القرعة

الباب الخامس تمحض هذا الباب لبحث (القرعة)، ولكن عدها من مصادر التشريع، وإفرادها بباب مستقل، فيه شئ من الغرابة لخروجه عن إجماع المؤلفين في علم الاصول. ولكن نسبة بعض  المؤلفين المحدثين عدها من المصادر الكاشفة عن الحكم إلى بعض الفرق الاسلامية - كما توهمه عبارته - اقتضانا ان نبحثها على هذا الصعيد، ونلتمس أدلة تشريعها ورتبتها من الادلة ورأي من  نعثر على رأيه من علماء المذاهب فيها وفق ما قدمناه من نهج.
------------------------------------------------------------------
الباب الخامس القرعة تحديد القرعة، مشروعيتها، أدلة المشروعية: أدلتها من الكتاب، أدلتها من السنة، مجالات القرعة، الجمع بين أدلتها وأدلة الاحكام الظاهرية، خلاصة البحث.
------------------------------------------------------------------
تحديد القرعة: وهي إجالة السهام أو غيرها بين أطراف مشتبهة لاستخراج الحق من بينها. مشروعيتها: والظاهر أن مشروعيتها على سبيل الموجبة الجزئية يكاد يكون موضع اتفاق المسلمين،  يقول العلامة السيد حسين مكي - وقد تتبع حكمها في الكتب الفقهية -: (فقد رأيت الشعراني في كتابه (الميزان) يتعرض إلى القرعة في باب القسمة وكتاب الدعاوى والبينات، ونقل عن الائمة إلا  أبا حنيفة جواز الرجوع إلى القرعة في الرقيق، إذا تساوت الاعيان والصفات، وعند تعارض البينات نسب إلى الشافعي القول بالرجوع إلى القرعة فراجع، ونقل ذلك عن الشافعي وغيره الشيخ  محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في كتابه (رحمة الامة في اختلاف الائمة) المطبوع في هامش (الميزان)، وكذلك الشوكاني ذكر في كتابه (نيل الاوطار) رجوع الفقهاء إلى القرعة حيث لا يوجد  طريق شرعي يفصل به بين الخصمين (1)). والكتب الفقهية الشيعية لا تأبى الاخذ بها في موارد خاصة شخصتها روايات أهل البيت (عليهم السلام). أدلة المشروعية: وقد استدل على أصل  المشروعية بأدلة من الكتاب والسنة.
(1) عقيدة الشيعة في الامام الصادق، ص 369، وقد أرجعت هذه الاقوال إلى مصادرها. (*)
------------------------------------------------------------------
أدلتها من الكتاب: 1 - قوله تعالى (وان يونس لمن المرسلين، إذ ابق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين (1)). بتقريب ان المساهمة في اللغة هي المقارعة بالقاء السهام،  والمدحض هو المغلوب. فإذا كان يونس وهو من المرسلين ممن يزاول القرعة، فلا بد ان تكون مشروعة إذ ذاك. 2 - قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم  أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون (2)). والآية واردة لحكاية الاقتراع على كفالة مريم، وقد ظفر بها زكريا، وهو من الانبياء وممن شارك في الاقتراع. والحديث حول تعميم الحجية  في هاتين الآيتين - وهما حاكيتان عن وقائع صدرت في شرائع سابقة - يدعونا ان نتذكر ما قلناه في مبحث (شرع من قبلنا) من الخلاف في حجية الشرائع السابقة، فمن ذهب إلى نسخها جملة لا  يصلح له الاستدلال بهما. ومن ذهب إلى بقائها جملة إلا ما ثبت فيه النسخ، ساغ له الاستدلال بهما. وعلى مذهب جمهور علماء الحنفية وهو الذي أكدناه سابقا واعتبرنا الادلة ناهضة به يسوغ  الاستدلال بهما أيضا لاثباتها في الجملة، لان نفس حكاية القرآن لهما يوجب العلم بوقوع مضمونهما وعدم تحريفه، وما صح من مضامين الشرائع السابقة حجة على رأيهم يجب الاخذ بها ما لم  يثبت النسخ. على أن أدلتها القادمة من السنة تدل على إقرار مضامين هاتين الآيتين في ثبوت أصل المشروعية لها.
(1) الصافات، ص 139 وما بعدها. (2) آل عمران / 44. (*)
------------------------------------------------------------------
أدلتها من السنة: والادلة من السنة كثيرة جدا، وقد عقد لها البخاري بابا في جزئه الثاني أسماه باب: (القرعة في المشكلات) وإقراع النبي (صلى الله عليه وآله) بين نسائه - عندما يريد السفر لاخذ  من يخرج سهمها معه - معروف لدى المؤرخين. وفي روايات اهل البيت (عليهم السلام) نصوص كثيرة تدل على مشروعيتها، يرجع إليها في مظانها من كتب الفقه والحديث. مجالات القرعة:  وان كانت القرعة مشروعة في الجملة، فان مشروعيتها ليست محددة في مجالات العمل بها على ألسنة الفقهاء، واستقراء مواقع استعمالها لديهم لا يخرجها عن الموضوعات أو عن قسم منها،  بل لا يخرجها عن موارد النصوص ووقائعها الخاصة، على أن في بعض نصوصها تعميمات لكل مجهول أو مشتبه سواء كان المجهول حكما وضعيا أم تكليفيا، ومع ذلك لم يأخذوا بهذه العمومات.  والذي يقتضينا - ونحن نريد التقيد بحدود ما تدعو إليه الادلة - ان نفحص السر في عدم أخذهم بهذه العمومات ونقيمه - على ضوء ما انتهينا إليه في بحوثنا الاصولية السابقة -. الجمع بين أدلتها  وأدلة الاحكام الظاهرية: يقول استاذنا الخوئي - فيما حكاه بعض مقرري بحثه -: (والذي يستفاد من مجموع الروايات في القرعة ومواردها انها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي ولا  الظاهري، وهذا المعنى هو المراد من لفظ المشكل في قولهم: (ان القرعة لكل أمر مشكل، وإن لم نعثر
------------------------------------------------------------------
على رواية بهذا اللفظ). (وهو المراد أيضا من لفظ المشكل المذكور في متون الكتب الفقهية، فإن المراد من قولهم: هو مشكل أو فيه إشكال عدم العلم بالحكم الواقعي، وعدم الاطمئنان بالحكم  الظاهري لجهة من الجهات، لا عدم العلم والاطمئنان بالحكم الواقعي فقط، إذ الاشكال بهذا المعنى موجود في جميع الاحكام الفقهية سوى القطعيات. وبالجملة مورد القرعة، نظرا إلى مورد  الروايات الواردة فيها، هو اشتباه الحكم الواقعي والظاهري، فالمراد من المجهول في قوله (عليه السلام) في رواية (كل مجهول ففيه القرعة) هو المجهول المطلق - أي المجهول من حيث الحكم  الواقعي والظاهري -، ثم يقول: (وظهر بما ذكرناه انه يقدم الاستصحاب على القرعة تقدم الوارد على المورود، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون  موضوعه الجهل بالحكم الواقعي والظاهري - على ما ذكرناه - بل يقدم على القرعة أدنى أصل من الاصول، كأصالة الطهارة وأصالة الحل وغيرهما مما ليس له نظر إلى الواقع، بل يعين  الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعها (1)). وهذه الاستفادة متينة جدا لو كان لفظ المشتبه موجودا في الروايات. ولكن  الموجود فيها (كل مجهول ففيه القرعة) وهي من حيث أخذ الجهل في موضوعها اشبه بأدلة الوظائف الشرعية كالبراءة والاحتياط، لاخذ عدم العلم فيها وهذه الادلة - لو كانت تامة الدلالة - لكانت  وظيفة من الوظائف التي يجب الرجوع إليها عند العجز عن تحصيل الحكم الواقعي. وعلى هذا، فإن تمت استفادة استاذنا في أن المراد من المجهول، هو
(1) مصباح الاصول، ص 342 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
الاعم من الحكم الواقعي والظاهري، ولو بمعونة القرائن المستفادة من الموارد الخاصة التي وردت فيها روايات القرعة، كانت هي المتعينة وإلا فلا بد من جمع آخر. والظاهر أن الجمع بينها  وبين ما دل على الرجوع إلى الاصول عند الشك يختلف من حيث مفاد الادلة. فأدلة الاصول الاحرازية، نظرا لاعتبارها المشكوك متيقنا، تكون حاكمة عليها ومزيلة للجهل الذي اخذ في  موضوعها تعبدا، وحسابها حساب أدلة البراءة بالنسبة الى الاستصحاب. أما أدلة الوظائف الشرعية - براءة أو احتياطا - فنسبتها إليها نسبة المخصص لبداهة ان لسان أدلة القرعة وهو: (كل  مجهول ففيه القرعة) يعم الجهالة بالاحكام الالزامية وغيرها، والجهالة بالاحكام الوضعية والتكليفية مهما كان منشأ الجهل وأدلة البراءة إنما تتعرض لخصوص الاحكام التي فيها كلفة، سواء كانت  الشبهة فيها موضوعية أم حكمية، فهي أخص من أدلة القرعة فتقدم عليها بالتخصيص وكذلك أدلة الاحتياط. وعلى هذا فأدلة القرعة تبقى قائمة في كل ما لم يعرف حكمه الواقعي أو الظاهري، أي  فيما لا مجال لمعرفة رأي الشارع فيه مطلقا حكما أو وظيفة لولا شبهة إسقاطها بكثرة التخصيص. وبهذا يظهر ان (ما هو المعروف في ألسنتهم من ان أدلة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة،  وكثرة التخصيص موجبة لوهنها، فلا يمكن الاخذ بها (1)) لا يخلو من اصالة. كما يظهر أيضا ان ما نبه عليه الاستاذ أبو زهرة من (ان في الفقه الامامي رأيا فيه غرابة، وهو انه عند اشتباه  الحلال بالحرام في موضع
(1) مصباح الاصول، 342. (*)
------------------------------------------------------------------
اما لتعارض الادلة أو لعدم وجود دليل يعمل بالقرعة (1)) لا أساس له على جميع مباني مجتهدي الشيعة، لان المرجع في الجميع منها هو البراءة أو الاحتياط على اختلاف في وجهة النظر في  ذلك وهي أما الورود أو التخصيص. نعم، لا شبهة في أخذهم - شيعة وسنة - بالقرعة في خصوص الموارد المنصوصة والتقيد بنصوصها وهي لا تتجاوز مسائل معينة، كمسألة اشتباه الغنم  الموطوءة في قطيع وأمثالها مما وردت في الباب الذي عقده البخاري لها في صحيحه وغيره من كتب الحديث. وقد كنا نحب للاستاذ أبي زهرة ان يذكر لنا موردا واحدا من غير الموارد  المنصوصة التي أثارت استغرابه في اعتبار الشيعة القرعة مصدرا من مصادرهم عن تعارض الادلة، ولم يرجعوا فيها إلى الاصل العملي أو الوظيفة ليبرر لنفسه ذلك الاستغراب. خلاصة  البحث: وخلاصة ما انتهينا إليه من بحث ان القرعة ليست موضعا لشبهة في أصل مشروعيتها، إلا ان العمل بها إنما يقتصر على خصوص مواردها المنصوصة، وليس عندنا من الادلة ما يرفعها  إلى مصاف ما عرضناه من مصادر التشريع سواء ما كان مجعولا لاكتشاف الحكم الشرعي أم الوظيفة على اختلافها، وبخاصة بعد ان كانت أدلتها العامة فاقدة الاعتبار لوهنها بكثرة التخصيص.
(1) الامام الصادق، ص 506. (*)
------------------------------------------------------------------
خاتمة المطاف رأينا ان نتعرض في هذه الخاتمة إلى المهم من مباحث (الاجتهاد والتقليد) لا للاخذ بما جرى عليه الاصوليون من تقليد فحسب بل لما في اثارتها من ثمرات تعود على الفكر  الاسلامي اليوم بأعظم الفوائد بالاضافة إلى صلوحها لان تكون نماذج تطبيقية لما درسناه من تلكم الاصول، وقد آثرنا ان ندرسها على أساس مقارن تحقيقا للنهج الذي رسمناه لهذه البحوث في  مدخل الكتاب.