القسم السابع: المصالح المرسلة

الباب الاول القسم السابع المصالح المرسلة تحديدها، تقسيم الاحكام المترتبة عليها: الضروري، الحاجي، التحسيني، الاختلاف في حجيتها، أدلة الحجية من العقل، الاستدلال بسيرة الصحابة،  الاستدلال بحديث لا ضرر، غلو الطوفي في المصالح المرسلة، نفاة الاستصلاح وأدلتهم، تلخيص وتعقيب.
------------------------------------------------------------------
تحديدها: ولتحديد معنى المصالح المرسلة لا بد من تحديد معنى المصلحة أولا ثم تحديد معنى الارسال فيها ليتضح معنى هذا التركيب الخاص. يقول الغزالي: المصلحة هي: (عبارة في الاصل عن  جلب منفعة أو دفع مضرة)، وقال: (ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع).  (ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو ان يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن هذه الاصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الاصول فهو مفسدة  ودفعها مصلحة (1)) وعرفها الطوفي بقوله: هي (السبب المؤدي إلى مقصود الشرع عبادة وعادة (2)) وأراد بالعبادة (ما يقصده الشارع لحقه (3)) والعادة (ما يقصده الشارع لنفع العباد  وانتظام معايشهم وأحوالهم (4)). أما تعريفهم للارسال فقد وقع موقع الاختلاف لديهم، فالذي يبدو من بعضهم ان معناه عدم الاعتماد على أي نص شرعي، وإنما يترك للعقل حق اكتشافها، بينما  يذهب الآخر إلى ان معناها هو عدم الاعتماد على نص خاص وإنما تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة، واستنادا إلى هذا التفاوت في معنى الارسال، تفاوتت تعاريف المصلحة  المرسلة.
(1) المستصفى، ج 1 ص 140. (2 - 3 - 4) رسالة الطوفي المنشورة في مصادر التشريع، ص 93. (*)
------------------------------------------------------------------
فابن برهان يعرفها بقوله هي: (ما لا تستند إلى أصل كلي أو جزئي (1)) وربما رجع إلى هذا التعريف ما ورد على لسان بعض الاصوليين المحدثين من (أنها الوصف المناسب الملائم لتشريع  الحكم الذي يترتب على ربط الحكم به جلب نفع أو دفع ضرر، ولم يدل شاهد من الشرع على اعتباره أو إلغائه (2)). بينما يذهب الاستاذ معروف الدواليبي إلى إدخالها ضمن ما شهد له أصل كلي  من الشريعة يقول - وهو يتحدث عن الاستصلاح -: (الاستصلاح في حقيقته هو نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة، وذلك في كل مسألة لم يرد في الشريعة نص عليها، ولم يكن لها في  الشريعة أمثال تقاس بها، وإنما بنى الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أن كل مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشئ، وتلك القواعد هي مثل قوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والاحسان)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار (3)). وقد رادف بعضهم بينها وبين الاستصلاح (4)، كما رادف آخر بينها وبين الاستدلال (5). وهو ما لم  يتضح له وجه لبعده عما لهذه الالفاظ من مداليل لديهم، فالاستصلاح، كما هو صريح كلامهم، هو بناء الحكم على المصلحة المرسلة لا أنه عينها، كما ان الاستدلال إنما يكون بها لا انها عين  الاستدلال. وبما أن هذه التعاريف التي نقلنا نموذجين منها لا تحكي عن واقع
(1) إرشاد الفحول، ص 242. (2) سلم الوصول، ص 309. (3) المدخل إلى أصول الفقه، ص 284. (4) أصول الفقه للخضري، ص 302. (5) ارشاد الفحول،  ص 242. (*)
------------------------------------------------------------------
واحد ليلتمس تعريفه الجامع المانع من بينها، وربما اختلف الحكم فيها لديهم باختلاف مفاهيمها فلا جدوى بمحاكمتها. والانسب ان تعرض أحكامها وتحاكم على أساس ما ينتظمها من الادلة نفيا أو  اثباتا على أسس من تعدد المفاهيم. تقسيم الاحكام المترتبة على المصلحة: وقد قسموا أحكامها المترتبة عليها بلحاظ ما لمصالحها من رتب إلى أقسام ثلاثة: 1 - الضروري: (وهو المتضمن لحفظ  مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع بل هي مطبقة على حفظها (1)). يقول الغزالي: (وهذه الاصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في  المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب إذ به  حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والانساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الاموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها (2))،  ثم يقول: (وتحريم تفويت هذه الاصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ان لا تشتمل عليها ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم  الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر (3)).
(1) ارشاد الفحول، ص 216. (2 - 3) المستصفى، ج / 1 ص 140. (*)
------------------------------------------------------------------
2 - الحاجي: وأرادوا به (ما يقع في محل الحاجة لا الضرورة (1)) كتشريع أحكام البيع، والاجارة، والنكاح لغير المضطر إليها من المكلفين. 3 - ا لتحسيني: وأرادوا به ما يقع ضمن نطاق  الامور الذوقية كالمنع عن أكل الحشرات، واستعمال النجس فيما يجب التطهر فيه، أو ضمن ما تقتضيه آداب السلوك كالحث على مكارم الاخلاق، ورعاية أحسن المناهج في العادات  والمعاملات، وقد عرفه الغزالي بقوله هو: (ما لا يرجع إلى ضرورة ولا حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزايد (2)). ولهذا التقسيم ثمرات أهمها تقديم بعضها على  بعض في مجالات التزاحم فهي مرتبة من حيث الاهمية، فالاول منها مقدم على الاخيرين والثاني على الثالث، ولعل قسما من الاقوال القادمة يبتنى في حجيته على الاخذ ببعض هذه الاقسام دون  بعض. الاختلاف في حجيتها: ذهب مالك واحمد ومن تابعهما (إلى أن الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نص فيه ولا اجماع، وان المصلحة المطلقة التي لا يوجد من الشرع ما يدل  على اعتبارها ولا على الغائها مصلحة صالحة لئن يبنى عليها الاستنباط (3)). وغالى فيها الطوفي، وهو من علماء الحنابلة (4)، فاعتبرها الدليل الشرعي الاساس في السياسات الدنيوية  والمعاملات، وقدمها على ما يعارضها
(1) ارشاد الفحول، ص 216. (2) المستصفى، ج 1 ص 140. (3) مصادر التشريع، ص 73. (4) مصادر التشريع، ص 80. (*)
------------------------------------------------------------------
من النصوص عند تعذر الجمع بينها (1). بينما ذهب الشافعي ومن تابعه: (إلى أنه لا استنباط بالاستصلاح، ومن استصلح فقد شرع كمن استحسن، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى (2)).  وللغزالي وهو من الشافعية تفصيل فيها فهو يرى ان (الواقع في الرتبتين الاخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده ان لم يعتضد بشهادة اصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات، فلا بعد في ان يؤدى  إليه اجتهاد مجتهد، وان لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس. أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في ان يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وان لم يشهد له أصل  معين، ومثاله ان الكفار إذا تترسوا بجماعة من اسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الاسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا،  وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الاسارى ايضا، فيجوز ان يقول قائل: هذا الاسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين اقرب إلى  مقصود الشرع، لانا نعلم ان مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الامكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة  لا بدليل واحد واصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له اصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة
(1) مصادر التشريع، ص 81 وما بعدها. (2) مصادر التشريع، ص 74. (*)
------------------------------------------------------------------
بطريق القياس على اصل معين (1)). وخلاصة ما انتهى إليه في ذلك اعتبار امور ثلاثة ان توفرت في شئ ما كشفت عن وجود الحكم فيه وهي: 1 - كون المصلحة ضرورية. 2 - كونها قطعية.  3 - كونها كلية (2). هذا كله إذا وقعت في مرتبة الضروري (وان وقعت في مرتبة الحاجي فقد رأى في المستصفى ردها، وفي شفاء الغليل قبولها (3)). أما الاحناف فالمنسوب إليهم أنهم لا  يقولون بالمصالح المرسلة، ولا يعتبرونها دليلا، وقد تنظر الاستاذ خلاف في هذه النسبة، واستظهر من عدة وجوه خلاف ذلك (4). وقد نسب الاستاذ الخفيف إلى الشيعة واهل الظاهر (العمل  بالمصالح المرسلة لكونهم لا يرون العمل بالقياس (5))، وسيتضح الحال فيها. ولعل الفصل في هذه الاقوال نفيا أو إثباتا يتضح مما عرضوه للحجية من أدلة، وقد آثرنا تحريرها على ترتيب ما  ذكروه في التقديم والتأخير. أدلة الحجية من العقل: وخلاصة ما استدل به للاستصلاح منها بعد إكمال نواقص بعضها ببعض هو: 1 - ان الاحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح العباد، وان
(1 - 2) المستصفى، ج 1 ص 141. (3) محاضرات في أسباب الاختلاف للخفيف، ص 244. (4) مصادر التشريع، ص 74. (5) محاضرات في أسباب الاختلاف،  ص 244. (*)
------------------------------------------------------------------
هذه المصالح التي بنيت عليها أحكام الشريعة معقولة، أي مما يدرك العقل حسنها، كما انه يدرك قبح ما نهى عنه، فإذا حدثت واقعة لا نص فيها (وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من  نفع أو ضرر، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع، ولذلك لم يفتح باب الاستصلاح إلا في المعاملات ونحوها مما تعقل معاني أحكامها فلا تشريع فيها بالاستصلاح (1)). وهذا  الاستدلال لا يتم إلا على مبنى من يؤمن بالتحسين والتقبيح العقليين، والدليل كما ترون قائم على الاعتراف بإمكان إدراك العقل لذلك. وقد سبق ان قلنا: ان العقل قابل للادراك، ولو أدرك على  سبيل الجزم كان حجة قطعا لكشفه عن حكم الشارع، ولكن الاشكال، كل الاشكال، في جزمه بذلك لما مر من أن أكثر الافعال الصادرة عن المكلفين، اما ان يكون فيها اقتضاء التأثير أو ليس فيها  حتى الاقتضاء، وما كان منها من قبيل الحسن والقبح الذاتيين فهو نادر جدا، وأمثلته قد لا تتجاوز العدل والظلم وقليلا من نظائرهما. وما فيه الاقتضاء يحتاج إلى إحراز تحقق شرائطه وانعدام  موانعه، أي إحراز تأثير المقتضى وهو مما لا يحصل به الجزم غالبا لقصور العقل عن إدراك مختلف مجالاته، وربما كان بعضها مما لا يناله إدراك العقول كما مر عرض ذلك مفصلا. 2 -  قولهم: (ان الوقائع تحدث والحوداث تتجدد، فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ضاقت الشريعة الاسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم، ولم يصلح لمسايرة مختلف  الازمنة والامكنة والبيئات والاحوال مع انها الشريعة العامة لكافة الناس، وخاتمة الشرائع السماوية كلها (2)). * (هامش) (1 - 2) مصادر التشريع، ص 75. (*)
------------------------------------------------------------------
وقد أجبنا على نظير هذا الاستدلال في مبحث القياس، وبينا أن أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية، لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقصر عن حاجاتهم، وهي بذلك مسايرة لمختلف الازمنة والامكنة  والبيئات والاحوال وبخاصة إذا لوحظت مختلف المفاهيم بعناوينها الاولية والثانوية وأحسن تطبيقها والاستفادة منها. والحقيقة ان تأثير الزمان والمكان والاحوال انما هو في تبدل مصاديق هذه  المفاهيم. فالآية الآمرة بالاستعداد بما يستطيعون له من قوة لارهاب أعداء الله قد لا نجد لها مصداقا في ذلك الزمن الا بإعداد السيوف والرماح والتروس والخيول وأمثالها، لان القوة السائدة هي  من هذا النوع، ولكن تبدل الزمان وتغير وسائل الحرب حول الاستعداد إلى إعداد مختلف الوسائل السائدة في الامم المتحضرة للحروب كالقنابل النووية وغيرها، فالمفهوم هو وجوب الاستعداد بما  يستطاع لهم من قوة لم يتغير في الآية، وإنما تغيرت مصاديقه وهكذا... فالتبدل في الحقيقة، لم يقع في المفاهيم الكلية، وإنما وقع في أفرادها ومصاديقها، فما كان مصداقا لمفهوم ما ربما تحول إلى  مصداق لمفهوم آخر. ولقد وسع لنا الشارع المقدس بما شرحه لنا من العناوين الثانوية من جهة، وبفتحه لنا أبواب الاجتهاد سواء في التعرف على أحكامه الكلية أم التماس مصاديقها بما سد  حاجاتنا الاساسية إلى تطوير أنفسنا، ومسايرة عصورنا ضمن اطار ما جاء به من أحكام، ولكن لا على ان نفسح المجال أمام أوهامنا وظنوننا لنتحكم في مصائر العباد كيفما نشاء، وما دام مقياس  الحجية بأيدينا - وهو ما سبق ان عرضناه - فلا مجال لاعتماد
------------------------------------------------------------------
ما يخالف هذا المقياس، والاساس فيه هو تحصيل العلم بالحكم أو العلمي، ولا أقل من تحصيل الوظيفة التي يأمن معها الانسان من غائلة العقاب. الاستدلال بسيرة الصحابة: وكما استدلوا بالعقل  فقد استدلوا عليها بسيرة الصحابة، ومما جاء في دليلهم: (ان أصحاب رسول الله لما طرأت لهم بعد وفاته حوادث وجدت لهم طوارئ شرعوا لها ما رأوا أن فيه تحقيق المصلحة، وما وقفوا عن  التشريع لان المصلحة ما قام دليل من الشارع على اعتبارها، بل اعتبروا ان ما يجلب النفع أو يدفع الضرر حسبما أدركته عقولهم هو المصلحة، واعتبروه كافيا لان يبنوا عليه التشريع والاحكام،  فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة، وحارب مانعي الزكاة، ودرأ القصاص عن خالد بن الوليد، وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ووقف تنفيد حد السرقة في عام المجاعة، وقتل  الجماعة في الواحد، وعثمان جدد أذانا ثانيا لصلاة الجمعة (1)... الخ). والغريب ان تنزل هذه التصرفات وأمثالها على القياس تارة والاستحسان اخرى والمصالح ثالثة، وتعتبر على ألسنة البعض  أدلة عليها، وما أدري هل تتسع الواقعة الواحدة لمختلف هذه الادلة مع تباينها مفهوما أم ماذا ؟ ! ومهما يكن فإن النقاش في هذا النوع من الاستدلال واقع صغرى وكبرى. أما الصغرى فلعدم  إمكان تكوين سيرة لهم من مجرد نقل أحداث عن أفراد منهم يمكن ان تنزل على هذا الدليل أو ذاك، ومن شرائط السيرة ان يصدر المجموع عنها في سلوكهم الخاص، وكذلك لو أريد من هذا
(1) مصادر التشريع، ص 75. (*)
------------------------------------------------------------------
الدليل إجماعهم السكوتي على ذلك بالتقريب الذي ذكروه بالقياس، والذي عرفت - فيما سبق - مناقشته. أما إذا أريد الاستدلال بتصرفاتهم الفردية فهي لا تصلح للدليلية على أي حال لعدم الايمان  بعصمتهم أولا، واجتهادهم لا يتجاوز في حجيته أنفسهم ومن يرجع إليهم بالتقليد. وأما المناقشة في الكبرى فلعدم حجية مثل هذه السيرة أو الاجماع على أمثال هذه الادلة، لان هذه التصرفات غير  معللة على ألسنتهم، وما يدرينا أن الباعث على صدورها هو إدراك المصالح من قبلهم، والسيرة مجملة لا لسان لها لنتمسك به، وغاية ما يمكن ان تدل عليه هو حجية نفس ما قامت عليه من أفعال  لو كانت مثل هذه السير من الحجج التي يركن إليها لا حجية مصادرها المتخيلة، على أن هذه التصرفات - كما سبقت الاشارة إليها - جار أكثرها على مخالفة النصوص لامور اجتهادية لا نعرف  اليوم عواملها وبواعثها الحقيقية، وفيما سبق عرضه في مبحث القياس ما يغني عن إطالة الحديث. الاستدلال بحديث لا ضرر: وقد تبناه الطوفي وقرب دلالته - بعد ان أطال الحديث في سنده -  بقوله: (وأما معناه فهو ما أشرنا إليه من نفي الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام إلا ما خصصه الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع، وتخصيصها به في نفي  الضرر وتحصيل المصلحة لانا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تضمن ضررا، فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وان لم ننفه به كان تعطيلا لاحدهما وهو هذا الحديث، ولا شك أن الجمع  بين النصوص في العمل بها أولى
------------------------------------------------------------------
من تعطيل بعضها (1)). ويقول: (ثم ان قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار يقتضي رعاية المصالح إثباتا والمفاسد نفيا إذ الضرر هو المفسدة فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع  الذي هو المصلحة لانهما نقيضان لا واسطة بينهما (2)). والذي يرد على هذا الاستدلال: 1 - اعتقاده أن نسبة هذا الحديث إلى الادلة الاولية هي نسبة المخصص مع ان من شرائط المخصص  ان يكون أخص مطلقا من العام ليصح تقديمه عليه، وقد سبق بيان السر في ذلك في بحوث التمهيد وغيرها. والنسبة هنا بين حديث لا ضرر وأي دليل من الادلة الاولية، هي نسبة العموم من وجه،  فوجوب الوضوء مثلا، بمقتضى إطلاقه شامل لما كان ضرريا وغير ضرري، وأدلة لا ضرر شاملة للوضوء الضرري وغير الوضوء، فالوضوء الضرري مجمع للحكمين معا، ومقتضى القاعدة  التعارض بينهما والتساقط، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر لان نسبة العامين إلى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة. والظاهر أن الطوفي - بحاسته الفقهية - أدرك تقديم هذا الدليل  على الادلة الاولية وإن لم يدرك السر في ذلك. والسر هو ما سبق ان ذكرناه من حكومة هذا النوع من الادلة على الادلة الاولية لما فيه من شرح وبيان لها، فكأنه يقول بلسانه ان ما شرع لكم من  الاحكام هو مرفوع عنكم إذا كان ضرريا، فهو ناظر إليها ومضيق لها.
(1) رسالة الطوفي، ص 90. (2) رسالة الطوفي، ص 91. (*)
------------------------------------------------------------------
وما دام لسانه لسان شرح وبيان فلا معنى لملاحظة النسبة بينه وبين غيره من الادلة. 2 - اعتقاده أن بين الضرر والمصلحة نسبة التناقض، ولذلك رتب على انتفاء احدهما ثبوت الآخر لاستحالة  ارتفاع النقيضين مع ان الضرر معناه لا يتجاوز النقص في المال أو العرض أو البدن وبينه وبين المصلحة واسطة، فالتاجر الذي لم يربح في تجارته ولم يخسر فيها لا يتحقق بالنسبة إليه ضرر  ولا منفعة فهما اذن من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث، ومتى حصلت واسطة بينهما فانتفاء أحدهما لا يستلزم ثبوت الآخر، وعلى هذا المعنى يبتنى ثبوت المباح، وهو الذي لا ضرر ولا مصلحة  فيه. وإذن فانتفاء الضرر هنا لا يستلزم ثبوت المصلحة، ومن هنا قلنا: ان حديث لا ضرر رافع للتكليف لا مشرع، فهو لا يتعرض إلى أكثر من ارتفاع الاحكام الضررية عن موضوعاتها، اما  اثبات احكام أخر فلا يتعرض لها، وإنما المرجع فيها إلى أدلتها الاخرى. وإذا اتضح هذا لم يبق أمام الطوفي ما يصلح للاستدلال به على المصالح المرسلة فضلا عن الغلو فيها. غلو الطوفي في  المصالح المرسلة: وكان من مظاهر غلو الطوفي فيها تقديمه رعاية المصلحة على النصوص والاجماع، واستدل على ذلك بوجوه: (أحدها ان منكري الاجماع قالوا برعاية المصالح، فهو إذن  محل وفاق، والاجماع محل خلاف، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه (1)). ويرد على هذا الاستدلال عدم التفرقة بين رعاية المصلحة وبين الاستصلاح
(1) رسالة الطوفي، ص 109. (*)
------------------------------------------------------------------
كدليل، فالامة، وإن اتفقت على ان أحكام الشريعة مما تراعى فيها المصالح، ولكن دليل الاستصلاح موضع خلاف كبير لعدم إيمان الكثير منهم بإمكان إدراك هذه المصالح مجتمعة من غير طريق  الشرع، وقد سبق أيضاح ذلك في مبحث العقل. فدليل الاستصلاح إذن ليس موضع وفاق ليقدم على الاجماع. (الوجه الثاني: ان النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الاحكام المذموم  شرعا، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرطا فكان اتباعه أولى، وقد قال عز وجل: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (1))، (إن الذين  فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ (2))، وقال عليه السلام: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقد قال عزوجل في مدح الاجتماع: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت  بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (3))، وقال عليه السلام: (كونوا عباد الله إخوانا). ومن تأمل ما حدث بين أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر، علم صحة ما قلنا، حتى أن المالكية استقلوا  بالمغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يقار أحد المذهبين أحدا من غيره في بلاده إلا على وجه ما، وحتى بلغنا أن اهل جيلان من الحنابلة إذا دخل إليهم حنفي قتلوه، وجعلوا ماله فيئا حكمهم في الكفار،  وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية، كان فيه مسجد واحد للشافعية وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق ؟ فلم  يزل كذلك، حتى أصبح يوما وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فأعجب الوالي ذلك). (ثم ان كلا من اتباع الائمة، يفضل إمامه على غيره في تصانيفهم
(1) آل عمران / 103. (2) الانعام / 159. (3) الانفال / 63. (*)
------------------------------------------------------------------
ومحاوراتهم حتى رأيت حنفيا صفف مناقب أبي حنيفة، فافتخر فيها باتباعه، كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك ونحوهم، ثم قال: يعرض بباقي المذاهب: اولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا  جرير المجامع وهذا شبيه بدعوى الجاهلية وغيره كثير، وحتى ان المالكية يقولون: الشافعي غلام مالك، والشافعية يقولون: احمد بن حنبل غلام الشافعي، والحنابلة يقولون: الشافعي غلام احمد بن  حنبل. (وقد ذكره أبو الحسن القرافي في الطبقات من اتباع احمد). (والحنفية يقولون: ان الشافعي غلام ابي حنيفة لانه غلام محمد بن الحسن، ومحمد غلام ابي حنيفة)، قالوا لولا أن الشافعي من  اتباع ابي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه الخلاف. وحتى أن الشافعية يطعنون بان أبا حنيفة من الموالي، وانه ليس من أئمة الحديث، وأحوج ذلك الحنفية إلى الطعن في نسب الشافعي وانه ليس  قرشيا بل من موالي قريش، ولا إماما في الحديث لان البخاري ومسلما أدركاه ولم يرويا عنه، مع أنهما لم يدركا إماما إلا رويا عنه، حتى احتاج الامام فخر الدين والتميمي في تصنيفيهما مناقب  الشافعي إلى الاستدلال على هاشميته، وحتى جعل كل فريق يروي السنة في تفضيل إمامه، فالمالكية رووا: (يوشك أن تضرب اكباد الابل ولا يوجد أعلم من عالم المدينة). قالوا: وهو مالك،  والشافعية رووا: (الائمة من قريش، تعلموا من قريش ولا تعالموها)، أو (عالم قريش ملأ الارض علما)، قالوا: ولم يظهر من قريش بهذه الصفة إلا الشافعي والحنفية، رووا: (يكون في أمتي رجل  يقال له النعمان هو سراج أمتي، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن ادريس هو أضر على
------------------------------------------------------------------
أمتي من ابليس). والحنابلة رووا: (يكون في أمتي رجل يقال له احمد بن حنبل يسير على سنتي سير الانبياء) أو كما قال فقد ذهب عني لفظه). (وقد ذكر أبو الفرج الشيرازي في أول كتابه المنهاج  (واعلم ان هذه الاحاديث ما بين صحيح لا يدل، ودال لا يصح. أما الرواية في مالك والشافعي فجيدة لكنها لا تدل على مقصودهم لان عالم المدينة ان كان اسم جنس فعلماء المدينة كثير ولا  اختصاص لمالك دونهم، وان كان اسم شخص فمن علماء المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم من مشايخ مالك الدين أخذ عنهم وكانوا حينئذ أشهر منه، فلا وجه لتخصيصه بذلك وإنما حمل أصحابه  على حمل الحديث عليه كثرة أتباعه وانتشار مذهبه في الاقطار، وذلك إمارة على ما قالوا، وكذلك الائمة من قريش لا اختصاص للشافعي به، ثم هو محمول على الخلفاء في ذلك، وقد احتج به أبو  بكر يوم السقيفة، وكذلك تعلموا من قريش لا اختصاص لاحد به). (أما قوله: (عالم قريش يملا الارض علما) فابن عباس يزاحم الشافعي فيه، فهو أحق به لسبقه وصحبته ودعاء النبي صلى الله  عليه وسلم له في قوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان يسمى بحر العلم وحبر العرب، وإنما حمل الشافعية الحديث على الشافعي لاشتهار مذهبه وكثرة أتباعه، على ان مذهب ابن  عباس مشهور بين العلماء لا ينكر). (وأما الرواية في أبي حنيفة واحمد بن حنبل فموضوعة باطلة لا أصل لها، أما حديث (هو سراج أمتي) فأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وذكر ان مذهب  الشافعي لما اشتهر أراد الحنفية اخماله، فتحدثوا مع مأمون بن أحمد السلمي وأحمد بن عبد الله الخوشاري وكانا كذابين وضاعين، فوضعا هذا الحديث في مدح أبي حنيفة وذم الشافعي، ويأبى الله  إلا ان يتم نوره).
------------------------------------------------------------------
(وأما الرواية في أحمد بن حنبل فموضوعة قطعا لانا قدمنا ان أحمد كان أحفظ الناس للسنة وأشدهم بها احاطة حتى ثبت انه كان يذاكر تأليف ألف حديث وانه قال: خرجت مسندي من سبعمائة ألف  حديث وخمسين ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عزوجل، فما لم تجدوه فيه فليس بشئ) (ثم ان هذا الحديث الذي أورده الشيرازي في مناقب احمد ليس في مسنده، فلو كان صحيحا لكان  هو أولى الناس باخراجه والاحتجاج به في محنته التي ضيق الارض ذكرها). (فانظر بالله أمرا يحمل الاتباع على وضع الاحاديث في تفضيل أئمتهم وذم بعضهم، وما مبعثه إلا تنافس المذاهب في  تفضيل الظواهر ونحوها على رعاية المصالح الواضح بيانها الساطع برهانها، فلو اتفقت كلمتهم بطريق ما لما كان شئ مما ذكرنا عنهم) (واعلم ان من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض  الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك ان اصحابه استأذنوه في تدوين السنة في ذلك الزمان فمنعهم من ذلك وقال: (لا أكتب مع القرآن غيره) مع  علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اكتبوا لابي شاه خطبة الوداع) وقال: (قيدوا العلم بالكتابة) قالوا: فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم،  لانضبطت السنة، ولم يبق بين أحد من الامة وبين النبي صلى الله عليه وسلم، في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته، لان تلك الدواوين تتواتر عنهم الينا كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما  (1)).
(1) رسالة الطوفي، ص 109 إلى ص 113. (*)
------------------------------------------------------------------
ثم أورد بعد ذلك على نفسه بقوله: (فإن قيل خلاف الامة في مسائل الاحكام رحمة وسعة، فلا يحويه حصرهم من جهة واحدة لئلا يضيق مجال الاتساع، قلنا هذا الكلام ليس منصوصا عليه من جهة  الشرع حتى يمتثل، ولو كان لكان مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدم). (ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف بالتوسعة على المكلفين معارض بمفسدة تعرض منه، وهو ان الآراء إذا  اختلفت وتعددت اتبع بعض رخص بعض المذاهب فأفضى إلى الانحلال والفجور كما قال بعضهم: فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج * في كل مسأله بقول إمام يعني بذلك شرب النبيذ وعدم الحد  في اللواط على رأي أبي حنيفة، والوطأ في الدبر على ما يعزى إلى مالك، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي). (وأيضا فإن بعض اهل الذمة ربما أراد الاسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء  ظنا منه انهم يخطئون، لان الخلاف مبعود عنه بالطبع، ولهذا قال الله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها (1)) أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا، لا يختلف إلا بما فيه من  المتشابهات وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) على ما تقرر، لاتحد طريق الحكم وانتهى الخلاف، فلم يكن  ذلك شبهة في امتناع من أراد الاسلام من اهل الذمة وغيرهم (2)).
(1) الزمر / 23. (2) رسالة الطوفي، ص 116. (*)
------------------------------------------------------------------
ومع الغض عما في نصه هذا من خطابية وتطويل قد لا تكون له حاجة، ان الاختلاف ضرورة لا يمكن دفعها عن البشر، وهو لا يستدعي الصراع والخصام المذهبي ما دام أصحابه يسيرون ضمن  نطاق الاجتهاد بموضوعية تامة، وما دامت الاهواء السياسية وغيرها بعيدة عنه. وهذا النوع من الصراع بين اتباع المذاهب كانت من ورائه دائما عوامل لا ترتبط بالدين. وكانت السياسة من وراء  أكثرها وكثير من هؤلاء المصطرعين لم يكونوا من العلماء المجتهدين، وإنما كانوا مرتزقة باسم الدين لانسداد أبواب الاجتهاد في هذه الفترات التي أرخ لها، وحيث يوجد الغرض والهوى  والجهل، ومحاولات الاستغلال من تجار الضمائر والمبادئ توجد التفرقة والصراع، وأمثال هؤلاء المفرقين من العلماء إنما هم دمى بيد السلطة تحركها كيفما تشاء. وإلا فان العالم الصحيح لا  يضره الاختلاف معه في مجالات استنباطه وربما سر لعلمه بقيمة ما يأتي به الصراع من تلاقح فكري، وإنماء وتطور للافكار التي يؤمن بها. والعلماء في مختلف المجالات العلمية يختلفون، وما  سمعنا خلافا أوجب الصراع فيما بينهم باسم العلم فضلا عن أن يدب الصراع إلى أبناء شعوبهم فيقتتلون، اللهم الا إذا كانت السلطات من ورائه كما هو الشأن في موقف سلطة الكنيسة من بعض  العلماء المكتشفين أمثال غاليلو. والشيعة أنفسهم رأوا طوائف من علمائهم وهم بحكم فتح أبواب الاجتهاد على أنفسهم كانوا يختلفون، وينقد بعضهم آراء البعض الآخر، ومع ذلك كله نرى تقديسهم  لعلمائهم يكاد يكون منقطع النظير. وما استشهد به من الآيات والروايات على المنع من الاختلاف اجنبي عن هذا النوع من الاختلاف الذي يقتضيه البحث الموضوعي، لان المنع
------------------------------------------------------------------
عن هذا النوع منه تعبير آخر عن الدعوة إلى الجمود واماتة الفكر والنظر في شؤون الدين، وهو ما ينافي الدعوة إلى تدبر ما في القرآن والنظر إلى آياته، بل ينافي الدعوة إلى تدبر ما في الكون  والحث على استعمال العقل، وهو ما طفحت به كثير من الآيات والاحاديث، لان طبيعة التدبر واستعمال الفكر تدعو إلى اختلاف الرأي. فالاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف الذي يدعو إلى  التفرقة وتشتيت كلمة الامة، أي الاختلاف الذي يستغل عاطفيا لتفرقة الشعوب لا الاختلاف الذي يدعو إليه البحث الموضوعي وهو من أسباب الالفة والتعاطف بين اربابه، ففي الاستدلال خلط بين  نوعي الاختلاف. ومع التغافل عن هذه الناحية فان دعواه بان رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه فهو سبب الاتفاق - لا أعرف لها وجها، لان المصالح الحقيقية التي يتطابق عليها  العقلاء محدودة جدا، وما عداها كلها موضع خلاف بل هي نفسها موضع لخلاف كبير في مواقع تطبيقها كما سبق بيانه في مبحث العقل فكيف يكون النظر فيها موضعا لاتفاق الكلمة وبخاصة إذا  وسعنا الامر إلى عوالم الظنون بها والاوهام، وهل تكفي مواضع الاتفاق منها لاقامة شريعة إذا تجردنا عن النصوص. وبهذا يتضح الجواب على ما أورده على نفسه من اشكال وأجاب عليه،  فكون الاختلاف رحمة وسعة مما لا اشكال فيه أصلا إذا كان في حدود البحث الموضوعي، والذي يدل عليه كل ما يدل على وجوب المعرفة المستلزمة حتما للاختلاف من آيات وأحاديث،  ومعارضتها بمفسدة الاخذ بالرخص لا تعتمد على أساس. فالآخذون بالرخص اما ان يكونوا معتمدين على حجة كأن يكون هناك مرجع مستوف لشرائط التقليد يسيغ لهم ذلك، فالاخذ بها لا يشكل
------------------------------------------------------------------
مفسده وأصحابها معذورون، واما ان لا يكونوا على حجة، وهؤلاء لا حساب لنا معهم لتمردهم على أصل الشريعة في عدم الركون في تصرفاتهم على أساس، وكونهم يستغلون الرخص لتبرير  أعمالهم أمام الرأي العام فانما هو من قبيل الخداع والتمويه، ولو لم تكن هناك رخص لارتكبوا هذه الاعمال والتمسوا لها مبررات غير هذه. وكون الاختلاف مانعا من دخول أهل الذمة إلى الاسلام  هو الآخر لا يخلو من غرابة، فان هؤلاء ان كانوا على درجة من الثقافة عرفوا ان هذا المقدار من الاختلاف مبرر في جميع الشرائع، بل هو مما تقتضيه الطبيعة البشرية لاستحالة اتفاق الناس في  فهم جميع ما يتصل بشؤون شرائعهم، بل جميع ما يتصل بشؤونهم الحياتية وغيرها، ومتى منع الاختلاف أحدا من الدخول في الاسلام ؟ ! وهناك أدلة أخرى له لا تستحق ان تعرض ويطال فيها  الحديث وأجوبتها تعرف مما سبق ان عرضناه في مبحث القياس. فغلوا الطوفي في استعمال المصالح المرسلة وتقديمها على النصوص والاجماع لا يستقيم أمره بحال. نفاة الاستصلاح وأدلتهم:  أما نفاة الاستصلاح وفي مقدمتهم الشافعي فأهم ما استدلوا به: 1 - ايمانهم بكمال الشريعة واستيفائها لحاجات الناس (ولو كانت مصالح الناس تحتاج إلى أكثر مما شرعه ومما ارشد إلى الاهتداء  به لبينه ولم يتركه لانه سبحانه قال على سبيل الاستنكار: (أيحسب الانسان ان يترك سدى (1)).
(1) مصادر التشريع، ص 78. (*)
------------------------------------------------------------------
والجواب على هذا الاستدلال ان مثبتي الاستصلاح لا ينكرون وفاء الشريعة بحاجات الناس وان انكروا وفاء النصوص بها، فهم يعتبرون العقول من وسائل ادراكها كالنصوص على حد سواء،  واهتداء العقول إليها انما هو بهداية من الله عزوجل لها، فالعقول اذن كاشفة وليست بمشرعة. 2 - ما يستفاد من قول الغزالي وهو يرد على من يريد اعتبار الاستصلاح أصلا خامسا (من ظن  انه أصل خامس فقد أخطأ لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والاجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة  والاجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما ان من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود  شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والاجماع فليس خارجا من هذه الاصول، لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل  واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الاحوال وتفاريق الامارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في  اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة (1)). والجواب الذي يصلح - لمثبتي الاستصلاح - التمسك به. ان حصر معرفة المصلحة التي تحفظ مقاصد الشرع بالكتاب والسنة والاجماع لا دليل عليه
(1) المستصفى، ج 1 ص 143 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
لما سبق من إثبات كاشفية العقل وإدراكه للمصالح والمفاسد المستلزم لادراك حكم الشارع بها. ومع إمكان الادراك فليس هناك ما يمنع من وقوعه أحيانا، وعلى أي حال فالمسألة مبنائية. 3 - ما  ذكره الآمدي في كتابه الاحكام من ان (المصالح على ما بينا، منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها، والى ما عهد منه إلغاؤها، والمرسلة مترددة بين ذينك القسمين، وليس إلحاقها بأحدهما  أولى من إلحاقها بالآخر، فامتنع الاحتجاج بالمرسل دون شاهد بالاعتبار يبين انه من قبيل المعتبر دون الملغى (1)). وموضع الفجوة في هذا الاستدلال اعتبار المصلحة مترددة بين القسمين إذا  أريد من ترددها ترددها بين ما دل على الاعتبار من النصوص، وما دل على الالغاء لافتراض القائلين بالاستصلاح ان النصوص غير متعرضة لها اعتبارا أو إلغاء، وإنما اكتشفوا اعتبارها من  قبل الشارع بدليل العقل، في إذن معتبرة من الشارع ولكن من غير ما عهد منه، فهي قسم ثالث في عرض ذينك القسمين، وان شئت ان تقول ان الاعتبار على قسمين: معهود من الشرع بطريق  النصوص، ومعهود منه بطريق العقل، وهذه من القسم الثاني وليست بأحد القسمين اللذين ذكرهما الآمدي ليقال: (وليس إلحاقها بأحدهما أولى من إلحاقها بالآخر). تلخيص وتعقيب: وخلاصة ما  انتهينا إليه ان تعاريف المصالح المرسلة مختلفة، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة، كما هو مقتضى
(1) مصادر التشريع، ص 79 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
استفادة الدواليبي والطوفي. ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة، والاجتهاد فيها إنما يكون من قبيل تحقيق المناط بقسمه الاول، أي تطبيق الكبرى على صغراها بعد التماسها - أعني  الصغرى - بالطرق المجعولة من الشارع لذلك، ولا يضر في ذلك كونها غير منصوص عليها بالذات، إذ يكفي في إلحاقها بالسنة دخولها تحت مفاهيمها العامة ومتى اشترطنا في السنة ان تكون  خاصة لتكون مصدرا من مصادر التشريع، فعدها - بناء على هذه التعاريف - في مقابل السنة لا يعرف له وجه. وأما على تعاريفها الاخر فينحصر إدراكها بالعقل. والذي ينبغي ان يقال عنها انها  تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الادراك، فإن كان ذلك الادراك كاملا - أي إدراكا للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل المشرع - فهي حجة، إذ  ليس وراء القطع، كما سبق تكراره، مجال لتساؤل أو استفهام، يقول المحقق القمي: (والمصالح اما معتبرة في الشرع وبالحكم القطعي من العقل من جهة إدراك مصلحة خالية من المفسدة كحفظ  الدين والنفس والعقل والمال والنسل، فقد اعتبر الشارع صيانتها وترك ما يؤدي إلى فسادها (1)... الخ). ولكن القول بحجيتها هنا لا يجعلها دليلا مستقلا في مقابل العقل، بل هي نفس ما عرضناه  سابقا في مبحث حجيته. وإن لم يكن إدراكه لها كاملا بأن كان قد أدرك المصلحة، واحتمل وجود مزاحم لها يمنع من جعل الحكم، أو احتمل انها فاقدة لبعض شرائط الجعل كما هو الغالب فيها، بل  لا يتوفر الادراك الكامل إلا في حالات نادرة وهي التي تكون المصلحة ذاتية - كما سبق - فإن القول
(1) القوانين المحكمة، ج 2 ص 92. (*)
------------------------------------------------------------------
بحجيتها - أعني هذا النوع من المصالح المرسلة - مما يحتاج إلى دليل، وليس لدينا من الادلة ما يصلح لاثبات ذلك، لما قلناه من أن الادراك الناقص - وهو الذي لا يشكل الرؤية الكاملة - ليست  حجيته ذاتية، بل هي محتاجة إلى الجعل والادلة غير وافية بإثباته. والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها لتقومها بالعلم، وقد مر إيضاح ذلك كله. وبهذا يتضح ان الشيعة لا يقولون بالمصالح  المرسلة إلا ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم، كما هو مقتضى مبناهم الذي عرضناه في دليل العقل وما عداه فهو ليس بحجة، فنسبة الاستاذ الخفيف القول بها إلى الشيعة ليس بصحيح  على اطلاقه.