التقليد: مفهومه وحجيته

خاتمة البحث القسم الثاني التقليد (1) مفهومه وحجيته تحديده لغة واصطلاحا، الخلاف في حجيته، رأي الحشوية والتعليمية، رأي علماء حلب والقدرية، حجية جواز التقليد، الغزالي واستدلاله.
------------------------------------------------------------------
تحديده لغة واصطلاحا: التقليد في اللغة جعل القلادة في العنق، ومنه التقليد في حج القران، أي جعل القلادة في عنق البعير. وقد عرف في اصطلاح الاصوليين والفقهاء بتعاريف متعددة، ربما  التقت جملة منها في بعض الخطوط العامة له. ففي المستصفى انه (قبول قول بلا حجة (1))، وفي احكام الاحكام (عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة (2))، وفي العروة الوثقى ( هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد (3))، وفي مستمسك العروة الوثقى هو (العمل اعتمادا على رأي الغير (4)). وهذه التعاريف وما يشبهها مختلفة سعة وضيقا، فالغزالي  والآمدي أخذا فيه قيد عدم الحجية، بينما أطلق الباقون لتعم تعاريفهم ما قامت عليه الحجة وما لم تقم، وربما استفيد من بعض التعاريف تقييدها، بقيام الحجة عليها، فتكون مباينة لتعريفي الغزالي  والآمدي. على ان الاختلاف في هذه التعاريف، لم يقتصر على هذه الناحية، فقد أخذ في بعضها الالتزام بقول الغير في مفهومه، بينما اعتبر البعض الآخر - العمل - فيه اعتمادا على رأي الغير.  وقد حاول بعض الاعلام الجمع بينها لاعتقاده رجوع بعضها إلى الآخر واعتبار المراد منها جميعا هو خصوص العمل.
(1) المستصفى ج 2 ص 123. (2) احكام الاحكام، ج 3 ص 166. (3) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 8 (متن). (4) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 8. (*)
------------------------------------------------------------------
ولكن هذا الجمع غير ظاهر، ويأباه ما ذكروه لاختلاف المفهومين من ثمرات فقهية. ومنها ما لو التزم بقول مجتهد ولم يعمل بعد ثم مات المجتهد، فهو على أحد التعريفين مقلد لالتزامه بالعمل على  قوله، وعلى الآخر ليس بمقلد لعدم عمله بما التزم به. فلو كنا ممن يقول بلزوم البقاء على تقليد الميت، لكان علينا ان نلزم هذا المكلف بالبقاء على تقليد صاحبه - بناء على المفهوم الاول - لصدق  عنوان التقليد على التزامه ونلزمه بتقليد الحي - بناء على المفهوم الثاني - لعدم صدق التقليد على التزامه وذلك لعدم اقترانه بالعمل وعلى وفق آرائه. ولكن النزاع إنما يكون له ثمرة لو كان للفظ  التقليد موضع من لسان الادلة ليقال بأن المراد منه أي شئ هو ولكن هذا اللفظ لم يرد - فيما يقال - إلا في رواية ضعيفة لا تصلح لان تكون مستندا لحكم شرعي (1). والذي يستفاد من الادلة هو  لزوم التماس المنجز أو المعذر في كل ما يصدر عنه المكلف من فعل أو ترك، فإن حصل المنجز أو المعذر بجهده إجزأه، وإلا لزم عليه الرجوع إلى الغير إذا كان عالما، والاعتماد على قوله.  وربما ناسب هذا المعنى تحديد اللغويين له، وكأن المنشأ في تسمية عمل العامي تقليدا، هو ما ينطوي عليه من جعل أعماله قلادة في عنق من يرجع إليه وتحميله مسؤوليتها، وهذا المعنى أجنبي  عن الالتزام. ومع غض النظر عن هذه الجهة فالمتبادر من لفظ التقليد عرفا هو المحاكاة للغير في عمله أو تركه لا العمل وحده ولا الالتزام.
(1) وهي الرواية المأثورة عن تفسير العسكري (فللعوام ان يقلدوه) والتفسير المذكور مرمي بالضعف لجهالة رواية عن الامام (عليه السلام) (*)
------------------------------------------------------------------
والامر هين ما دام لم يرد لفظ التقليد في الادلة المعتبرة الخلاف في حجيته: والغريب ان تتعاكس فيه الآراء إلى درجة تشبه التناقض فالحشوية والتعليمية يذهبون (إلى ان طريق معرفة إلحق التقليد  وان ذلك هو الواجب، وان النظر والبحث حرام (1)) (وقال قوم من القدرية يلزمهم النظر في الدليل (2)) وهو الذي نسب إلى علماء حلب (3) أيضا. وأكثرية المسلمين من الشيعة والسنة على  وجوبه تخييرا على اختلاف في اعتبار بعض الشرائط في المفتى سنعرض لها بشئ من الحديث. رأي الحشوية والتعليمية: وربما وافقهم ابن الصلاح ومن تبعه في عهود التقليد من السنة، وقد سبق  الحديث منا في مناقشة ما ساقوه من الادلة على لزوم حضر الاجتهاد والرجوع إلى خصوص الائمة الاربعة. أما أصل مبنى الحشوية في حضر الاجتهاد مطلقا في جميع العصور، فلم أعثر على  توجيه له. والذي يبدو من عرض الغزالي له في مسألة التقليد الذي عرفه بقبول قول الغير بلا حجة أنهم يحضرون الاجتهاد حتى في مسألة وجوب التقليد عينا ليكون قولهم بلا حجة، وقد أطال في  رده في غير طائل - بعد
(1) المستصفى، ج 2 ص 123. (2) المستصفى، ج 2 ص 124. (3) القوانين ج 2 ص 161. (*)
------------------------------------------------------------------
افتراضه انه قول بلا حجة - وكان حسبه في رده ان يقول أنه لا دليل على حجيته. ومثل هذا التقليد - بالاضافة إلى عدم قيام الحجة عليه - قيام الادلة القاطعة على الردع عنه، وحسبك ما صرح به  الكتاب العزيز من ذمه للمقلدين الذين اعتمدوا أقوال وأعمال آبائهم كمصدر للسلوك وصدروا عن محاكاة له وتقليد، مع ان آباءهم كانوا لا يملكون من المعرفة شيئا. (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما  أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (1)). ورجوع الجاهل إلى الجاهل هو عين هذا النوع من التقليد. رأي علماء حلب والقدرية:  وإذا كان ما نسب إلى التعليمية من حضر الاجتهاد والنظر، مبعث استغراب فإن ما نسب إلى القدرية وعلماء حلب من لزوم الاجتهاد عينا وحرمة التقليد، لا يقل غرابة عن ذلك إذا حمل على  ظاهره، وكأنهم أخذوا بظواهر الآيات الرادعة عن التقليد واعتبروها مصدرا لهم. ويرد على هذا الرأي: 1 - ان الآيات منصبة على الردع عن التقليد من غير حجة، أي عن رجوع الجاهل إلى  الجاهل، لا رجوع الجاهل إلى العالم، بدليل ما ورد فيها من التبكيت - أو لو كان آباءهم لا يعلمون شيئا - فكأن منشأ المفارقة الذي اقتضى كل هذا التأنيب هو رجوعهم إلى من لا يعلم، أي  رجوعهم إلى الجهال والتقليد الذي نذهب إليه، هو التقليد الذي يكون عن حجة ملزمة، أي الذي يكون وليد اجتهاد في أصله وقطع بحجيته.
(1) المائدة / 105. (*)
------------------------------------------------------------------
2 - إن فرض الاجتهاد العيني على جميع المكلفين لا يمكن ان يصدر من الشارع المقدس لما يلزم منه من اختلال النظام وشل الحركة الاجتماعية، وما رأيك في أمة تنصرف جميعا إلى التماس  الاجتهاد وإعماله في جميع مجالات حياتها، هل يمكن أن تستقيم أمور دنياها بحال من الاحوال، ولا أقل من لزوم العسر والحرج المتناهيين، والدين أيسر واسمح من أن يكلف الامة بمثل هذه  التكاليف: (وما جعل عليكم في الدين من حرج). 3 - منافاته لجميع الادلة القادمة على جواز التقليد، وهي أقوى منه وأصرح. وما أدري ما يصنع الناس - على رأي هؤلاء الاعلام قبل بلوغهم  مراتب الاجتهاد، أيلزمون بالتقليد، وهو محظور عليهم - كما هو الفرض - أو يعملون بالاحتياط ؟ ! وربما كانوا لا يعرفون موارده أو لا يرون جوازه أو لم يمكن كما في دوران الامر بين  المحذورين. والذي أتصوره ان هذه الدعوى لم يرد بها ظاهرها، وربما أرادوا بها لزوم الاجتهاد عينا في أصل مسألة جواز التقليد حذرا من الدور أو التسلسل. وهذا حق لو صح إطلاق كلمة  الاجتهاد على الامور البديهية. وقد قلنا في تعريف الاجتهاد: انه لا يطلق إلا على ما كان فيه جهد وبذل وسع. والعامي هنا لا يحتاج إلى بذل أي جهد ليدرك لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، وهو  يعيشه بواقعه العملي ويصدر عنه في كل يوم.
------------------------------------------------------------------
حجية جواز التقليد: وحجية جواز التقليد تكاد تكون بديهيتها، كما أشرنا إليها، إما لكونها فطرية جبلية، كما يعبر صاحب الكفاية (1)، أو لان بناء العقلاء قائم عليها، بل لا يمكن ان يستقيم نظام  بدونها ككل، لان وجودها ضرورة لازمة لطبيعة المجتمعات، وإلا - فما أظن - ان مجتمعا من المجتمعات، مهما كانت قيمته الحضارية، يستطيع ان ينهض أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية  لكل ما يتصل بحيواتهم دون ان يكون فيهم علماء وجهال - ليرجع جهالهم إلى علمائهم - على نحو يكون كل منهم - مثلا - عالما بالطب والهندسة وأصول الحرف والصناعات، ومستوعبا لجميع  أنواع الثقافات بحيث يستغني عن أخذ أي شئ منها. وحتى الامم البدائية لا يمكن ان تتخلى عن هذه الظاهرة نسبيا. والحقيقة ان تسميتها ظاهرة اجتماعية عامة أولى من تسميتها بالبناء العقلائي،  لانها قائمة على كل حال، وجد تبان من العقلاء أو لم يوجد. والذي نعلمه ونؤمن به ان مجتمع النبي (صلى الله عليه وآله) ما كان بدعا من المجتمعات لينفرد أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية  لمختلف ما يحتاجون التعرف إليه من شؤون دينهم ودنياهم، بحيث كانوا لا يتفاوتون من حيث العلم والجهل ليرجع جهالهم إلى علمائهم، وفيهم من كان يشغله الصفق في الاسواق عن تتبع المعرفة  من منابعها. وإذا كانت هذه الظاهرة موجودة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وهي موجودة حتما - فهي ممضاة من قبله بإقرارهم عليها، ولو كان هناك تشريع على خلافها لاثر من  طريق التواتر - عادة - وهو ما لم ينقل حتى من طريق الآحاد.
(1) الكفاية، ج 2 ص 359 حاشية الرشتي (متن). (*)
------------------------------------------------------------------
وما يحتمل ان يكون ردعا من أمثال تلكم الآيات الناهية عن التقليد لا يصلح لاثباته ما دامت صريحة، أو تكاد في الردع عن رجوع الجاهل إلى الجاهل وهو أجنبي عن هذه الظاهرة أو هذا البناء.  على ان أمثال آيتي (النفر) و (سؤال أهل الذكر) بناء على ظهورها في التقليد والعشرات من الاحاديث التي أمرت بعض أصحاب الائمة بالتصدي للافتاء، أو أرجعت إلى بعضهم للاستفتاء  صريحة في إمضاء هذا البناء ولزوم الاخذ به في الجملة. وهذه الادلة - فيما أعتقد - ليست واردة لجعل حكم تأسيسي ما دام هذا البناء قائما في ذلك العصر، وإنما هي من ادلة الاقرار له، فلا حاجة  إلى الدخول في استعراضها ورد ما أثير حول دلالتها من مناقشات. الغزالي واستدلاله: نعم، استدل الغزالي بدليلين لا يرجعان إلى ما ذكرناه من الادلة لا بأس بعرضهما وهما: 1 - (اجماع  الصحابة فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم (1)). ويرد عليه ان الاجماع بمفهومه الاصطلاحي أي صدور  الفتوى عن الجميع، لا دليل على إثباته، ودعوى ثبوته بالتواتر والضرورة مصادرة. نعم، إذا أراد ان هذه الظاهرة كانت موجودة بينهم بالضرورة فهو صحيح، ولا إشكال فيه ولكنها ليست إجماعا  بالمعنى المصطلح. 2 - (ان الاجماع منعقد على ان العامي مكلف بالاحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لانه يؤدي إلى ان ينقطع الحرث والنسل، وتتعطل
(1) المستصفى، ج 2 ص 124. (*)
------------------------------------------------------------------
الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، ويؤدي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال  هذا لم يبق إلا سؤال العلماء (1)). وهذا الدليل - على خطابيته - سليم في إثبات أصل جواز التقليد. ثم أورد على نفسه، ودفعه بقوله (فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد، قلنا: التقليد قبول  قول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الاجماع (2)). وبهذا ندرك ان الاختلاف بين الغزالي وغيره في مفهوم التقليد لا يتجاوز الشكلية، وهو متحد المبنى مع القائلين بجواز  التقليد أقصاه انه لم يسمه تقليدا، وإنما عبر عنه بقوله: (العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء (3)). والاخذ برأي الغير من دون حجة موضع حظر الجميع باستثناء ما مر من الحشوية ان  صح نسبة مثل ذلك الرأي إليهم.
(1) المستصفى، ج 2 ص 124. (2 - 3) المستصفى، ج 2 ص 124. (*)
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الثاني التقليد (2) اعتبار الحياة في المقلد تمهيد، اعتبار الحياة والخلاف فيه، أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة، التمسك باطلاق الادلة اللفظية، الاستدلال بالقياس، بناء العقلاء،  سيرة المتشرعة، الاستدلال بالاستصحاب، ما يقتضيه الاصل المعين للوظيفة تسجيل ملاحظة.
------------------------------------------------------------------
تمهيد: وشرائط المقلد التي ذكروها كثيرة، والذي يستحق أن يطال فيه الكلام منها ثلاثة وهي: 1 - الحياة. 2 - الاعلمية. 3 - العدالة. أما غيرها من الشرائط كالعقل، والذكورية، والحرية،  والبلوغ، فاعتبار بعضها يقتضي أن يكون من الضروريات، كالعقل مثلا، إذ لا معنى للحديث في جواز تقليد المجانين في حال جنونهم وعدمه، والباقي ذكروا له أدلة وهي غير ناهضة بالدلالة، إلا  ما يحكى من الاجماع على بعضها. ومقتضى بناء العقلاء، هو عدم التفرقة بين الذكر والانثى، والحر والعبد، والبالغ، والمميز من غير البالغين، مع توفر عنصر الاجتهاد فيهم، وهو الحجة ما لم  يثبت الردع عنه، فالعمدة التحدث في خصوص هذه الشرائط الثلاثة. اعتبار الحياة والخلاف فيه: واعتبار الحياة في حجية قول المفتي من الشرائط التي وقع فيها الاختلاف كثيرا، فالاصوليون من  الشيعة اعتبروا هذا الشرط ومنعوا من تقليد الميت ابتداء، بينما أجاز الاخباريون منهم ذلك. أما أهل السنة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك، فبعضهم أجازوا تقليد الميت ابتداء، كما سوغوا الرجوع إلى  الحي إذا كان متوفرا على شرائط
------------------------------------------------------------------
التقليد، ومنع البعض الآخر من تقليد الاحياء لقصرهم التقليد على الائمة الاربعة. والظاهر ان خلاف الاخباريين لرأي الاصوليين من الشيعة إنما هو لاختلافهم في وظيفة المجتهد عند الفتيا.  فالاخباريون يرون ان وظيفة المجتهد لا تتجاوز نقل مضمون الرواية بفتياه، وليس له ان يستند في الفتيا إلى مقدمات نظرية، فهو مخبر عن المعصوم، ولا يشترط الحياة في حجية خبر المخبر  باتفاق الكلمة. بينما يرى الاصوليون وغيرهم ان المجتهد مستنبط للحكم من الادلة، وقد يكون بعضها نظريا، وما دام كذلك فهو ليس بمخبر - حين يفتي عن المعصوم - إلا بضرب من التسامح -  وإن أخبر عن الحكم أو الوظيفة. وعلى هذا، فإن دليل الحجية بالنسبة إلى المفتي إنما يتقوم برأيه القابل للنظر والتبدل، وهو يمكن ان يكون منوطا بالحياة. فاختلاف الاخباريين مع الاصوليين اذن  اختلاف في أصل وظيفة المجتهد لا في شرائط الافتاء. وخلافهم في هذه المسألة لا يصلح ان يكون خلافا في موضع الكلام، لانه بالنسبة إليهم أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع. وخلاف ابن الصلاح  مع اخوانه من اهل السنة، وإصراره على حضر التقليد لغير الائمة الاربعة منشؤه اجماع المحققين وبعض الادلة، وقد علمنا في مبحث سابق قيمة هذه الادلة فلا نعيد فيها الكلام. فعمدة الخلاف  اذن هو ما بين الشيعة وأكثرية اهل السنة في اعتبار هذا القيد وعدمه. والاقوال الاخر إما ليست ذات موضوع لاختلافها في أصل وظيفة
------------------------------------------------------------------
المجتهد، أو ليست بذات أهمية لعدم استنادها إلى أساس. أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة: وقد استدل القائلون بعدم اعتبار هذا الشرط، أو استدل لهم بعدة أدلة نعرض ما عثرنا عليه منها وهي: 1 -  التمسك باطلاق الادلة اللفظية: أمثال آيتي النفر وسؤال أهل الذكر من الكتاب العزيز، وطوائف من الروايات كان بعضها يأمر بعض الرواة بالتصدي للفتيا الدالة بالملازمة على جواز الاخذ منهم،  وكان بعضها الآخر يأمر بالرجوع إلى بعض أصحاب الائمة واستفتائهم فيما يحتاجون إليه. ومقتضى إطلاق هذه الادلة هو عدم الفرق بين الاحياء منهم وغيرهم. وقد أجيب على هذا الاستدلال -  بعد الغض عن أن أكثر هذه الادلة لا إطلاق فيه لعدم كون الشارع في مقام البيان من هذه الجهة -: أ - ان طبيعة السؤال أو الانذار أو الرجوع إلى شخص معين تقتضي اعتبار الحياة، إذ لا معنى  لسؤال غير الاحياء أو صدور الانذار منهم أو الرجوع إليهم. ب - ولو سلم، فإن هذه الادلة لا يعقل شمولها للمختلفين بالفتوى، إذ لا معنى لان يعبدني الشارع بالمتناقضين، ولو على سبيل البدل،  لان معنى جعل الحجية لهما تبنيهما معا من قبله، وكيف يعقل ذلك مع الجزم بمخالفة أحدهما للواقع، وقد سبق الحديث منا في ذلك في مبحث (التخيير الشرعي). وفرض المسألة لا يتم إلا في  صورة اختلاف الحي مع الميت في الفتوى
------------------------------------------------------------------
إذ مع اتفاقهما لا ثمرة عملية لهذه المسألة، ومع الاختلاف لا تكون الادلة شاملة لهما معا ابتداء، وهي إنما يمكن الاستدلال بها في صورة عدم العلم بالخلاف فقط، ومسائلها نادرة جدا لو سلمت من  المناقشات السابقة فيها. 2 - الاستدلال بالقياس: بتقريب قياسها على عدم اعتبار الحياة في حجية قول المخبر، لان العلة التي أوجبت حجية قول المخبر، هي حكايته عن الواقع، فكذلك الامر في  المفتي، وبما أن المقيس عليه لا يعتبر قيد الحياة في حجية خبره فالمقيس مثله في هذه الجهة. والجواب على ذلك، أن هذا النوع من القياس، لم تثبت حجيته لوجود الفارق الكبير بينهما. فالمخبر  إنما يستند في إخباره إلى الحس أو الحدس القريب منه، وبقاء الحياة لا يغير في واقع ما أحسه إذا كان صادقا في اخباره، ولذا نرى ان الصادقين في اخبارهم قلما يختلفون إذا حدثوا عن واقعة  واحدة، بينما يستند المفتي أحيانا إلى مقدمات نظرية، وهي تختلف باختلاف خبرة المفتين بأصول الاستنباط ومقدار ما يملكون من ذكاء وصبر على البحث، بل تختلف باختلاف المراحل العلمية  التي يجتازها المفتي الواحد، وما اكثر ما عدل المفتون عن فتاوى سابقة لعثورهم على أدلة على خلافها، أو لزيادة تجاربهم في معرفة كيفيات الاستنباط. وما يدرينا لو قدر لذوي الاجتهاد من  الاموات أن تستمر بهم الحياة ما يدخل الزمن على آرائهم وفتاواهم من التطور والتغيير. ومع هذا فكيف يسلم قياسها على الاخبار، مع وجود هذا الفارق الكبير، ولا أقل من كونه من قبيل القياس  غير المقطوع، وقد عرفت
------------------------------------------------------------------
في (مبحث القياس) مدى حجيته. 3 - بناء العقلاء: حيث لا يفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحي والميت، ويخير بينهما. وهذا البناء - لو تم - في صورة التساوي بينهما من حيث العلم أو  صورة ما إذا كان الميت أعلم مثلا. إلا انه مما يحتاج إلى امضاء من الشارع المقدس أو عدم ردع على الاقل - لما قلناه: من ان البناء وحده لا يكفي في تكوين الحجية لما قام عليه - لعدم حصول  القطع بمدلوله. والامضاء وعدم الردع إنما يتحققان إذا فرض وقوع مصداق من مصاديق هذه المسألة أمام الشارع، فأمضاها أو سكت عنها، كأن نتصور واقعة وقعت أمام النبي (صلى الله عليه  وآله) قلد فيها مكلف عالما ميتا - ابتداء - مع وجود عالم حي مساو له أو دونه بالفضيلة، وهما مختلفان بالفتيا، فأقره النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك ولكن من أين لنا تصور ذلك أو إثباته  تاريخيا، ومثله نادر الوقوع عادة إن لم يكن منعدما. إذ مع علم المكلف بالاختلاف، لا تصل النوبة إلى تقليد أحد مع وجود المعصوم وإمكان سؤاله والاخذ منه. فالقول بوجود البناء العقلائي غير  المردوع عنه في خصوص صورة الاختلاف، لا يخلو عن افتئات ومصادرة. مع ان هذا البناء مما يشك في وجوده مع الاختلاف حتى بين الاحياء. على أنه لو صحت استفادة خصوصية الحياة في  الادلة اللفظية، أو
------------------------------------------------------------------
ثبت الاجماع (1) على عدم جواز تقليد الميت ابتداء، كان ذلك كافيا في الردع عن هذا البناء لو وجد. 4 - سيرة المتشرعة: وهي التي يدعي بلوغها إلى عصر المعصومين. والجواب عليها: ان  حسابها حساب ذلك البناء، بل هي أضعف منه بكثير لبداهة عدم قيامها على الرجوع الابتدائي إلى الاموات، وبخاصة في صورة الاختلاف. وكيف تثبت السيرة المستمرة إلى زمن المعصوم، اما  على مبنى اهل السنة فواضح لرجوعهم جميعا إلى أئمة المذاهب الاربعة وهم متأخرون في حياتهم عن زمن النبي (صلى الله عليه وآله) جميعا، فكيف يمكن إثبات استمرار السيرة في الرجوع  إليهم أمواتا إلى زمنه (صلى الله عليه وآله)، وأما على مبنى الشيعة فلان أكثرهم لا يقولون بجواز تقليد الميت ابتداء، فضلا عن ادعاء قيام سيرتهم على الرجوع إلى الاموات. 5 - الاستدلال  بالاستصحاب: بتقريب ان هذه الحجية كانت ثابتة لقول المجتهد حال حياته، ويشك في ارتفاعها بالموت فتستصحب. والجواب على ذلك: ان هذه الحجية لا يمكن استصحابها للشك في سعة  المجعول وضيقه. فالحجية المجعولة لا يعلم بحدود جعلها ابتداء، وهل يتسع إلى ما بعد موت صاحبها أو هي مختصة بحال الحياة ؟ فإن كانت مجعولة على النحو
(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 16. (*)
------------------------------------------------------------------
الاول فهي مقطوعة البقاء، وإن كانت على النحو الثاني فهي مقطوعة الارتفاع، وكلما دار الامر بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع لا يمكن جريان الاستصحاب فيه لفقده ركنا من أركانه، إذ لا  يقين سابق بأحدهما على الخصوص، ومع فرض وجوده فلا يوجد شك في أن المتيقن باق - إن كان واسعا - أو انه مرتفع - إن كان ضيقا - لفرض دورانه بين مقطوع البقاء أو الارتفاع. فالركن  المفقود اما اليقين أو الشك، ومع فقد أحدهما لا يجري الاستصحاب. وفي رأي بعض أساتذتنا ان المورد يقتضي استصحاب عدم الحجية لاحتمال (ان تكون حجية فتوى المجتهد مختصة بمن  عاصره، وكان من وظيفته الرجوع إليه، وأما المكلف الموجود بعد موته فلا علم بحجية فتواه في حقه من الاول، فيجري استصحاب عدم جعل الحجية في حقه بلا معارض (1)). ما يقتضيه  الاصل المعين للوظيفة: والرجوع إلى هذا الاصل، إنما يكون مع فقد الدليل الاجتهادي، أو الاصل الاحرازي، وهما مفقودان هنا، كما يدل عليه ما استعرضناه من أدلتهم وما ذكرناه في مناقشتهما.  والاصل يقتضي في هذا الموضع، اعتبار الحياة لبداهة دوران الامر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الحجية، وذلك لعدم احتمالنا أية خصوصية للموت - بما هو موت - توجب تعيين الرجوع إلى  الاموات ابتداء، ونحتمل أن تكون للحياة خصوصية مهما كانت بواعث الاحتمال، ومتى دار الامر بين التعيين والتخيير في الحجية، تعين الاخذ بما هو محتمل التعيين
(1) مصباح الاصول، ص 460. (*)
------------------------------------------------------------------
للقطع بحجيته والشك في حجية الطرف الآخر، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها، كما قلنا ذلك مرارا. وعليه فإن تم ما عرضوه من أدلة اجتهادية على اعتبار الحياة - وهو ما لم نر أية  ضرورة لتفصيل الحديث فيه - كان هو المتعين في مقام الاستناد، وإلا فالاصل العملي كاف في إثبات هذه الجهة. تسجيل ملاحظة: والشئ الذي أحببت أن اسجله - وان لم تكن له مدخلية في عوالم  الاستدلال على اعتبار الحياة - ما لاحظته من ان في تشريع جواز الرجوع إلى الاموات في التقليد ابتداء - اماتة للحركة الفكرية التشريعية وتجميدا للعقول المبدعة عن الانطلاق في آفاقها الرحبة.  وقد لاحظت هذا الواقع في كثير من علماء الاسلام من أهل السنة يوم سدوا على انفسهم أبواب الاجتهاد وحصروا التقليد بخصوص أئمتهم، حيث ظلت الحركة الفكرية واقفة عند حدودها لديهم قبل  قرون، وما الف بعد ذلك كان يفقد في غالبه عنصر الاصالة والابداع. كما لاحظت ذلك عند الاخباريين، حين أجازوا لانفسهم تقليد العلماء من الاموات ابتداء. بينما نرى نمو الحركة العلمية  وتطورها عند العلماء والاصوليين من الشيعة بما يتناسب ومستوى عصورهم. ولعل السر في ذلك الجمود يعود إلى ما يضفيه القدم عادة من الغلو في تقديس البشر لكل ما هو عريق فيه، وإعطاء  اصحابه قيمة لا يحلم بها الاحياء من الناس، مما يزهد الاحياء في إعمال افكارهم في أشياء لا تعطي أية ثمرة عملية لمجتمعهم، ولا قيمة اجتماعية كبيرة لهم، وما قيمة علم لا ينتفع بثمره أحد من  الناس حتى يتشجع اصحابه على الفناء فيه ؟
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الثاني التقليد (3) اعتبار الاعلمية في المقلد المراد بالاعلمية، الخلاف في هذا الشرط، أدلة المانعين: اطلاق الادلة اللفظية، استقرار السيرة في عهد المعصومين، بناء  العقلاء، تطابق الصحابة وإجماعهم، أدلة العسر والحرج، أدلة اعتبار الاعلمية: بناء العقلاء، الاجماع، الادلة اللفظية، الاصل المنتج للوظيفة.
------------------------------------------------------------------
المراد بالاعلمية: والمراد بالاعلمية هنا ان يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط لا الاوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب، وكون الفتاوى التي منشؤها الاخذ  بالاحتياط تقتضي ان يكون صاحبها أوصل لا تكشف عن علم صاحبها الذي هو المناط في المرجعية والتقليد. الخلاف في هذا الشرط: وقد اختلفت كلمتهم في هذا الشرط (فمنهم من لا يتخير بينهم  حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الاورع والاعلم، والادين وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الاصوليين (1))  وهو مختار الغزالي أيضا، يقول: (والاولى عندي اتباع الافضل، فمن اعتقد ان الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له ان يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي (2)). وهذا المبنى  هو المشهور بين علماء الشيعة، بل (عن المحقق الثاني الاجماع عليه، وعن ظاهر السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة (3)). (وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الاصوليين  والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء سواء تساووا أو تفاضلوا (4)).
(1) احكام الاحكام للآمدي، ج 3 ص 173. (2) المستصفى، ج 2 ص 125. (3) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 19. (4) الآمدي في احكام الاحكام، ج 3 ص  173. (*)
------------------------------------------------------------------
وذهب إلى ذلك بعض علماء الشيعة ممن تأخروا عن الشهيد الثاني (1). أدلة المانعين: وأهم ما استدل به المانعون عن اعتبار هذا الشرط بعد ضم أدلتهم بعضها إلى بعض هو: 1 - اطلاق الادلة  اللفظية: وهي التي سبق عرض بعضها في هذا القسم حيث لم تفرق بين الاعلم وغيره، مع اختلاف العلماء عادة في العلم والمعرفة وندرة الاتفاق في الفتوى. وحملها على صورة الاتفاق حمل  على الافراد النادرة. والجواب على هذا الاستدلال يتضح مما مر في مناقشة هذه الادلة قبل صفحات، وبخاصة ما يتصل منها بامتناع ان يصدر التعبد من الشارع بالامور المتناقضة. ومع هذا  الامتناع لا بد من حملها على صورة الاتفاق بالفتوى، وهو ليس بنادر كما يدعى وبخاصة في مورد الآيتين ونظائرهما من الاحاديث، حيث يقل الاختلاف عادة في النافرين وأهل الذكر لقرب  عهدهم بالمصادر الاساسية للتشريع، وهم أشبه بالمخبرين منهم بالمجتهدين، فالقول بندرة اتفاقهم لا نعرف له وجها. 2 - استقرار السيرة في عهد المعصومين: على الاخذ بفتاوى العلماء  المعاصرين لهم مع العلم باختلاف مراتبهم بالعلم والفضيلة وعدم ردعهم عن ذلك.
(1) المستمسك، ج 1 ص 19. (*)
------------------------------------------------------------------
والجواب على ذلك هو عدم وجود مثل هذه السيرة مع العلم بالاختلاف، ولا أقل من الشك المانع من التمسك بها. 3 - بناء العقلاء: على التخيير بينهما غير المردوع عنه من قبل المعصوم قطعا.  وهذا الاستدلال كسابقه لا يتم لبداهة ان بناء العقلاء قائم على خلافه، فالناس عادة لا يرجعون إلى المفضول من أهل الخبرة مع وجود الافضل وبخاصة في صورة اختلافهم بالرأي، ويرون ان  العامل على وفق رأي المفضول مقصرا إذا أخطأ الواقع، وقد قرب الغزالي هذا المعنى بقوله: (من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا، ولو راجع طبيبا  لم يكن مقصرا). (فان كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء، فخالف الافضل، عد مقصرا (1)). بينما لا يراه العقلاء مقصرا لو قدر له استعمال دواء الافضل، ولو انهى بمريضه إلى الموت.  وعلام يبذل الناس أموالهم الطائلة في اختيار المهندس الافضل، والمعلم الافضل، والطبيب الافضل مثلا ؟ ؟ لو لم يكن هذا البناء قائما على خلاف الاعتبار، وعلى الاخص في صور الاختلاف.  وسيأتي أن أهم ادلة اعتبار هذا الشرط، هو هذا البناء الذي لم يثبت الردع عنه بشئ من هذه الادلة. 4 - تطابق الصحابة وإجماعهم: وقد استدل به الآمدي على ذلك بتقريب (ان الصحابة كان فيهم
(1) المستصفى، ج 2 ص 126. (*)
------------------------------------------------------------------
الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الاربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ.  وقال عليه السلام: أقضاكم علي وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل). (وكان فيهم العوام، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والاخذ بقولهم لا غير، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من  الصحابة والسلف، تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا انكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الافضل، ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق على  عدم إنكاره والمنع منه، ويتأيد ذلك بقوله (عليه السلام): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى (1)). وهذا الاستدلال لا يتم  صغرى وكبرى. أما من حيث الصغرى، فلان اثبات الاجماع والتطابق، لا يتم بمجرد عدم النقل لما هو معروف بالبداهة من ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، بل يحتاج إلى نص على عدم  الخلاف من معاصريهم، أو الاطلاع على واقعهم التأريخي تفصيلا ليصح نسبة الاتفاق إليهم، وهو ما لم يدون أكثره ولا يمكن بلوغه بحال. وأما من حيث الكبرى فلان هذا الاجماع - لو تم وتمت  حجيته - فهو لا يعدو كونه من الادلة اللبية التي لا اطلاق فيها ليشمل صورة المختلفين في الحكم، والقدر المتيقن هو صورة الاتفاق فيه أو عدم العلم بالاختلاف على الاقل. على أنا نشك ان العوام  في صدر الاسلام كانوا لا يفرقون بين علي
(1) احكام الاحكام، ج 3 ص 174. (*)
------------------------------------------------------------------
من جهة، وبين ابي سفيان وبسر بن أرطأة ومروان بن الحكم من جهة اخرى، فإذا اختلف هؤلاء في حكم تخيروا في الرجوع إلى أيهم شاءوا. على أن الاجماع لو صح وجوده، وقلنا بوجود اطلاق  له يشمل صورة الاختلاف، فهو لا يزيد على الادلة اللفظية، وقد قلنا بامتناع شمولها للمتناقضين لاستحالة التعبد بهما عقلا. وما يقال عن هذا الاجماع في عدم إمكان التعبد به في صورة الاختلاف،  يقال عن الادلة اللفظية التي ذكرها - لو صحت سندا وتمت دلالتها على العموم -، وقد مر الحديث في حجيتها في مبحث (سنة الصحابة) و (مذهب الصحابي). 5 - أدلة العسر والحرج: بدعوى  انها رافعة لوجوب الرجوع إلى الاعلم لكون تشخيصه حرجيا غالبا. والمناقشة فيها أيضا واقعة صغرى وكبرى. أما الصغرى، فلعدم وجود العسر والحرج مع توفر اهل الخبرة في تعيينه، وإمكان  الرجوع إليهم. وأما الكبرى، فلما سبق بيانه من أن موضوع أدلة نفي الحرج هو الحرج الشخصي لا النوعي، والحكم يدور مدار وجود ذلك الحرج عند الشخص، فإن وجد لدى شخص ارتفع  الحكم بقدره، لان الضرورات تقدر بقدرها. وعليه تكون هذه الادلة أضيق من المدعى.
------------------------------------------------------------------
وإذا كانت هذه الادلة لا تكفي لرفع اليد عن لزوم تقليد الاعلم، فهل هناك أدلة تعين اعتبار هذا الشرط ؟ أدلة اعتبار الاعلمية: وقد ذكر العلماء لذلك عدة أدلة نذكرها ملخصة: 1 - بناء العقلاء:  وهو قائم على الاخذ برأي الاعلم من الاحياء في الامور المهمة، ومن راجع واقع مجتمعه الذي يعيش فيه، والمجتمعات التي يمكنه التعرف عليها، لوجد هذه الظاهرة قائمة على أتمها في مختلف  مجالات حياتهم وهي ممضاة حتما، وإنما قيدنا الرجوع إلى الاعلم من الاحياء تقيدا بما نعرف من توفر هذه الظاهرة، وإلا فما علمنا أو حدثنا التأريخ ان أحدا حاول الفحص في قضية ما وقعت  موضع ابتلائه عن الاعلم في الاموات والاحياء على السواء، فالظاهرة قائمة إذن على التماس الاعلم من الاحياء بالخصوص. 2 - الاجماع: وقد ادعي على لزوم الرجوع إلى الاعلم في ألسنة  بعض الاعلام. ولكن هذه الدعوى لا تخلو من مناقشة لوجود المخالفين من العلماء ممن عرضنا رأي قسم منهم في بداية الحديث. 3 - الادلة اللفظية: وقد عرضت بعض الاحاديث في هذا الشأن.  ولكنها مناقشة ايضا سندا ودلالة.
------------------------------------------------------------------
فالعمدة اذن هو البناء العقلائي، فإن تم وإلا رجعنا إلى ما يعينه الاصل المنتج للوظيفة الفعلية. الاصل المنتج للوظيفة: والاصل هنا يقتضي الاخذ برأي الاعلم لدوران الامر بين التعيين والتخيير.  لبداهة ان رأي الاعلم معلوم الحجية، إما لكونه معينا، أو لانه طرف الحكم التخييري لوضوح عدم احتمال التعيين في جانب غير الاعلم، كأن يكون لعدم الاعلمية موضوعية في مقام جعل الحجية،  وغير الاعلم مشكوك الحجية والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها، فالرجوع إلى الاعلم هو المتعين بمقتضى الاصل.
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف القسم الثاني التقليد (4) اعتبار العدالة في المقلد تحديد العدالة، الخلاف في اعتبارها، أدلته: الاجماع، بناء العقلاء، امتناع جعل الحجية لرأي الفاسق، إرتكاز المتشرعة، أدلة  القائلين بعدم الاعتبار ومناقشتها، ما تقتضيه الوظيفة، نهاية الحديث.
------------------------------------------------------------------
تحديد العدالة: ونريد بالعدالة الاستقامة في السلوك - بالسير على وفق أحكام الشريعة الاسلامية الملزمة - والتي تنشأ عن بواعث نفسية، تكون نتيجة دربة وإيمان وتمثل لواقع الاسلام. ولعل  القائلين بالملكة لا يريدون أكثر من هذه البواعث، كما أن القائلين بالاستقامة لا يريدون إلا هذا النوع منها، لا عدم صدور المخالفة الشرعية فحسب. الخلاف في اعتبارها: وهذا الشرط - فيما يبدو  - قليل الخلاف في اعتباره لذهاب الاكثر إلى ذلك. أدلته: وقد استدل له في كلماتهم بأدلة لعل أهمها: 1 - الاجماع: وقد حكاه غير واحد من الشيعة (1) والسنة (2)، واعتبره البعض رادعا عن  الاخذ ببناء العقلاء بناء على قيامه على التخيير بين العادل وغيره، وهو غير قائم في مثل هذا المقام، كما يأتي في إيضاحه.
(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 34. (2) الخضري ي في علم أصول الفقه، ص 371 وغيره. (*)
------------------------------------------------------------------
2 - بناء العقلاء: على اعتباره بدعوى أن العقلاء لا يساوون بين المستهتر - فيما يؤمن به - والمتقيد بحرفية ما يقول. فهم أقرب وثوقا واطمئنانا إلى العامل برأيه من غيره في صورة تساوي أهل  الخبرة حتى مع الوثوق بصدق ما يخبر به من رأي. وهذا النوع من البناء - لو نوقش في وجوده - بالنسبة إلى مطلق أهل الخبرة في بقية المواضع، فلا أظن ان المناقشة تتم بالنسبة إلى عوالم  التقليد ومشابهاته، فالناس بطبعها ترى في المقلد - بحكم مهمته التشريعية - موضعا للاقتداء والمحاكاة لا أخذ الرأي عنه فقط. ومن الصعب عليهم تفكيكهم بين ما يوحيه انحراف شخصيته لو كان  الايمان بقوله. فهم في هذا الحال ينساقون إلى الاخذ عمن توفرت جوانب الملاءمة بين فعله وقوله، وترك الآخر لو خلوا وطبعهم. 3 - امتناع جعل الحجية لرأي الفاسق: على ان الشارع لا يمكن  ان يلزم بالرجوع إلى فاسق، ويجعله موضعا لاقتداء ومحاكاة لعلمه ان العامة أسرع ما يكونون إلى التأثر بواقع المقلد ومحاكاته منهم إلى الاخذ بقوله. فلو قدر لمقلد ان ينهى عن شرب الخمر مثلا  وهو يعاقرها ليل نهار، لكان تأثيره على العوام - بعد تلقيهم المسوغ الشرعي في الرجوع إليه - في التسامح بشربها أكثر بكثير من ألف قول يصدر عنه بتحريمها، ومن هنا قيل: ان وظيفة المرجع  وظيفة إمامة. وفساد الامام فساد لرعيته، والامم إنما تنهار بانهيار ساستها وقادتها.
------------------------------------------------------------------
وما أكثر ما شاهدنا وحدثنا التأريخ من انهيار مجتمعات لانهيار حكامها الذين اتخذوا من أنفسهم قادة للناس أو اتخذتهم شعوبهم - بدافع من محاكاة الضعيف للقوي - مثلا تقتدي في السلوك. ارتكاز  المتشرعة: ويؤيد ما ذكر ما ورد في المستمسك من ان المرتكز عند المتشرعة هو (قدح المعصية في هذا المنصب على نحو لا تجدي عندهم التوبة والندم، فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبة عالية لا  تزاحم ولا تغلب). (والانصاف أنه يصعب جدا بقاء العدالة للمرجع العام للفتوى، كما يتفق ذلك في كل عصر أو جماعة إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة ومحاسبة، فإن ذلك مزلة للاقدام  (1)). بقيت أدلة لفظية ذكروها لاعتبار العدالة وهي غير ناهضة في سندها ودلالتها، فلا حاجة إلى عرضها ومناقشتها. أدلة القائلين بعدم الاعتبار ومناقشتها: وأهم الادلة التي ذكروها على عدم  الاعتبار هو التمسك باطلاقات الادلة اللفظية السابقة، وهي لا تفرق بين العادل والفاسق. والجواب عليها هو نفس الجواب الذي مر في اعتبار شرط الحياة، فلا نعيد. ودعوى الاجماع على عدم  التفرقة بينهما - أعني الفاسق والعادل - يدفعها ما ادعي من الاجماعات على اعتبار هذا الشرط عند السنة والشيعة.
(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1 ص 34. (*)
------------------------------------------------------------------
ما تقتضيه الوظيفة: ومع الغض عن جميع هذه الادلة نفيا أو إثباتا، فالاصل العملي يقتضي اعتبار هذا الشرط لنفس ما ذكرناه سابقا من دوران الامر بين التعيين والتخيير لاحتمال مدخلية العدالة  في الحجية، وعدم احتمال مدخلية الفسق، وهو يقتضي الاخذ بالحجة التي فيها احتمال التعيين للقطع بها والشك في وجودها بالطرف الآخر. نهاية الحديث: والذي انتهينا إليه - وهو الذي يقتضينا  الاخذ به من وجهة نفسية أيضا - هو اعتبار هذا الشرط، فعلماء النفس - فيما أعتقد - يشكون كثيرا في سلامة استنباط الحكم الشرعي من غير العدول، لتحكم عوامل التبرير في استنتاجاتهم لاكثر  من تصرفاتهم الناشزة، وهي عوامل بعضها لا شعوري.
------------------------------------------------------------------
ختام الحديث طبيعة ما رجعت إليه من المصادر: المصادر الاساسية، المصادر الحديثة، المصادر العامة، وظيفة الكتاب، العمل على تقويم هذه البحوث، شكر وتقدير.
------------------------------------------------------------------
وقبل ان أودع القارئ الكريم - إلى لقاء آخر - إن شاء الله في الكتاب الثاني من المدخل الذي تولى التحدث له عن (القواعد الفقهية العامة) على اساس من المقارنة أحببت ان أقف معه حول أمور  قد يكون لها علاقة ما في صميم ما رافقني فيه من بحوث. وربما وجدنا الجواب في بعضها على التساؤلات التي تحدثها عادة أمثال هذه الرفقة الطويلة للتطواف في فصول الكتاب. وأول هذه  الامور: طبيعة ما رجعت إليه من مصادر. وطبيعة هذه المصادر يمكن إرجاعه إلى أقسام ثلاثة: 1 - المصادر الاساسية: وهي التي ركزت على أفكارها طبيعة البحوث السابقة نقدا وتقييما، وأهم  مزاياها: أصالة أفكارها، وعمق تجاربها، وتمثل أصحابها لها، بحيث يصح اطلاق لقب الاجتهاد عليهم، وقد أشرت إلى هذه المصادر في الهوامش غالبا عندما عرضت آراءها، وتحدثت حول ما  جاء فيها من أفكار. 2 - المصادر الحديثة: وهي التي عرضت لنفس الافكار وحاولت ان تكتبها بلغة العصر وأساليبه المحدثة، وإن لم تزد على تلكم الافكار أو تبدل فيها في الغالب،
------------------------------------------------------------------
وقد وجدت في القليل من هذه المصادر أصالة الرأي وسلامة النهج. ومثل هذا القسم من المصادر ربما رجعت إليه - بعد التوثق من صحة النقل عن أصحاب المذاهب والآراء - لنقل نص لم أجد  مصدره الاساس بين يدي، أو لم أملك من الوقت ما أستعين به على الفحص عنه، وقد أشرت إلى ما نقلته عنهم في الهوامش أيضا، كما اني أشرت إلى ما استفدته من تجارب بعض مؤلفيها، سواء  ما يتصل منها بمنهجة البحث أم محاكمة الآراء. 3 - المصادر العامة: وأريد بها ذلك القسم من المصادر الذي يرجع إليه لالقاء بعض الاضواء على طبيعة ما طرقناه من بحوث ككتب الحديث،  والتأريخ، والدراية، وأمثالها مما لا يقع في صميم بحوثنا الاصولية، وان استعنا بها على تصحيح رأي كائن أو تكوين رأي لم يكن، - أو على الاصح - لم يسبق لي ان اطلعت عليه في تجارب  السابقين من الاعلام. والثاني من هذه الامور ما يتصل منها بتحديد. وظيفة الكتاب: وأظن ان القارئ الكريم أدرك من استعراض فصول هذا الكتاب وتجاربه - ان وظيفته وان كانت تأريخية  وتقييمية كما رسمها منهج البحث إلا ان عنايته انصبت في الدرجة الاولى على الجانب التقييمي لايماننا بانه هو الاساس والمنطلق للفصل في جميع الآراء الفقهية التي سنعرضها في أجزاء الكتاب  القادمة. ولهذا السبب كان اهتمامنا موجها إلى عرض جل مباني وآراء المجتهدين
------------------------------------------------------------------
في المسائل الاصولية، ولم يكن من همنا البحث عن جميع معتنقيها واستعراض أسمائهم وتحقيق صحة النسبة إليهم، لان ذلك يخرجنا عن طبيعة مهمتنا الاساسية. إذ غاية ما تدعو إليه طبيعة  المدخل إلى دراسة الفقه هو الاحاطة بالمباني المختلفة والتعرف على السليم منها من غيره تمهيدا للدخول في مجالات إعمال الملكة في مسائلها الفقهية. وظني ان الكتاب أحاط نسبيا بهذه المباني  وان لم يذكر جميع أسماء معتنقيها من المجتهدين، ومن ذكره منهم لا يتحمل مسؤولية خطأ النسبة فيما ينسبه من آراء إليه، ما دام قد أشار إلى ما لم يكن قد أخطأ في نسبته إلى ذلك المصدر.  وللسبب نفسه، نرى أنه لا جدوى لذكر أكثر من للمبنى الواحد، وان ذكر عشرات المصادر، لان الاكثار من المصادر من التطويل غير المستساغ وهو مما لا يقتضي ان يكون إلا في حالات نادرة  تقتضيها بعض الملابسات التي تحيط بذلك المبنى. وربما اخترنا من بين المصادر مصدرا لبعض المباني وأكثرنا من الرجوع إليه في كل ما يتصل بذلك المبنى نظرا لايماننا بأن هذا المصدر قد  وفق أكثر من غيره في عرض ذلك المبنى وأدلته وكل ما يرتبط به، ولاعتقادنا بان هذا مما يسهل على الناقد مهمته بالرجوع إليه إذا أراد التعرف على واقع ما سجله هذا الكتاب. وثالث الامور هو:  أكثر من غيره في عرض ذلك المبنى وأدلته وكل ما يرتبط به، ولاعتقادنا بان هذا مما يسهل على الناقد مهمته بالرجوع إليه إذا أراد التعرف على واقع ما سجله هذا الكتاب. وثالث الامور هو:  العمل على تقويم هذه البحوث وهو ما سبق ان طلبناه في المقدمة، ونحاول تأكيده الآن، فان تناول
------------------------------------------------------------------
هذه البحوث بالنقد الموضوعي وتقويم ما لم يستقم منها بالاشارة إلى مفارقاته، أساس في نجاح هذه المحاولة والاستفادة من عطائها في مجالات التشريع.