الإمام أبو حنيفة

 

الإمام أبو حنيفة 

 

تمهيد :

ذكرنا في الأبحاث السابقة أسباب نشأة المذاهب الاسلامية وانتشارها بكثرة ، وتعرضنا لذكر المذاهب التي أصابها الخمول والتأخّر فكان نصيبها الفناء والإبادة بعد مدة، ولم يبق منها لإخواننا أبناء السنة إلاّ المذاهب الأربعة: الحنفي ، المالكي ، الشافعي ، الحنبلي.

وقد سارت هذه المذاهب في طريق الانتشار والشهرة ، ولم يعرض لها أي عارض ، ولم يواجهها أي خطر يعرقل حركة السير ، فكتب لها الخلود وأصبح المعوّل عليها اليوم.

والآن وقد انتهى بنا السير في البحث عن أئمة المذاهب الأربعة لنأخذ صورة عن كلّ واحد منهم بدون تعصّب لهم أو عليهم ، فإنّ الباحث إذا أطل من زاوية التعصب الضيقة لا يهتدي إلى الواقع ولا يعرف الأشياء بحقيقتها ، وليكن ابتداء التعرف على الإمام أبي حنيفة أولا وذلك من حيث الرتبة الزمنية لا رتبة الأفضلية والأولوية، فذاك أمر يعود لغيرنا .

وإنّ ما اتّصل بنا من أخبار أبي حنيفة من طريق المغالين فيه أو المتحاملين عليه لا يوضح لنا نهج الوصول إلى الغاية. فإذا أردنا أن نتعرّف على شخصية أبي حنيفة لنعرف مكانته في ذلك العصر وأهميته في مجتمعه ، يلزمنا مناشدة الرجال الذين عاصروه ، ولا ننظر إليه من زاويتي الغلّو أو التعصب، لأنّا نطلب الحقيقة ونتّبع الحقّ بلا تعصب له وعليه، فإنّ رجلا قد أصبح مرجعاً للفتيا لكثير من المسلمين يقتدون بأقواله ، ويتمذهبون بمذهبه، فهو من الأهمية بمكان فلنبحث عن شخصيته لنأخذ عنها صورة عن طريق البحث المتجرد عن التحيز والتعصّب.

الإمام أبو حنيفة

هو النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه ولد سنة (80 هـ ) وتوفي ببغداد سنة (150 هـ ) ـ (767م). وكان جدّه زوطى ـ بضم الزاء وسكون الواو وفتح الطاء ـ من أهل كابل وقيل من مدينة نسا ، أو من أهل بابل ، وقد أسر عند فتح العرب لتلك البلاد واسترق لبعض بني تيم بن ثعلبة ، ثم أعتق ، فكان ولاؤه لهذه القبيلة.(9)

وقد وقع الاختلاف في نسب أبي حنيفة ، فالمتعصّبون له ينفون عنه الرقّ، ويدعون له نسباً عربياً مرة وفارسياً لم يقع عليه الرق اُخرى، والصحيح أنّ أبا حنيفة فارسي النسب ، تيميّ الولاء ، كوفيّ النشأة.

وكذلك وقع الخلاف في محل ولادته ، من جهة مقام أبيه فقيل : ترمذ. وقيل نسا. وقيل الأنبار أو الكوفة ، كما أنّنا لم نقف على تاريخ حياة أبيه ثابت، وسنة وفاته ومدة معاشرة أبي حنيفة له.

نعم يروى عن أبي حنيفة أنّه قال : حججت سنة (96 هـ )، أو (99 هـ ) مع والدي وأنا ابن تسع عشرة سنة ، فلمّا دخلت المسجد الحرام رأيت حلقة فقلت لأبي : حلقة من هذه؟ فقال : حلقة عبد اللّه بن الحارث الخ .

وهذا شيء بعيد عن الصحة : لأنّ وفاة عبد اللّه بن الحارث كانت في سنة (85 هـ) بمصر، كما سنوضح ذلك في بحثنا حول سماع أبي حنيفة من الصحابة.

ومهما يكن من أمر فإنّا لم نقف على أخبار والده ، وتاريخ حياته ، وهل ولد على الإسلام ، أم أنه أسلم بعد فتح العرب لبلاده ، واسترقاق أبيه ؟

ويقولون أنّ زوطى جدّه أهدى للإمام علي (عليه السلام) فالوذجاً يوم النوروز، وكان ثابت صغيراً فدعا له الإمام علي (عليه السلام) بالبركة(10). أما اُمّه فلم يتعرض التاريخ لذكرها بالتفصيل ، وقد ذكر لها أخباراً معه من حيث طاعته ومعاشرته لها.

مع الاُستاذ عفيفي في روايته

وقد وافانا الاُستاذ السيد عفيفي المحامي الشرعي بمصر ، ومحرر مجلة المحاماة الشرعية ، بقصة من دون سند وهي تتكفل تعيين اُم الإمام وشخصيتها، وإليك نصها :

يقول الاُستاذ السيد عفيفي عند ذكره لوالد أبي حنيفة : هو ثابت بن النعمان بن المرزبان ، وكان ثابت هذا يرجع الى دين وعقل ومروءة ، تصدر عن جد ، فقد روي أنه كان في شبابه ورعاً زاهداً ، وكان يوماً يتوضأ من جدول فجاءت تفاحة في الماء فأمسكها وأكلها بعد الفراغ من الوضوء ، ثم بصق فرأى بصاقه دماً فقال في نفسه : لعلّ ما أكلته حرام ، وإلاّ لما تغيّر بصاقي فتبع رأس الجدول ، فوجد شجرة تفاحها مثل ما أكل ، فطلب صاحبها وقص عليه القصة وأعطاه درهماً وقال : اجعلها في حل، فلما رأى صاحب التفاحة ورعه وصلابته في دينه أحبّه ، وقال لا أرضى بدرهم ولا بألف درهم ولا بأكثر.

فقال ثابت : فبم ترضى؟ قال إنّ لي ابنة لا ترى ولا تنطق ، ولا تسمع ولا تمشي، فإن تزوجتها أجعلها في حل، وإلا اُخاصمك يوم السؤال والحساب. فلبث ثابت في التفكّر ساعة ، ثم قال في نفسه : عذاب الدنيا أسهل وينقضي ، وعذاب الآخرة أشدّ وأبقى ، وتزوج بها فلما دخل عليها تقبلته بقبول حسن ، فاشتبه على ثابت الأمر ، لأنّه وجدها حسناء سميعة بصيرة ناطقة ، فقالت له : أنا زوجتك بنت فلان. قال: وجدتك على خلاف ما وصفك أبوك ، قالت: نعم، فإنّي كنت من سنين لم أطأ خارج البيت ، ولم أنظر الأجانب ولم أسمع كلامهم ولم يسمعوا كلامي ، فعرف ثابت الحال وقال : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)(11).

يقصّ علينا الاُستاذ المحامي هذه القصة غير ملتفت الى المؤاخذات التي يؤاخذ بها بصفته مثقّفاً من أبناء القرن العشرين ويتولى مهنة المحاماة الشرعية.

فيعلّق عليها بقوله : هيهات لا يأتي الزمان بمثل ثابت ، ولا بمثل صاحبته، فلا عجب أن يتولّد منهما ولد في صورة الإنسان وسيرة الملك ، ويحيي اللّه به دينه القويم ، ويشيع مذهبه في الأقطار ، وعلمه في الأمصار ويقول :

من هذا الوالد الورع الزاهد ، وهذه الاُمّ الطاهرة ، ولد الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان في مدينة الكوفة في سنة (80 من الهجرة النبوية) في عصر الدولة الاُموية في خلافة عبد الملك بن مروان .

ويقول بعد ذلك إنّ إسمه النعمان وهو منقول من إسم جنس، وقيل إنّه الدم وقيل إنّه الروح ، فيكون اتفاقاً حسناً، لأنّ أبا حنيفة روح الفقه وقوامه، ومنه منشؤه ونظامه.

ونحن نسائل الاُستاذ المحامي عن الأسباب التي دعته لنقل هذه الاُسطورة في مقدمة كتابه « حياة الإمام أبي حنيفة » أكان انتصاراً للإمام ليعلن بفضله وفضل أبيه واُمه ؟ وهل ضاقت عليه المسالك في مناقب أبي حنيفة فالتجأ الى أساطير العجائز في ليالي الشتاء ؟ وليته ترك هذه الاُسطورة، وهو المثقّف الذي يحمل شهادة المحاماة ، والمفروض بالمحامي أن يحمل عقلية قوية وفكراً واسعاً يستطيع به أن يتوغل الى أعماق معقولات القوانين.

ونسائله أيضاً لو قدر للشيخ عفيفي حضور تشاجر الفلاح مع ثابت وطلب كلّ منهما حكمه في الأمر ، أكان يحكم على ثابت بأنه مذنب ويلزمه بإرضاء الفلاح بكلّ صورة ؟ وهل في وسع الشيخ أن يحكم بصحة ما ذهب إليه ثابت من أنّ التفاحة كانت حراماً لذلك تحولت الى دم ؟ وكيف يكون ذلك من الوجهة الطبية والبيولوجية؟

أنا لا أدري ولعلّ الاُستاذ محب الدين الخطيب يدري ، لأنّه قدّم الكتاب وعرّفه للقرّاء .

المناقب

لعلّ من أهمّ المشاكل التي تقف أمامنا، ونحن في طريق البحث عن حياة أبي حنيفة، هي مشكلة المناقب ، فإنّها متضخمة الى أبعد حد، ولا نستطيع أن ندرس حياة أبي حنيفة دراسة صحيحة إلاّ بعد الفراغ من مشكلة المناقب، لأنّها أهم شيء في الباب.

وإن كُتب المناقب تعرقل سير الباحث بينه وبين الوصول الى الهدف، لأنّ فيها الاغراق في المدح ، والمبالغة في الوصف ، ونقل أخبار وحكايات بعيدة عن مقاييس الصحة ، ولا نريد التعرّض لكلّ ما قيل بل نقتصر على مناقشة ما يدّعى وروده على سبيل البشارة وطريقة التعيين لأهلية الاتباع.

وكيف كان فقد قال أصحاب المناقب: ينبغي لكلّ مقلّد إمام أن يعرف حال إمامه الذي قلّده ، ولا يحصل ذلك إلاّ بمعرفة مناقبه وشمائله وفضائله ، وسيرته في أحواله وصحة أقواله ، ثم لابدّ من معرفة اسمه وكنيته ونسبه وعصره وبلده، ثم معرفة أصحابه وتلامذته.

وقد ألّف كل من علماء المذاهب كتباً في مناقب إمامهم، فألّف الحنفية كتباً في مناقب أبي حنيفة. منها « عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان » ، ومختصره « قلائد عقود الدرر والعقيان » لأبي جعفر الطحاوي و « مناقب أبي حنيفة » لموفق الدين بن أحمد المكي الخوارزمي المتوفي سنة (567 هـ ) رتبه على أربعين باباً ، و « البستان في مناقب النعمان » للشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء ، و « شقائق النعمان في مناقب النعمان» للزمخشري المتوفى سنة (538 هـ ) و « مناقب أبي حنيفة » لمحمدبن الكردري المعروف بالبزاز المتوفى سنة (782 هـ ) وقد ترجم إلى اللغة التركية وغيرها.

وتوجد مناقب كثيرة في بطون الكتب على اختلاف نزعات المؤلفين وأهوائهم.

يقول الدكتور أحمد أمين : كما أنّ العصبية المذهبية حملت بعض الأتباع لكلّ مذهب أن يضعوا الأخبار لإعلاء شأن إمامهم ، ومن هذا الباب ما رووا من الأحاديث بتبشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل إمام من مثل ما روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في أهل العراق : « إن اللّه وضع خزائن علمه فيهم » ومثل : « يكون في اُمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت ، ويكنى بأبي حنيفة يحيي اللّه على يديه سنتي في الإسلام» الخ ; حتى لقد زعموا أنّ أبا حنيفة بشرت به التوراة.

وكذلك فعل بعض الشافعية في الشافعي ، والمالكية في مالك ، وما كان أغناهم عن ذلك. ومن أجل ذلك صعب على الباحث معرفة التاريخ الصحيح لكل إمام ، فكلما أتى جيل زاد في فضائل إمامه.(12)

وقد وضع احمد بن الصلب بن المفلس أخباراً في مناقب أبي حنيفة، وكان يحكي ذلك عن بشر بن الحارث ويحيى بن معين وابن المديني(13).

لذلك نرى من اللازم البحث عن بعض المناقب التي أصبح التسليم بصحتها أمراً مفروغاً منه عند بعضهم ، وترسل في معرض المدح والثناء ارسال المسلمات.

وهانحن نضع بين يدي القراء أهم المناقب في أبي حنيفة ونعطيه عنها صورة صادقة من حيث الصحة والبطلان ، فالعلم هو الكاشف لذلك ، والتحقيق في البحث يحلّ تلك المشاكل ، ولا غرض لنا بهذا إلاّ تجريد شخصية أبي حنيفة من أبراد الغلو فنتعرف على واقع أمره ونخلص الى سيرة وترجمة حقيقيتين.

البشائر في أبي حنيفة

أورد الحنفية في كتبهم أحاديث عن صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) تنصّ على البشارة بأبي حنيفة وتصرح باسمه وكنيته ، منها :

1 ـ يكون في اُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج اُمتي.

2 ـ يكون في اُمتي رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة.

3 ـ يكون في اُمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت يكنى بأبي حنيفة يحيي اللّه به سنتي .(14)

بهذا اللسان والتعبير أوردوا هذه الأحاديث عن صاحب الرسالة ونحن نقف هنا موقف الحيرة. أنترك هذه الأحاديث بدون فحص ونسدل عليها ستار الإعراض ، فالعقل السليم أجلّ من أن يحتاج الى إيضاح مثل هذه الاُمور، التي تدلّ بنفسها على بعدها عن الواقع ، أم نبحث عنها فنصرف زمناً في البحث لطلب الحقيقة فقط ؟

نعم ، البحث عنها أولى ، لأنا وجدناها في كُتب الحنفية المعتبرة عندهم ، ويستدل بها أكثر علمائهم في صحة اتباع مذهب أبي حنيفة دون غيره ، على أنّ المبرّزين منهم يكذبون ذلك وينصّون على كذبها كما سيأتي بيانه ، إذاً لابد لنا من البحث بإيجاز عن مصدر هذه الأحاديث والنظر في سلسلة الرواة.

حديث السراج وإحياء الدين

وهذا الحديث استشهد به كثير من الحنفية، في تفضيل أبي حنيفة على غيره، ذاهبين إلى صحته ، فلننظر إلى سلسة الحديث ، ونكتفي بالبعض منها ولا نتتبع حلقاتها جمعاء، فسلسلة الحديث تبتدئ من محمد بن سعيد البورقي ، وتنتهي إلى أبي هريرة ، أما محمد بن سعيد فإليك حاله ومنزلته في الرواية، لتعرف أهليّته لحمل الحديث.

قال ابن حجر : محمد بن سعيد البورقي أحد الوضّاعين قد وضع المناكير على الثقات ، وأوحشها روايته عن بعض مشايخه عن الفضل بن موسى عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً : يكون في اُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج اُمتي ، وزاد رواية اُخرى ، وسيكون في اُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس ـ يعني الشافعي ـ فتنته على اُمتي أضر من فتنة إبليس.

وقال حمزة السهمي : محمد بن سعيد كذّاب حدث ببلاد خراسان : سيكون في اُمتي رجل يقال له النعمان هو سراج اُمتي ، ثم حدث في العراق بإسناده وزاد « سيكون في اُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على اُمتي أضرّ من فتنة إبليس » ; وقال الحاكم: محمد بن سعيد حديثه ليس بشيء.(15)

ويقول ملا علي القاري ـ وهو أكبر علماء الحنفية ، وله كتاب في مناقب أبي حنيفة ـ : وقد أورد بعضهم في مدح أبي حنيفة وذكر حديث السراج وهو حديث موضوع.(16)

هذا وحديث محيي الدين بهذا اللفظ أوردوه مرفوعاً « سيكون رجل يقال له النعمان بن ثابت ويكنى بأبي حنيفة يحيي دين اللّه وسنتي ».

وقد أجهد الموفق المكي نفسه في تصحيح هذا الحديث ولم يوفق ، وراوي هذا الحديث يحيى بن سليمان عن إبراهيم بن أحمد الخزاعي عن أبي هدبة ابراهيم بن هدبة عن أنس بن مالك مرفوعاً ، ولا حاجة بالتعرّض لرجالها أجمع، ونكتفي بذكر من رواها عن أنس وهو إبراهيم بن هدبة.

قال الخطيب في تاريخه : إبراهيم بن هدبة حدّث عن أنس بالأباطيل. وقال أبو حاتم وغيره : إنّه كذاب خبيث، وقال ابن حبان إنّه من الدجاجلة كان لا يعرف بالحديث(17).

وقال بشر بن عمر كان في جوارنا عرس ، فدعي له أبو هدبة فأكل وشرب ، وسكر فجعل يغني :

أخذ القمل ثيابي *** فرقصت لهنه

وقال علي بن ثابت : أبو هدبة أكذب من حماري(18) ، الى آخر الأقوال فيه وفي فسقه ، وإنّه كان يسأل الناس في الأسواق مع أنّه كان من أهل القرن الثالث، فكيف سمع من أنس؟ فلا شكّ في كذبه ، إذاً فالحديث موضوع على صاحب الرسالة وقد اختلفت ألفاظ هذه الموضوعات لاختلاف الغرض في وضعها ، وذلك أنّها إشارة في أوّل الأمر الى الكنية فقط، وبهذا وقعوا في حذر عظيم ، لأن الذي يكنى بأبي حنيفة من العلماء كثير ، فذهبوا الى الصراحة بالاسم ، فقالوا : اسمه النعمان بن ثابت ويكنّى بأبي حنيفة ، ليخرجوا بذلك جملة من العلماء الذين اشتهروا بهذه الكنية في عصره وبعد عصره.

قال السيوطي عند ذكر هذه الأحاديث : إن الذي وضع حديث ( أبو حنيفة سراج اُمتي) هو مأمون بن أحمد السلمي ، وأحمد بن محمد الجويباري وكلاهما من الوضّاعين(19).

وأنّهم أوردوا هذه الأحاديث من طرق متعددة ، ولكن المحور الذي تدور عليه ، هو سعيد البورقي ، ومأمون بن أحمد الهروي ، وأحمد بن محمد الجويباري ، ومحمد بن يزيد الطرسوسي ، وأبان بن عياش ، وهو الراوي عن أنس ، وإبراهيم بن هدبة راوي حديث محيي السنّة وكلّ هؤلاء عرفوا

بالكذب والوضع.(20)

أمّا مأمون بن أحمد السلمي الهروي ، وهو راوي حديث : يكون في اُمتي رجل يقال له النعمان ـ الى آخره ـ قال أبو نعيم في مقدمة المستخرج على صحيح مسلم : مأمون السلمي من أهل هراة خبيث وضّاع يأتي عن الثقات ، مثل هشام بن عمار ، ودحيم بالموضوعات ، وفيما حدّث عن أحمد الجويباري الكذّاب عن عبد اللّه بن معدان الأزدي عن أنس مرفوعاً : سيكون في اُمتي رجل يقال له النعمان. الحديث ، قال أبو نعيم : مثله يستحقّ من اللّه تعالى ومن الرسول ومن المسلمين اللعنة. وقال الحاكم بعد ذكر الحديث من طريق مأمون : ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه اللّه أدنى معرفة بأنها موضوعة على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).(21)

وأما محمد بن يزيد فقد كان من الوضّاعين ، وقد روى هذا الحديث عن سليمان بن قيس عن أبي المعلى بن مهاجر عن أبان عن أنس قال ابن حجر : وسليمان بن قيس والمعلّى مجهولان لا يعرفان(22).

وأما أبان بن أبي عياش البصري مولى عبد القيس وهو الراوي عن أنس فقد كان يحيى بن معين ، وعبد الرحن بن المهدي لا يحدثان عنه. وقال الفلاس : هو متروك الحديث ، وقال أحمد بن حنبل : لا يكتب عنه، ترك الناس حديثه. وقال أبو عوانة : لا أستحل أن أروي عنه شيئاً ـ الى آخر ما هنالك من الأقوال في ذمّه ـ ، وقد نص بعضهم على كذبه ، قال ابن حبان : إنّ أبان سمع من أنس أحاديث وجالس الحسن فكان يسمع من كلامه : فإذا حدّث جعل كلام الحسن البصري عن أنس أحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعلّه حدث عن أنس بأكثر من 1500 حديث. قال الجوزجاني : أبان ساقط ، وقال شعبة : لئن أشرب من بول حماري أحبّ إليّ من أن أقول : حدّثني أبان، وقال مرة : لئن يزني الزاني خير من أن يروي عن أبان. وقال أيضاً لا يحلّ الكف عن أبان إنّه يكذّب على رسول اللّه(23)، وقد مرّ ذكر إبراهيم والبورقي.

وأما الجويباري فقد نصّ على كذبه الذهبي في الميزان(24) ، وابن حجر في لسانه(25)، والسيوطي(26)، والخطيب البغدادي(27) وغيرهم.

ونحن لا نتعرّض لجميع هذه الأقوال الادعائية في البشائر النبويّة، التي إلتجأ إليها المعجبون بأبي حنيفة ، والمغالون بشخصيته ، ونكتفي بهذا القدر من التوهين لها ، ولم يكن من قصدنا بالبحث عن هذه الاُمور إلا إظهار الحقيقة وخدمة العلم ، لأنّ أغلب من كتب عن أبي حنيفة جعلها من أقوى مؤيدات اتّباعه ولزوم الأخذ عنه دون غيره ، وانّ أكثر من كتب من المعتدلين في مناقب أبي حنيفة لم يذكروا هذه الأحاديث لعدم الاعتماد عليها كالسيوطي في تبييض الصحيفة ، وابن حجر في الخيرات الحسان(28)، وملا علي القاري ، والذهبي في مناقب أبي حنيفة.

وقد سلك السيوطي طريقاً آخر لإثبات تبشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبي حنيفة. قال : وقد بشّر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبي حنيفة في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبي هريرة: لو كان العلم بالثريا لتناولته رجال من أبناء فارس(29).

وهذا لا يمكن، وفي أبناء فارس من حملة العلم من الصدر الأول الى اليوم من العلماء ما ينطبق هذا العموم عليهم فكيف يخصص بأبي حنيفة وحده ! هذا من التخمين والظنون، وهو من باب: اُريه السهى ويريني القمر.

وعلى أيّ حال فإنّ هذه الموضوعات كانت من نتائج عصور التعصّب وعهود التطاحن بين المذاهب.

حديث غياث لكل مهموم

روى الموفق بسنده عن محمد الحارثي بإسناده الى أبي البختري قال : دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فلمّا نظر اليه قال : كأ نّي أنظر اليك وأنت تحيي سنة جدي بعدما اندرست ، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم(30).

هكذا نقل الموفق بهذا السند يوصله الى أبي البختري ، ونحن في سعة عن مناقشة رجال السند أجمع ، بل يلزمنا أن نتعرف على شخصية أبي البختري الذي يدعي سماع هذه الكلمات من الإمام الصادق (عليه السلام)، فإذا كان محلّه الصدق والثقة فنحن نأخذ هذه الرواية بعين الاعتبار ، إذ ليس لنا عداء مع الحقّ.

أبو البختري

هو وهب بن وهب بن وهب القرشي أبو البختري قاضي بغداد ، الذي يقول فيه المعافى :

ويل وعول لأبي البختري *** إذا ثوى للناس في المحشر

من قوله الزور وإعلانه *** بالكذب في الناس على جعفر(31)

وقال ابن العماد الحنبلي في الشذرات في حوادث سنة (200 هـ ): وفيها مات وهب بن وهب أبو البختري ـ إلى أن ـ قال : روى عن هشام بن عروة وطائفة واتّهم بالكذب.(32)

وقال ابن قتيبة في المعارف:(33) كان ضعيفاً في الحديث كذبه في المغني ، وقال يحيى بن معين : أبو البختري كان يأخذ فلساً فيذكر عامة ليله يضع الحديث وقال أيضاً : أبو البختري القاضي كان يكذب على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم). وقال أيضاً: أبو البختري كذاب عدوّ اللّه خبيث.(34)

وقال عثمان بن أبي شيبة : وهب بن وهب ذاك دجال أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالا ، ولما بلغ عبد الرحمن بن مهدي موته قال : الحمد لله الذي أراح المسلمين منه ، وقال ابن خلكان : أبو البختري كان متروك الحديث ، مشهوراً بوضعه ، ونص أحمد على كذبه.

وروى الخطيب: أنّ أبا البختري دخل على الرشيد وهو قاض يوم ذاك، وهارون يطير الحمام فقال : هل تحفظ في هذا شيئاً ؟ فقال : حدّثني هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة أنّ النبيّ كان يطير الحمام(35).

وساق ابن عدي لأبي البختري أحاديث موضوعة قال : وأبو البختري من الكذابين الوضّاعين ، وكان يجمع في كل حديث يرويه بأسانيد من جسارته على الكذب ووضعه على الثقات(36).

هذا هو أبو البختري راوي هذه المنقبة التي ذكرها الخوارزمي في مناقب أبي حنيفة.

فتوى أبي البختري

ونسوق إليك قضية من قضايا قاضي القضاة أبي البختري لتعرف أهليّته لهذه المنزلة : كان الرشيد قد أعطى ليحيى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب كتاب الأمان ، ثم أراد إبطاله فسأل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة.. فقال : هذا أمان صحيح ودمه حرام ، فدفع الكتاب الى الحسن بن زياد، فقال بصوت ضعيف : أمان ، فدخل أبو البختري وهب بن وهب القاضي ، وأخرج من خفّه سكيناً فقطع الكتاب من غير أن يسأل عنه ، وقال : هذا أمان مفسوخ ، وكتاب فاسد ودمه في عنقي(37).

وبارتكابه لهذه الجريمة وإراقته دماً طاهراً لحفيد من أحفاد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) نال درجة الرقي في مناصب الدولة ، وخطا خطوات واسعة، إذ قال له الرشيد عند صدور هذه الفتيا : أنت قاضي القضاة وأنت أعلم بذلك. وأجازه الرشيد بألف ألف وستمائة ألف درهم ، فها هو قد أصبح بعد أن كان واحداً من القضاة رئيسهم الأول ، ومرجعهم الأعلى تناط به اُمورهم، ومن سوء حظ الاُمة أن تكون سلطتها القضائية بيد قضاة لا يخافون اللّه ولا يرجون معاداً ، هذا هو أبو البختري وهذه حاله فكيف يوثق بنقله ويعتمد على قوله ؟!

يقول سويد بن عمرو بن الزبير في أبيات له :

إنا وجدنا ابن وهب حين حدثنا *** عن النبيّ أضاع الدين والورعا

يروي أحاديث من إفك مجمعة *** اُف لوهب وما يروي وما جمعا(38)

بين المدّ والجزر

لقد غالى بعض كتّاب المناقب غلواً أخرجهم من الاعتدال في القول والتثبت في النقل، فتقوّلوا وافتعلوا ، وذهبوا الى أبعد حدّ من المدح والثناء، وجاءوا باُمور متنوعة في مناقبه وفضائله حتى وضع بعضهم كتاباً موضوعاً في مناقبه. وللبيان نعطي صورة مختصرة عن تلك الادعاءات الكاذبة، وللتفصيل محل آخر.

فمن أظرف ما ينقل من كرامات أبي حنيفة قضية الدهري الذي ورد بغداد ليناظر علماء الإسلام أيام الدولة العباسية ، وأنّهم عجزوا عن جوابه ولم يبق إلاّ حماد بن أبي سليمان ، ومعه تلميذه أبو حنيفة ، ولهذه الاُسطورة صور في النقل :

منها: أنّ دهرياً من الروم ناظر علماء الإسلام فأفحمهم إلاّ حماداً. ولم يأت أحد بما فيه مقنع ، والإمام إذ ذاك كان صبيّاً فخاف حماد لأنّه لو ألزمه يهون أمر الإسلام. فرأى رؤيا لا حاجة لنا بنقلها(39).

فذهب أبو حنيفة مع اُستاذه الى الجامع، وصعد الدهري المنبر، وطلب الخصم ، فحضر أبو حنيفة وهو صبيّ، فاستحقره ، فقال أبو حنيفة : دع هذا وهات كلامك ، فتعجب الدهري من جرأته، فسأله الدهري بأسئلة فأجاب عنها فقال أبو حنيفة : هذه الأسئلة وأنت على المنبر وأنا أجبت عنها، والآن انزل الى الأرض وأنا أصعد المنبر ، فنزل وصعد أبو حنيفة وقال : إذا كان على المنبر مشبه مثلك أنزله ، وإذا كان على الأرض موحد مثلي رفعه ، (كل يوم هو في شأن)(40) فبهت الدهري وقتلوه.(41)

هكذا دوّن بعض أصحاب المناقب هذه الاُسطورة ولم يلتفتوا الى المؤاخذات فإنّهم ذكروا أنّ هذه القصة قد وقعت في بغداد ، ولا يتأتى ذلك ، فإن بغداد مصرت في زمن المنصور سنة (145 هـ ) فيكون عمر أبي حنيفة في هذه القصة (65 ) سنة; فكيف كان عمره سبع سنين؟ وإن وفاة اُستاذه حماد بن أبي سليمان سنة (120 هـ ) بالاتفاق(42) ، أي قبل تمصير بغداد بخمس وعشرين سنة. مع أنّ أبا حنيفة تتلمذ على يد حماد ، بعد أن قضى شطراً من عمره في بيع الخز ، واشتغل مدة بعلم الكلام ، وبعد ذلك التحق بحلقة حماد.

وقد ذكرت هذه الاُسطورة في عدة كتب وعلّق بعضهم عليها بقوله : هذا حال الإمام في صغره فكيف في كبره(43).

أمّا الصورة التي ينقلها الخوارزمي فهي :

إنّ ملك الروم بعث مالاً عظيماً بيد أمين الى بغداد ، وقال : سلهم عن ثلاث مسائل، فإن هم أجابوا فادفع اليهم المال ، وإلاّ فارجع به ، فلما قدم بغداد جمع العلماء وصعد الرومي المنبر وقال : إن أجبتم عن أسئلتي أعطيتكم المال ، وإلا رجعت به ، فسألهم وسكت القوم وفيهم أبو حنيفة ، وهو يومئذ صبي، فقال لأبيه : يا أبتا أنا اُجيبه ، فأسكته أبوه ، وقام أبو حنيفة واستأذن الخليفة في الجواب، وصعد أبو حنيفة المنبر الخ ; هكذا أوردوا هذه الاُسطورة واختلفوا بطرق نقلها.

ومن أظرف ما نقلوه ما يرويه صاحب مفتاح السعادة: أنّ ثابتاً توفي وتزوج الإمام الصادق (عليه السلام) اُم الإمام أبي حنيفة ، وكان أبو حنيفة  صغيراً

وتربّى في حجر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وأخذ علومه منه. قال مؤلّفه : وهذه إن ثبتت فهي منقبة لأبي حنيفة ، وقد أيّد ذلك قاضي زاده شريف مخدوم، فقال: وبعد وفاة الثابت ، أي والد أبي حنيفة ، تزوّج اُم الإمام الإمام جعفرالصادق وتربّى أبو حنيفة في حجره(44).

وكيف يتأتى ذلك ويستقيم وأنّ أبا حنيفة كان صغيراً وتربى في حجر الإمام الصادق(عليه السلام) وقد كانت ولادة أبي حنيفة سنة (80 هـ ) وولادة الصادق سنة (83 هـ )؟ فلا يصحّ هذا، وإن أبوا إلا تصحيح هذه المناقب فاللّه قادر على كلّ شيء ، ولا يستبعد أن يكون المدّ والجزر في الأعمار كما هو في البحار.

ولنكتف بما ذكرناه ، ولا نتعرّض لتلك الادعاءات الكاذبة فقد ادعوا أن التوراة بشّرت به ، وأنّ صفته مكتوبة فيها ، وأنّ اللّه ناداه : يا أبا حنيفة إني قد غفرت لك ولمن هو على مذهبك الى يوم القيامة ، وأنّ النبي غبط داود، لأنّ في اُمّته لقمان; فبشّره جبرائيل بأبي حنيفة ، وأنّ حكمته أعظم من حكمة لقمان ، وانّ الخضر درس عليه خمس سنين في حياته وأكمل دراسته عليه وهو في قبره ، الى كثير من تلك السفاسف وهي من الاُمور التي لا تحتاج إلى مناقشة ، وإنّما هي وليدة عصر احتدام التعصّب للمذاهب ، فذهب كلّ الى تكوين شخصية إمامه طبقاً لأهدافه ، وقد ألّفوا كتباً طافحة بالثناء الأجوف والمدح الكاذب.(45)

وقد كان جماعة يضعون الأحاديث والمناقب لنصرة مذهب أبي حنيفة، أمثال أحمد الحماني المتوفى سنة (302 هـ )، وأسد بن عمر البجلي القاضي المتوفى سنة (190 هـ )، وأباء بن جعفر الكذّاب المعروف ، وقد حرّفه بعضهم عند نقله عنه بابان ليخفي حاله ، وقد خرجوا في أبي حنيفة أحاديث لا أصل لها(46)، وقد وضع أباء عليه أكثر من ثلاثمائة حديث، وذكر أكثرها الحارثي في مسند أبي حنيفة(47) ; وغير هؤلاء كثير لا يسع الوقت لذكرهم ممن دعتهم عصبيّتهم الى تكوين شخصية أبي حنيفة طبقاً لرغباتهم ، ومعاكسة للوجدان ومخالفة للحقّ، وبذلك صعب الوصول الى معرفة شخصية أبي حنيفة.

فلنترك مناقشة تلك المناقب فإنّا لا نتعرّض إلاّ لما له أهمية في الموضوع. فمن ذلك قولهم: إنّ أبا حنيفة سمع جماعة من الصحابة ودوّنوا له أحاديث ذكرت في مسانيده، فلننظر لصحة هذه الدعوى.

سماعه من الصحابة

حاول البعض أن يجعل أبا حنيفة من التابعين، بل قال بعضهم إنّه سيدهم ، والتابعي هو الذي عاصر الصحابة وسمع منهم ، وقالوا : إنّ أبا حنيفة عاصر جماعة من الصحابة وروى عنهم ومجموع ما رواه خمسون حديثاً.(48)

وهذه الدعوى يختصّ بها الحنفية ، وقد نفاها علماء الحديث والتاريخ ، كما أنّ أصحابه الذين دوّنوا مذهبه لم يثبتوا ذلك ، ولم يعرفوا من روايته عن الصحابة معرفة قطعية لا تقبل الشك. وإنّما هو من إيحاءات العصبية ونزعة الغلو ، وللبيان نذكر أولئك الصحابة رضي اللّه عنهم وتاريخ وفياتهم ، فيتضح بطلان هذه الدعوى ، واليك البيان :

1 ـ عبد اللّه بن أنيس أبو يحيى الجهني حليف الأنصار ، شهد العقبة الثانية واُحد، ورحل الى مصر وتوفي في الشام سنة (80 هـ ) أي سنة ولادة أبي حنيفة، وقال بعضهم: توفي في خلافة معاوية سنة (54 هـ ) فما يروى عن أبي حنيفة أنّه قال : ولدت سنة ثمانين، وقدم عبد اللّه بن أنيس الجهني صاحب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة (94 هـ ) ورأيته وسمعت منه عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) « حبك الشيء يعمي ويصم » لا أصل له.

ويقول ملا علي القاري ـ بعد ذكره لهذا الحديث ـ : في ملاقاة عبد اللّه بن أنيس به ـ أي بأبي حنيفة ـ إشكال; لأنّ أهل السير والتواريخ مجمعون على أنه مات بالمدينة سنة (54 هـ )(49).

2 ـ عبد اللّه بن الحرث بن جزء الزبيدي أبو الحرث، شهد فتح مصر واختط بها داراً ومات سنة (86 هـ ) وهو آخر من مات بها من الصحابة ، فما روي عن أبي حنيفة أنّه قال : حججت مع أبي سنة (96 هـ )، ورأيت عبد اللّه بن الحرث يدرس في المسجد الحرام ، وسمعت منه أنّه يقول سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : من تفقه في دين اللّه كفاه اللّه ما أهمّه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ; فهذا لا يصح ، لأن وفاة هذا الصحابي كانت في سنة (86 هـ ) وولادة أبي حنيفة في سنة (80 هـ  ) وأول حج حجّه أبو حنيفة سنة (96 هـ ) فكيف يصح ملاقاته وسماعه منه ؟!.

قال الشيخ قاسم الحنفي وهو من مشايخ الحنفية : إنّ سند ذلك الحديث فيه قلب وتحريف ، وفيه كذاب اتفاقاً ، وبأنّ عبد اللّه مات بمصر ولأبي حنيفة ست سنين وعبد اللّه لم يدخل الكوفة في تلك المدة.(50)

3 ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري صحابي جليل شهد العقبة ، وغزا تسع عشرة غزوة، مات بالمدينة (78 هـ ) أي قبل ولادة أبي حنيفة بسنتين ، فما

يروى عن أبي حنيفة عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أمر من لم يرزق

ولداً بكثرة الاستغفار والصدقة ، فولد لجابر تسعة ذكور ، فهذا حديث

موضوع لا أصل له(51).

4 ـ عبد اللّه بن أبي أوفى الأسلمي ، صحابي ابن صحابي شهد بيعة الرضوان، مات سنة (85 هـ ) وسماع أبي حنيفة منه حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)«من بنى لله مسجداً كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتاً في الجنة »(52) فسماعه غير صحيح، لأنّه طفل صغير ليس له أهلية السماع ، مع أنّ أبا حنيفة لم يشتغل بطلب العلم إلا بعد مدة من الزمن.

5 ـ معقل بن يسار المزني بايع بيعة الشجرة ، وتوفّي في خلافة معاوية سنة (60 هـ ) فرواية أبي حنيفة عنه حيث يقول : سمعت معقلا يقول : سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : « علامات المنافق ثلاث إذا قال كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان »(53) ، غير صحيح لتقدّم وفاة معقل على ولادة أبي حنيفة بعشرين سنة.

6 ـ واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر من بني ليث بن عبد مناف ، ويُكنّى أبا الأسقع أسلم قبل تبوك ، وشهدها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل الشام ومات في خلافة عبد الملك سنة (83 هـ ) وكان آخر من مات بدمشق من الصحابة، روى عنه أبو حنيفة حديثين : الأوّل «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه اللّه ويبتليك». والثاني «دع ما يريبك الى ما لا يريبك»(54). والحديثان رواهما الترمذي من وجه آخر عن جمع من الصحابة، ورواية أبي حنيفة لهما عن واثلة لا تصح لأنه مات بالشام(55) وعمر أبي حنيفة ثلاث سنين .

7 ـ عائشة بنت عجرد مجهولة لا تكاد تعرف ، قال الذهبي وابن حجر : إنّ عائشة لا صحبة لها وأنّها لا تكاد تعرف ، وبذلك ردّ ما روي أنّ أبا حنيفة روى هذا الحديث الصحيح « أكثر جند اللّه الجراد لا آكله ولا أحرمه ».(56)

8 ـ سهل بن سعد الساعدي كان اسمه حزن فسمّاه رسول اللّه سهلاً توفي سنة (88 هـ ) وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة ولم يخرج منها الى الكوفة، فلا يصح سماع أبي حنيفة منه وروايته عنه; لأنّ أبا حنيفة لم يحج إلاّ في سنة (96 هـ ) أي بعد وفاة سهل بثمان سنوات. ذكر ذلك البزاز في مناقب أبي حنيفة.(57)

9 ـ أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن خرام الأنصاري شهد بدراً مات سنة (90 هـ ) وقد جاوز المائة وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة(58).

وعلى كلّ حال فإنّ رواية أبي حنيفة عن الصحابة قد نفاها جماعة من المحدثين وعلماء الرجال : كالولي العراقي ، وابن حجر ، والسخاوي وغيرهم(59).

قال محمد بن شهاب البزاز : إنّ جماعة من المحدثين أنكروا ملاقاة أبي حنيفة للصحابة ، وأصحابه اثبتوها.

وقبل أن نتحوّل عن موضوع المناقب نحبّ أن نشير إلى منزلة أبي حنيفة في الحديث ، وهل خرّج له أصحاب الصحاح أم لا ؟

ولا نحبّ أن نطيل الحديث ونكتفي ببعض الموضوع ، لنأخذ صورة عن ذلك في مجال المقارنة والموازنة فيما بعد.

حديثه وعنايته بالرواية

قالوا : إنّ أبا حنيفة لم يكن صاحب حديث، ولكن كان قيّاساً سلك في القياس مسلكاً استوجب شدة الإنكار عليه وعلى أصحابه.

قال مالك بن مغول : قال لي الشعبي ـ ونظر الى أصحاب الرأي ـ : ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقبله ، وما خبروك به عن رأيهم فارم به في الحش. وقال : إيّاكم والقياس فإنّكم إن أخذتم به حرّمتم الحلال وأحللتم الحرام(60).

يقول ابن خلدون : بلغت رواية أبي حنيفة الى سبعة عشر حديثاً. ويعلّل ذلك بقوله : إنّما قلت رواية أبي حنيفة لما شدّد في شروط الرواية والتحمّل، وضعف رواية الحديث اليقين إذا عارضها الفعل النفسي(61).

قال الدكتور أحمد أمين ـ بعد نقل هذه العبارة ـ : وهي وإن كانت موجزة ، وغامضة بعض الغموض إلاّ أنّها تدلّنا على هذا الاتجاه ، وهو عدم الاكتفاء بالرواية ، بل عرضها على الطباع النفسية والبيئة الاجتماعية(62).

ونحن نستبعد صحة هذا القول، وإنّ أبا حنيفة لم يرو إلاّ سبعة عشر حديثاً أو لم يصح عنده إلاّ ذلك العدد. فإنّ الرجل حضر عند علماء الاُمة ، وسمع من الثقات وسافر إلى مكة والمدينة ، وسمع من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام الباقر(عليه السلام) ، وولده الإمام الصادق(عليه السلام)، وزيد بن علي (عليه السلام) ، وعبد اللّه بن الحسن.

ونحن لا ننكر أنّه كان قيّاساً وكان يتشدّد في الرواية ، ولا يقبل الخبر إلاّ إذا رواه جماعة عن جماعة، أو كما يقول أصحابه : إذا كان خبراً عاماً عن عامة ، أو اتفق علماء الأمصار على العمل به ، ومهما كان تشدّده واشتراطه فلا يصحّ أن يقال : إنّه لم يصح عنده إلاّ سبعة عشر حديثاً.

أما أصحابه فلم يتشدّدوا في قبول الرواية ، فقد أدخل أبو يوسف في فقه أبي حنيفة أحاديث كثيرة ، ومن بعده محمد بن الحسن الشيباني ، فإنّه لقي مالكاً ، وقرأ الموطأ عليه ، ثم رجع إلى بلده ، وطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة(63).

وكيف كان فقد اختلف المحدثون في قبول رواية أبي حنيفة، فمنهم من قبله ، ومنهم من لينه لكثرة غلطه في الحديث ليس إلاّ ، قال علي بن المديني ليحيى بن سعيد : كيف كان حديث أبي حنيفة ؟ قال : لم يكن صاحب حديث(64).

وقال ابن عدي في ترجمة إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة : ثلاثتهم ضعفاء. وقد عدّه البخاري من الضعفاء والمتروكين.

أمّا أصحاب الصحاح فلم يخرّجوا له حديثاً ، نعم في رواية أبي علي الأسيوطي والمغاربة عن النسائي، قال : حدثنا علي بن حجر ، حدثنا عيسى هو ابن يونس ، عن النعمان عن عاصم عن ابن عباس : من أتى بهيمة لا حدّ عليه.(65)

وهو لم ينسب النعمان فهل هو أبو حنيفة أم غيره؟

وخرّج له الترمذي من رواية عبد الحميد الحماني، أنّه قال : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي ، ولا أفضل من عطاء.(66)

وهذا ليس بحديث وإنّما هو قول لأبي حنيفة، وإذا رجعنا إلى الواقع ففي إمكاننا تكذيب هذا القول ولا يصحّ نسبته لأبي حنيفة، لأنّ جابراً من كبار التابعين ووثّقه سفيان الثوري ، وزهير ، وشعبة ، ووكيع وغيرهم.(67)

جاء في جامع أسانيد أبي حنيفة عن زهير أنّه قال : إذا قال جابر بن يزيد: حدثني أو سمعت فهو من أصدق الناس(68).

وروى عن جابر كبار العلماء وأعيان الاُمة وهو من شيوخ أبي حنيفة ، وقد روى عنه عدة أحاديث أوردها أصحابه في كتبهم ، وهي منتشرة في أسانيد أبي حنيفة.

وكان أبو حنيفة يمدح جابراً بالحفظ ويقول : ما سألت جابر الجعفي عن مسألة قط إلاّ أورد فيها حديثاً ، ولقد سألته عن ورد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: حدثني نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجعل وتره آخر صلاته(69).

ولا يستبعد أنّ هذا القول وضع أيام نشاط الخلافات وتحامل الموالي على العرب ، فإنّ جابراً عربيّ وعطاء من الموالي.

وستأتي ترجمة جابر في الأجزاء القادمة إن شاء اللّه.

أبو حنيفة بين أنصاره وخصومه

ليس للباحث عن حياة أبي حنيفة بدّ من الوقوف على أخباره العامة ، وأن يستعرض الأقوال فيه وآراء الناس حوله ، وبهذا لا يجد سهولة في الوصول إلى الغاية ، إذ الطريق غير معبّد لوجود ركام من الأخبار المختلفة ، والآراء المتناقضة ، والأقوال التي لا يمكن تصديقها .

فهناك تعصّب وغلوّ في شخصيته ، وإعجاب مفرط في مواهبه ، وهناك نقد مرّ لأعماله، وتحامل شديد عليه ، ووصف بما لا يليق بشخصية رئيس مذهب وإمام طائفة.

والكاتب هنا يقف بين طائفتين : متعصبون له ومغالون فيه وهم أنصاره ، وناقدون له ومتحاملون عليه وهم خصومه.

امّا الطائفة الأولى فقد رفعوه إلى منازل النبيّين ، وزعموا أنّ التوراة بشّرت باسمه ، وأنّ النبيّ أخبر به قبل ولادته ، وانّه سراج الاُمة ومحيي السنة ، وأنّه معجزة النبي بعد القرآن ، ولولاه لما اهتدى الناس.

والشيء الغريب أنّهم رفعوه فوق منزلة الأنبياء ، لأنّ عيسى إذا رجع يقلّده ويحكم بمذهبه ، وأنّ الخضر تعلّم أحكام الشريعة منه.

يقول قاضي زاده : إعلم أنّ المذهب لا يقلّده من الصحابة والتابعين إلا أبوحنيفة فإنّ عيسى لما ينزل يحكم بمذهبه(70) !!

وقالوا : إنّ اللّه خصّ أبا حنيفة بالشريعة والكرامة.

ومن كراماته : إنّ الخضر (عليه السلام) كان يجيء إليه كلّ يوم وقت الصبح ، ويتعلّم منه أحكام الشريعة إلى خمس سنين.

فلمّا مات أبو حنيفة ناجى الخضر ربّه وقال : إلهي إن كان لي عندك منزلة فأذن لأبي حنيفة حتى يعلّمني من القبر على حسب عادته حتى أتعلم شرع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الكمال ، فأحياه اللّه وتعلّم منه العلم إلى خمس وعشرين سنة.(71)

وبعد أن أكمل الخضر دراسته ، أمره اللّه أن يذهب إلى القشيري ، ويعلّمه ما تعلّم من أبي حنيفة ، وصنّف القشيري ألف كتاب ، وهي لا تزال وديعة في نهر جيحون ، إلى رجوع المسيح ، فيحكم بتلك الكتب ، لأنّه يأتي في زمان ليس فيه من كتب شرع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)فيتسلم المسيح أمانة نهر جيحون. وهي كتب القشيري(72).

هذا ما قالوه حول انتساب المسيح لمذهب أبي حنيفة، ولعمري أنّهم أساءوا لإمامهم بهذه السفاسف وخرجوا عن حدود التبجيل والإكرام له ; كما وصفوه بصفات فوق الطبيعة البشرية ، كقراءة القرآن سبعين ألف مرة ، في محل واحد ، وصلاته في كلّ ليلة ركعتين يختم القرآن في كلّ ركعة ، وصلاته الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة ، وامتناعه من أكل اللحم عشر سنين، لأنّ شاة ضاعت فسئل كم تعيش فقيل عشر سنين ، إلى غير ذلك من الاُمور التي أساء المغالون لأبي حنيفة فيها.(73)

هذا هو أبو حنيفة في نظر المعجبين به وأنصاره المغالين في تكوين شخصيته.

أما الطرف الآخر من معاصريه وغيرهم ، فقد رموه بالزندقة ، والخروج عن الجادّة ، ووصفوه بفساد العقيدة ، والخروج على نظام الدين ، ومخالفة الكتاب والسنة ، وطعنوا في دينه وجرّدوه من الإيمان(74).

وقالوا اجتمع سفيان الثوري وشريك وحسن بن صالح وابن أبي ليلى ، فبعثوا إلى أبي حنيفة ، فقالوا : ما تقول في رجل قتل أباه ونكح اُمّه وشرب الخمر في رأس أبيه ؟ فقال : مؤمن. فقال ابن أبي ليلى : لا قبلت لك شهادة أبداً. وقال له سفيان الثوري : لا كلمتك أبداً(75).

وحكي عن أبي يوسف ، قيل له : أكان أبو حنيفة مرجئاً ؟ قال : نعم قيل : كان جهمياً ؟ قال : نعم(76) قيل : أين أنت منه ؟ قال : إنّما كان أبو حنيفة مدرساً، فما كان من قوله حسناً قبلناه ، وما كان قبيحاً تركناه عليه(77).

وحدث إبراهيم بن بشار عن سفيان بن عيينة أنه قال : ما رأيت أحداً أجرأ على اللّه من أبي حنيفة ، وعنه أيضاً : كان أبو حنيفة يضرب لحديث رسول اللّه الأمثال فيبرره بعلمه(78).

وعن الوليد بن مسلم قال : قال لي مالك بن أنس : أيذكر أبو حنيفة في بلادكم ؟ قلت : نعم قال : لا ينبغي لبلادكم ان تسكن(79).

وعن الأوزاعي يقول : إنّنا لا ننقم على أبي حنيفة أنّه رأى كلّنا يرى، ولكنّا ننقم عليه إنّه يجيئه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخالفه إلى غيره(80).

قال ابن عبد البر : وممن طعن عليه وجرحه محمد بن اسماعيل البخاري ، فقال في كتابه « الضعفاء والمتروكين » : أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، قال نعيم بن حماد : حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول : اُستتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. وقال نعيم الفزاري : كنت عند سفيان بن عيينة ، فجاء نعي أبي حنيفة ، فقال:... كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشرّ منه. هذا ماذكره البخاري(81).

وقال ابن الجارود في كتابه « الضعفاء والمتروكين » : النعمان بن ثابت جلّ حديثه وهم.

وقد روي عن مالك أنّه قال في أبي حنيفة نحو ماذكره سفيان : أنّه شرّ مولود ولد في الاسلام ، وأنّه لو خرج على هذه الاُمة بالسيف كان أهون. وروي عنه أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب : بالعراق الداء العضال، فقال مالك :

أبو حنيفة ، وروى ذلك كلّه أهل الحديث.(82)

وعن وكيع بن الجرّاح أنّه قال : وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم). وقيل لابن المبارك : كان الناس يقولون إنّك تذهب إلى قول أبي حنيفة ، قال : ليس كلّ ما يقول الناس يصيبون فيه ، كنّا نأتيه زماناً، ونحن لا نعرفه ، فلما عرفناه تركناه(83).

وأورد ابن عبد البر في الانتقاء بعضاً من أقوال المادحين له والطاعنين عليه(84).

يقول الدكتور علي حسن عبد القادر : ويدعي خصوم أبي حنيفة أنّه لم يكن يعطي للحديث أهمية كبيرة ، وأنّه يجعل للرأي الطليق مكانه الأول بالنسبة للاستنتاج الفقهي ، وأنّه رد كثيراً من الأحاديث في سبيل الرأي.

حدّث أبو صالح الفراء قال : سمعت يوسف بن أسباط يقول : رد أبو حنيفة على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعمائة حديث أو أكثر.

قلت له : يا أبا محمد تعرفها ؟ قال : نعم. قلت : أخبرني بشيء منها ، قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : « للفرس سهمان وللرجل سهم » قال أبو حنيفة : أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. واشعر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه البدن. وقال أبو حنيفة : الاشعار مثله. وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : « البيّعان بالخيار مالم يتفرقا ». وقال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر ، وأقرع أصحابه. قال أبو حنيفة : القرعة قمار. وقالوا : إنّه كان في عصره أربعة من الصحابة ، ولكن لم يهتم للقائهم.

وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه في باب خاص الأحاديث التي خالفها أبو حنيفة وأبلغها 150 حديثاً... الخ(85) .

وقد استعرض الخطيب البغدادي أخبار أبي حنيفة ، وذكر أقوالا عن الفريقين من معدّلين ومضعّفين ، ومادحين وطاعنين ونسب لأبي حنيفة أشياء لا نحبّ التعرض لها.(86)

وقد طعن علماء الحنفية في الخطيب ونسبوه إلى التعصّب الأعمى ، وأجابوا عن الطعون التي أوردها الخطيب على أبي حنيفة(87).

وصفوة القول أنّ دراسة حياة أئمة المذاهب تلفت نظر الكاتب إلى دقة البحث وصعوبته ، لوجود الأقوال المختلفة التي تدل على اندفاع الأتباع لإعلاء تلك الشخصيات فوق منزلتهم الواقعية ، وسنوضح ذلك فيما بعد.

وأنّ دراسة حياة أبي حنيفة تتصف ـ بصورة خاصة ـ بصعوبة تقف أمام الباحث.

يقول الاُستاذ أبو زهرة : لقد تعصّب له ـ أي لأبي حنيفة ـ ناس حتى قاربوا به منازل النبيين المرسلين ، فزعموا أنّ التوراة بشّرت به ، وأنّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)ذكره باسمه ، وبيّن أنّه سراج اُمته ، ونحلوه من الصفات والمناقب ما عدوا به رتبته ، وتجاوزوا معه درجته ، وتعصّب ناس عليه فرموه بالزندقة ، والخروج عن الجادة وإفساد الدين ، وهجر السنة ، بل مناقضتها ثم الفتوى في الدين بغير حجة ولا سلطان مبين.

ويقول : إنّ  كتب المناقب كثيرة وكثرتها لا تهدي السبيل ، ولا تنير الطريق إذ أنّها طوائف من الأخبار يسودها المبالغة ، ولا يكاد يخلو خبر منها من الإغراق ، فتمييز صحيحها من سقيمها يحتاج إلى مقاييس النقد المستقيمة ، فأخبارها لا ترفض جملة ولا تؤخذ جملة ، إذ هي بلا شك فيها الحقّ والباطل، وأخذ الحقّ من بينها يحتاج إلى نظر فاحص(88).

ونحن هنا لا يمكن أخذ صورة واقعية عن شخصية أبي حنيفة ، فإنّ هذه الأقوال المتراكمة أمامنا لا نستطيع أن نميّز(89) بواسطتها تلك الشخصية ولا نبدي رأينا في الموضوع إلاّ بعد أن نطلّ من زاوية التاريخ.

نشأته ونبوغه

ولد أبو حنيفة سنة (80 هـ ) في خلافة عبد الملك بن مروان الاُموي ، وعاش إلى سنة (150 هـ ) وقيل سنة (151 هـ ) وقيل سنة (153 هـ ) فقد أدرك من العصر الاُموي اثنتين وخمسين سنة ، ومن العصر العباسي ثماني عشرة سنة.

وقد نشأ في الكوفة في عهد الحجّاج بن يوسف ، فرأى قسوة الحجاج واستبداده وسيرته السيئة ، وحكمه القاسي ، ومعاملته للناس بما لا يمكن تحمله ، ومات الحجاج وعمره خمسة عشر عاماً ، وشاهد ولاة الاُمويين يسيرون بالاُمة ، وقد جاروا في الحكم ، وخالفوا نظم الإسلام ، اتباعاً لملوكهم ، وطبقاً لرغباتهم ، من غير رادع من دين ، ولا مراعاة لحرمة ، ولم تمنعهم حواجز عن إيقاع الأذى برجال المسلمين وأعيانهم ، ومع هذا يرى العصبية العنصرية فيهم تتجلى بدون خفاء وتكتم ، ومن المعلوم أنّ ذلك يثير في نفسه نزعة البغض والكراهة لتلك السلطة ، فلا غرابة حين نراه يساهم في حركة الانقلاب، وينضمّ لجانب العباسيين في دعوتهم. ويناصر أهل البيت(عليهم السلام).

وكان أبو حنيفة منصرفاً للعمل فهو يتعاطى بيع الخز ، وله محل لصنعه وصنّاع تحت يده ، وبهذا كان يعيش برفاهية ، ويصل اخوانه وأصحابه ، ولا نعرف بالضبط مدة بقائه تحت رعاية أبيه، فالتأريخ لم يتعرض لذلك.

ولقد كان عصر أبي حنيفة الذي أظلّه ، والبيئة الفكرية التي عاش بها ، وترعرعت مواهبه تحت سلطانها أكبر عامل على نبوغه وتوجيهه ، إذ كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة التي نشأت بها حلقات العلم ، وكانت الأهواء المتضادة والآراء المتضاربة في السياسة والعلم واُصول العقائد تدعو يومئذ إلى الدهشة والإمعان.

فقد صارت الكوفة ملتقى الأفكار وصعيداً لتلاقحها، فكان مستوى ثقافات الشعوب التي أظلها الإسلام يؤثر في مناهج العلم وطرق الثقافة، ويقبل رجال الإسلام على تلك المناهج والطرق للتعرف على قواعدها وخصائصها لتكون وعاءً للفكر الإسلامي ليعاد تغذية المسلمين وإنشاء أبنائهم بعقيدة الإسلام وأحكامه، ولعمق العقيدة تتجرّد الأوعية التي قصد أن يكون لونها كذلك مجرداً عن كل لون آخر، ويصبح ما في الوعاء من فكر إسلامي عنواناً متميزاً مستقلاً لا يدانيه و لا يشابهه ما سبق.

ويقال: إنّه نبغ في علم الكلام والجدل وناظر فيه ، واتّسعت دائرة تفكيره. وإذا رجعنا إلى حديثه عن ذلك فيكون ملازمته لحلقة المتكلمين أكثر من حلقة الفقه التي انتقل إليها بعد هجر علم الكلام ، فاختصّ بالفقه وحده ، فإنّ ذهابه للبصرة ، ومناظرته الفرق هناك أكثر من عشرين مرة ـ كما يقولون ـ وفي كلّ مرّة يمكث سنة أو أكثر أو أقل ، يدل على أنّه قضى الشطر الأكبر من عمره(90) في ذلك ، وإن كانت تلك الرواية لا تخلو من مبالغة ولم تسلم من الخدشة في السند ، فإنّها من وضع يد الغلو ووحي العاطفة.

ومهما يكن فإنّه نشأ في أوّل أمره رجلا يتعاطى التجارة وصنعة الخز وبيعه في الأسواق، وقضى شطراً من حياته في ذلك حتى أرشده الشعبي لطلب العلم، فاتّجه للكلام ثم اتّصل بحلقة حماد بن أبي سليمان المتوفى سنة (120 هـ ) وكان هو المبرز من بعده ، وقد ساعدته الظروف على هدم الحواجز التي تقف أمامه ، كما أنّ العصر الذي هو فيه هيّأ له أسباب الرقّي، ومهّد له طرق التقدّم، فقد حدثت تطورات وسنحت فرص استغلّها أبو حنيفة ، لما كان يتّصف به من ذكاء وفطنة وطموح في نفسه.

الموالي وأوضاع عصره

ومن حسن طالعه أن يقع في عصره الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي ، أو بين العرب والموالي وتشتدّ الخصومة ، ويكثر بينهم التهاجي ، وهو يترأس حلقة اُستاذه حماد وهي إحدى حلقات العلم بالكوفة ، وبالطبع أنّ الملتفين حوله والمجتمعين إليه أكثرهم من الموالي وأكثرهم يحقد على العرب الذين نظروا اليهم نظر السيد إلى المسود والشريف إلى الوضيع ، حتى بعثوا فيهم روح النعرة وتلك نزعة غذتها بنو أمية وعاملوا الموالي معاملة سيئة، فلم يعدلوا معهم في الحكم ، وقد كانت تلك النزعة تبعث في نفوس المفكّرين من الموالي كرهاً لما آلت إليه أحوالهم، وينعكس حقداً في نفوس الأغلبية ممن اعتنقوا الإسلام لسبب أو لآخر فذاقوا المهانة. وواقع حضارتهم  وأمجاد دولهم مازالت ماثلة لم يمرّ عليها دهرٌ لتمحى أو تزول من الأذهان. ولقد أوجد الاُمويون بسياسة التعصّب واحدة من آفات سياستهم التي أودت بدولتهم، وأقدموا على مخالفة مبادئ المساواة والعدل في الإسلام.

وتطوّرت الحركة الفكرية واتّجه الناس في آخر الدولة الاُموية إلى اُمور لم يكن في وسعهم الاتجاه إليها في إبان عظمة الدولة، وكانت في الكوفة حلقات العلم يجلس طلابه إلى شيوخ عرفوا بذلك ، فكانت حلقات للمتكلمين بجانب حلقات الفقه وحلقات الشعر والأدب يتكلمون فيها بالقضاء والقدر ، والكفر والإيمان ، ويستعرضون أعمال الصحابة في الحرب وغيرها ، وقد اختار أبو حنيفة حلقة المتكلمين(91).

كما زخرت الكوفة برجال العلم ، واتّسع نطاق الحركة الفكرية واتّجه الناس للبحث، ووقع الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث ، وأخذت السلطة في تشجيع أهل الرأي واندفع الموالي إلى التزاحم على طلب الشهرة

والنبوغ في المجتمع ، عندما أصبحوا ولهم قوّة على إيجاد كتلة متماسكة الأجزاء ، فكثر عددهم في الكوفة وقوي جمعهم ، وأصبح منهم رجال تبوأوا مناصب الدولة ، فمنهم قواد جيش وأمراء بلدان ، وعلماء يشار إليهم بالأصابع، ومنهم الاُدباء ورواة حديث ، وقد اجتازوا مراحل العنف والشدةّ، وانتقلوا من عهد الاستبداد والقسوة وعدم المساواة في الحكم بينهم وبين العرب ، وقد كان الاُمويون يتعصّبون لأنصارهم وعشيرتهم ويحتقرون الموالي مهما كانت ميزاتهم وكفاءتهم ، وتابعهم بعض المتعصّبين من العرب ونهجوا هذا المنهج ، خلافاًلما شرّعه اللّه وسار عليه الرسول الأعظم فكانوا

يضعون من قيمة الموالي ويحتقرونهم.

يقول الأصفهاني : كانت العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية ، إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع.

وتزوج رجل من الموالي بنتاً من أعراب بني سليم ، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة ، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل ، فشكا إليه فارسل الوالي إلى المولى ففرق بينه وبين زوجته ، وضربه مائتي سوط ، وحلق رأسه ، وحاجبه ولحيته ، فقال محمد بن بشير :

قضيت بسنة وحكمت عدلاً *** ولم ترث الحكومة من بعيد(92)

وقد نفذ الاُمويون هذه السياسة بشدّة، وغذّوا هذه النزعة بأعمالهم التي عاملوا بها الموالي ، وقد شرّعها لهم معاوية بن أبي سفيان ، لأنّه عرف عدل الإمام علي بن أبي طالب ومساواته في الرعية ، الأمر الذي أدّى إلى تقاعد من تحكمت به هذه النزعة الشريرة عن نصرته ، فأراد معاوية استمالتهم وتحويلهم إليه.

روى المدائني أنّ طائفة من أصحاب علي (عليه السلام) مشوا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين، اعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس ـ وإنّما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال ـ فقال لهم: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور ؟!(93).

وحوادث التاريخ مملوءة بالشواهد على ذلك من الاُمور التي بعثت المفكرين من الموالي إلى الحقد على العرب.

اتّجاهه العلمي

وبين هذه الاُمور وفي ذلك العصر كانت نشأة أبي حنيفة ، وهو من أولئك القوم الذين نالهم الأذى في تلك المدة ، وكان يشعر بما يشعر به أبناء جنسه ، ويعظم عليه إهانتهم وتعذيبهم ، وقد شاهد في الكوفة وغيرها تلك الأوضاع الشاذة ، والسيرة المخالفة للاسلام ، وبالطبع أنّ نفسه كانت تتأثر.

وبعد أن تحوّل الحكم من الاُمويين إلى العباسيين ، والموالي هم الذين شاطروا في هذا الانقلاب ، بل كان العباسيون يعدّونهم من خلص أنصارهم ، ورجال دعوتهم فاتّجهوا إليهم ونصروهم ، فكان النشاط الذي أحرزه الموالي يسترعي الأنظار ، ويبعث على العجب ، خصوصاً حينما نراهم يلتفّون حول الإمام أبي حنيفة ويعتزّون بشخصيته بعدما أصبح يترأس حلقة علمية خلفها له اُستاذه حماد ، وهو من الموالي.

وأبو حنيفة هو ذلك الرجل الذي عرف بقوة النفس ، وعلوّ الهمة، وكان ذا فطنة ولباقة ، وله سيرة خاصة في معالجة مشاكل الحياة ، فتراه يقتحم مواقع الخطر ويزج نفسه فيها ، فتحدّث الناس عنه واشتهر اسمه، وكان مع ذلك على جانب عظيم من المداراة لخصومه ، فقد كانوا يسمعونه السبّ ويقرعون سمعه بالنقد المرّ ، وكان حسن المعاشرة لأصحابه يصلهم برفده ، ويساعدهم بمعروفه ، وله ثروة تساعده على ذلك وتمهّد له الطريق. ولما هجاه مساور بقوله :

كنّا من الدين قبل اليوم في سعة *** حتى بلينا بأصحاب المقاييس

قاموا من السوق إذا قامت مكاسبهم *** فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبؤس

فلقيه أبو حنيفة فقال : هجوتنا يا مساور ، نحن نرضيك فوصله بدراهم، فقال مساور :

إذا ما الناس يوماً قايسونا *** بآبدة من الفتيا طريفه

أتيناهم بمقياس صحيح *** تلاد من طراز أبي حنيفه

إذا سمع الفقيه بها وعاها *** وأثبتها بحبر من صحيفه

فأجابه أصحاب الحديث.

إذا ذو الرأي خاصم عن قياس *** وجاء ببدعة هنة سخيفه

أتيناهم بقول اللّه فيها *** وآثار مبرزة شريفه

إلى آخر الأبيات التي ذكرها ابن قتيبة(94)، وابن عبد ربه(95)، ولا يسع المجال لذكر ما نتج من وراء ذلك الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي من هجاء ومناوشات ، وكانت السلطة تشجّع تلك الحركة ، وتضاعف أسباب الخلاف من وراء الستار لغاية في نفوس أصحابها.

وعلى أيّ حال فقد اتجه أبو حنيفة إلى الفقه بعد أن قضى مدة من حياته في التجارة ثم قرأ الكلام ، ودرس على مشايخ عصره ، وحضر على عطاء بن رباح في مكة وهو من الموالي، وعلى نافع مولى ابن عمر في المدينة ، وأخذ عن عاصم بن أبي النجود وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن هرمز مولى ربيعة بن الحارث ، وزياد بن علاقة ، وهشام بن عروة وآخرين ، ولكنّه لزم واحداً منهم ملازمة تامّة وتخرج عليه وهو حماد بن أبي سليمان الأشعري، وهو الذي اختص به أبوحنيفة وحضر درسه وتخرج عليه إلى أن مات سنة (120 هـ ) وعمر أبي حنيفة أربعون سنة، وقد أكثر أبو حنيفة الرواية عنه.

ويحدّث أبو حنيفة عن صلته بشيخه حماد بقوله : قدمت البصرة فظننت أني لا اُسأل عن شيء إلاّ أجبت عنه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب ، فجعلت على نفسي أن لا اُفارق حماداً حتى يموت ، فصحبته ثماني عشرة سنة.(96)

ولم تكن ملازمته لحماد بحيث لم ينقطع عنه ولم يأخذ عن غيره، لأنّه كان كثير الرحلة إلى بيت اللّه الحرام حاجّاً ، والتقى هناك بكثير من التابعين وسمع منهم واجتمع بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وروى عنهم، كزيد بن علي والإمام محمد الباقر(عليه السلام) وابنه الإمام الصادق(عليه السلام)وعبد اللّه بن حسن بن حسن.

فقهه وتلامذته

لم يعرف فقه أبي حنيفة إلاّ من طريق أصحابه الذين اختصّوا به ، فهو لم يكتب فقهه بنفسه ولم يدوّن شيئاً من آرائه ، ولكن التدوين إنّما أخذ من قبل أصحابه ; وكان لأبي حنيفة تلاميذ ، منهم من كان يرحل إليه ويستمع منه، ومنهم من لازمه ملازمة تامّة ، وفيهم يقول : هؤلاء ستة وثلاثون رجلا منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء ، وستة يصلحون للفتوى ، واثنان أبو يوسف وزفر يصلحون لتأديب القضاة وأرباب الفتوى ! ولكن الذين خدموا مذهب أبي حنيفة ونشروه هم أبو يوسف ، وزفر ، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد اللؤلؤي.

أبو يوسف

1 ـ أما أبو يوسف وهو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري نسباً والكوفي منشأً، فهو عربيّ وليس من الموالي ولد سنة (113 هـ ) وقد نشأ فقيراً واتصل بأبي حنيفة بعد أن جلس إلى ابن أبي ليلى ، ثم انقطع لأبي حنيفة واتّصل به ، وقد قام أبو حنيفة بنفقته ونفقة عياله عشر سنين ، وبعد وفاة أبي حنيفة وزفر بن الهذيل استقل أبو يوسف برئاسة أصحاب أبي حنيفة، وساعدته الظروف السياسية ، واقبلت الدنيا عليه ، ووقع موقع القبول عند خلفاء بني العباس ، وولي القضاء لثلاثة منهم للمهدي والهادي والرشيد ، وقد نال عند الرشيد حظاً مكيناً وقرّبه ، وهو الذي نشر مذهب أبي حنيفة في الأقطار على أيدي القضاة الذين كان يعينهم أبو يوسف من أصحابه ، فكان نفوذ المذهب يستمدّ من نفوذ سلطته ، ولأبي يوسف كتب كثيرة دون فيها آراءه وآراء شيخه ، ذكرها ابن النديم منها :

كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة ، كتاب الصيام ، كتاب الفرائض ، كتاب البيوع ، كتاب الخراج ، كتاب الوكالة ، كتاب الوصايا ، كتاب اختلاف الأنصار ، كتاب الرد على مالك، وغيرها ; وله إملاء رواه بشر بن الوليد القاضي يحتوي على ستة وثلاثين كتاباً ، وأبو يوسف هو أول فقهاء أهل الرأي الذين دعموا آراءهم بالحديث ، وبذلك جمع بين طريقة أهل الرأي وأهل الحديث(97).

محمد بن الحسن الشيباني

2 ـ محمد بن الحسن ، مولى بني شيبان ، ولد سنة (132 هـ ) وتوفي سنة (189 هـ )، حضر على أبي حنيفة ، ولم يتمّ دراسته عليه ، لأنّ أبا حنيفة مات وعمر محمد نحو الثامنة عشرة، ولكنّه أتمّ دراسته على أبي يوسف ، وأخذ عن الثوري والأوزاعي ورحل إلى مالك ، وتلقّى عنه فقه الحديث والرواية ، ومكث عنده ثلاث سنين ، وهو الذي أدخل الحديث في فقه أهل الرأي ، والّف كتباً في ذلك أصبحت هي المرجع الأول لفقه أبي حنيفة، وكان يخالفه في أكثر مسائله.(98)

الحسن بن زياد

3 ـ الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي المتوفى سنة (204 هـ )، وهو من فقهاء المذهب ورواة آراء أبي حنيفة ، وقد طعن المحدثون عليه ، ورفضوا روايته ، قال ابن معين : إنّه كذاب غير ثقة ، وقال النضر بن شميل لرجل كتب كُتب الحسن بن زياد : لقد جلبت إلى بلدك شراً. وقال أبو ثور : ما رأيت أكذب من اللؤلؤي ، وكان ابن أبي شيبة يقول : كان اُسامة يسمّيه الخبيث ووثّقه ابن قاسم(99)، وأخرج له أبو عوانة في مستخرجه والحاكم في مستدركه(100).

زفر بن الهذيل

4 ـ زفر بن الهذيل ، وهو أقدم صحبة لأبي حنيفة من أبي يوسف ومحمد توفي سنة (158 هـ ) ، وكان أبوه عربياً واُمه فارسية ، أخذ عن أبي حنيفة فقه الرأي ، حتى غلب عليه على ما سواه ، وكان أشدّ أصحاب أبي حنيفة قياساً ، وهو الذي خلف أبا حنيفة في حلقته، ثم من بعده أبو يوسف ، ولم تعرف له رواية لشيخه ويعود ذلك إلى قصر حياته من بعده، إذ لم يتسع الزمن للتدوين، ولكن نشره لمذهب أبي حنيفة كان بلسانه وتولّى القضاء في زمن أبي حنيفة في البصرة، وهجاه أحمد بن المعدل المالكي بقوله :

إن كنت كاذبة بما حدثتني  *** فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر

الماثلين إلى القياس تعمّداً *** والراغبين عن التمسك بالخبر(101)

وقد ترك المحدثون الرواية عنه ، قال أبو موسى محمد بن المثنى : ما سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدث عن زفر شيئاً. وعن معاذ بن معاذ قال : كنت عند سوار القاضي فجاء الغلام فقال زفر بالباب فقال سوار : زفر الرأي لا تأذن له فإنّه مبتدع ، وعدّه العقيلي في الضعفاء ، وعن بشر بن السري قال : ترحمت يوماً على زفر وأنا مع سفيان الثوري فأعرض بوجهه عني. وقال الأزدي : زفر غير مرضي المذهب والرأي ، وقال أحمد بن أبي العوام قاضي مصر في مناقب  أبي حنيفة : قال لي أبو جعفر الطحاوي: سمعت أبا حازم سمعت الضبي يقول : قدم زفر بن الهذيل البصرة فكان يأتي حلقة عثمان البتي فيناظرهم ويتبع اُصولهم ، فإذا رأى شيئاً خرجوا فيه عن الأصل، تكلم فيه مع عثمان حتى يتبين له خروجه عن الأصل ، ثم يقول في هذا جواب أحسن من هذا فإذا استحسنوه قال : هذا قول أبي حنيفة ، فلم يلبث أن تحولت الحلقة إليه وبقي عثمان البتي وحده.(102)

هؤلاء تلامذة أبي حنيفة الذين نشروا فقهه ونقلوا آراءه ، وأول من دوّن منهم ، هو القاضي أبو يوسف ، ومن بعده محمد بن الحسن مولى بني شيبان ، وكتبه تعدّ المرجع الأول لفقه أبي حنيفة ، وقد أخذه عن أبي يوسف ، لأنّه أدرك أبا حنيفة وعمره لم يسمح له بنقل فقهه ، ولكنه روى ذلك عن أبي يوسف ، فتراه يذكر في كتابه « الجامع الصغير » في أول كلّ فصل روايته عنه، ولم يذكره في « الجامع الكبير » ، وقد ذكر ابن نجيم في البحر في باب التشهد أنّ كلّ تأليف لمحمد بن الحسن موصوف بالصغير فهو باتفاق الشيخين أبي يوسف ومحمد ، بخلاف الكبير فإنّه لم يعرض على أبي يوسف.(103)

ولقد كان أبو يوسف ومحمد وغيرهم من تلامذة أبي حنيفة مستقلين في تفكيرهم كلّ الاستقلال ، غير مقلدين لشيخهم ، بأيّ نواحي من نواحي التفكير ، وكونهم درسوا آراءه أو تلقوه عليه وتثقفوا في أول دراستهم عليه لا يمنع استقلال تفكيرهم ، وحرية اجتهادهم ، وإلاّ كان كلّ من يتلقن على شخص لابد أن يكون مقلداً له ، وتنتهي القضيّة لا محالة إلى أن تنزل درجة أبي حنيفة عن الاجتهاد ، ويكون مقلداً لشيخه حماد بن أبي سليمان، لأنّه درس عنده ، وكان كثير التخريج عليه ، وخالفه أحياناً ووافقه أحياناً.

وكذلك كان أصحاب أبي حنيفة، فقد درسوا فقهه، وتلقّوا عليه فوافقوه في بعضها وخالفوه في كثير من الآراء والأقوال ، وما كانت الموافقة عن تقليد بل عن اقتناع واستدلال وتصديق للدليل. وليس ذلك من شأن المقلّد فإنّ لهم آراءهم الخاصة ولكنهم الطريق إلى نقل أقوال أبي حنيفة.

وتجد كتب الحنفية تورد أقوال الأربعة ، وربّما يكون لمسألة واحدة أربعة أقوال لأبي حنيفة قول ، ولأبي يوسف قول ، ولمحمد قول ، ولزفر قول ، حسب ما يظهر لهم من الآثار والمعاني(104).

يقول العلامة الخضري : وقد حاول بعض الحنفية أن يجعل أقوالهم المختلفة أقوالا للإمام رجع عنها، ولكن هذه غفلة شديدة عن تاريخ هؤلاء الأئمة ، بل عمّا ذكر في كتبهم، فإنّ أبا يوسف يحكي في « كتاب الخراج » رأي أبي حنيفة ، ثم يذكر رأيه مصرّحاً بأنه يخالفه ، ويبين سبب الخلاف وكذلك يفعل في كتاب أبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، فإنّه أحياناً يقول برأي ابن أبي ليلى بعد ذكر الرأيين ، ومحمد رحمه اللّه يحكي في كتبه أقوال الإمام ، وأقوال أبي يوسف وأقواله مصرحاً بالخلاف على أنّه لو كان كما قالوا لم يكن ما رجع عنه من الآراء مذهباً.

ومن الثابت أنّ أبا يوسف ومحمد رجعا عن آراء رآها الإمام لما اطلعا على ما عند أهل الحجاز من الحديث ، فالمحقق تاريخياً أنّ أئمة الحنفية الذين ذكرناهم بعد أبي حنيفة رحمه الله ليسوا مقلدين له ، لأنّ التقليد لم يكن نشأ في المسلمين في ذلك التاريخ ، بل كان المفتون مستقلين في الفتوى ، بناء على ما يظهر من الأدلة ، سواء أخالفوا معلميهم أم وافقوهم ، ولم تكن نسبة أبي يوسف ومحمد إلى أبي حنيفة إلا كنسبة الشافعي إلى مالك(105).

وسيأتي إنشاء اللّه في مباحث الفقه ذكر أقوالهم التي خالفوا بها أبا حنيفة وآرائهم التي انفردوا بها.

علماء الحنفية ونشر المذهب

وقد نقل كتبهم تلاميذهم المبرزون منهم :

1 ـ إبراهيم بن رستم المروزي المتوفى سنة (211 هـ ) ، تفقه على محمد ابن الحسن وسمع مالك بن أنس ، وقدم بغداد ; له كتاب النوادر عن محمد اُستاذه ، وهو ينسب إلى مرو بفتح الميم وسكون الراء المهملة في آخرها واو، بلدة يقال لها مرو ، وإلحاق الزاء المعجمة بعد الواو في النسبة ، للفرق بينه وبين المروي ، وهي ثياب مشهورة بالعراق منسوبة إلى قرية بالكوفة(106).

2 ـ أحمد بن حفص الكبير البخاري ، أخذ الفقه عن محمد بن الحسن ، وروى عنه كتبه، وكتب المبسوط بيده ، وله اختيارات يخالف بها جمهور أصحابه(107).

3 ـ بشر بن غياث المويسي المتوفى سنة (218 هـ ) ابن أبي كريمة مولى زيد بن الخطاب أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ نبذاً منه ، ثم لازم أبا يوسف، وأخذ الفقه عنه حتى صار من أخصّ أصحابه ، وله تصانيف وروايات كثيرة عن أبي يوسف، وله في المذهب أقوال غريبة، وكان أبو يوسف يذمّه ويعرض عنه، وكان غير مرضي عند أهل الحديث، قال الذهبي: بشر ابن غياث لا ينبغي أن يروى عنه(108).

4 ـ بشر بن الوليد بن خالد الكندي القاضي المتوفى سنة (238 هـ ) أحد أصحاب أبي يوسف ، روى عنه كتبه وأماليه ، ولي قضاء بغداد في زمان المعتصم ، وكان متحاملا على محمد بن الحسن الشيباني ، وكان الحسن بن مالك ينهاه ، وثّقه الدارقطني ، وقال صالح بن محمد هو صدوق ولكنه لا يعقل.(109)

5 ـ محمد بن شجاع الثلجي المتوفى سنة (267 هـ )، تفقه على الحسن بن زياد والحسن بن أبي مالك ، له كتاب تصحيح الآثار ، وكتاب النوادر ، وكتاب المضاربة ، وكتاب الرد على المشبهة. وهو ضعيف الرواية عند أهل الحديث(110).

6 ـ أبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني المتوفى بعد المائتين ، أخذ العلم عن محمد، وكتب مسائل الاُصول والأمالي ، عرض عليه المأمون القضاء فلم يقبل ، وله كتاب السير الصغير ، والنوادر ، وغير ذلك.(111)

7 ـ محمد بن سماعة التميمي ، حدّث عن الليث ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وأخذ الفقه عنهما ، وعن الحسن بن زياد ، وكتب النوادر عن أبي يوسف ، ومحمد ولد سنة (130 هـ ) ومات سنة (233 هـ )، وولي القضاء بعد موت يوسف ابن الإمام أبي يوسف سنة (192 هـ )، له كتاب أدب القاضي ، وكتاب المحاضرات ، والسجلات ، والنوادر.(112)

8 ـ هلال بن يحيى بن مسلم ، تفقه على أبي يوسف وزفر ، وله مصنّف في الشروط وأحكام الوقف ، توفي سنة (245 هـ ).(113)

9 ـ أحمد بن عمر بن مهير الخصاف المتوفى سنة (261 هـ ) أخذ عن أبيه عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، كان عارفاً بالمذهب ، صنف للمهتدي كتاب الخراج ، وله كتاب الوصايا ، وكتاب الشروط الكبير والصغير ، وكتاب الرضاع ، وكتاب أدب القاضي ، وكتاب الحيل الشرعية(114).

10 ـ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفى سنة (321 هـ ).

قال المولى عبد العزيز الدهلوي : إنّه كان مجتهداً ولم يكن مقلداً للمذهب تقليداً محضاً ، فإنّه اختار فيه أشياء تخالف مذهب أبي حنيفة. لما لاح له من الأدلة القوية ، وقال محمد بن عبد الحي : هو في طبقة أبي يوسف ومحمد ، لا ينحطّ عن درجتهما ، وأنّ له درجة عالية ورتبة شامخة قد خالف بها صاحب المذهب كثيراً. وأنّه من المجتهدين المنتسبين إلى إمام معين من المجتهدين ، لكن لا يقلدونه لا في الفروع ولا في الاُصول ، لكونهم متصفين بالاجتهاد وإنّما انتسبوا إليه لسلوكهم طريقه في الاجتهاد(115).

وبهذه الصورة انتشر مذهب أبي حنيفة. فهو في عصره لم يدون آراءه وأقواله وإنّما دونه أصحابه ، ولم يكتفوا بأخذهم عنه ، فأبو يوسف لزم أهل الحديث وأخذ عنهم أحاديث كثيرة ، لعلّ أبا حنيفة لم يطلع على كثير منها.

ومحمد لم يلازم أبا حنيفة إلاّ مدة قليلة في صدر حياته ، ثم اتصل بمالك وروى عنه، وروايته له تعدّ من أصحّ الروايات اسناداً. إذاً فعدّهم من المجتهدين في المذهب كما ذهب إليه ابن عابدين خطأ بيّن ، يقول ابن عابدين :

إنّ الإمام لمّا أمر أصحابه بأن يأخذوا من أقواله بما يتّجه لهم من الدليل عليه صار ما قالوه قولا له ، لابتنائه على قواعده التي أسّسها لهم ; ونظير هذا ما نقله العلامة البيري في أول شرحه على الأشباه على شرح الهداية لابن الشحنة الكبير وهذا نصه : « إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ـ أي مذهب أبي حنيفة ـ فقد صحّ عن أبي حنيفة أنه قال : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي... فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صحّت نسبته إلى المذهب لكونه صادراً بإذن صاحب المذهب. لاشك أنّه لو علم بضعف دليله لرجع عنه واتّبع الدليل الأقوى »(116).

وهذا قول لا محلّ له ، وإلاّ لو كان كذلك فإنّ كلّ فتوى تصدر عن صحة الحديث من أيّ عالم كان ومن أيّ مذهب هو، يلزم نسبتها إلى مذهب أبي حنيفة. ولعلّهم يرون ذلك فجعلوه أعلم الاُمة على الاطلاق ، بل أفضل التابعين وأعلمهم من هذا الباب، والغرض أنّ الوصول إلى معرفة قول أبي حنيفة ومذهبه الخاص متعسّر جداً. و الذي بين أيدينا إنّما هو مجموع الأقوال منه ومن أصحابه وتلامذتهم الذين أخذوا عنهم ، فلا يمكن استخلاص أقواله منفردة وتكون وحدة فكرية خالصة له من كلّ الوجوه من غير اقتران أقوال أصحابه بأقواله ; فإنّ محمد بن الحسن جمع أقوال فقهاء العراق ولم يجمع أقوال أبي حنيفة وحده ، ولم يفصل آراءه عن آراء غيره من أصحابه ومعاصريه ، بل ألقى بالفروع والحلول ما بين متّفق عليه ومختلف فيه ، فجاءت الأجيال وتوارثت تلك المجموعة الفقهية التي تجمع أقوال فقهاء العراق في الجملة ، وأقوال أبي حنيفة وأصحابه وتلاميذه خاصة. وقد نهج منها ذلك المنهج غير محمد ممن روى فقه أبي حنيفة.

وهكذا نجد الرواية لآراء أبي حنيفة تذكر مخلوطة بالرواية عن غيره وممزوجة بها . وعلى ذلك النهج تدارس من العلماء تلك الآراء وسمّوها المذهب الحنفي ، واختاروا للنسبة اسماً  كبيراً اُولئك الأئمة وشيخهم ـ وهو أبو حنيفة ـ ومن التهجم على الحقائق سلبهم شخصيتهم لتفنى في شخصية الإمام(117).

والخلاصة: انّ المذهب الحنفي اتّسع بجهود أصحابه ونشرهم له إذ وسّعوا دائرته بالبحث والتأليف ، وأنّ علم أبي حنيفة لا يكاد يعرف لعدم انفراده عن أصحابه ، فالموازنة بينه وبين غيره لا تحصل إلاّ إذا اتجهنا إلى الموازنة بين علماء المذاهب وبين مجموع مؤسّسي المذهب الحنفي ، الذين كونوا مجموعة فقهية مزيجة بأقوال فقهاء العراق وأقوالهم ، وهذا أمر لا يمكن ، ومحاولة الحنفية بإرجاع الجميع إليه أمر غير وجيه ، وسيتّضح الأمر عند البحث عن آراء أبي حنيفة وأقواله ، وما ذهب إليه أصحابه

في خلافه.

مناظرته للإمام الصادق (عليه السلام)

إنّ عصر أبي حنيفة كان عصر مناظرات وجدل إلى أقصى حدّ ، فمناظرات بين أهل الأهواء وبين الفرق المختلفة ، وبين الفقهاء بعضهم بعضاً. وكان أبو حنيفة قويّ المناظرة شديد الجدل ، يتسلّح بكل الوسائل التي تعينه على الوصول إلى الفوز بالنتيجة في غالب الأحيان ، كما وصفه الإمام مالك بقوله : رأيت رجلا لو كلّمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وفي رواية أنّه قال : تاللّه لو قال : إنّ هذه الأسطوانة من ذهب لأقام الدليل القياسي على صحة قوله(118). وبالطبع إنّ مثله ينال في تلك المعارك نصيبه من الشهرة ، على أنّ المنصور نظر إليه بعين التقدير والعناية تكريماً له ولأبناء قومه الذين طلع نجمهم في ذلك العصر.

ومما يدلّنا على قوة مناظرته أنّ المنصور انتدبه إلى مهمّة عجزت قوته عن دفعها ، وخانته حيلته في التخلص منها ، وهي مسألة انتشار ذكر جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، ومن الصعب على المنصور أن تصبح في الكوفة ومكة والمدينة وقم حلقات علمية هي أشبه شيء بفروع لمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، وكانت تقرع سمعه أصوات شيوخ الكوفة ، بكلمة يضطرب لها لبّه، ويفقد عندها اتّزانه ، وهي قولهم في مناظرتهم : حدّثني جعفر بن محمد الصادق ، لذلك اضطر إلى جلب الإمام من المدينة إلى الكوفة ليفتك به ، وأراد من أبي حنيفة الذي عُرف بقوّة المناظرة وسرعة الجواب أن يهيّئ من مهمات المسائل ، فيسأل الإمام بها في مجلس عام ، عساه أن يظفر بشيء ينال به غرض الحطّ من كرامة الإمام الصادق (عليه السلام) ، ولم يغب عن المنصور ما للإمام الصادق (عليه السلام)من المكانة العلميّة.

قال الحسن بن زياد اللؤلؤي: سمعت أبا حنيفة ـ وقد سئل من أفقه من رأيت ـ ؟ قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق ، لما أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة.

ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه ، وجعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق مالم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلمت عليه، وأومأ إليّ فجلست ، ثم التفت إليه فقال :

يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة ، فقال : نعم. ثم أتبعها قد أتانا كأنّه كره ما يقول فيه قوم : إذا رأى الرجل عرفه.

قال : ثم التفت إليّ فقال : يا أبا حنيفة الق على أبي عبد اللّه مسائلك ، فجعلت القي فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً ، حتى أتيت على الأربعين مسألة ما أخلّ منها بمسألة.

ثم قال أبو حنيفة : ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(119) ؟

مناظرته في القياس

وكان (عليه السلام) ينهى أبا حنيفة عن القياس ويشدّد الانكار عليه ويقول : بلغني أنّك تقيس الدين برأيك ، لا تفعل فإنّ أول من قاس ابليس(120).

ويحدّثنا أبو نعيم : أنّ أبا حنيفة وعبد اللّه بن أبي شبرمة وابن أبي ليلى دخلوا على جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا الذي معك ؟ قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في الدين. قال : لعلّه يقيس أمر الدين برأيه ؟ قال : نعم ! فقال جعفر لأبي حنيفة : ما اسمك ؟ قال : نعمان : قال : ما أراك تحسن شيئاً ، ثم جعل يوجّه إليه أسئلة فكان جواب أبي حنيفة عدم الجواب عنها فأجابه الإمام عنها.

ثم قال : يا نعمان حدثني أبي عن جدّي، أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «أول من قاس أمر الدين برأيه ابليس» قال اللّه تعالى له : (اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه يوم القيامة بابليس لأنّه اتبعه بالقياس» .

قال ابن شبرمة : ثم قال جعفر أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا ؟ قال أبو حنيفة : قتل النفس. قال الصادق : فإنّ اللّه عزّ وجلّ قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة. ثم قال : أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم ؟ قال أبو حنيفة : الصلاة ، قال الصادق (عليه السلام) : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة. فكيف ويحك يقوم لك قياسك ! اتّق اللّه ولا تقس الدين برأيك(121).

وقد احتفظ لنا التاريخ بكثير من تلك المواقف التي كان فيها لأبي حنيفة موقف تسليم ، لأنّه أمام أمر واقع لا مجال فيه للجدل والمناقشة ، وهو يعرف الإمام الصادق (عليه السلام)وخطته في مناظراته التي لا يريد بها إلاّ توجيه المسلمين توجيهاً صحيحاً ، وكان بيته يختلط فيه اشتات الناس على اختلاف آرائهم ومبادئهم ونحلهم ، وكان ميدان المعترك الفكري واسعاً في جميع الأنحاء ، فكان (عليه السلام) في ذلك العصر مرجعاً لكل مشكلة ومهمة ، يقصده طلاب الحقيقة من الأنحاء القاصية ويختلف إليه أهل الجدل والنظر فيكون جوابه هو القول الفصل والحكم العدل.

وكان(عليه السلام) إذا ورد الكوفة اختلف إليه علماؤها وأحاط به فقهاؤها يسألون عمّا يهمّهم ويستقون من فيض علمه، كما كان من خطته (عليه السلام) أن يسأل بقصد التوجيه وسبر غور من يتحرى المناظرة ويتطرق الى مذاهب الكلام ومناهي القياس، فتراه(عليه السلام) يسأل أبا حنيفة: ما على محرم كسر رباعية ظبي؟ قال أبو حنيفة: ما أعلم فيه فقال(عليه السلام): أنت تتداهى ولا تعلم أنّ الظبي لا يكون له رباعية وهو ثني أبداً(122).

رواياته عن الإمام الصادق وميله لأهل البيت (عليهم السلام)

وكان أبو حنيفة ممن يختلف إلى الإمام الصادق (عليه السلام) ويسأله عن كثير من المسائل مع أدب واحترام ولا يخاطبه إلاّ بقوله : جعلت فداك يابن رسول اللّه.

وقد روى أبو حنيفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) وحدّث عنه واتصل به في المدينة مدة من الزمن ، ورواياته عنه اثبتها رواة مسانيده وورد منها في كتاب الآثار لأبي يوسف(123).

وعلى أيّ حال فإنّ لأبي حنيفة صلة مع أهل البيت(عليهم السلام)، كان ينتصر لهم ويؤازرهم في جميع مواقفهم.

لقد ناصر زيد بن علي، وساهم في الدعوة الى الخروج معه، وكان يقول: ضاهى خروج زيد خروج رسول الله يوم بدر. فقيل له: لم تخلّفت عنه؟ قال: حبسني عنه ودائع الناس، عرضتها الى ابن أبي ليلى فلم يقبل(124) .

كما أنّه آزر محمد بن عبد اللّه بن الحسن وأخاه إبراهيم ، وكان يحثّ الناس ويأمرهم باتّباعه ، وجاءت إليه امرأة أيام ابراهيم فقالت : إنّ ابني يريد هذا الرجل وأنا أمنعه ، فقال : لا تمنعيه(125).

وقال أبو إسحاق الفزاري : جئت إلى أبي حنيفة فقلت له : أمّا اتقيت اللّه أفتيت أخي بالخروج مع ابراهيم بن عبد اللّه بن الحسن حتى قتل ; فقال : قتل أخيك حيث قتل يعدل قتله لو قتل يوم بدر وشهادته مع ابراهيم خير له من الحياة(126) فكان إسحاق يبغض أبا حنيفة بعد ذلك.

ووجّه أبو حنيفة إلى إبراهيم كتاباً يشير عليه أن يقصد الكوفة سرّاً ليعينه الزيدية، وقال: إنّ فيها من شيعتكم يبيتون أبا جعفر فيقتلونه أو يأخذون برقبته فيأتونك به ، وكانت المرجئة تنكر ذلك على أبي حنيفة وتعيبه به(127).

وكان أبو حنيفة عندما يذكر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بعد قتله تذرف عيناه بالدموع(128).

وفي الجملة أنّ ميل أبي حنيفة لأهل البيت (عليهم السلام) لا خفاء عليه حتى عدّ من الشيعة الزيدية.

ويقول أبو زهرة ـ بعد البحث عن ميله وتشيعه ـ : وننتهي من الكلام السابق أنّ أبا حنيفة شيعي في ميوله وآرائه في حكّام عصره ، أي أنه يرى الخلافة في أولاد علي من فاطمة ، وانّ الخلفاء الذين عاصروه قد اغتصبوا الأمر منهم ، وكانوا لهم ظالمين(129).

وكان أبو حنيفة يرى أنّ علي بن أبي طالب على الحقّ في قتاله لأهل الجمل وغيرهم، ويتّضح ذلك من أقواله في عدة مواطن منها :

إنّه سئل عن يوم الجمل، فقال : سار علي فيه بالعدل وهو أعلم المسلمين في قتال أهل البغي.

وقوله : ما قاتل أحد عليّاً إلا وعلي أولى بالحقّ منه... الخ.

وقوله : إنّ أمير المؤمنين عليّاً إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفا(130).

وقال يوماً لأصحابه : أتدرون لِمَ يبغضنا أهل الشام ؟ قالوا : لا.

قال : لأنّا لو شهدنا عسكر علي بن أبي طالب ومعاوية لكنّا مع علي (رضي الله عنه).

أتدرون لم يبغضنا أهل الحديث ؟ قالوا : لا.

قال : لأنّا نحب أهل بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقر بفضائلهم. وفي رواية أنه قال : أتدرون لم يبغضنا أصحاب الحديث ؟ قالوا لا.

قال : لأنّا نثبت خلافة علي (رضي الله عنه) وهم لا يثبتونها.

ولا نريد هنا أن نستقصي أخبار أبي حنيفة الدالة على صلته بأهل البيت(عليهم السلام) ، كما لا نريد أن نقيم الأدلة على ميوله الشيعية أو نفيها فإنّ ذلك لا يعنينا في البحث.

أسباب مقتل أبي حنيفة

وبقي شيء يجب الالتفات إليه وهو قتل المنصور لأبي حنيفة بالسّم. فهل كان ذلك لمناصرته لأهل البيت (عليهم السلام) ؟ أو كان لعدم قبوله القضاء فحسب ؟

اختلفت أقوال المؤرخين في ذلك ، فمنهم من ارجع الأسباب إلى عدم قبوله القضاء فقط ، عندما أشخصه المنصور من الكوفة إلى بغداد وعرض عليه القضاء ، ولكنّه أبى فحبسه ومات في الحبس ، والروايات في هذه الحادثة مختلفة ، فبعضهم يرويها على هذا الوجه ، وآخرون يروون أن المنصور هدّده بالضرب ، فقبل القضاء على كره(131)، ثم مات بعد أيام ، وآخرون يروون أنّ المنصور إنما استقدمه من الكوفة لأنّه اتّهم بالتشيع لإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن ، فإنّه أعلن الانضمام لجانب دعوة محمد وإبراهيم ، وأفتى بوجوب الخروج مع إبراهيم.

يحدثنا أبو الفرج الأصفهاني عن عبد اللّه بن إدريس قال : سمعت أبا حنيفة وهو قائم على درجته ، ورجلان يستفتيانه في الخروج مع إبراهيم ، وهو يقول: أخرجا، وأنّه كتب إلى إبراهيم يشير عليه أن يقصد الكوفة ويدخلها سرّاً ، فإنّ من هاهنا من شيعتكم يبيتون أبا جعفر فيقتلونه ، أو يأخذون برقبته ، فيأتونك به ، وكتب له كتاباً آخر فظفر أبو جعفر بكتابه، فسيره وبعث إليه ، فأشخصه وسقاه شربة فمات منها(132).

والتسليم لهذه الرواية غير ممكن، لأنّ قتل ابراهيم كان في سنة (145 هـ ) ووفاة أبي حنيفة في سنة (150 هـ ) وليس في إمكان المنصور التريث في أمر أبي حنيفة مدة خمس سنوات عندما تحقّق منه ذلك ; وكان لا يقف عند حد في تركيز دعائم ملكه ، ولا يتورّع في سفك الدماء، وأنّ له من القوة ما يخول له قتل أبي حنيفة بسرعة ، فإنّ بقاءه خطر على الدولة ولا يمكن للمنصور أن يغضّ عن ذلك، وقد فتك بأبي مسلم مع قوّته وكثرة جنده ، وفتك بزعماء أهل البيت (عليهم السلام) ، مع علمه بحراجة الموقف ، كما فتك بكثير من الزعماء وذوي الوجاهة ، والنفوذ.

اللّهم إلاّ أن يكون عثور المنصور على رسالة أبي حنيفة لإبراهيم بعد مدة من قتله.

وكان أبو حنيفة من جملة الفقهاء المنتصرين لمحمد وإبراهيم كمالك بن أنس والأعمش ومسعر بن كدام وعبادة بن العوام وعمران بن داود القطان وشعبة بن الحجاج وغيرهم ، وكان بعضهم حضر حربه(133) وكانوا يعدّون شهداء وقعته كشهداء بدر ويسمّونها بدر الصغرى ، وقد رأينا المنصور يغضّ عن مؤاخذة اُولئك الفقهاء، لأنّه بحاجة ماسّة لبقائهم والمعاونة معهم ، وبذلك يقصد إيجاد مجموعة منهم لتخفيف خطر انتشار ذكر جعفر بن محمد (عليه السلام) في الأقطار، فقد كان هو الشجى المعترض في حلقه.

ومن الحقّ والإنصاف أن نقول : إنّ موقف أبي حنيفة ليس كموقف مالك ابن أنس ، فإن مالكاً لما عوقب لأجل فتواه بالخروج مع محمد أخلص بعد ذلك للمنصور ، وتغيّر موقفه حتى كان يظهر أن لا فضل لعلي (عليه السلام) على غيره من الصحابة ، بل هو كسائر الناس. أمّا أبو حنيفة فلم يتغير موقفه ، وكان يفضل علياً (عليه السلام) إمّا على عثمان فقط أو على جميع الصحابة ، كما لم تتغير وجهة نظره في الدولة، وأنّها ظالمة لا تصحّ مؤازرتها.

والحاصل أنّ غضب المنصور على أبي حنيفة قد اختلفت الأقوال فيه ، ومهما تعددت الأسباب فيه فالمرجع كلّه يعود إلى مخالفة أبي حنيفة لرأي السلطة التي تريد تجريد العلماء من مواهب الادراك والتفكير ، ومنعهم من حرية الرأي والصراحة بالحقّ، وعلى كلّ فقد مضى أبو حنيفة ضحية فتك المنصور وسطوته.

ولا بدّ لنا قبل نهاية البحث أن نشير إلى اتصال أبي حنيفة برجال مدرسة الشيعة وروايته عنهم وسماعه منهم.

ربّما يظنّ أنّ أبا حنيفة لم يرو عن رجال الشيعة ، ولم يكونوا من شيوخه ، وذلك لأنّهم نقلوا عنه أنّ أبا عصمة حدث عن أبي حنيفة عندما سأله ممن تأمرني أن أسمع الآثار ؟

فقال أبو حنيفة : من كلّ عدل في هواه إلاّ الشيعة فإنّ أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).(134)

والصحيح أنّ هذا القول لم يصح عن أبي حنيفة.

أولا أنّه انفرد به أبو عصمة وهو نوح بن مريم المروزي المتوفى سنة (173 هـ ) وهذا الرجل مشهور بوضع الحديث حسبة.

قال الحافظ زين الدين العراقي في مبحث الوضاعين : ومثال من كان يضع الحديث حسبة ما رويناه عن أبي عصمة نوح بن مريم المروزي ، قاضي مرو، فيما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنّه قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ، وليس عند أصحاب عكرمة هذا ؟

فقال : إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة.

وكان يقال لأبي عصمة هذا : نوح الجامع فقال ابن حبان : جمع كلّ شيء إلاّ الصدق.

وقال البخاري : قال ابن المبارك لوكيع : عندنا شيخ يقال له أبو عصمة كان يضع كما يضع المعلى بن هلال(135).

وقال ابن حجر في ترجمته : قد أجمعوا على تكذيبه(136)، وقال العباس بن مصعب : كان نوح بن أبي مريم أبوه مجوسياً اسمه « ما بنه » استقضى نوحاً على مرو وأبو حنيفة حي ، فكتب إليه أبو حنيفة يعظه(137).

ولا حاجة بنا إلى مزيد من البيان عن أبي عصمة وشهرته بالوضع ، وهو بهذه الكلمة أراد أن يضلل الناس في عقيدة الشيعة بالصحابة رضوان اللّه عليهم.

ومن المؤسف أنّ هذه الكلمة الموضوعة قد أخذت مكانتها من أدمغة كثيرين من كتاب الاُصول والحديث في السابق والحاضر ، وبنوا عليها تأييد ما يدعى على الشيعة من الطعن على جميع الصحابة.

وإن أبى اُولئك إلا أن يصححوا ما أورده أبو عصمة ، وأنّ هذه الكلمة صادرة عن أبي حنيفة وانّها شهادة منه على الشيعة ، فنحن نسائلهم كيف يصح لأبي حنيفة أن ينهى عن شيء وهو يفعله ؟

لأنّنا نرى بالوجدان أنّ أبا حنيفة قد حضر عند علماء الشيعة ، وسمع منهم ، وروى عنهم ، وهذه مسانيده وكتب أصحابه مليئة بتلك الروايات أمثال كتاب الآثار ، وكتاب الخراج وكتاب الرد على الأوزاعي وغيرها.

ولا يعني ذلك أنّ أبا حنيفة قد تخلص من مؤثرات ذلك العصر وقلد الشيعة واتبعهم فهو في الفقه ـ كما رأينا ـ ، وهو في اتّصاله بالحكام لا يتجاوز الحدّ الذي يغضب الخليفة رغم أنّه من ركائز ثورة الإمام زيد، ومع ذلك امتدت إليه يد المنصور فأذاقته المنية. وكان يخشى أن يتهم بالرفض أو الاعتزال فيحذر في أقواله ويتحرز في إجابته(138) ومع كلّ هذا اتّهم في إيمانه واعتقاده.

ولمزيد من الإيضاح نذكر ـ بإيجاز ـ أسماء بعض شيوخ أبي حنيفة من الشيعة وقد وردت رواياته عنهم في جامع مسانيده وكتب أصحابه.

شيوخ أبي حنيفة من الشيعة

جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي المتوفى سنة (128 هـ ).

حبيب بن أبي ثابت أبو يحيى بن قيس الكوفي المتوفى سنة (119 هـ ).

مخول بن راشد أبو راشد النهدي المتوفى سنة (141 هـ ).

عطية بن سعد العوفي المتوفى سنة (111 هـ ).

سلمة بن كهيل الحضرمي المتوفى سنة (113 هـ ).

أجلح الكندي وقيل اسمه يحيى بن عبد اللّه ولقبه الأجلح المتوفى سنة (145 هـ ).

إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفي المتوفى سنة (127 هـ ).

المنهال بن عمر الكوفي التابعي.

عديّ بن ثابت الأنصاري الكوفي المتوفى سنة (116 هـ ).

زبيد بن الحارث اليامي ، ويقال الأيامي الكوفي المتوفى سنة (122 هـ ).

وغير هؤلاء من شيوخ أبي حنيفة الذين عرفوا بتشيّعهم لأهل البيت(عليهم السلام) ، ولا يسعنا ذكر الباقين منهم بهذه العجالة.

وسيأتي في الجزء السادس من هذا الكتاب تراجم هؤلاء العلماء، وتحامل رجال الجرح والتعديل عليهم لتشيّعهم فحسب، مع أنّ رجال الصحاح خرّجوا أحاديثهم في صحاحهم.

وعلى أيّ حال، فإنّ أبا حنيفة أخذ عن رجال الشيعة كما أخذ عن أئمتهم(عليهم السلام)، ونفي ذلك تكذبه أحداث حياة أبي حنيفة وأفكاره.

إلى هنا ينتهي البحث عن حياة أبي حنيفة من الوجهة التاريخية، وقد اختصرت البحث عنه وآثرنا المهم من سيرته ومراحل حياته، لإعطاء صورة عن اختلاف الناس فيه ، من قادح ومادح ، ومغال ومتعصّب، وذكرنا طرفاً من أقوال خصومه بدون تعرض لإثباتها أو نفيها ، وبقيت أقوال المعتدلين فيه ضاق المجال عن ذكرها والتعليق عليها ، وسنعطي رأينا فيه وبيان منزلته العلمية ومن اللّه التسديد.

*  *  *

 

خلاصة البحث

1 ـ إظهار الحقيقة من حيث هو أمر يشقّ على بعض النفوس، التي خضعت لسلطان الهوى، وفهمت الأشياء من طريق التقليد ، لا من طريق التثبّت والواقع، إنّما يلائم أمزجة نقيّة وطباعاً متنوّرة.

وإنّ البحث عن المذاهب هو من أهمّ الأبحاث التي توقع الكاتب في حيرة وارتباك ، لأنّ مسالك الوصول إلى الحقيقة ملتوية ، والحواجز متكاثرة، كما أني لا أجهل أهميّة الموضوع وخطره ، فهو من أهم أسباب العداء والبغضاء بين طوائف المسلمين ، وهو منبع التباعد والتضارب ، مما أدّى بالمسلمين إلى الانحطاط ، واتّساع نفوذ أعداء الدين الإسلامي ، في بثّ روح الفرقة وإيقاد نار الخصومة بينهم ، لانصراف المسلمين بكلّ قوتهم إلى الوقعية بعضهم ببعض لتأييد كلّ مذهبه الذي يرتضيه ، فنشأ من وراء ذلك فتن ونزاع وتخاصم واتّهام بالسوء ، وفرقة وتباعد ، وتركوا وراءهم الأخذ بما أمرهم اللّه من الاعتصام بحبل اللّه، وأن لا يتفرّقوا فتذهب ريحهم ، ويتسلّط عليهم عدوّهم.

ولم يسعد المسلمون بالتفاهم حول أسباب النزاع ، وعوامل التفرقة ومعالجة مشكلة العصبيّات ، لأنّ الخلاف أصبح في الجملة طبيعة إرتكازية، وقد عدّ إزالته من المستحيل ، وليس كذلك إنّ تركز البحث على ضوء الأدلّة العقلية ، والتجرّد عن الهوس والعصبيات ، وترك المغالطات واتّحاد الهدف ، وهو إظهار الحقيقة وتقبل الحقّ وإن كان مراً.

وقد مضى زمن رجال وسّعوا دائرة الخلاف ليتّسع نفوذهم ، ويتمّ لهم ما أرادوا في تفريق كلمة المسلمين ، لتركيز دعائم الملك ، وامتداد سلطان الاستبداد، إذ اتحاد كلمة الاُمة يضيق عليهم الدائرة ، ويرغمهم على اعطاء المجتمع حرية التفكير ، وبذلك تعتدل طرق سيرتهم ويقلّ ضرر استبدادهم.

وهذا الخلاف خلاف غرض أئمة المذاهب ، كيف وقد أصبح اتّباعهم في أخذ الأحكام سبباً لانفجار براكين الحقد والكراهية ، واتّساع شقة الخلاف، وتكفير البعض للبعض كما مرّ بيانه ، فحدث من ذلك فساد عظيم وخلقت مشاكل .

2 ـ إتّضح لنا من سير الحوادث إهتمام ولاة الأمر في تلك العصور بتحويل أنظار الناس عن اتّباع أهل البيت (عليه السلام) ، والأخذ من تعاليمهم ، ووجهوا الناس بكلّ حول وقوة لمعاداة من اتبعهم في الأحكام الشرعية.

ولمّا كانت الشيعة متظافرة على الدعوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتقديم مذهبهم على جميع المذاهب، فالشيعة يرون أحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) بالأمر ، وأنّهم حملة رسالة الإسلام ، ودعاة نشره ، وأولياء أمر الاُمة ، يقودونهم إلى السعادة، وينفذون أحكام اللّه ، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم ، وهم المثل الأعلى في طهارة النفس ، وهم ينبوع فياض تتدفق منه أنواع المُثل والقيم التي تغذي العقول وتبني السلوك وتضمن توجيه الحياة الإنسانية ، فاتّباعهم لازم بدليل العقل والشرع.

ولن تتخلّى الشيعة أبداً عن الاعتصام بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والتمسك بهم مهما كلّفهم الأمر، ومهما اتّخذ أعداؤهم من أساليب ووجّهوا إليهم من تهم.

لذلك نظرت إليهم السلطة نظر خصم لا تلين قناته ، ولا تعمل الإرهابات عملها المطلوب ، وقد عجزوا عن تحويل عقيدتهم الراسخة رسوخ الطود ، فراحوا يلصقون بهم التّهم ويتقوّلون عليهم ، وهم يعلمون عن الشيعة خلاف ذلك ، ولكنّهم عرفوا أنّ تقويم ملكهم وبقاء عزّهم لا يتمّ إلاّ بإلجام الألسن وكم الأفواه عن المؤاخذات التي توجّه اليهم بصفتهم ساسة الاُمة وحكّام الإسلام ، وقد حاولوا إفهام الناس أنّهم على الحقّ وخصومهم على الباطل ، فطبعوا في القلوب بغض المعارضين لهم ، حتى أخرجوهم عن الاسلام ادعاء، ووجّهوا اليهم كلّ مكروه ، واتبعوهم بالأذى ، وعاملوهم بالقسوة والشدة حتى توصلوا إلى مخالفة الأحكام ، وهجر السنن الصحيحة عن صاحب الرسالة ، لأنّ الشيعة قاموا بالعمل بها. ولنضع صوراً بين يدي القارئ من تلك المخالفات :

يقول ابن تيمية(139) في منهاجه عند بيان التشبه بالشيعة : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات ، إذ صارت شعاراً لهم ، فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في اظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميّز السنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب.(140)

وقال مصنف الهداية من الحنفية : إنّ المشروع التختم باليمين ، ولكن لما اتخذته الرافضة جعلناه في اليسار.(141)

وقال الغزالي : إنّ تسطيح القبور هو المشروع ، ولكن لما جعلته الرافضة شعاراً لها ، عدلنا عنه إلى التسنيم(142).

وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن في كتاب « رحمة الاُمة في اختلاف الأئمة » المطبوع في هامش ميزان الشعراني: 1 / 88، السنة في القبر التسطيح وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة وأحمد : التسنيم أولى ، لأن التسطيح صار شعاراً للشيعة.

3 ـ ومهما يكن من أمر فإنّ امتحانات الشيعة وما نالهم من الأذى ، إنّما هو في سبيل الانتصار لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والانضمام إلى جانبهم، وخاضوا تلك المعارك في سبيل نصرتهم ونشر مبدئهم ، ولو انّهم استجابوا لداعي السلطة ، ورغبوا في لذة الحياة ، فليس بينهم وبينها إلاّ النزول على رغبات اولئك القوم الذين لا يرغبون إلاّ في القضاء على مبادئ آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومحو ذكرهم فيجنبوا أنفسهم الويلات وتصبح حصتهم من الدولة المراكز والمنافع ويبعدوا أهليهم وذويهم عن مستقبل ينفتح على السجون وقطع الرقاب. ويبدو أن إلحاق الأذى بالشيعة صار قانون الملوك الطغاة والاُمراء الذين استولوا على مقاليد الاُمور، فلو تجاوزنا بني اُمية وبني العباس فإنّنا نرى ملوك بني أيوب في مصر الذين كالوا لهم كل مدح وأطروهم بثناء جميل. اتخذوا يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام، جرياً على عادة أهل الشام، التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبدالملك ابن مروان ليزعجوا شيعة علي بن أبي طالب الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي(عليهما السلام) لأنه قتل فيه. يقول: المقريزي وقد أدركنا بقايا ممّا عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور(143).

ويكفي خصوم الشيعة أنّهم يسيرون على ما سنّه الحجاج من ذلك الفعل القبيح ، فهل يا ترى أنّهم ذهلوا عن قبح هذا العمل ؟ أم ترى أنّهم لا يعلمون أنّ هذا الفعل كان يسيء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ كيف وهم يظهرون الفرح في يوم بكى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) له قبل وقوعه ، وكان يتألّم منه ، وهل جهلوا منزلة الحسين (عليه السلام) ؟ فعمدوا إلى هذا الفعل المنكر ؟!!(144).

4 ـ اندفع ولاة الجور للدفاع عن مراكزهم ، والمحافظة عن كيان ملكهم ، ببثّ روح الفرقة بين أفراد الاُمة ، لاستحصال غاياتهم التي رأوا استحالة حصولها مع اتفاق المسلمين وصفاء ودّهم، وصبغوا تلك الأعمال التي حاولوا بها فرقة وحدة الصف صبغة دينية ، ولكنّها في الواقع بعيدة كلّ البعد عن روح الدين.

وقد أفصح لنا التاريخ عن نيّاتهم السيئة وما يقصدون من وراء ذلك ، وقد آزرهم رجال ابتعدوا عن الحقّ، وتهجموا على اُصول المحاسنة والمداراة الاجتماعية ، ودعاهم جشعهم إلى الابتعاد عن حدود الإنسانية ، وخلعوا أبراد الحشمة ، وأطفأت الأطماع شعلة عقولهم « فهم في غيّهم يعمهون ». وعلى أيّ حال فقد تفرقت الاُمة كما شاءت السياسة ، أو كما شاء ولاة الجور ، بمقتضى العوامل التي وجهوها لهدم كيان المجتمع الإسلامي، فاتسع الخلاف وعظم الإرتباك ، ووقعت الخصومة ، وبين هذا وذاك رفع الاستبداد رأسه وافترس كلّ ما وجده صالحاً للاُمة.

وأصبحت المسألة سيّئة الوضع نشأ من جرائها عداء متأصل ، توارثته الأجيال حتى عجز المصلحون عن معالجة مشاكل الاُمة ، وقد اتخذه المستبدون أسهل وسيلة لتفريق المجتمع الإسلامي ، تقوية لسلطانهم ، وقوة لنفوذهم على ممر العصور ، وهم يتظاهرون بمحاربة هذه النعرة ، ولكنّهم يبذلون جهودهم في نصرتها من وراء الستار ، باستخدامهم مرتزقة سلبوا مواهب الادراك ، وفقدوا شعورهم عند حصول تلك الاُجرة الزهيدة ، واشتروا الضلالة بالهدى ، يكتبون بأقلامهم المسمومة ، ما يثير الضغائن والأحقاد ، فكانت لهجتهم جائرة ، يختلقون ويفتعلون بدون قيد وشرط تقرّباً لأسيادهم.

بين يدي عشرات من تلكم الكتب التي حررتها تلك الأقلام المأجورة ، ألفها مهرجون لا يعرفون من الحق موضع أقدامهم ، يكيلون الذم لاُمة عرفوا بإخلاصهم وولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) ، واعتناق مذهبهم الذي تركزت دعائمه على تعاليم صاحب الرسالة ، وانتشر بجهود أصحابه ، وقد رأت السلطة مخالفة ذلك لمصالحهم فجعلوا اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ تعاليمه عن أهل بيته بدعة، نظراً لعدم تشريع السياسة لذلك.

ولم يجدوا طريقاً لمؤاخذة الشيعة بحكمة ونزاهة ، ولكنّهم حاكوا لهم التهم، تقوّلا بالباطل وابتعاداً عن الحق ، بل هو تهريج وهوس ، وتعابير لا شعورية ، ومن أعظم تلك التّهم التي ألصقوها بالشيعة هو قولهم بتكفير الشيعة للصحابة ، وحكموا عليهم في ذلك بالخروج عن الدين ! ما أقسى هذا الحكم ، وما أعظم هذه التهمة!! «عفوك اللهم عفوك ».

اللّهم إنّنا نبرأ اليك مما يقوله الحاقدون ونوالي أصحاب رسولك (صلى الله عليه وآله وسلم)الذين رضيت عنهم وأخلصوا في الدعوة والجهاد في سبيلك.

5 ـ لقد أخذت هذه التهمة نصيبها من التهويل ، وحظّها من الشيوع ، في عصر اتخذ خصوم الشيعة من سلطانه قوّة الانتصار ، وازداد نشاطهم بتلك المفتريات ، والاتهامات التي سلكوا بها طرق الخداع والتمويه على السذج وعوام الاُمة، فتركزت في أدمغتهم تلك الفكرة السيئة ، وبحكم مؤثرات الدعاية التي بثّتها الطبقة الحاكمة ضد الشيعة ، ليثيروا البغضاء ، ويبذروا الحقد ، ويبرزوا للشيعة صورة تشمئز منها النفوس ، فكانت دماؤهم مهدورة وأموالهم مباحة.

ولم تقف الشيعة تجاه هذه المنكرات مكتوفة اليد ، بل دافعت عن مبدئها وعقيدتها بساطع البرهان وقوة المنطق وحدّ السيف ، فكانت هناك ثورات يتبع بعضها بعضاً ، وحروب طاحنة دفاعاً عن المبدأ وحفظاً لكرامة الدين.

ما أقسى هذا الحكم وما أعظم هذه التهم ، ولا تستطيع الشيعة السكوت عليه! ولكن ماذا تصنع وزاوية التعصب مفتوحة يطلّ منها أولئك الحول القلب الذين يفترون الكذب.

ربّنا احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ربّنا إنّا آمنّا بك واتبعنا نبيّك، ووالينا أصحابه الذين نهجوا نهجه ، واهتدوا بهديه وسمعوا دعوة الحقّ فلاقتها نفوسهم بكلّ قبول وصدق ، واخلاص بالقول والعمل ، ونظروا لمصلحة المسلمين قبل مصالح أنفسهم أولئك هم أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) (أشدّاء على الكفار رحماء بينهم يبتغون فضلا من اللّه ورضواناً) سبقوا إلى الإسلام ، وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ونشروا الدين وأظهروا شعائر الإسلام ، وأقاموا الفرائض ، وأحيوا السنن ، آمنوا بمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ونصروه، واتّبعوا النور الذي أنزل معه فأيّدت نبيك فيهم ، وألفت بين قلوبهم فاتحدوا وآزروا ونصروا وصدقوا ما عاهدوا عليه اللّه ; ربّنا إنّا آمنّاً بنبيك ، وتبرّأنا من المنافقين الذين مردوا على النفاق ، ونصبوا لنبيك الغوائل ، ولم يؤمنوا إيمان القلب والجنان ، بل إيمان الشفة واللسان فأخبرت نبيك عنهم (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن  سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(145). الذين (... يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ  خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ  النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هؤُلاَءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)(146).

ونتبرأ من الذين شاقّوا رسولك (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن  بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ  نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(147).

حقّاً إنّها مؤاخذة عظيمة ، لو كان لها من الصحة نصيب ، ولكنّها فرية وبهتان ، بعثتها الأغراض ، وأوحتها الأوهام والخيالات ، فتوارثتها الأجيال ولو تناولتها أقلام غير مأجورة لقبرتها في مقرها الأخير.

أتكون الشيعة بميلها عن معاوية وحزبه ، ومناقشتهم نقاشاً علميّاً يتركز على حرية الرأي مجرمة في نظر العدالة ، ويحكم عليهم بعدم الاستقامة فتطرح رواياتهم ؟

نَصفاً يا حكّام الجرح والتعديل ، فهل ألقيت أقوال من تجرأ على سبّ علي وبغضه والحطّ من كرامته؟ لا لا، إنّه مقبول ثقة في الرواية ، ويقال إنّه حسن الاعتقاد ، ناصر للسنة.

ولا يسعنا التوسع أكثر بالبحث في هذا الموضوع فهو واسع ،  لا يحاط به ولو صنفت مجلدات، وسيأتيك مزيد بيان توجيه تلك التهمة إلى الشيعة ، ونوقفك على الأفتراء فيها في الأجزاء الآتية إن شاء اللّه.

وكنّا نظنّ أنّ تلك المفتريات ذهبت مع تلك العصور التي اقتضت اختراعها وافتعالها لتفريق صفوف الاُمة ، وكنا نتخيّل أنّها قبرت مع أصحابها ومرت عليها عجلة الزمن ، فابتعدنا عنها ونحن بعصر انطلاق حرية العقل ، ورفع حواجز السلطة وإزالة ستار التمويه، وبمزيد الأسف إنّا نجد من يريد احياء تلك النعرات ويعيد تلك العصور الغابرة ويضرب على وتر العصبية.

وليس من أصل موضوعي التعرض لأقوال المهرجين فإنّ سلة المهملات لا تضيق عنهم.

وسنشير لبعض الأقوال التي أطلقها أصحابها ـ من كتّاب ومؤرخين ـ حول الشيعة والصحابة من دون قيد وشرط ، وبدون معرفة لعقيدة الشيعة في الصحابة رضوان اللّه عليهم.

ولو أنّ اُولئك الكتّاب ساروا بأبحاثهم حول هذا الموضوع بدقّة وتمحيص، ونزاهة البحث ، وتجرّد عن العاطفة ، خدمة للحقّ من حيث هو لحكموا على أنفسهم بالخطأ فيما يذهبون إليه من القول بأنّ الشيعة يكفّرون جميع أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعياذ باللّه.

وهذا الموضوع من أهمّ ما يجب أن نتكلّم به ، وأن نلمّ بجميع أطرافه ، وحيث لم يتّسع له هذا الجزء وقد ضاق نطاقه عن ذلك ، فقد أرجأنا الحديث عنه إلى الجزء الثاني ان شاء اللّه فإلى اللقاء هناك. ومن اللّه نستمدّ العون ونسأله التسديد والاخلاص في العمل ، وهو ولي التوفيق.

ختم الجزء الأول من هذا الكتاب ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على     رسوله الذي أرسله (بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(148) وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

 (9)  سير أعلام النبلاء ج6 ص531 / 994.

(10) سير أعلام النبلاء ج6 ص 531 ح 994 .

(11)  فاطر: 34 .

(12) ضحى الاسلام ج2 ص177.

(13) انظر المنتظم ص5 ـ 156.

(14) الموضوعات لابن الجوزي ج2 ص49.

(15) لسان الميزان ج5 ص179 .

(16)  اللآلئ المصنوعة  ج1 ص417.

(17)  لسان الميزان ج1 ص120 .

(18) تاريخ بغداد ج6 ص200 / 3258.

(19)  اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1 ص237 .

(20) الموضوعات لابن الجوزي ج2 ص49.

(21) لسان الميزان  ج5 ص587.

(22) لسان الميزان ج5 ص7 .

(23) تهذيب التهذيب ج1 ص98.

(24) ميزان الاعتدال ج1 ص245 / 420.

(25)  لسان الميزان ج1 ص291 / 618 .

(26)  اللآلئ المصنوعة ج1 ص417 .

(27)  المغني في الضعفاء ج1 ص72 / 322.

(28) قال ابن حجر في الخيرات الحسان ص5 عند ذكر الحديث : قد أطبق المحدثون على وضعه .

(29)  الخيرات الحسان ص14 .

(30) جامع المسانيد ج1 ص19.

(31) تاريخ بغداد ج13 ص457 / 7323.

(32) شذرات الذهب ج1 ص360.

(33) المعارف ص288.

(34)  تاريخ بغداد ج13 ص359 / 7323 .

(35)  تاريخ بغداد ج13 ص453، ووفيات الأعيان ج2 ص 181 و 182 .

(36) لسان الميزان ج6 ص231.

(37) مفتاح السعادة لأحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده ج2 ص110، ولسان الميزان ج2 ص234.

(38)  ترجمة قاضي القضاة أبو البختري في لسان الميزان ج6 ص332 ، وميزان الاعتدال ج3 ص278، وتاريخ بغداد ج13 ص454 وغيرها.

(39)  مفتاح السعادة ج2 ص201 .

(40) الرحمن: 29 .

(41)  مفتاح السعادة ج2 ص201 .

(42) تهذيب الكمال  ج7 ص278 / 1483.

(43) مفتاح السعادة ج2 ص201 ، وشرح وصية أبي حنيفة المخطوط بمكتبة الإمام كاشف الغطاء. «منه».

(44) جامع الرموز ج1 ص2 .

(45) اُنظر مناقب الموفق المكي ، الخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان.

(46) تهذيب التهذيب ج1 ص449 .

(47) اُنظر جامع المسانيد ج1 ص 14 ـ 22.

(48) اُنظر أبو حنيفة النعمان لوهبي سليمان ص70 ـ 76 ، تاريخ بغداد ج13 ص324.

(49)  شرح مسند أبي حنيفة ص286.

(50) انظر شرح مسند أبي حنيفة ص586 .

(51) اُنظر الخيرات الحسان ص24 .

(52) شرح مسند أبي حنيفة ص588 ـ 589.

(53) شرح مسند أبي حنيفة ص593 .

(54) المناقب للمكي ج1 ص27 .

(55) حاشية رد المحتار لابن عابدين ج1 ص70 .

(56) مسند أبي حنيفة ص144 .

(57) انظر شرح مسند أبي حذيفة ص592 .

(58) الخيرات الحسان ص24 ، وخلاصة تهذيب الكمال ص345.

(59) شرح مسند أبي حنيفة للقاري ص284 .

(60) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص70.

(61) المقدمة ص372 .

(62)  ضحى الإسلام ج2 ص131 .

(63) رسالة الإنصاف ص8 .

(64) الذهبي في مناقب أبي حنيفة ص28 .

(65) مصنّف ابن أبي شيبة ج5 ص508 / 28494.

(66) تهذيب التهذيب ج2 ص44 / 931.

(67) تهذيب الكمال ج4 ص468 / 879.

(68)  جامع أسانيد أبي حنيفة ج1 ص305 .

(69)  جامع أسانيد أبي حنيفة ج1 ص305 .

(70) جامع الرموز ج1 ص2 .

(71)  كتاب الياقوت في الوعظ لابن الجوزي ص48 .

(72)  الاشاعة في أشراط الساعة ص120، وكتاب الياقوتة لابن الجوزي ص45 .

(73) مسند أبي حنيفة ص13 .

(74)  اُنظر أبو حنيفة محمد أبو زهرة ص5 .

(75) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج13 ص374.

(76) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج13 ص374 .

(77) الخطيب البغدادي ج3 ص374 .

(78)  الانتقاء ص148 .

(79)  ميزان الشعراني ج1 ص59 .

(80)  تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص63 .

(81) الانتقاء لابن عمر ص150 ، اُنظر تاريخ بغداد ج13 ص398 / 7297 .

(82)  تاريخ بغداد ج13 ص400 / 7297.

(83) الانتقاء لابن عبد البر ص150 والخيرات الحسان ص76 .

(84) الانتقاء ص124 ـ 152 .

(85) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور علي حسن عبد القادر ص225 .

(86) تاريخ بغداد ج13 ص133 ـ 423 .

(87) تأنيب الخطيب ص22 ـ 27 .

(88)  أبو حنيفة لأبي زهرة ص5 ـ 7 .

(89) في الأصل نتميز.

(90)  مناقب أبي حنيفة للمكي ج1 ص59 .

(91) ضحى الإسلام ج2  ص178 .

(92)  الأغاني ج16 ص106 .

(93) شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص203 .

(94) المعارف ص216 .

(95) العقد الفريد  ص408 .

(96)  سِير أعلام النبلاء ج6 ص534 / 994.

(97) الفهرست لابن النديم ص256 ـ 257 .

(98) الفهرست لابن النديم ص257 .

(99) لسان الميزان ج2 ص208 .

(100)  لسان الميزان ج2 ص391 / 2470.

(101) تأنيب الخطيب للكوثري ص95 .

(102) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ج6 ص270 ، الجرح والتعديل ج2 ص608 ـ 609 ، مناقب أبي حنيفة للكردري ج2 ص182 ـ 183.

(103)  البحر الرائق ج1 ص630 .

(104) ضحى الإسلام ج2 ص200 .

(105) تاريخ التشريع الإسلامي ص225.

(106) الفوائد البهية ص9 .

(107)  الفوائد البهية ص18 .

(108) لسان الميزان ج2 ص29 .

(109) ميزان الاعتدال  ج2 ص40 / 1231.

(110) الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص171 .

(111) سير أعلام النبلاء ج8 ص479 / 1580 .

(112) الفهرست لابن النديم ص258 ـ 259 .

(113) الفهرست لابن النديم ص 258 .

(114) للحنفية كتابان في استعمال الحيل الشرعية : أحدهما لمحمد بن الحسن الشيباني ، والثاني للخصاف ، ويقال : أن لأبي حنيفة كتاباً في الحيل ، وكان يفتي به الناس للتحلل من الأحكام الشرعية والقيود الفقهية ، روي أنّ عبد اللّه بن المبارك قال : من كان عنده كتاب الحيل لأبي حنيفة يستعمله أو يفتي به ، فقد بطل حجه ، وبانت منه امرأته. انظر كتاب أبي حنيفة ، محمد أبو زهرة ص417 وكتاب تاريخ التشريع الاسلامي ص280 وسيأتي ذكر ذلك وتحقيقه.

(115) الفوائد البهية ص31 .

(116) أبو حنيفة، لمحمد أبو زهرة ص441 ـ 451 .

(117) أبو حنيفة، لمحمد أبو زهرة ص435 .

(118) سير أعلام النبلاء  ج6 ص534 / 994.

(119) مناقب ابن شهر آشوب ج4 ص276 ـ 277.

(120) الطبقات الكبرى ج1 ص28 ، والحلية ج3 ص193 .

(121) حلية الأولياء ج3 ص197 .

(122) المصايد والمطارد، لكشاجم ص202 ـ 203، وفيات الأعيان ج1 ص212، مرآة الجنان ج1 ص305، وشذرات الذهب ج1 ص220 .

(123) اُنظر الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجندي ص154 ـ 155.

(124)  أبو حنيفة لمحمد بن زهرة ص71، نقلاً عن مناقب أبي حنيفة للبزازي ج1 ص55 .

(125) مناقب أبي حنيفة للمكي ج2 ص84 .

(126) مقاتل الطالبيين ص 364 .

(127) مقاتل الطالبيين ص 366 .

(128) المناقب للكردري ج2 ص72 .

(129) أبو حنيفة ص165 .

(130) مناقب المكي ج2 ص24 .

(131) مناقب المكي ج2 ص27 .

(132) مقاتل الطالبيين ص247 .

(133) كان خروج محمد في المدينة سنة (144 هـ ) وبايعه أهل الحجاز ، قال ابن العماد : وأحبّه الناس حباً عظيماً لما كان فيه من الكمال وخصال الفضل ، ويشبه النبي في الخلق والخلق ، واسمه واسم أبيه. وبايعه المنصور والسفاح ، وكانا من دعاته أيام بني اُمية ، وقتل في المدينة قتله المنصور الدوانيقي ، وخرج أخوه إبراهيم في العراق بعد قتله ، وكاد أن يظفر بالمنصور لكثرة جيشه ومحبة الناس له وتأييد الفقهاء لنهضته ، ودعوه لدخول الكوفة ليلاً فقال: أخاف أن يستباح الصغير والكبير. وإنّ حادثة إبراهيم ومحمد لمن أهم الحوادث التاريخية، ولم تنل نصيبها من التحقيق والبحث .

(134) اُنظر الإمام الأعظم أبو حنيفة ص188 ـ 191 .

(135) شرح ألفية العراقي ج1 ص168 والفوائد البهية في تراجم الحنفية ص221 .

(136) لسان الميزان ج6 ص168 .

(137) ميزان الاعتدال ج3 ص245 .

(138)  اُنظر المناقب، للموفق ج1 ص171، والمناقب للكردري ج1 ص173 .

(139) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المتولد سنة (661 هـ ) والمتوفى سنة (728 هـ ).

(140) منهاج السنّة ج2 ص147 .

(141) منهاج الكرامة ص108 ، الغدير ج10 ص210 .

(142) الغدير ج10 ص201 .

(143) الخطط للمقريزي ج2 ص437 .

(144) اُنظر كتابنا مع الحسين في نهضته. «منه»

(145) المنافقون : 1 ـ 2 .

(146) النساء : 142 ـ 143 .

(147) النساء : 115.

(148) التوبة : 33 .