول في الكتاب العزيز، والبواعث  لتبليغ التشريع في السنة - إن كانت - لما يلقيان من أضواء على طبيعة الحكم. والذي نرجوه ان لا يفهم من كلامنا هذا أننا نؤمن بأن المورد أو السبب مما يخصص الوارد أو يدعو إلى تقييده في  حدود موارده أو بواعثه، فإن الذي أردنا ان نقوله ان المورد أو الباعث ربما يكشف عن طبيعة الوارد ونوع ما يعمم له من المصاديق. وأظن اننا سندرك حاجتنا الكبيرة إلى هذه الخبرة في مجال  المقارنة الفقهية القادمة، عندما نعرض لجملة من الفتاوى المتناقضة ونلتمس أسبابها، فنجد أهواء الحاكمين من وراء هذا التناقض. وبهذا ندرك قيمة ما أرسله الامام الصادق (عليه السلام) من  جعله مخالفة العامة من أقسام المرجحات. وبخاصة إذا تذكرنا ما قلناه في (مبحث الاستحسان) من أن المراد من العامة اولئك المرتزقة الذين يسيرون دائما في ركاب حكامهم، ويفتون على حسب  ما يريدونه منهم، ولعل الدعوة إلى سد باب الاجتهاد كان من بواعثها الخيرة غلق الطريق على أمثال اولئك من المتطفلين على موائد الافتاء ممن كانوا بيد السلطان كالدمى يحركونها كيفما شاءوا  وشاءت لهم سياساتهم الخاصة لتضليل الرأي العام. ومن هنا نرى كثيرا من السلطات تحفل بأمثال هؤلاء، وتشتري عواطفهم بالمناصب الكبيرة والكثير من الاموال، وحتى في عصورنا المتأخرة،  مع الاسف الشديد، لا نعدم الامثال الكثيرة على ذلك.
------------------------------------------------------------------
وإذا لم تكن لنا تلك الخبرة التأريخية، فانا لا نستطيع ان نقيم تلك الاخبار المتعارضة ونعرف ما خالف العامة منها مما وافقها، وعلى الاخص إذا تم ما قربناه من ان الاساس في هذا التقييم لم يكن  موجها نحو أرباب المذاهب المعروفة اليوم، لعدم وجود بعض أربابها إذ ذاك، والموجود منهم لم يكن - على درجة من كثرة الاتباع - تخول اطلاق كلمة العامة عليهم، بل لم يكن بعضهم على  اتصال بالسلطة الزمنية، كما هو المعروف من تأريخهم. 6 - ان تكون لنا خبرة بأساليب الجمع بين النصوص كتقديم الناسخ على المنسوخ، والخاص على العام، والمطلق على المقيد، وكالتعرف  على موارد حكومة بعض الادلة على بعض أو ورودها عليها. 7 - ان نكون على ثقة - بعد اجتياز المرحلة السابقة وتحصيل ظهور النص - بحجية مثل هذا الظهور. هذا كله بالنسبة إلى الطرق  الكاشفة عن الكتاب والسنة سواء ما يتصل بالسند بالنسبة إلى السنة أم الدلالة بالنسبة اليهما، أما الطرق الاخرى الكاشفة عن الحكم أو الوظيفة من غير طريقهما، فحسب الفقيه ان يحيط منها بما  حرر في كتب الاصول الموسعة ليعرف الحجة منها من غير الحجة، ويعرف موارد جريانها وأصول الجمع بينها، ولا يقتصر في ذلك كله على الاخذ برأي فريق دون فريق، بل يمحصها جهده  ويكون لنفسه رأيا، لان التقليد في أصول الفقه محق للاجتهاد من أساسه، بل الاجتهاد في واقعه لا يعدو معرفة هذه الحجج وموارد تطبيقها، معرفة تفصيلية. وفي المبحث اللاحق سنلقي ببعض  الاضواء على هذا الجانب لايضاحه.
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (3) تجزى الاجتهاد وعدمه ملكة الاجتهاد ومنشؤها، الاجتهاد المطلق، الاجتهاد المتجزئ، الخلاف في تجزئ الاجتهاد وعدمه، احالة الاجتهاد المطلق، امكان  الاجتهاد المطلق، إمكان التجزئ ووقوعه، لزوم التجزئ، القول بعدم الامكان وسببه، أقربية القول بعدم الامكان، خلاصة الرأي.
------------------------------------------------------------------
ملكة الاجتهاد ومنشؤها: وقد تبين لنا مما تقدم ان ملكة الاجتهاد إنما تنشأ من الاحاطة بكل ما يرتكز عليه قياس الاستنباط سواء ما وقع منه موقع الصغرى لقياس الاستنباط، كالوسائل التي يتوقف  عليها تحقيق النص وفهمه أو كبراه، كمباحث الحجج والاصول العملية. وسالك طريق الاجتهاد لا يمكن ان يبلغ مرتبته حتى يمر بها جميعا ليكون على حجة فيما لو أقدم على إعمال هذه الملكة.  فالذي يعرف - مثلا - وسائل تحقيق النص وفهمه دون ان يجتهد في معرفة بقية الحجج والاصول على نحو، يكون لنفسه فيها رأيا لا يتداخله الوهم أو الشك لا يسوغ له ادعاء الاجتهاد ولا استنباط  حكم واحد لعدم المؤمن له من قيام حجة يجهلها من الحجج الاخرى على خلاف ما استفاده من النص، وقد تكون سمة هذه الحجة المجهولة لديه، سمة الحاكم أو الوارد على ذلك النص. وإذا صح  هذا عدنا إلى ما ذكروه حول إمكان تجزئ الاجتهاد وعدمه، والضوابط التي جعلوها لكل منهما - أعني المجتهد المطلق والمتجزي -. الاجتهاد المطلق: وأرادو به (ما يقتدر به على استنباط الاحكام  الفعلية من امارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التى يظفر فيها بها (1)).
(1) الكفاية، ج 2 ص 348 المطبوعة مع حاشية الحجة الشيخ عبد الحسين الرشتي. (*)
------------------------------------------------------------------
وهذا التعريف قريب من تعريفنا السابق عدا مؤاخذات شكلية لا تستحق التنبيه عليها. الاجتهاد المتجزئ: وقد عرفه بالكفاية بقوله: (ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام (1)). وربما أوضح  كلام الغزالي في المقام ما يمكن ان يراد من أمثال هذا التعريف حيث قال - بعد ان استعرض العلوم التي يراها ضرورية للمجتهد، وهي قريبة في بعض خطوطها مما ذكرناه في معدات الاجتهاد  -: (واجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع). (وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ، بل يجوز ان يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض  الاحكام دون بعض). (فمن عرف طريق النظر القياسي فله ان يفتي في مسألة قياسية، وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه ان يكون فقيه النفس، عارفا بأصول  الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها، ولا تعلق لتلك الاحاديث بها، فمن أين  تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا ؟ ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه، فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم  وأرجلكم إلى الكعبين)، وقس عليه ما في معناه).
(1) الكفاية، ج 2 ص 348 المطبوعة مع حاشية الحجة الشيخ عبد الحسين الرشتي. (*)
------------------------------------------------------------------
(وليس من شروط المفتي ان يجيب على كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة، فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدري، وكم توقف الشافعي، رحمه الله، بل الصحابة في المسائل).  (فإذن لا يشترط إلا ان يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري، فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري (1)). وهذا الكلام غير واضح  لدي وجهه لغرابة مضمونه، إذ العالم الذي يعرف القياس وليست له الخبرة في علم الحديث، كيف يسيغ لنفسه ان يستنبط حكما واحدا من قياسه وينسبه إلى الشارع المقدس، مع انه يحتمل ان يكون  في الاحاديث - التي يتوقف تصحيحها على علم الرجال وفهمها على توفر وسائل الظهور، وتقديمها على غيرها عند المعارضة على المرجحات السندية أو الجهتية، وتشخيص رتبتها على أصول  الجمع بين الادلة والحجج على اختلافها -. - اقول مع انه يحتمل ان يكون في هذه الاحاديث ما يوقف الاخذ بهذا القياس. وما يقال من إمكان فرض اجتهاده في البعض، والرجوع في البعض  الآخر، إلى غيره من المجتهدين فيها لالتماس موقعها من الاصل، أو القاعدة التي يريد الاجتهاد فيها، لا يجدي في اعتباره مجتهدا لبداهة ان النتيجة تتبع أخس المقدمتين، وما دامت بعض مقدماته  التي اعتمدها في مقام الاستنباط مأخوذة عن تقليد، فالنتيجة لا تخرجه عن كونه مقلدا، والعلم في دفع تأثير بقية الادلة الذي يكون منشؤه غير الاجتهاد، لا يجعل صاحبه مجتهدا بداهة.
(1) المستصفى، ج 2 ص 103. (*)
------------------------------------------------------------------
على أن في هذا النص خلطا بين الاجتهاد كملكة، واعمال الاجتهاد والامثلة التي ضربها كلها، تنتظم في مجالات إعمال الملكة لا في تكون أصلها. الخلاف في تجزئ الاجتهاد وعدمه: وعلى أي  حال، فقد اختلف العلماء، في إمكان كل من الاجتهادين وعدمه على أقوال بها لا تكاد تلتقي. فالذي يبدو من بعضهم إحالة الاجتهاد المطلق والاكثرون على إمكانه. إحالة الاجتهاد المطلق: وكأن  وجهة نظر هؤلاء، ما يلاحظونه من قصور البشر، بما له من طاقات متعارفة عن استيعاب جميع الاحكام المجعولة لافعال المكلفين على اختلاف مواضعها، حتى المستجدة منها، ومثل هذا  الاستيعاب ممتنع عادة على البشر. وقد فهموا من الاجتهاد المطلق، فيما يبدو اعتبار فعلية الاستنباط فيه وفعلية الاستنباط لجميع الاحكام ممتنعة بينما يرى القائلون ب‍: إمكان الاجتهاد المطلق: انه  من قبيل الملكة، التي توفر له القدرة على استنباط الاحكام وهي غير ممتنعة عادة. وعلى هذا، فالنزاع بينهما مبنائي وكلاهما - في حدود مبناه - على حق، وإنما الخطأ واقع في أحد المبنيين،  وسيتضح ان اعتبار فعلية استنباط في مفهوم الاجتهاد، لا وجه له.
------------------------------------------------------------------
إمكان التجزئ ووقوعه: أما التجزئ فالاكثر - فيما يبدو من العلماء - هو القول بإمكانه ووقوعه، وهو الذي تبناه الغزالي وقد مر رأيه - وابن الهمام (1) والرازي (2) وجملة من أساتذتنا  المتأخرين. وقد نسب الحجة الرشتي في شرحه للكفاية القول بعدم إمكانه إلى الشذوذ (3). لزوم التجزئ: وقد تفرد صاحب الكفاية - فيما نعلم بالقول بلزوم التجزئ فضلا عن إمكانه ووقوعه، قال  في الكفاية: (وحيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركا، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة عقلية ونقلية مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرب شخص  كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في العقليات أو النقليات، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها). (وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في  بعضها لسهولة مدركه، ولمهارة الشخص مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة (4)).
(1) المراغي في رسالة الاسلام. س 1 ج 3 ص 352. (2) سلم الوصول، ص 342. (3) حاشية الرشتي على الكفاية، ج 2 ص 350. (4) الكفاية، ج 2 ص 350 ( متن) حاشية الرشتي. (*)
------------------------------------------------------------------
القول بعدم الامكان وسببه: ولعل وجهة نظر القائلين بعدم إمكان التجزي هو أخذهم الملكة أو الاستنباط في تعريفه والتزامهم ببساطتهما وعدم إمكان التجزئة فيهما. وقد أجيب على وجهة النظر هذه  بأن المراد (هو التبعيض في أجزاء الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل، إذ كما ان كل حكم من الاحكام الشرعية في مورد مغاير للاحكام الاخر في موارد أخر، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها،  فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة، وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها، وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر). (وحيث ان مدارك الاحكام مختلفة  جدا فرب حكم بهذا المعنى يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه، ورب حكم لا يبتني استنباطه إلا على مقدمة واحدة فيسهل استنباطه، ومع ذلك يمكن ان يقال: ان القدرة على  استنباط حكم واحد لا تكون إلا مع القدرة على استنباط جميع الاحكام). (وبالجملة حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الامكان، لا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره). ( ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام، واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل، فإن الثاني هو الذي تنافيه البساطة ولا دخل له في المقام (1)). والذي يبدو لنا من  خلال تصورنا لمختلف وجوه المسألة هو:
(1) مصباح الاصول، ص 421 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
أقربية القول بعدم الامكان: لا لما ذكروه من بساطة الملكة وعدم بساطتها ليقال: (إن التجزئة هي من مصاديق الكلي، لا في أجزاء الكل، أو يقال بان الملكة توجد ضيقة على قدر استنباط بعض  الاحكام، ثم تتسع بعد ذلك تدريجا (1)، بل لما قلناه في مدخل البحث: من ان حقيقة الاجتهاد، هو التوفر على معرفة تلكم الخبرات أو التجارب على اختلافها، فمع توفرها جميعا توجد الملكة، ومع  فقد بعضها تنعدم لا أنها توجد ضيقة أو يوجد بعض مصاديقها - كما يبدو ذلك من كلام الغزالي السابق -. ولست اخال أن احدا من الاساتذة، يلتزم بأن المجتهد في خصوص مباحث الالفاظ - مثلا -  مجتهد متجزئ لحصوله على بعض مصاديق ملكة الاجتهاد، لان الملكة التي تحصل من دراسة مباحث الالفاظ، لا تكون اجتهادا اصطلاحيا ما لم تنضم إليها بقية الملكات، فالاجتهاد في الحقيقة هو  الوحدة المنتظمة لجميع تلكم الملكات. وكل واحدة من هذه الملكات، أشبه ما تكون بجزء العلة لملكة الاجتهاد، فما لم تنضم إليها بقية الاجزاء لا يتحقق معلولها اصلا، ومع انضمام البقية تتحقق  الملكة (مطلقة)، وإن لم يستنبط صاحبها مسألة واحدة. وصعوبة الاستنباط لابتناء بعض المسائل على مقدمات، لا تنافي حصول الملكة في أولى مراتبها المستلزمة للقدرة على استنباط هذه الاحكام  جميعا. ونحن لا ننكر ان ملكة الاجتهاد ذات مراتب تقوى وتضعف تبعا لدرجة إعمالها كأية ملكة أخرى، ولكننا - نؤمن مع ذلك - بان أدنى مراتبها بعد خلقها بتوفر أسسها، ومعداتها كافية لصدق  الاطلاق عليها
(1) الرشتي في شرح الكفاية، ج 2 ص 342. (*)
------------------------------------------------------------------
لقدرة صاحبها على استنباط أية مسألة تعرض عليه، وان كان الاستنباط في بعضها لا يخلو من صعوبة على المبتدئ لابتنائه على مقدمات طويلة يحتاج استيعابها والتأمل فيها إلى جهد كبير. والذي  اظنه ان الخلط بين الملكة وإعمالها هو الذي سبب الارتباك في كلمات بعضهم. والتجزي في مقام إعمال الملكة يكاد يكون من الضروريات، بل لا يوجد في هذا المقام اجتهاد مطلق أصلا. ودعوى  امتناعه - اعني الاجتهاد المطلق - بهذا المعنى لا تخلو من أصالة لاستحالة إعمال الملكة في جميع المسائل، حتى التي لم توجد موضوعاتها بعد، فاستيعاب جميع مسائل الفقه أمر متعذر على بشر  عادي بداهة. وحتى مع فرض امكان الاجتهاد المطلق، فالتزام صاحب الكفاية بلزوم القول بالتجزي ووجوب وجوده عادة، لا يخلو من وجه لامتناع إعمال الملكة دفعة واحدة في جميع المسائل، بل  لا بد في مقام استيعابها من التدرج فيها. وإذا تمت هذه التفرقة بين الاجتهاد كملكة، والاجتهاد في مقام إعمالها، اتضح الجواب على كل ما استدل به في هذا المورد، كاستدلال الاستاذ عمر عبد الله  على لزوم التجزي بقوله: (لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم ان يكون المجتهد عالما بجميع الاحكام، وذلك باطل قطعا، فقد سئل كثير من المجتهدين عن مسائل، فأجابوا عن بعضها ولم يجيبوا عن البعض  الآخر (1)). وهذه الملازمة انما تتم إذا أراد من الاجتهاد إعمال الملكة، ومن العلم بجميع الاحكام فعلية العلم، وإلا فمع الالتزام بكون الاجتهاد ملكة
(1) سلم الوصول، ص 342. (*)
------------------------------------------------------------------
لا يلزم المجتهد العلم بمسألة واحدة فضلا عن جميع المسائل، والطبيب - بعد تخرجه - طبيب وإن لم يداو واحدا من المرضى. وكذا لو أراد من العلم شأنية العلم، إذ لا مانع من ان يكون لصاحب  الملكة شأنية العلم بجميع المسائل. ومع تمامية الملازمة فاللازم لا يكون باطلا لما ذكره من سؤال بعض المجتهدين، وعدم إجابتهم للجهل بما سئلوا عنه لجواز ان يتسرب الشك إلى اجتهادهم قبل  ان يتسرب إلى القاعدة، فالانسب تعليل بطلان اللازم بامتناع الاحاطة بجميع الاحكام عادة. والغريب ان يقع بعض القائلين بامتناع التجزي بنفس المفارقة من الخلط بين الملكة وإعمالها، فالاستاذ  خلاف في الوقت الذي يعلل فيه عدم التجزي بقوله: (لان الاجتهاد - كما يؤخذ مما قدمناه - أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص، واستثمار الاحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما  لا نص فيه، فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد، وتكونت له هذه الملكة لا يتصور ان يقتدر بها في موضوع دون آخر (1))، يعود فيقع في المفارقة نفسها عندما يتم دليله فيقول: (وقد يكون هادي  المجتهد في أحكام الزواج، مبدأ أو تعليلا تقرر في أحكام البيع، فلا يكون مجتهدا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض ومن مبادئها العامة، إلى  الاستنباط الصحيح (2)). وموضع المفارقة ان العلم بأحكام القرآن أو السنة، إنما يحتاج إليه المجتهد في مجالات إعمال الملكة لا مجالات تكونها.
(1) علم أصول الفقه لخلاف، ص 262. (2) علم أصول الفقه لخلاف، ص 262. (*)
------------------------------------------------------------------
على ان هذا التعميم في العلم لجميع أحكامهما، لا يحتاج إليه حتى في مجالات إعمال الملكة، وإلا لتعذر عليه استنباط حكم واحد أو تعسر على الاقل وعلى الاخص إذا لاحظنا تشعب كتب السنة -  صحاحا ومسانيد وسننا -. بل يكفيه منها فحصه عن مواضع الادلة من الآيات والروايات وغيرهما من كتب الفقه والحديث، وفحصها على نحو يحصل له العلم بكفاية ما وصل إليه لاستنباط الحكم  الذي يريد استنباطه من أدلته. خلاصة الرأي: وخلاصة ما انتهينا إليه من رأي، ان التوفر على معدات الاجتهاد جميعا، هو الذي يكون الاجتهاد كملكة، ومع فقد بعضها والتقليد في البعض الآخر،  فإن صاحبها لا يخرج عن كونه مقلدا لاتباع النتائج أخس المقدمات بالضرورة. فملكة الاجتهاد إذن، إما أن توجد مطلقة، أو لا توجد أصلا.
------------------------------------------------------------------
خاتمة البحث القسم الاول الاجتهاد (4) مراتب المجتهدين الاجتهاد ومراتب المجتهدين: الاجتهاد المطلق، الاجتهاد في المذهب، الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها، اجتهاد أهل التخريج،  اجتهاد أهل الترجيح، مناقشة هذا التقسيم، اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب.
------------------------------------------------------------------
الاجتهاد ومراتب المجتهدين: وإذا عرفنا حقيقة الاجتهاد والمعدات التي يجب ان تتوفر في المجتهد لتشارك في تكون ملكته، أمكننا ان نقيم ما ذكروه من تقسيم للاجتهاد بلحاظ مراتب المجتهدين.  وقد ذكروا ان للاجتهاد بهذا اللحاظ أقساما خمسة هي: 1 - الاجتهاد المطلق: أو الاجتهاد المستقل، وحددوه ب‍ (ان يجتهد الفقيه في استخراج منهاج له في اجتهاده) على نحو يكون مستقلا في  منهاجه وفي استخراج الاحكام على وفق هذا المنهاج أو هو (كما يعبر العلماء مجتهد في الاصول وفي الفروع (1)). 2 - الاجتهاد في المذهب: ويريدون به ان يجتهد الفقيه المنتسب إلى  مذهب معين في الوقائع على وفق اصول الاجتهاد التي قررها إمام ذلك المذهب. (وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الاحكام الفرعية). (ومن هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية، وابن  القاسم وأشهب في المالكية، والبويطي والمازني في الشافعية (2)). وقد أطلق الاستاذ ابو زهرة على الفقيه من هذا القسم اسم (المجتهد المنتسب).
(1) الامام الصادق لابي زهرة، ص 537. (2) خلاصة التشريع الاسلامي لخلاف، ص 342. (*)
------------------------------------------------------------------
3 - الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها: عن إمام المذهب وفق الاصول المجعولة من قبله، وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع كالخصاف، والطحاوي، والكرخي من الحنفية، واللخمي،  وابن العربي، وابن رشيد من المالكية، والغزالي، والاسفراييني من الشافعية (1). 4 - اجتهاد أهل التخريج: وهو الاجتهاد الذي لا يتجاوز (تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه  معين لحكم يحتمل وجهين، فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الائمة واحكامهم كالجصاص واضرابه من علماء الحنفية (2). 5 - اجتهاد أهل الترجيح:  ويراد به الموازنة بين ما روي عن ائمتهم من الروايات المختلفة، وترجيح بعضها على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية، كأن يقول المجتهد منهم: (هذا أصح رواية، وهذا اولى النقول  بالقبول، أو هذا اوفق للقياس أو ارفق للناس، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية (3). مناقشة التقسيم: ويرد على هذا التقسيم: 1 - خروجه على اصول القسمة  المنطقية لخلطه بين قسم من الاقسام
(1 - 2 - 3) خلاصة التشريع الاسلامي، ص 343. (*)
------------------------------------------------------------------
وبين مقسمها بجعلها قسيما لمقسمها، والانسب توزيعها - من وجهة منطقية - إلى قسمين: مطلق ومقيد، والمقيد إلى الاقسام الاربعة الاخرى لوجود قدر جامع بينهما وهو الاجتهاد ضمن إطار  مذهب معين. 2 - ان تسمية هذه الاقسام الاربعة بالاجتهاد وجعلها قسما منه في مقابل الاجتهاد المطلق لا يلتئم مع الواقع الذي سبق ان ذكرناه من ان الاجتهاد ملكة لا توجد لصاحبها إلا بعد  حصوله على تلكم الخبرات والتجارب، ومعرفتها معرفة تفصيلية، أو كما قلنا ان الاجتهاد في الحقيقة لا يعدو الاجتهاد في أصول الفقه مع توفر بقية المقدمات، وهو مناط جملة أحكامه الآتية من  حرمة التقليد بالنسبة إلى المجتهد ونفوذ قضائه، وجواز رجوع الغير إليه في التقليد أو لزومه احيانا. ومن الواضح ان المجتهد المقيد ليس مصداقا للمجتهد بهذا المفهوم، لعدم حصول المعرفة  التفصيلية لاصول الفقه لديه واجتهاده فيها. إذ مع اجتهاده فيها وقيام الحجة لديه عليها، كيف يسوغ له التقيد بأصول مذهبه والسير ضمن اطاره الخاص، وربما اختلف مع إمام المذهب في أصل  من الاصول، وكان لديه مما لا يصلح الاحتجاج به، وما الذي يصنعه إذ ذاك، أيخالف إمام مذهبه فيخرج عن الانتماء إلى ذلك المذهب أم يخالف رأيه فيعمد إلى العمل بغير حجة ؟ 3 - ان جميع  ما ذكروه للاجتهاد من تعاريف لا ينطبق على أي قسم من أقسام المقيد، لاخذهم العلم أو الظن بالحكم الشرعي أو الحجة عليه على اختلاف في وجهة النظر في مفهومه. والمجتهد المقيد بأقسامه  الاربعة لا ينتهي باستنباطه - إن صح إطلاق كلمة الاستنباط على عمل قسم منهم - إلى الحكم الشرعي، وغاية ما
------------------------------------------------------------------
ينتهي إليه هو رأي إمامه فعلا أو تقديرا في كون ما انتهى إليه حكما شرعيا - بحكم ما أعمل من قواعد هذا الامام وأصوله -. أما العلم أو الظن بكونه حكما شرعيا أو وظيفة كذلك، فإن هذا لا  يحصل إلا لمن قامت لديه الحجة التفصيلية على ذلك، وهي لا تكون إلا لامام ذلك المذهب نفسه، لا للمستنبط وفق قواعده وأصوله. والحقيقة أن هذا التقسيم اشبه بتقسيم الشئ إلى نفسه والى  غيره، وما احسن ما صنعه الاستاذ خلاف حين عد هذه الاقسام الاربعة في فصل عهد التقليد من كتابه (خلاصة التشريع الاسلامي)، وإن كان قد أطلق كلمة الاجتهاد عليهم تسامحا (1). اجتهاد  الشيعة مطلق أو منتسب: من رأي ابي زهرة ان اجتهاد الشيعة ليس من قبيل الاجتهاد المطلق، وإنما هو من قبيل الاجتهاد المنتسب لاعتقاده بأنه (رسمت له المناهج من بيان احكام النسخ والعموم،  وطريق الاستنباط والتعارض بين الاخبار وحكم العقل، وإن لم يكن نص، وكل هذا يقتضي ان يطبق في اجتهاده لا أن يرسم ويخطط، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه  يمنة ولا يسرة، وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب (2)). ويرد على هذا الرأي الذي تبناه، وربما شاركه فيه غيره من الاعلام. ما ينطوي عليه من تغافل عن وظيفة الامامة لدى  الشيعة، فالذي يبدو أن الاستاذ أبا زهرة، كان يرى في أئمة اهل البيت، انهم مجتهدون في
(1) راجع ص 339 وما بعدها من صفحات هذا الكتاب. (2) الامام الصادق، ص 540. (*)
------------------------------------------------------------------
كل ما يأتون به من أحكام، وحسابهم حساب بقية أئمة المذاهب، مع ان الشيعة لا يرون في أئمتهم ذلك، وإنما يرونهم مصادر تشريع يرجع إليها لاستقاء الاحكام من منابعها الاصيلة، ولذلك اعتبروا  ما يأتون به من السنة، وقد سبق أن عرضنا أدلتهم على ذلك في (مبحث السنة) فهم من هذه الناحية كالنبي (صلى الله عليه وآله)، والفارق أن النبي يتلقى الوحي من السماء، وهؤلاء يتلقون ما  يوحى به إلى النبي من طريقه (صلى الله عليه وآله) وهم منفردون بمعرفة جميع الاحكام فأقوال أهل البيت إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم، وهم مجتهدون في حجيتها كسائر المصادر  والاصول. ولا أقل من اعتبار اولئك الائمة الاطهار، من قبيل الرواة الذين لا يتطرق إليهم الريب في الرواية، وما اكثر تصريحاتهم - أعني الائمة (عليهم السلام) - بكون ما يأتون به من أحكام،  فإنما هو من احاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي لا يعدونها بحال وبعضه بإملائه (صلى الله عليه وآله) وبخط علي (عليه السلام) (1)). وعلى هذا فالاصول التي خططوها - إن صح  هذا التعبير - فإنما هي من تخطيطات الاسلام نفسه، وقد وصلت إليهم من طريق النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي بعض هذه الاصول تصريح بذلك. أما بقية أئمة المذاهب فهم لا يعدون كونهم من  المجتهدين الذين يجوز عليهم الخطأ، ولذا كان ما يأتون به من أصول قابلا للنظر فيه، فلا يكون حجة على الغير. على أن أدلة الشيعة على الحجج - على اختلافها - لم تقتصر على أحاديث اهل  البيت - وهم عدل الكتاب - بل تجاوزتها إلى الكتاب العزيز، والسنة النبوية، والسيرة القطعية، وبناء العقلاء، وحكم العقل،
(1) راجع رجال النجاشي، ص 455 ترجمة محمد بن عذافر. (*)
------------------------------------------------------------------
وغيرها - على اختلاف في صلوح بعضها - للاستقلال بالدليلية أو الانتظام ضمن غيره من الاصول. وقد مرت علينا نماذج من أصولهم وأدلتهم عليها في هذا الكتاب وليس في الكثير منها قول  للامام لتصح نسبة تخطيطها إليه. ولهذا نرى ان مجتهدي الشيعة لا يسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل، سواء كان في الفقه أم الاصول أم الحديث، بل يتحمل كل مجتهد  مسؤولية رأيه الخاص. نعم ما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته إليه. والحقيقة ان تسمية الشيعة مذهبا في مقابل بقية المذاهب لا أعرف له أساسا ما داموا لا يعتبرون ما يأتي به أئمتهم  عاكسا لآرائهم الخاصة، وإنما هو تعبير عن واقع الاسلام من أصفى منابعه، فهم في الحقيقة مجتهدون ضمن اطار الاسلام، وهو معنى الاجتهاد المطلق. وإنكار أبي زهرة لهذه الصفة في أئمتهم،  ومناقشته لبعض ما جاءوا به من أدلة على عصمتهم، وكونهم من مصادر التشريع لا يخرج مجتهدي الشيعة - عن كونهم مجتهدين مطلقين - حتى مع فرض الخطأ فيهم - كمجتهدين - لان اختلاف  ابي حنيفة، مثلا، مع الشافعي في بعض أصوله، لا يخرجه عن كونه مجتهدا مطلقا ما دام ابو حنيفة مؤمنا بمصدره التشريعي.
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (5) الاجتهاد بين الانسداد والانفتاح سد باب الاجتهاد، بواعثه وعوامله، أدلة حجيته: الاستدلال بالاجماع ومناقشته، انضباط المذاهب وكثرة الاتباع  ومناقشتهما، الشيعة وفتح باب الاجتهاد.
------------------------------------------------------------------
سد باب الاجتهاد: وأرادوا به حضر الاجتهاد بعد ان تم غلق أبوابه - على يد بعض السلطات على جميع المكلفين - وحصر الرجوع إلى خصوص المذاهب الاربعة. بواعثه وعوامله: وقد أرجع  الاستاذ عبد الوهاب خلاف ذلك إلى عوامل أربعة (1) نشير إلى اهم خطوطها وهي: 1 - انقسام الدولة الاسلامية إلى عدة ممالك، وتناحر ملوكها ووزرائها على الحكم مما اوجب انشغالهم عن  تشجيع حركة التشريع، وانشغال العلماء تبعا لذلك بالسياسة وشؤونها. 2 - انقسام المجتهدين إلى احزاب لكل حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها، مما دعا إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة  أصولا وفروعا وهدم ما عداها (حتى صار الواحد منهم لا يرجع إلى نص قرآني أو حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه ولو بضرب من التعسف في الفهم والتأويل). (وبهذا فنيت شخصية  العالم في حزبيته، وماتت روح استقلالهم العقلي، وصاروا الخاصة كالعامة اتباعا ومقلدين (2)). 3 - انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء، وعدم وجود ضوابط لهم، مما ادى إلى تقبل  سد باب الاجتهاد في اواخر القرن الرابع وتقييد المفتين والقضاة باحكام الائمة حيث عالجوا الفوضى بالجمود.
(1 - 2) خلاصة التشريع الاسلامي، ص 341 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
4 - شيوع الامراض الخلقية بين العلماء والتحاسد والانانية (فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به، وحط اقرانه من قدره، وإذا افتى في واقعة برأيه قصدوا إلى  تسفيه رأيه وتفنيد ما افتى به بالحق وبالباطل، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل، لا مجتهد ومبتكر، وبهذا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رؤوس وضعفت ثقة  العلماء بانفسهم وثقة الناس بهم (1)). وهناك عامل خامس، كاد أن يسد باب الاجتهاد عند الشيعة الامامية بالخصوص في القرن الخامس الهجري، وهو عظم مكانة الشيخ الطوسي وقوة شخصيته  التي صهرت تلامذته في واقعها، وأنستهم أو كادت شخصياتهم العلمية، فما كان احد منهم ليجرؤ على التفكير في صحة رأي لاستاذه الطوسي أو مناقشته. وقد قيل ان ما خلفه الشيخ الطوسي من  كتب الفقه والحديث، كاد أن يستأثر في عقول الناس فيسد عليها منافذ التفكير في نقدها ما يقارب القرن (2). وقد كان لموقف ابن ادريس، وهو من اكابر العلماء لدى الامامية، فضله الكبير في  إعادة الثقة إلى النفوس وفسح المجال أمامها لتقييم هذه الكتب ونقدها والنظر في قواعدها. ولولا موقفه المشرف إذ ذاك، لكان الاجتهاد إذ ذاك ضحية من ضحايا التقديس والفناء في العظماء من  الناس. وهذه العوامل التي ذكرها الاستاذ خلاف، وإن كان أكثرها لا يخلو من اصالة، إلا انها لا تقوى على تكوين العلة التامة لهذا الحضر. * (هامش) (1) خلاصة التشريع، ص 342.  (2) محمود الشهابي مقدمة فوائد الاصول. (*)
------------------------------------------------------------------
والظاهر ان سياسة تلكم العصور كانت تخشى من العلماء ذوي الاصالة في الرأي والاستقامة في السلوك - وهم لا يهادنون على ظلم ولا يصبرون على مفارقة - فأرادت قطع الطريق على تكوين  أمثالهم بإماتة الحركة الفكرية من أساسها، وذلك بسدها لاهم منبع من منابعها الاصيلة وهو الاجتهاد. أدلة حجيته: والغريب ان نجد في المتأخرين عن ذلك العصر من يحاول التبرير الشرعي  لجملة هذه التصرفات، بالتماس أدلة توجب هذا الحضر وتلزم باستمراره. يقول صاحب الاشباه: (الخامس مما لا ينفذ القضاء به ما إذا قضى بشئ مخالف للاجماع وهو ظاهر، وما خالف الائمة  الاربعة مخالف للاجماع، وإن كان منه خلاف لغيره فقد صرح في التحرير ان الاجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للاربعة، لانضباط مذاهبهم وكثرة أتباعهم (1)). وقد رأينا في  المتأخرين من يوافقه على هذا الحكم كالشيخ محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتيا في الازهر الشريف وزملائه في اللجنة (2). والادلة التي ذكرها صاحب الاشباه هي: 1 - الاجماع. 2 -  انضباط المذاهب الاربعة وكثرة أتباعهم.
(1) الاجتهاد في الشريعة للمراغي، ص 357 من مجلة رسالة الاسلام س 1 ج 3 نقلا عنه. (2) عبد المتعالي الصعيدي في كتابه (من أين نبدأ)، ص 114. (*)
------------------------------------------------------------------
1 - الاستدلال بالاجماع ومناقشته: وقد نسب ابن الصلاح هذا الاجماع إلى المحققين (1) لا إلى المجتهدين، وهذا طبيعي لافتراضه قيام الاجماع بعد انسداد باب الاجتهاد. وقد ناقش الشيخ  المراغي (وهو من دعاة حرية الفكر) هذا الاجماع صغرى وكبرى. أما مناقشته من وجهة صغروية فقد شكك في امكان تحصيل هذا الاجماع، وقال: (ان محققي العلماء يرون استحالة الاجماع  ونقله بعد القرون الثلاثة الاولى نظرا لتفرق العلماء في مشارق الارض ومغاربها، واستحالة الاحاطة بهم وبآرائهم عادة). (وهذا رأي واضح كل الوضوح لا يصلح لعاقل ان ينازع فيه، وإذا كان  هذا واضحا بالنسبة لاجماع المجتهدين، وهم أقل عددا بلا ريب من المحققين، فكيف عرف اجماع المحققين (2)). ثم تساءل بعد ذلك عن قيمة ابن الصلاح مدعي هذا الاجماع ومدى صلاحيته  للاخذ برأيه (ابن الصلاح هذا فقيه مقلد، فكيف يؤخذ برأي فقيه مقلد ليس واحدا من الائمة الاربعة، وكيف ينسخ الاجماع برأي واحد لا يصح تقليده والاخذ بقوله (3)) ؟ وأما مناقشته من وجهة  كبروية فقد انصبت على إنكار الدليل على حجية مثل هذا الاجماع، يقول: (ليس لاجماع المحققين قيمة بين الادلة الشرعية، فهي محصورة: كتاب الله وسنة رسوله، واجماع المجتهدين، والقياس  على المنصوص، ولم يعد أحد من الادلة الشرعية اجماع المحققين، فكيف برز هذا الاجماع وأخذ مكانته بين الادلة، وأصبح
(1 - 2 - 3) الاجتهاد في الشريعة للمراغي، ص 357 من رسالة الاسلام س 1 ج 3 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
يقوى على نسخ اجماع المسلمين (1)) ؟ إلى آخر ما جاء في بحثه القيم من مناقشات لقيمة هذا الاجماع. وخلاصة الرأي في ذلك أنا قد استقرأنا فيما سبق في (مبحث الاجماع) أدلة العلماء على  حجية الاجماع، فلم نجد فيها ما يشير إلى حجية اجماع المحققين. فالاستدلال اذن بالاجماع في غير موضعه، لعدم قيام الدليل على حجية مثله، على أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها. 2 -  انضباط المذاهب وكثرة الاتباع ومناقشتهما: وهاتان العلتان - سواء أراد بهما التعليل لاصل الحكم أم للاجماع - غريبتان عن الادلة جدا، إذ متى كانت كثرة الاتباع وانضباط المذاهب من الحجج  المانعة عن الاخذ بقول الغير، وربما كان الغير أعلم وأوصل إلى الحكم الواقعي، وفتواه موجودة محررة يمكن الحصول عليها، كما إذا كان معاصرا للمستفتى يمكنه الرجوع إليه بسهولة. على  أني لا أكاد أفهم - كيف تكون القابليات المبدعة - وقفا على فئة من الناس عاشوا في عصور معينة (ولم يتميزوا في عصورهم بظاهرات غير طبيعية) مع ان طبيعة التلاقح الفكري توجب خلق  تجارب جديدة في مجالات الاستنباط، والعقول لا تقف عند حد، فكيف يمكن ان يقال لاصحاب هذه التجارب الذين ملكوا تجارب القدماء ودرسوها وناقشوها وأضافوا عليها من تجاربهم الخاصة:  ان هؤلاء القدماء أوصل منكم وأعلم، وعليكم تجميد عقولكم والاخذ
(1) الاجتهاد في الشريعة للمراغي، ص 357 من رسالة الاسلام س 1 ج 3 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
بما يقولون وإن بدت لكم مفارقات ما جاءوا به من آراء. وما أحسن ما قاله الاستاذ المراغي، وهو ينعي على دعاة الجمود موقفهم من حرية الفكر: (ليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر  أن يقال عنها ان ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والاصول لا يكفي لفهم خطاب العرب، ولا لمعرفة الادلة وشروطها، وإذا صح هذا فيالضيعة الاعمار والاموال التي تنفق في  سبيلها (1))، ثم يقول: (واني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد، أخالفهم في رأيهم، واقول ان في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد وحرم عليه التقليد  (2)). والشئ الذي لم أملك تماما توجيهه في كلامه - بعد هذه الدعوة الهادفة - هو قوله: (والواقع أنه في اكثر المسائل التي عرضت للبحث وافتى الفقهاء فيها، لم يبق للمجتهد، إلا اختيار رأي  من آرائهم فيها، أما الحوادث التي تجد فهي التي تحتاج إلى آراء محدثة (3)). والذي يوحي به كلامه، أنه فهم من الاجتهاد انه إحداث رأي جديد، وهو لا يكون إلا في الامور المستحدثة لاستيعاب  الفقهاء مختلف الاقوال في المسألة المبحوثة غالبا، ووظيفة المجتهد بالنسبة إليها اختيار واحد منها. مع أن الاجتهاد، كما سبق تحديده، ملكة تحصيل الحجج على الاحكام الشرعية أو الوظائف،  سواء كانت موافقة لآراء غيره أم مخالفة. وكونهم مستوعبين للاقوال في المسألة، لا يسقط عنه وظيفة اعمال ملكته في مقابلهم، حتى ينتهي إلى الرأي الذي يراه موافقا للحجة من بينها.
(1 - 2 - 3) المراغي في بحثه السابق في رسالة الاسلام، ج 3 س 1 ص 350 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
ولماذا يختار رأيا من آرائهم، ألانه يعتقد ان اولئك السابقين أوصل منه وأعرف كيف وأصولهم ومبانيهم بيده: وفيها ما لا يرتضيه لعدم قيام الحجة عنده عليه، ولماذا يفضل رأيا على رأي إذا لم  يعمل اجتهاده في مقام التفضيل ؟ الشيعة وفتح باب الاجتهاد: فالحق - كما ذهب إليه الشيعة - هو فتح باب الاجتهاد المطلق، وهو الذي تقتضيه جميع الادلة التي ذكروها على وجوب المعرفة عقلية  ونقلية. وهذه الاعتبارات التي ذكروها لعدم الحجية، لا تصلح لايقاف تلكم الادلة ونسخها.
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (6) أحكام المجتهد حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته، التفصيل بين المتجزئ وعدمه، جواز افتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه، جواز  رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته وعدمه.
------------------------------------------------------------------
أحكام المجتهد: والحديث حول أحكامه يقع في مواقع ثلاثة: 1 - حجية رأي المجتهد بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته. 2 - جواز افتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه. 3 - جواز رجوعه  إلى الغير - فيما يبتلى به من المسائل - مع عدم إعمال ملكته وعدمه 1 - حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو اعمل ملكته: والذي يبدو لي - في حدود ما رأيت - ان كلمة الاعلام تكاد تتفق  على حجية رأيه ولزوم العمل به، وعدم جواز رجوعه إلى الغير في الجملة - وذلك باستثناء ما مر من آراء ابن الصلاح ومن تبعه. والسر في ذلك واضح بعد ما اتضح من بحوثنا السابقة مفهوم  الحجية وكونها من اللوازم العقلية القهرية لطريقية العلم. إذ المجتهد - بناء على ما انتهينا إليه من مفهوم الاجتهاد - إذا أعمل ملكته وانتهى إلى رأي، فهو إما عالم بالحكم الواقعي علما وجدانيا أو  علما تعبديا - بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجية - أو يكون عالما باحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية على نحو ترتبها السابق. ومع فرض حصول العلم لا يبقى مجال للتصرف الشرعي،  فلا يمكن ان يقال للمجتهد العالم بالمسألة: إنك لا يسوغ لك ان تعمل بعلمك وعليك الرجوع إلى الغير واستشارته فيما تراه حاصلا لديك من الواقع.
------------------------------------------------------------------
نعم للشارع ان يرفع بعض الحجج الموقوفة على جعله أو إمضائه فيذهب عليه المستند إليها. أما مع بقائها وبقاء علمه المستند إليها، فإن الشارع لا يمكن له ان يتصرف فيها لانها كما سبق بيانه -  غير واقعة تحت تصرفه كمشرع -، وان وقعت تحت قبضته كخالق، ومكون. ومع هذا الفرض وتماميته لم نعد بحاجة إلى التماس أدلة على الحجية. وربما استدل على جواز تقليده لغيره في هذه  الصورة بشمول أدلة التقليد له. ويرد على هذا الاستدلال خروجه عن هذه الادلة بالتخصص لبداهة ان موضوعها قد أخذ فيه عدم العلم - (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) والسيرة العقلائية  إنما قامت على رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله. ولا يفرق في هذا الحكم بين رجوعه إلى مثله في المعرفة، أو الاعلم منه لان الاعلمية المفروضة ان أوجبت له تشكيكا في صحة  مستنده كأن يكون قد اطلع على وجهة نظره فأقرها، أو أثارت لديه الشكوك، فهو خارج عن الفرض لعدم وصوله إلى الحكم، والكلام إنما هو فيمن أعمل ملكته ووصل إلى الحكم من طريقها، وان  لم توجب له التشكيك فيما وصل إليه وبقي مصرا على وجهة نظره، فهو في الحقيقة يرى نفسه أوصل منه في هذه المسألة، فكيف يسوغ له الرجوع إليه. فما أوهم هذا التفصيل في كلمات البعض  لا يبدو له وجه. نعم، هناك تفصيل يذكر بالنسبة إلى المتجزئ وعدمه.
------------------------------------------------------------------
التفصيل بين المتجزئ وعدمه: والذي يظهر ان القائلين بالتجزى مختلفون على أنفسهم، فبعضهم يرى لزوم رجوع المتجزئ إلى غيره من المجتهدين، كصاحب المعالم ووالده وجده إذا صحت  استفادة ذلك من كلامهم، بينما خالفهم العلامة والشهيد وصاحب الكفاية وغيرهم. وقد استدل صاحب الكفاية بعدم اختصاص أدلة المدارك بالمتصف بالاجتهاد المطلق، وأضاف الحجة الرشتي على  ذلك بأنه (كيف يرفض ظنه ويأخذ بظن المجتهد المطلق مع انه يخطئه في ظنه، وهل هذا إلا رجوع العالم إلى الجاهل (1)) ؟ والحقيقة انه بعد تسليم إمكان التجزي ووقوعه لا يبقى مجال للقول  بعدم الحجية لنفس ما قلناه سابقا من أنه بعد فرض الالتزام بكونه عالما بما قامت عليه الحجة، كيف يمكن ان يقال له: ان علمك ليس بحجة عليك، مع ان الحجية من لوازم العلم القهرية ؟ والذي  يظهر من اطلاق الاتفاق في كلمات الغزالي ان عدم جواز رجوعه إلى الغير مطلقا مفروغ منه، يقول في المستصفى: (وقد اتفقوا على انه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم، فلا يجوز له  ان يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه (2)). وكذلك الآمدي (3). 2 - جواز افتانه على وفق ما يرتئيه وعدمه: أما جواز افتائه على وفق ما وصل إليه من رأي، فهو أيضا لا  يقتضي ان يكون موضعا لاشكال، لما تقدم بيانه من ان من لوازم الحجية
(1) الكفاية وشرحها للشيخ الرشتي، ج 2 ص 351. (2) المستصفى، ج 2 ص 121. (3) أحكام الاحكام، ج 3 ص 158. (*)
------------------------------------------------------------------
العقلية جواز نسبة مؤدى ما قامت عليه إلى مصدرها من شارع أو عقل. وليس المراد من الفتوى إلا الاخبار عما يراه من حكم أو وظيفة. والظاهر أن جميع ما ورد من الادلة على جواز الافتاء،  يكون من قبيل الارشاد إلى هذا اللازم العقلي، إذ مع فرض كونه من اللوازم العقلية للحجية لا يكون قابلا للوضع أو الرفع. 3 - جواز رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته وعدمه: اختلف  الاعلام في جواز الرجوع إلى الغير، مع جهله بالحكم لعدم إعمال ملكته للوصول إليه. فالجبائي لا يسوغ الرجوع لغير الصحابي، ويرى ان تقليده مع ذلك خلاف الاولى، وبه قال الشافعي في  رسالته القديمة وجوز بعضهم الرجوع إلى الصحابة والتابعين دون من عداهم (1)، وفصل محمد بن الحسن بين الاعلم وغيره، فأجاز تقليد الاعلم دون غيره ممن هو دونه أو مثله، كما فصل قوم  بين ما يخصه وما يفتي به، فأجازوا في الاول ومنعوا في الثاني، وهناك تفصيل آخر فيما يخصه بين ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد، وما لا يفوت حيث أجيز في الاول ومنع في الثاني (2)،  بينما اطلق الجواز كل من: احمد بن حنبل، واسحق بن راهوية، والثوري، ولابي حنيفة روايتان (3). والعمدة في هذا المجال التماس أدلة جواز التقليد والنظر في عمومها أو اطلاقها لشمول مثله.
(1) اقرأ هذه الاقول في احكام الاحكام للآمدي، ج 3 ص 158. (2) اقرأ هذه التفصيلات في المستصفى، ج 2 ص 122. (3) الآمدي في الاحكام، ج 3 ص 158. (*)
------------------------------------------------------------------
وعمدة الادلة كما يأتي بناء العقلاء الممضى قطعا من قبل الشارع، ولعل في أمثال آيتي النفر وسؤال أهل الذكر، ما يكفي لاثبات ذلك الامضاء. والظاهر ان بناء العقلاء، إنما يفرق بين خصوص  القادر على اعمال ملكته وعدمه. فالقادر على اعمالها لسعة الوقت وتوفر أدوات البحث، لا يرى معذرا له في ترك اعمالها لعدم انطباق عنوان الجاهل عليه، وهو إنما يقر رجوع الجاهل إلى العالم  لا غير. ولكنه يجيز لغير القادر ذلك، فالطبيب الذي يصاب ببعض العوارض ويخشى على نفسه من فوات الفرصة فيما لو أراد ان يعمل ملكته لفقده بعض أدوات عمله، يرجع عادة إلى استشارة  طبيب آخر يثق بمعارفه. وهكذا بالنسبة إلى المتدرج في إعمال ملكته، ولنفرضه جديد عهد بالملكة. فلو قدر لمثل هذا ان لا يصدر إلا عن هذه الملكة، لتعذر عليه استيعاب جميع تكاليفه وبخاصة  إذا كان هو لا يرى جواز الاحتياط في بعض المسائل، أو كانت مما يتعذر فيها الاحتياط. فالذي يقتضيه بناء العقلاء على هذا الرجوع إلى الغير لتحصيل المؤمن فيما يقدم عليه أو يتركه من اعمال.  وممن اختار هذا التفصيل المحقق القمي صاحب القوانين المحكمة حيث قال - بعد ان عرض رأي المانعين مطلقا -: (ودليل المانع وجوب العمل بظنه، إذا كان له طريق إليه اجماعا، خرج العامي  بالدليل وبقي الباقي، (وفيه) منع الاجماع فيما نحن فيه، ومنع التمكن من الظن مع ضيق الوقت، فظهر ان الاقوى الجواز مع التضييق، واختصاص
------------------------------------------------------------------
الحكم به (1)). والظاهر من الجواز هنا الجواز بالمعنى العام في مقبال المنع لا الاباحة، لتعين الرجوع إلى الغير في هذا الفرض. وإذا صح هذا اتضحت أوجه المناقشة في جميع تلكم الاقوال، إذ  لا دليل عليها، وغاية ما يدل عليه دليل الجواز هو هذا المقدار وليس في الادلة كل هذه التفصيلات التي ذكروها، فلا حاجة إلى الاطالة بردها.
(1) القوانين المحكمة، ج 2 ص 163. (*)
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (7) التخطئة والتصويب الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب، القول بالتصويب والخلاف فيه، التصويب الاشعري ومناقشته، التصويب المعتزلي ومناقشته،  القول بالتخطئة وحجيته، القول بالمصلحة السلوكية ومناقشته.
------------------------------------------------------------------
الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب: وقد اختلفوا في ان المجتهد مصيب دائما في كل ما تنهي إليه حججه، أو انه قابل للخطأ. والاقوال في التخطئة والتصويب ثلاثة: قول بالتصويب، وقول  بالتخطئة، وثالث أخذ منهما معا بعض جوانبهما. 1 - القول بالتصويب والخلاف فيه: والمصوبة اختلفوا على أنفسهم، فالذي عليه محققو المصوبة كما يقول الغزالي: (انه ليس في الواقعة التي لا  نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه وهو المختار، واليه ذهب القاضي وذهب قوم من المصوبة إلى ان فيه حكما معينا يتوجه  إليه الطلب، إذ لا بد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد اصابته، فلذلك كان مصيبا وان أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر باصابته، بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه (1)). وقد  عرف القسم الاول من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الاشعري، كما عرف القسم الثاني بالتصويب المعتزلي (2). التصويب الاشعري ومناقشته: وقد أطال  الغزالي بتقريبه ودفع ما أورد عليه من الشبه، وكل ما جاء به لا يخلو من خلط بين الاحكام في مرحلة الجعل والاحكام في مرحلة
(1) المستصفى، ج 2 ص 109. (2) فوائد الاصول، ج 1 ص 142. (*)
------------------------------------------------------------------
التبليغ وبينهما وبين الاحكام في مرحلة الفعلية. كما وقع في مفارقه ان احكام الشارع هي خطاباته، مع ان الخطابات احدى مبرزات احكامه لا انها عين الاحكام، ولا منافاة بين ان يكون هناك حكم  ولا يكون خطاب به. وبهذا ندرك أوجه المفارقة في كلامه الذي لخص به وجهة نظره حيث قال: (والكلام الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص  والى ما لم يرد). (أما ما ورد فيه نص، فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه، أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم  يقصر في طلبه، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب، وإذا لم يصب فهو مقصر آثم). (أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع، كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر، فقد بينا ان  ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه، لكنه عرضة ان يصير حكما فهو حكم بالقوة لا بالفعل، وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه، فمن قال في هذه  المسائل حكم معين لله تعالى، وأراد به انه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه، وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق، وإن أراد به غيره فهو  باطل). (أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم انه لا حكم فيها، لان حكم الله تعالى خطابه، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته، فإنه قد  يعرفنا خطاب الله من غير غير استماع صيغة، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول
------------------------------------------------------------------
عليه فكيف يكون فيه حكم ؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه انه قيل فيه لا تشربوه، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا، والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو  الآدميون، ولا بد ان يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق، فإذن لا يعقل  خطاب لا مخاطب به، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له، ويستحيل ان يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل (1)). ولايضاح مواقع المفارقة في كلامه هذا نضرب المثل في  القوانين التي تشرعها الدول والمراحل التي تمر بها وهي ثلاث: 1 - مرحلة التشريع، وهي المرحلة التي ينتزع فيها القانون شرعيته بتصديق البرلمان أو أية جهة مسؤولة عنه، وربما اقتضت  المصلحة تأجيل تنفيذه وإبلاغه للمواطنين. 2 - مرحلة التبليغ، أي مرحلة مخاطبة المواطنين به وإلزامهم بالسير على وفقه. 3 - مرحلة الفعلية، اي مرحلة وصول القانون إليهم وتبلغهم به.  ومرحلة تنجز التكاليف التي عرض لها القانون هي مرحلة الفعلية، وعلى اساسها يكون الثواب والعقاب، وإلا فمرحلة التشريع أو التبليغ إذا لم يصل الحكم إلى المكلف مع فحصه عنه وعجزه عن  العثور عليه، لا تستوجب العقاب لما مر بيانه من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، وهي قاعدة تطابق عليها العقلاء جميعا، وإذا تم هذا المثل، عدنا إلى تطبيقه على احكام الشارع، فالحديث  القائل بما مؤداه: (ما من واقعة
(1) المستصفى، ج 2 ص 116. (*)
------------------------------------------------------------------
إلا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش)، تشير إلى مقام الثبوت، اي إلى المرحلة الاولى. ومن البديهي ان جميع افعال المكلفين حاضرة لديه تعالى وعالم بما فيه المصلحة منها مما ليس فيه، ومع  حضورها لديه في مقام الثبوت، فلا بد وان يكون قد جعل لها حكما. ومرحلة بعث الرسل مرحلة تبليغ لما هو مشرع في مقام الثبوت، وقد تقتضي مصلحة التدرج في التبليغ تأخير تبليغ بعض  الاحكام كما وقع ذلك في أول البعثة. أما مرحلة الفعلية فهي مرحلة وصول التكاليف. وبهذا يتضح ان ظنون المجتهدين - لو تمت حجيتها - فهي لا تتعدى دور تنجيز الاحكام وإيصالها إلى  المكلفين، اي إعطاء الاحكام صفة الفعلية والوصول، لا أن الشارع يخلق أحكاما على وفقها كما يريد ان يقول الغزالي. ومن هنا تتبين أوجه المفارقة في كلامه، فقوله: (إن ذلك حكم في حق من  بلغه لا في حق من لم يبلغه)، إذا أراد به الحكم في مرحلة الفعلية فهو صحيح، وإن أراد به - كما هو ظاهر كلامه - الحكم بما هو حكم صادر من الشارع في مرحلة التشريع فهو مستحيل  لاستحالة اخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه، للزوم الدور لبداهة ان العلم يستدعي معلوما سابقا في الرتبة عليه، إذ لا يعقل، كما يقول هو، ان يكون علم لا معلوم له، فإذا افترضنا ان العلم  موقوف على وجود معلومه، وهو الحكم، وافترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه - أي بعد العلم به - لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الآخر المستلزم لتوقف الشئ على نفسه، وذلك  بإسقاط المتكرر منهما، فقولنا: العلم موقوف على الحكم، والحكم موقوف على العلم به ينتج بعد اسقاط المتكرر ان العلم موقوف على العلم، أو الحكم موقوف على الحكم.
------------------------------------------------------------------
ومن هنا قالوا باستحالة تقييد الاحكام بخصوص العالمين بها وما يقال عن العلم يقال عن الظن، لان الظن يستدعي افتراض مظنون سابق في الرتبة عليه، فإذا افترض ان الحكم لا حق له كما  أفترضه الغزالي - حين قال: (ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بالحكم يتبع الظن، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه) - لزم الدور بنفس التقريب السابق.  كما تتضح أوجه المفارقة بقوله: (أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها، لان حكم الله خطابه) وذلك لان مرحلة الخطاب ليست هي مرحلة الجعل، وإنما هي مرحلة إبراز للمجعول.  والحقيقة ان دعوى ان أحكام الله تابعة لظنون المجتهدين، دعوى لا يمكن تقبلها بحال أذا أريد منها ظاهرها - وحسبها - بالاضافة إلى ما قدمناه - نسبة تبني كل ما يقع فيه المجتهدون من تناقضات  في الاحكام إلى الله عزوجل، واعتبارها أحكاما مجعولة من قبله، على ما في الكثير منها من البعد عن المصالح أو المفاسد الواقعية التي تخطئها ظنون المجتهدين في الكثير من الوقائع عادة.  التصويب المعتزلي ومناقشته: وهو الذي نسب إليهم في المصدر السابق (1) كما نسب إلى الشافعي في المستصفى حيث يقول: (أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته، واليه تشير  نصوص الشافعي رحمه الله، لانه لا بد للطالب من مطلوب، وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الاشبه عند الله تعالى
(1) فوائد الاصول. (*)
------------------------------------------------------------------
والاشبه معين عند الله (1))، (لكن المجتهد لم يكلف باصابته، فلذلك كان مصيبا وان أخطأ ذلك المعين الذي لم يؤمر باصابته (2)). وقد وجهت هذه الاصابة بان الامارة عند ما تقوم على حكم  تخلق في متعلقه مصلحة مزاحمة لمصلحة الواقع أو مفسدة كذلك وتتغلب عليها على نحو يرتفع حكم المصلحة الواقعية للمزاحمة، ويبقى الحكم الناتج عن الامارة، ويكون مفاد الحجية المجعولة  للامارة هو اعتبارها سببا في تبديل الواقع المستلزم لتبدل الحكم تبعا له. وهذا القول - بناء على هذا التوجيه - يرجع إلى القول الاول لانتهائه إلى القول بعزل الاحكام الواقعية من طريق المزاحمة.  ويرد عليه: 1 - ان الامارة يستحيل ان تكون سببا في خلق مصلحة في متعلقها، لان الظنون - وهي من الحالات النفسية - لا تسري إلى الواقع الخارجي فتغيره لاختلاف مجاليهما، وليس الظن  أكثر من العلم والعلم بالاشياء - إذا لم يصب الواقع - لا يبدل من حقيقة ما قام عليه، فعلمي بعدم وجود زيد مثلا لا يجعله غير موجود إذا كان في واقعه موجودا، وكذا الظن بوجود مفسدة في شئ لا  يجعلها موجودة إذا كانت في واقعها غير موجوة وهكذا... 2 - ان أدلة الطرق والامارات - كما سبق فحصها - لا تفيد اكثر من اعتبارها بمنزلة العلم من حيث ترتيب الآثار عليها، والعلم لا يزيد  في نظر العقلاء عن كونه كاشفا عن متعلقه، وفوائد جعلها لا تتجاوز المنجزية أو المعذرية.
(1) المستصفى، ج 2 ص 116. (2) أصول الفقه للخضري، ص 336. (*)
------------------------------------------------------------------
القول بالتخطئة وحجيته: وهو الذي ذهب إليه الشيعة وجمهور من المسلمين من غيرهم، وربما كان هو الرأي السائد اليوم. وفحواه ان الاحكام الواقعية المجعولة من قبل الشارع لما كانت مستوعبة  لجميع أفعال المكلفين، وكانت الطرق والامارات والاصول المحرزة المجعولة من قبله لا وظيفة لها إلا تنجيز متعلقها، أو التماس المعذرية لمن قامت عنده كان قيام الامارة وغيرها كعدمه لا يبدل  في الواقع ولا يغير، والواقع يبقى على حاله فإن أصابه المجتهد كان مصيبا، وإلا فهو مخطئ معذور. وتسمية ما قامت عليه الامارة أو الاصل بالحكم الظاهري إنما هي (لمكان احتمال مخالفة  الطريق والاصل للواقع وعدم إيصاله إليه، وإلا فليس الحكم الظاهري إلا هو الحكم الواقعي الذي قامت عليه الامارات والاصول مطلقا محرزة كانت الاصول أو غير محرزة، وهذا هو الذي قام  عليه المذهب، ويقتضيه أصول المخطئة (1)). والظاهر ان أدلة الامارات والاصول التي سبق عرضها هي التي تقتضي ما ذهب إليه المخطئة، إذ لا تدل على اكثر من المنجزية أو المعذرية.  القول بالمصلحة السلوكية ومناقشته: وهو الذي أخذ من التخطئة والتصويب معا، وقد ذهب إليه الشيخ الانصاري حيث التزم بالطريقية بالنسبة إلى مفاد أدلة حجية الطرق والامارات من دون ان  يكون هناك أي تصرف في المتعلق يزاحم به الواقع المجهول بحق الجاهلين والعالمين على السواء، كما التزم بسببية الامارة
(1) فوائد الاصول، ج 1 ص 142. (*)
------------------------------------------------------------------
لخلق مصلحة في نفس السلوك لا في المتعلق (وتلك المصلحة مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع (1)). فهو آخذ من المخطئة التزامهم بجعل الطريقية للطرق والامارات، ومن المصوبة  كونها سببا في خلق المصلحة. وأهم ما يورد به على هذه الفكرة عدم نهوض الادلة بها، لان هذه الادلة التي تقدم الحديث عنها في أكثر الابواب السابقة، ليس فيها ما يشير إلى اكثر من جعل  الطريقية أو الحجية لما قامت عليه، أما خلق مصلحة في السلوك فلم تتعرض له بقليل أو كثير، وقد قرب بعض الاساتذة رجوعها إلى التصويب المعتزلي وحملها بعض مفارقاته، وليس المهم  تحقيق ذلك بعد ان كانت الادلة ليست ناهضة بأكثر من جعل الطريقية لها.
(1) فوائد الاصول، ص 37. (*)
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الاول الاجتهاد (8) نقض الاجتهاد وعدمه تحديده، النقض والقاعدة، الخلاف في المسألة، أدلة القائلين بالاجزاء في مقام العمل، أدلة نفي الحرج، دعوى ان الاجتهاد الاول  كالثاني، القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين، دعوى الاجماع على الاجزاء، القول بالاجزاء في مقام الحكم، عدم النقض والتسلسل، الاستدلال بقول عمر بن الخطاب، نتيجة البحث.
------------------------------------------------------------------
تحديده: ويراد بنقض الاجتهاد تحول المجتهد عن رأي سابق انتهى إليه باجتهاد إلى رأي آخر مضاد له اقتضاه اجتهاد لاحق بعد تبين الخطأ له في اجتهاده الاول، ويتصور هذا النقض وتبدل الرأي  في مقامين: 1 - مقام العمل والافتاء. 2 - مقام القضاء وفض الخصومات. وقد حررت هذه المسألة في كتب الاصوليين من الشيعة في مباحث الالفاظ وعرض لها مفصلا في (مبحث إجزاء  الحكم الظاهري عن الواقعي). وقد وقع الخلاف بين الاعلام فيها، وقبل ان نعرض لتفصيل والتماس أدلتها، نود ان نتحدث عما تقتضيه القواعد الاولية في هاتين المسألتين. النقض والقاعدة: والذي  يقتضي ان يقال ان القاعدة مرتبة على المباني السابقة في مسألة التخطئة والتصويب، ومقتضاها الاختلاف باختلافها. فالقائلون بالتصويب بمفهومه الاول - أعني تصويب الغزالي والقاضي - لا بد  ان يلتزموا بالاجزاء وعدم جواز النقض مطلقا، بل لا معنى للقول بجواز النقض لعدم وجود موضوع له على مبناهم. لان مثل هؤلاء لا يعقل انكشاف الخطأ بالنسبة إليهم لعدم التزامهم بوجود واقع  يمكن للمجتهد ان يخطئه أو يصيبه فيما لا نص فيه، وتبدل الاجتهاد لديهم - وان استلزم تبدل الحكم - إلا ان ذلك من قبيل تبدل
------------------------------------------------------------------
الحكم لتبدل موضوعه لا لانكشاف الخطأ فيه. والقائلون بالتصويب الثاني لا بد وان يلتزموا بالاجزاء أيضا لتصريحهم بأن كل مجتهد مصيب وان أخطأ الواقع، وفي حدود ما وجهنا به كلامهم  السابق لا يبقى بعد حصول الاجتهاد وخلق حكم على وفقه، مجال للحكم الواقعي لمزاحمته دائما بالحكم الجديد وتغلبه عليه. وتبدل الاجتهاد لديهم يكون كسابقه من قبيل تبدل الموضوع، لا من قبيل  انكشاف الخطأ فيه. أما على رأي الشيخ الانصاري من الالتزام بالتخطئة والمصلحة السلوكية فالذي يقتضيه الالتزام به، هو القول بعدم الاجزاء لاعترافه بأن المصلحة السلوكية لم تصنع شيئا  اكثر من تعويض المكلف عما يفوته من المصلحة بسبب سلوك ما جعله الشارع له من الطرق والامارات. اما الواقع فهو على حاله غير مزاحم بشئ نهائيا، ومع خطأ الطريق الاجتهادي لم يفت  المكلف اكثر من مصلحة الوقت في الموقتات مثلا، وقد عوض عنها بالمصلحة السلوكية. ولكن مصلحة الواقع - مع إمكان تداركها - باقية لم يفت منها عليه شئ، وعليه الاتيان بها على كل حال.  ومن هنا تتضح القاعدة على رأي المخطئة، إذ مع التزامهم بوجود الاحكام الواقعية وانكشاف خطأ الاجتهاد الاول وعدم تنازل الشارع عن حكمه لعدم جعله في الطرق والامارات والاصول، اكثر  من الطريقية أو الحجية، وهي لا تفيد غير المنجزية عند المصادفة للواقع، والمعذرية عند عدمها. ومع هذا الفرض فلا بد من القول بعدم الاجزاء. هذا كله من حيث القاعدة، وهي لا تفرق بين  المقامين: مقام العمل
------------------------------------------------------------------
والافتاء، ومقام القضاء وفض الخصومة، كما لا تفرق بين الاحكام الوضعية والتكليفية. الخلاف في المسألة: ولكن بعض العلماء فرقوا بين مقامي الحكم والافتاء فالتزموا بعدم جواز النقض في  الاول وجوازه في الثاني كالغزالي وغيره (1). كما فرق الشيخ النائني فيما يبقى له اثر - بعد انكشاف الخطأ بالاجتهاد الثاني - بين العبادات من الاحكام التكليفية وغيرها كالاحكام الوضعية، فالتزم  بالاجزاء بالنسبة إلى العبادات وعدمه بالنسبة إلى غيرها (2). وهناك من أطلق القول من الاعلام - فيما يبدو - بالاجزاء استنادا إلى أدلة خاصة ذكروها. أدلة القائلين بالاجزاء في مقام العمل  والافتاء: وقد ذكروا لذلك أدلة أربعة هي: 1 - أدلة نفي الحرج: أمثال قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج (3)). بدعوى أن مقتضى لسانها، هو حكومتها على الادلة الاولية بتضييق  نطاقها عن شمول ما كان حرجيا من الاحكام. وبما أن الحكم بعدم الاجزاء هنا حرجي، فهو غير مجعول على المكلفين في هذا الحال.
(1) المستصفى، ج 2 ص 120، والخضري في أصول الفقه، ص 368. (2) أجود التقريرات، ج 1 ص 206. (3) الحج / 78 (*)
------------------------------------------------------------------
ويرد على هذا الاستدلال: أن هذه الادلة إنما تتم حكومتها في المقام إذا كان مفادها هو نفي الحرج النوعي، وإلا لكانت اضيق من المدعى، لبداهة ان القول بعدم الاجزاء لا يستلزم الحرج  الشخصي في جميع مسائله. ومفاد هذه الادلة - كما هو التحقيق فيها - هو رفع الحرج الشخصي لا النوعي - وهو الذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع - وعليه فلا تصلح هذه الادلة لتأخير  القاعدة، إلا في موارد الحرج الشخصي، وهي قليلة نسبيا. 2 - دعوى ان الاجتهاد الاول كالثاني: فلا موجب لرفع اليد عنه بالاجتهاد الثاني، والقول بعدم الاجزاء لا يتم إلا برفع اليد عن الاجتهاد  الاول. ويرد على هذه الدعوى: انها إنما تتم إذا كان كلا الاجتهادين حجة، وهذا ما لا يعقل ان يكون، لان معنى اجتهاده الثاني هو قيام الحجة لديه على بطلان اجتهاده الاول لاكتشافه خللا فيه، كأن  يكون قد أفتى أولا - استنادا إلى اطلاق أو عموم - ثم عثر بعد ذلك على مقيد أو مخصص له، وليس من الممكن ان يبقى العام على حجيته حتى مع العثور على المخصص أو المقيد أو يكون قد  استند في اجتهاده السابق على رواية كان يعتقد صحتها ثم تبين له كذب راويها، وهكذا... ومع هذا الحال كيف يلتزم بعدم ترجيح الاجتهاد الثاني في صورة معارضته له مع انه لا يعدو - في واقعه -  باب التعارض بين الحجة واللاحجة لا التعارض بين الحجتين، ومن المعلوم لزوم الاخذ بما هو الججة منهما بالضرورة.
------------------------------------------------------------------
3 - القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين: وهو الذي نسب إلى صاحب الفصول (1). والذي يؤخذ به عدم وضوح منشأ المفارقة التي سجلها بهذا القول. فهو ان أراد منها ان القضية لا  تتحمل اجتهادين مع بقاء حجيتهما للزوم التناقض وشبهه في مدلوليهما، فهو وان كان صحيحا، إلا أن القائلين بعدم الاجزاء لا يلتزمون ببقاء الحجية لهما معا، لبداهة انكشاف الخلل في الاجتهاد  الاول المانع من حجيته. وان أراد - كما هو ظاهر كلامه - ان طبع القضية الواحدة يأبى ورود اجتهادين عليه من مجتهد واحد، فهو وان كان مع وحدة الزمان صحيحا أيضا، إلا أنه خارج عن  الفرض لافتراضهم تأخر الاجتهاد الثاني عن الاول زمانا. ومع تعدد الزمان لا تأبى القضية الواحدة ألف اجتهاد وما أكثر ما تتبدل آراء المجتهدين في المسألة الواحدة. 4 - دعوى الاجماع على  الاجزاء: وقد حكاه شيخنا النائني (2)، واستند إليه في القول بالاجزاء في خصوص العبادات باعتباره القدر المتيقن من مورده، وجزم بخروج الاحكام الوضعية عن المورد لاعتقاده ان فتوى  جماعة في الاجزاء فيها (إنما هي لاجل ذهابهم إلى كون الاجزاء هو مقتضى القاعدة الاولية لا لاجل الاجماع على ذلك (3)). - وقد نوقشت هذه الدعوى بانكار وجود اجماع تعبدي في جميع
(1) أجود التقريرات، ج 1 ص 205. (2 - 3) فوائد الاصول، ج 1 ص 146. (*)
------------------------------------------------------------------
صور المسألة، (والقائل بالاجزاء انما ذهب إليه لدلالة الدليل عليه باعتقاده). (وعليه فلا مقتضى لرفع اليد عما تقتضيه القاعدة الاولية من لزوم الاعادة والقضاء في العبادات بعد انكشاف الخلاف،  ولزوم ترتيب جميع آثار انكشاف الخلاف في المعاملات (1)). وبهذا يتضح ان تفصيل شيخنا النائني لا يمكننا الالتزام به ورفع اليد عن القاعدة إلا إذا تم الاجماع، والقضية تحتاج إلى الفحص في  كل مسألة مسألة فقهية، لا الحكم فيها ككل. القول بالاجزاء في مقام الحكم: أما مقام الحكم وفض الخصومات فقد يضاف إلى تلك الادلة على عدم جواز النقض، ما تشعر به بعض الروايات من ان  لحكم الحاكم موضوعية إذ اعتبرت الراد عليه رادا على الله (وهو على حد الشرك بالله (2)) من دون ان تفرق بين كون الرد ونقض الاجتهاد مبنيا على اجتهاد أو غيره. ويرد على هذا  الاستدلال: ان إثبات هذا الاطلاق لا يخلو من صعوبة لعدم إحراز كونه في مقام البيان من هذه الجهة، بل قد يقال بعدم إمكان شموله له عادة، إذا مع استكشاف المجتهد ان حكمه الاول كان بغير ما  أنزل الله، فكيف يحتمل وجوب قبوله وحرمة رده ؟ ويكون الراد عليه رادا على الله، مع ان رده هذا كان أخذا بحكم الله بحسب عقيدته. على ان استفادة الموضوعية لحكم الحاكم لا تتجاوز في  تلكم الروايات
(1) أجود التقريرات (هامش)، ج 1 ص 206. (2) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 75. (*)
------------------------------------------------------------------
حدود الاشعار لا الظهور، بينما يبدو من صحيحة هشام ان حكم الحاكم لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه، يقول هشام - بسنده -: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكم  بالبينات والايمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل اقتطعت له من مال أخيه شيئا فقد قطعت له به قطعة من النار (1)). عدم النقض والتسلسل: وقد استدل الغزالي وتابعه غيره على  عدم جواز النقض في الحكم بقوله: (ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد ان خالع الزوج ثلاثا، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين، ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم، فإنه لو  نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل (2)). ويرد على هذا الاستدلال: 1 - ان امتناع التسلسل، إنما يتم إذا تمت الملازمة بينهما، وكانت واقعة في سلسلة العلل والمعلولات، لكنها  هنا غير تامة لبداهة ان فعلية نقض الاجتهاد الاول لا تستلزم فعلية نقض النقض لجواز أن يثبت عليه المجتهد - أي النقض - إلى الاخير ولو استلزمتها، فهي من قبيل الملازمات الاتفاقية - أن  صح تسميتها ملازمة - لوضوح ان نقض الاجتهاد الاول لا يكون علة لنقض النقض ولا معلولا له، ومع عدم العلية والمعلولية بينهما لا يلزم التسلسل الباطل وما يقال عن فعلية النقض، يقال عن  إمكانه لو أراد الملازمة بين
(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 75. (2) المستصفى، ج 2 ص 120. (*)
------------------------------------------------------------------
الامكانين، لا بين النقضين الفعليين، فيكون معنى قوله: (لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض)، انه لو جاز نقض الاجتهاد لجاز نقض النقض إذ التلازم بين الجوازين بالبداهة ليس منشؤه  العلية والمعلولية بينهما، فلا يكون باطلا. 2 - ورود هذا الاشكال عليه، نقضا لالتزامه بجواز النقض في مقام الافتاء يقول: (اما إذا نكح المقلد بفتوى مفت، وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد  نجز الطلاق بعد الدور، ثم تغير اجتهاد المفتي، فهل على المقلد تسريح زوجته، هذا ربما يتردد فيه، والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في اثناء الصلاة، فإنه يتحول  إلى الجهة الاخرى، كما لو تغير اجتهاده في نفسه (1))، مع أن لزوم التسلسل - على مبناه - فيه واضح لجواز أن يقال: لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل... الخ وقد وقع  بالمفارقة نفسها بعض المتأخرين، كالاستاذ الخضري (2). الاستدلال بقول عمر بن الخطاب: وقد استدل البعض على عدم جواز النقض بما أثر عن عمر بن الخطاب في المسألة الحجرية  المعروفة في علم الميراث (وهي ما إذا وجد مع الاثنين، فأكثر من أولاد الام أخ شقيق فأكثر بالانفراد، ومع أخت شقيقة فأكثر واستغرقت الفروض كل التركة بأن وجد مع هؤلاء زوج وصاحبة  سدس كالام والجدة الصحيحة (3)) حيث قضى (بعدم توريث أولاد الابوين، ولما عرضت عليه المسألة مرة أخرى قضى باشراكهم مع
(1) المستصفى، ج 2 ص 120. (2) أصول الفقه، ص 368. (3) سلم الوصول، ص 343. (*)
------------------------------------------------------------------
أولاد الام في فرضهم الثلث، ولما قيل له سبق ان قضيت بعدم اشراكهم قال ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي (1)). وهذا الاستدلال لا يتم: 1 - لمعارضته بما أثر عن عمر نفسه في كتابه  إلى أبي موسى الاشعري قاضيه على الكوفة (ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك ان ترجع إلى الحق فان مراجعة الحق خير من التمادي على الباطل  (2)). 2 - ان الاستدلال بقول عمر لا يكون حجة لما قلناه من ان إثبات الحجية لقول الصحابي لا تتم لعدم تمامية الدليل عليها، وقد سبق ان عرضنا الادلة التي استدل بها على كونه من  السنة (في مبحث سنة الصحابة) وناقشناه، كما عرضنا أدلة من يريد إثبات الحجية له على أي حال (في مبحث مذهب الصحابي) وناقشناها هناك. نتيجة البحث: والنتيجة ان القاعدة تقتضي عدم  الاجزاء في الجميع، ولا يخرج عنها إلا بدليل خاص، ولو وجد فهو خاص في مورده. أما الادلة العامة فليس فيها ما يصلح لتعطيل القاعدة في جميع الموارد.
(1 - 2) سلم الوصول، ص 343. (*)