القسم العاشر: شرع من قبلنا

الباب الاول القسم العاشر شرع من قبلنا تعريفه، الخلاف في حجيته، أدلة المثبتين، العلم الاجمالي بالتحريف، أدلة النفاة، الاصل العملي، الخلاصة، ملاحظة.
------------------------------------------------------------------
تعريفه: يراد بشرع من قبلنا: هو خصوص الشرائع التي أنزلها الله عزوجل على أنبيائه، وثبت شمولها في وقتها لجميع البشر كاليهودية والمسيحية. الخلاف في حجيته: والذي يبدو من مجموع ما  رأيته ان هناك فروضا متعددة في المسألة - ولعلها أقوال أيضا بعضها يذهب إلى انها شرع لنا مطلقا إلا ما ثبت نسخه في شريعتنا منها، وبعضها يرى أنها ليست بشرع لنا مطلقا، وان النسخ  مسلط عليها جملة وتفصيلا (بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقا لما في الشريعة السابقة، لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلا للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاء  له، فيكون مثل إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع، مجعولا في كل شريعة مستقلا، غاية الامر أنها أحكام متماثلة (1)). وفحوى القول الثالث هو: (ان ما قصه علينا الله ورسوله -  من أحكام الشرائع السابقة ولم يرد في شرعنا ما يدل على انه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع أو منسوخ كقوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس  أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا (2)) وقوله: (وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص (3))، - شرع لنا وعلينا  اتباعه وتطبيقه ما دام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا
(1) مصباح الاصول، ص 149. (2) المائدة / 32. (3) المائدة / 45. (*)
------------------------------------------------------------------
ما ينسخه (1))، وقد حكي هذا القول عن جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية (2). أدلة المثبتين: وقد استدل المثبتون مطلقا بآيات من كتاب الله تعالى فحواها: اعتبار الشرائع السابقة  شريعة للنبي (صلى الله عليه وآله) أمثال قوله تعالى: (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (3))، وقوله تعالى: (ثم أوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا (4))، وقوله سبحانه: (شرع لكم من الدين  ما وصى به نوحا (5))، وقوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون (6)). كما استدلوا باستشهاد النبي (صلى الله عليه وآله) في مقام التشريع بأحكام وردت في شريعة سابقة،  كاستشهاده في أثناء قوله (صلى الله عليه وآله): (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، بقوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكري (7))، وهو خطاب مع موسى (عليه السلام) إلى غير ذلك من  الاحاديث (8) وهذه الادلة - لو تمت دلالتها، وسلمت من مناقشات الغزالي لها حين عرضها في هذا المبحث، وبعضها لا يخلو من أصالة - انها لا تدل على أكثر من إقرار أصل تلكم الشرائع.  ولكن إقرار أصل الشرائع لا ينفعنا في مجالاتنا الخاصة، لان أصل الشرائع السابقة ليست موضعا لابتلائنا اليوم لاختفاء معالمها الاساسية عنا. وإذا أردنا ان نتكلم - باسم الفن - قلنا ان طرو:  العلم الاجمالي بالتحريف: عليها يمنع من الاخذ بظواهرها جميعا، وتقريبه انا نعلم أن هذه
(1) علم أصول الفقه لخلاف، ص 105. (2) علم أصول الفقه لخلاف، ص 105 (3) الانعام / 90. (4) النحل / 123. (5) الشورى / 13. (6) المائدة / 44.  (7) طه / 14. (8) اقرأ ذلك في المستصفى، ج 1 ص 134 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
الشرائع المتداولة ليست هي الشرائع بكامل خصوصياتها لتناقض مضامين كل شريعة على نفسها، وانتشار السخف في قسم من محتوياتها، وابتعاد أكثرها عن كونها نظاما للحياة، وهو الاساس  لكل رسالة سماوية مما يدل إجمالا على طرو التحريف عليها. والعلم الاجمالي بالتحريف يمنع من الاخذ بظواهرها جميعا، لان كل طرف نمسكه نحتمل طرو التحريف عليه، وأصالة عدم  التحريف لا تنفع في هذا المجال لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي المنجز كما يأتي تقريبه في مباحث الاحتياط، أو لتساقطها، وليس هذا العلم ما يحله لدينا لنرجع إليه. نعم، إذا تم ذلك  الاستدلال - أعني استدلال المثبتين - وتمت مناقشتنا له، فإن رأي جمهور الحنفية السابق، يكون من أمتن الآراء وأقواها، لان ما حكي من الشرائع في الكتاب العزيز لا يحتمل فيه التحريف فهو  صحيح النسبة لها، وإذا تمت حجيتها - بالاقرار من قبل شريعتنا لاصل الشرائع - فقد تم حجية ما صح عنها، وعلينا اتباعه على كل حال. أدلة النفاة: وأهم ما استدل به نفاة حجية الشرائع السابقة  ثلاثة أدلة: أولها: حديث معاذ السابق وهو: (أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: بم تحكم ؟ قال بالكتاب والسنة والاجتهاد، ولم يذكر التوراة والانجيل، وشرع من قبلنا، فزكاه  رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولو كان ذلك من مدارك الاحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه (1)).
(1) المستصفى، ج 1 ص 133. (*)
------------------------------------------------------------------
وهذا الاستدلال متين جدا لو لم تكن رواية معاذ من الموضوعات عليه، وقد سبق أن ناقشناها ونظائرها في مبحث القياس فلا نعيد. ثانيها: (ان ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من  فروض الكفايات كالقرآن، والاخبار، ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم، حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرب، والربا في النسيئة، ومتعة  النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه شئ من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطأ، والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الاديان والكتب عنها، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول  أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما وقد اسلم من احبارهم من تقوم الحجة بقولهم، كعبد الله بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس  من الكتاب، فكيف يحصل القياس قبل العلم (1)). وهذا الاستدلال كسابقه من أمتن الادلة التي يمكن ان تساق في هذا المجال للقطع بمضمونه بل ربما حول المسألة إلى كونها من الضروريات إلا  أنه لا ينفي إقرار أصل الشرائع السابقة كما لا ينفي صحة ما ذهب إليه جمهور الحنفية، وغاية ما ينفيه عدم الرجوع إلى الكتب المتداولة للشرائع وهي مما يعلم بدخول التحريف عليها، فلا تكون  حجة نعم إذا تم ما ادعاه بعد ذلك من اطباق الامة على ان هذه الشريعة ناسخة (2)) لها بطل القولان السابقان، إلا ان الاشكال في تحقق هذا الاجماع مع كثرة الخلاف في المسألة من أفراد  الامة، ولا أقل من جمهور الحنفية وغيرهم المانع من انعقاد اجماعها.
(1 - 2) المستصفى، ج 1 ص 134، والامثلة التي ذكرها لا يخلو بعضها من مناقشة لورود النص فيه، اقرأ ما كتبه المؤلف عن المتعة في كتابه (الزواج الموقت ودوره في حل مشاكل  الجنس) طبعة دار الاندلس، وما كتبه الامام شرف الدين في النص والاجتهاد. (*)
------------------------------------------------------------------
الاصل العملي: وهو إنما يرجع إليه عند العجز عن تحصيل الادلة الكاشفة عن الحكم الواقعي وتركز الشك، وقد تمسك بعضهم بالاستصحاب عند الشك في ارتفاع حكم ثبت في الشريعة السابقة  بادعاء العلم بثبوته، والشك بارتفاعه بالنسخ بالنسبة الينا، فحكم ببقائه أخذا بالرواية الشريفة: (لا تنقض اليقين بالشك). وأهم ما ذكر في مناقشته ما عرضه بعض أساتذتنا (من ان النسخ في الاحكام  الشرعية إنما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم، لان النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه سبحانه وتعالى). (وقد ذكرنا غير مرة ان الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت  غير معقول، فإما ان يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الابد وإما ان يجعله ممتدا إلى وقت معين). (وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال  اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور، وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فان الشك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته، فإن احتمال  البداء مستحيل في حقه تعالى، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب). (وتوهم أن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين مدفوع بأن جعل الاحكام على نحو القضايا  الحقيقية معناه عدم دخل خصوصية الافراد في ثبوت الحكم لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة، فإذا شككنا في أن المحرم هو الخمر مطلقا أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب، كان  الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنب
------------------------------------------------------------------
شكا في ثبوت التكليف، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه). (والمقام من هذا القبيل فإنا نشك في أن التكليف مجعول لجميع المكلفين، أو هو مختص بمدركي زمان الحضور فيكون احتمال  التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكا في ثبوت التكليف لا في بقائه (1)). وكذلك الامر بالنسبة إلى من لم يدرك منا زمان ما قبل رسالتنا أي زمن (شرع من قبلنا). الخلاصة: والخلاصة ان  الادلة اللفظية لو تمت حجيتها على إقرار الشرائع السابقة فهي إنما تدل على أصلها لا على كتبها المتداولة، والعلم الاجمالي في طرو التحريف على الاصل يمنع من التمسك بظواهر جميع  أطرافها لاحتمال طرو النقص أو الزيادة على كل منها ولا مدفع لهذا الاحتمال من أصل أو غيره لعدم جريانها في أطراف العلم الاجمالي أو جريانها وتساقطها للمعارضة على اختلاف في  المعنى. نعم لا يبعد تمامية ما ذهب إليه جمهور الحنفية وغيره لجمعه بين ما دل على أصل الامضاء للشرائع السابقة وما يقتضيه العلم الاجمالي من عدم حجية ظواهر ما دل على أحكام الشرائع  السابقة من كتبها المنزلة، لان ما نقل منها في الكتاب العزيز لا تدخله شبهة التحريف فيكون هو الحجة وحده. وعلى أي حال، كون هذه الكتب المتداولة ليست حجة بالنسبة الينا، يقتضي ان يكون  من الضروريات فلا حاجة لاطالة الكلام فيها. ملاحظة: لاحظنا أن أكثر الباحثين في شرع من قبلنا بدأوا أحاديثهم في
(1) مصباح الاصول، ص 148 تقريرا لآراء أستاذنا الخوئي. (*)
------------------------------------------------------------------
التساؤل عن ان النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان متعبدا بشريعة من الشرائع التي سبقته وأيها هي ؟ واطالوا التحدث في الاجابة على هذا التساؤل والتماس الادلة له - كل من زاويته الخاصة  -، ولكننا رأينا أن الدخول في هذا الحديث لا يرتبط برسالتنا - كمقارنين - لعدم ترتب أي ثمرة عملية على هذا الاختلاف، وما أصدق ما قاله إمام الحرمين: (هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل  تجري مجرى التواريخ المنقولة (1))، ووافقه المازري والماوردي وغيرهما، يقول الشوكاني: (وهذا صحيح فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الامة، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة  التي تعبد بها وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته (2)) وهي كما ترون، ثمرة غير عملية بالنسبة الينا.
(1 - 2) إرشاد الفحول، ص 239. (*)