الإمام الصادق (عليه السلام)المدرسة والمذهب والشيعة

الإمام الصادق (عليه السلام)المدرسة والمذهب والشيعة 

 

مدرسته وطابعها 

كانت الفترة التي عاشها الإمام الصادق(عليه السلام)، فترة محنة تمرّ بها الاُمة، فقد كان الحكم الاُموي حكماً جائراً; إذ ابتعدت السلطة عن أحكام الإسلام، فكانت نهاية الحكم الاُموي مثل بداية قيامه; إذ صبغت بالدم نهايته كما كانت بدايته.

وقامت دولة بني العباس، وهي تلبس لباس الدين، وترفع شعار الدعوة لمناصرة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، والانتقام من أعدائهم، وهي تحاول أن تكسب ودّ المسلمين.

وبعد أن تكشفت سياسة بني العباس، وزال القناع عن وجه حكمهم، اعتبر الناس عهدهم امتداداً لحكم بني اُمية الجائر.

فأصبح المسلمون في معترك عصيب.. تحرّكت في جوانحهم الثورة وتاقت نفوسهم لتحقيق الإصلاح، وكان البيت العلوي هو محطّ آمال الاُمة، فساندهم رجال الدين، وانضوى بعض الفقهاء تحت رايتهم.

وفي ذلك المعترك الرهيب برزت شخصية الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يحمل للاُمة مبادئ الإسلام، وينشر تعاليمه، ويرفع صوت الإنكار على الظلم، ويدعو للإصلاح بكلّ جهد، وشارك الاُمة في محنتها إذ امتزجت مشاعره بمشاعر الأفراد، وتوجّهت إليه الأنظار، وانضمّ إليه رجال الفكر ودعاة الإصلاح; لأنّه(عليه السلام)يعرف كيف يبدأ الدعوة، وكيف يداوي النفوس من الأمراض الاجتماعية، فكانت دعوته سلمية، تهدف لتنوير الرأي العام، والحضّ على التمسّك بأحكام القرآن، وقد توسّعت آفاق دعوته، كما انتشر دعاته من تلامذته في كلّ مكان، فأصبحت مدرسته منهلاً لرجال الاُمة ومصدراً لعلوم الإسلام.

وكان طابع مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الذي طبعت عليه، ومنهجها الذي اختصّت به ـ من بين المدارس الإسلامية ـ هو استقلالها الروحيّ، وعدم خضوعها لنظام السلطة، ولم تفسح المجال لولاة الأمر، بأن يتدخّلوا في شؤونها، أو تكون لهم يد في توجيهها وتطبيق نظامها، لذلك لم يتسنّ لذوي السلطة استخدامها في مصالحهم الخاصة، أو تتعاون معهم في شؤون الدولة. ومن المستحيل ذلك - وإن بذلوا جهدهم في تحقيقه - فهي لا تزال منذ نشأتها الأولى تحارب الظالمين، ولا تركن إليهم، كما لا تربطها وإيّاهم روابط الاُلفة، ولم يحصل بينها وبينهم انسجام. وبهذا النهج الذي سارت عليه، والطابع الذي اختصّت به، أصبحت عرضة للخطر. فكان النزاع بينها وبين الدولة يشتدّ والعداء يتضخّم ، فلا الدولة تستطيع التنازل لمنهج المدرسة فتكسب ودّها وتسعد بمعاونتها، ولا المدرسة في إمكانها أن تتنازل لإرادة الدولة، فتؤازرها وتسير بخدمتها وتتعاون معها، وكيف يكون ذلك؟! وهي منذ نشأتها الأولى ترتبط بالثقلين: كتاب الله وعترة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وهما متلازمان متكاتفان، لن يفترقا في أداء واجبهما لإرشاد الاُمة وهدايتها. فالقرآن ينهى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلاَتَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَتُنصَرُونَ)(12).

مواقفه من ساسة عصره 

ومن الواضح أنّ مبدأ العدالة ـ وهو من أعظم مبادئ الشريعة الإسلامية - أصبح في عهد أولئك الولاة لا يعمل به. فهم جبابرة ظلمة، لا يصلحون لمركز الولاية على المسلمين، وليس لهم كفاءة على التحلّي بصفات الخلافة، ولا قدرة لهم على تنفيذ أحكام الإسلام، فهم لا يصلحون للولاية ولا تجب طاعتهم بحال. وإنّ في مؤازرتهم والمعاونة معهم خروجاً عن أمر الله، ومخالفة لكتابه. وبذلك لا تكون ملازمة بين العترة وبين الكتاب إن داهنوا الظلمة أو ركنوا إليهم.

فسياسة أهل البيت(عليهم السلام)تقضي بحرمة معاونة الظالمين، وعدم الركون إليهم. ومنهجهم في توجيه الاُمة لا يتعدّى حدود ما أمر الله به، فهم والقرآن يسيرون جنباً إلى جنب في أداء الرسالة ومهمّة التبليغ، وهم أئمّة للعدل وحماة للدين، ودعاة للصلاح. وقد برهنوا على أعمالهم بما كانوا يتحلّون به من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، وشدّة محافظتهم على نواميس الشرع. وقد اتّضح لنا من سيرتهم ما لا حاجة إلى إطالة البحث فيه.

وقد روى الحسن بن علي بن شعبة: أنّ سائلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن وجوه المعاش فكان من جوابه(عليه السلام): "وأمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم محرم معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير".

وصحّ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال لأصحابه: "ما أحبّ أن أعقد لهم - أي الظلمة - عقدة أو وكيت وكاء، ولا مدة بقلم. إنّ الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد" (13)

وكان ينهى عن المرافعة إلى حكامهم، ولا يرى لزوم ما يقضون به، لأنّ حكمهم غير نافذ، كما كان يشتدّ على العلماء الذين يسيرون في ركاب الدولة، ويأمر بالابتعاد عنهم حيث يقول: "الفقهاء اُمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتّهموهم" (14)

وقد حاول المنصور أن يستميل الإمام الصادق (عليه السلام) في عدّة مرات، ولكنّها محاولة فاشلة فلم يزل يبتعد عنه، ويعلن غضبه عليه، ولا تأخذه في الحقّ لومة لائم. كما أعلن مقاطعته له فكتب المنصور إليه: لِمَ لا تغشانا كما تغشانا سائر الناس. فأجابه الإمام (عليه السلام): ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها، ولا تعدها نقمة فنعزيك بها فلِمَ نغشاك؟!!

فكتب إليه المنصور ثانية: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه الإمام: من أراد الدنيا فلا ينصحك ومن أراد الآخرة فلا يصحبك (15)

وبهذا يتجلّى موقف الإمام الصادق (عليه السلام) من حكام عصره، وابتعاده عنهم، وهو النهج الذي أمر أتباعه أن ينهجوه، وقد أبدى ذلك في كثير من مواقفه وأعلن للاُمة وجوب مقاطعة الظالمين وحرمة معاونتهم ليحدّ من نشاطهم في هضم حقوق الناس، واستيلائهم على مقدراتهم، واستبدادهم بالاُمور وجورهم في الحكم.

وكانت محاولة المنصور لجذب شخصية الإمام إليه وطلب الاتصال به لغرض تضييق دائرة المقاطعة التي أعلنها الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي سار عليها كثير من الناس.

وسيأتي مزيد بيان لمواقفه مع المنصور وإعلان غضبه عليه، وقد عرف المنصور بالشدّة والقسوة وعدم مبالاته في إراقة الدماء، وكان يقتل على الظنّة والتّهمة ويحاسب من يتّهمه بالإنكار عليه أشدّ المحاسبة، ولا يلين في شيء من ذلك، كما لا يتورّع في ارتكاب ما حرّمه الله تعالى.

والمنصور على ما فيه من الظلم وسوء المعاملة للرعية كان يتمنّى أن يكون في دولته مثل الحجاج بن يوسف، ذلك السفاح المستهتر، فكان يقول: والله لوددت أنّي وجدت مثل الحجاج بن يوسف، حتى استكفيه أمري وأنزله أحد الحرمين(16).

ومعنى ذلك أنّه كان يتمنّى أن يقضي على أهم مصدر للتشريع الإسلامي، فيضع السيف في حملة الحديث ورجال العلم،الذين يحتفّون بالإمام الصادق ويتفقهون عليه، ويملأ السجون من الصلحاء، ويصبغ وجه الأرض من دماء الأبرياء. وقد أشرنا إلى طرف من أعمال المنصور وسوء سيرته، وما كان يلقى الإمام الصادق منه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى(17) .

الصراع بين المدرسة والدولة

وكانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بعيدة عن التأثّر بآراء الحكام، الذين يفرضون إرادتهم على العلم والعلماء، ويحاولون أن تكون لهم السلطة الدينية الى جانب السلطة التنفيذية، ممّا يؤدي إلى الفوضى الكاملة في الحكم عندما يستغلون الدّين، ويتخذون من رجاله وسيلة لاشتغال الناس عن مؤاخذتهم، ويدينون لهم بالطاعة الكاملة ويحلّ الإيمان بتقديسهم محلّ الإيمان بالله!!

أمّا مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) فإنّ الصراع بينها وبين الدولة كان على أشدّه، والعداء بالغاً نهايته، الأمر الذي جعل المدرسة عرضة للخطر، ولكنّها رغم ذلك صمدت لتلك الهجمات التي توجّهها الدولة لتمحوها من صفحة الوجود. وقد تحمّلت بطش الجبارين، وعسف الظالمين، فأدّت رسالتها على أكمل وجه. وكان منها النتاج الصالح، الذي يفيض على الاُمة خيراً وبركة، ويطفح بالعلم والحكمة والعرفان، وخرّجت عدداً وافراً من رجال العلم، وحملة الحديث. ولم تكن كلّ تلك المعارضات من قبل ولاة الجور لتعوقها عن مواصلة كفاحهافي الدعوة الى الحقّ، والخير والعدل والمساواة والاُخوّة الإسلامية العامّة، والمدنية الصحيحة والحضارة الراقية، ومحاربة أهل الأهواء، والبدع والضّلالات، ويتّضح ذلك من تعاليم العترة الطاهرة - زعماء هذه المدرسة - وسيرتهم العادلة وشدّة اهتمامهم بتوجيه الاُمة نحو دينهم الذي يتكفل لهم بالسعادة، ويدعوهم إلى الاهداف الكريمة، والغايات السامية، والأغراض الشريفة، والمُثل العليا، بتطبيق نظامه على جميع الطبقات.نواة المدرسة وتاريخ نشأتها

إنّ تاريخ نشأة مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، هو أسبق من جميع المدارس الإسلامية، إذ لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) هو الواضع لحجرها الأساسي، والغارس لبذرتها الاولى، بل كان الواضع لحجرها والغارس لبذرتها هو الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله). فقد وضع منهاجها ونظامها، وحثّ الناس على الانتهاء إليها، إذ قرن العترة بكتاب الله العزيز بقوله (صلى الله عليه وآله) : "إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً." الحديث(18) كما صرّح في كثير من تعاليمه بلزوم اتّباع أهل بيته والأخذ عنهم وأنّهم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق(19)، كما أشار النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى لزوم اتّباعهم في كثير من أحاديثه.

فالمدرسة كانت نشأتها في عهد صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله)، وكان رئيسها الأول هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو أقضى الاُمة وأعلمهم، وهو نفس محمد(صلى الله عليه وآله)، وكان ملازماً له في جميع أوقاته، يأخذ عنه العلم، ويتلقّى التشريع العملي، فهو صاحبه في سفره وحضره، وحربه وسلمه يقيم أنّى أقام، ويرحل أنّى ارتحل. ورسول الله (صلى الله عليه وآله) هو معلم عليّ ومتولّي تربيته ونشأته، فكان(عليه السلام)باب علم مدينة الرسول وأمينه على سره(20).

فكان له من الكفاءة والاستعداد ما جعله مرجعاً لأحكام الاُمة، وإماماً هادياً. وقد عوّل النبيّ عليه في جيمع شؤونه لاتصافه بصفات الإمامة، وانكار ذلك مكابرة ومغالطة، ولا حاجة بنا إلى اطالة البحث ورحم الله المتنبي إذ قال:

وتركت مدحيَ للوصيّ تعمّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً كاملا

وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا(21)

ولمّا انتقل علي (عليه السلام) الى جوار ربّه تزعّم الحركة العلمية وترأس المدرسة الإمام الحسن (عليه السلام)، سبط الرسول (صلى الله عليه وآله)وريحانته، فكان (عليه السلام) محطّـاً لآمال الاُمة، ومرجعاً لأحكامها. ولكنّ الظروف القاسية والحوادث المتتابعة في عهد معاوية لم تسمح للمدرسة أن تتقدّم على الوجه المطلوب، وسارت بخطى ثقيلة، لأنّها قابلت جور معاوية بكلّ ما لديها من قوّة في اعلان الغضب عليه، وقد قابلها بسياسة لا تعرف الرحمة، وشدّة لا تعرف الهوادة، حتى اُريقت دماء بعض المنتمين إليها، وهُدّمت دورهم. كلّ ذلك في سبيل الدعوة إلى الاصلاح.

وجاء دور الحسين بن علي (عليه السلام) وهو أعظم الأدوار وأهمّها. ومعاوية قد عظمت شوكته وامتدّ سلطانه، وكثر بطشه وفتكه، وتلاعب بالأحكام وحرّف الكلم عن مواضعه، وأخذ يتتبع رجال الفكر وخيار الاُمة، ويقتلهم تحت كلّ حجر ومدر. ومهّد الأمر لابنه يزيد - وهو الفاسق الذي لا يختلف اثنان على حقّ في إجرامه وكفره - فأصبح خليفة للمسلمين، وإماماً يتربّع على عرش الخلافة الإسلامية، وهو الفاسق المستهتر الذي أباح الخمر والزّنا، وحطّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات، وعقد حلقات الشرب في مجلس الحكم، وألبس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب، ومئات من المسلمين صرعى الجوع والحرمان (22).

وأصبحت الاُمة الإسلامية في حالة سيئة، لم يسهّل احتمالها على نفوسهم. فعمّ الثأئر جميع البلاد، حتى لم يجد الحسين (عليه السلام) طريقاً للسكوت. فنهض منتصراً للحقّ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، حتى اُريق في ذلك دمه، واستبيح حرمه، فكانت نهضته صرخة داوية تردّدها الأجيال من بعده، وتلقي عليهم دروس التضحية والتفاني في سبيل انقاذ الاُمة من براثن الظّلمة، وكانت منهجاً لثورات اصلاحية مرّت عليها الأجيال من بعده، اقتداءً به، وعملاً بدروسه القيّمة. فسلام عليه يوم وُلِد وَيوم استُشهِد ويوم يُبعث حيّاً(23).

ومن بعده انتقلت رئاسة المدرسة لولده زين العابدين الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام)، وهو أورع أهل زمانه وأتقاهم، وأعلم الاُمة. وقد اشتدّت الرقابة عليه من قبل الاُمويين بصورة لا مجال لأحد أن يتظاهر بالانتماء لتلك المدرسة، إلاّ من طريق المخاطرة والمغامرة. ومع هذه الشدّة وتلك الرقابة فقد كان سيرها محسوساً وكفاحها متواصلاً وخرّجت عدداً وافراً من علماء الاُمة، الذين أصبحوا مرجعاً للأحكام ومصدراً للأحاديث.

وعلى عهد الإمام زين العابدين وتحت وطأة السياسة الوحشية والجور الاُموي بدأت مرحلة جديدة، إذ كان الإمام علي بن الحسين أمام أمرين: إمّا أن يبقي نفسه لمواصلة الرسالة والاضطلاع بأعباء الولاية الشرعية، وإمّا أن ينجرّ لما تعمل من أجله اُمية للقضاء على آل محمد وقتله بعد إذ نجّاه الله بآية باهرة وحكمة بالغة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وهكذا كان عهد ولده الإمام الباقر (عليه السلام)من بعده في أول الأمر، ولكن ما أن دبّ الضعف في جسم الدولة الاُموية، حتى بعث النشاط في مدرسة أهلالبيت(عليهم السلام)، فقام الإمام الباقر (عليه السلام) بواجبه، ونشر معالم الإسلام وأحيا مآثر السنّة، فكانت حلقة درسه في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)ومسجد مكة "ابن ماحل" هي أعظم حلقات الدروس. ولمّا جاء عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وكان أزهر العصور، اتّسع فيه نطاق الحركة العلمية ونشأت المدارس الإسلامية، وكان في كلّ بلد عالم يرجع إليه، وكانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) في المدينة جامعة إسلامية كبرى، تشدّ إليها الرحال، وترسل إليها البعثات من سائر الاقطار الإسلامية لانتهال العلم، إذ وجدوا عنده ضالّتهم المنشودة وغايتهم المطلوبة، ولم يذكر التاريخ لنا أنّه سئل عن شيء فاجاب: بلا أدري، أو أنّ مناظراً قطعه، بل كان هو المتفوّق في كلّ علم، والمحلّق في كلّ مناظرة، واشتهر عنه أنّه كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني فإنّه لا يحدّثكم أحد بمثل حديثي(24)

وكيف لا يكون كذلك؟ وهو وارث علم جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اشتهر عنه هذا القول، ولم يستطع أحد أن يقول ذلك إلا اُفحم، وعليّ هو باب مدينة علم الرسول لقوله (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها(25).

فالإمام الصادق يروي عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسينبن علي، عن علي بن أبي طالب(عليهم السلام). وهذا الإسناد هو المعروف بالسلسلة الذهبية. وهو أصحّ الاسانيد وأقواها(26).

صمود مذهبه أمام الحكّام

ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يبدو لنا بوضوح: أنَّ ذلك الانفصال وعدم التأثر بآراء الحكّام هو الذي أوجد تلك المرونة في المذهب الجعفري، لأنّه يستقي من ينبوع لم يكدر صفوه التعليم الاستعماري بما فرضه على العلم والعلماء، ولمّا كان غلق باب الاجتهاد هو من مقترحات الدولة وتشريع السياسة، فلم يلتزم المذهب الجعفري به، ولم يخضع لذلك النظام الجائر الذي يفضي مؤدّاه الى الجمود الفكري وتحجير العقل، ورد نعمة أنعم الله بها على هذه الاُمة(27).

ومن الواضح أنّ عدم الالتزام بما تفرضه الدولة، هو خروج عن الطاعة، وعمل يستوجب العقاب والمقاومة. وقد عُرف معتنقو مذهب أهل البيت(عليهم السلام)بأنّهم لا يرون لزوم طاعة اُولئك الحكّام الذين تربّعوا على عرش الخلافة بدون حقّ، فلم يؤازروهم، ولم يتعاونوا معهم اقتداءً بأئمّتهم واتّباعاً لأوامر الرسول(صلى الله عليه وآله)، في مقاطعة الظلمة، وحرمة المعاونة لهم، لأن ليس في نظام الملوك الذي أوجده الاُمويون والعباسيون قواعد الخلافة ومبادئ الحكم الإسلامي إلاّ ما اقتضته مصالحهم الشخصية، وهو نظام زمني يقوم على المظاهر والأشخاص، وليس نظاماً دينياً يقوم على الإيمان والعقيدة.

كانت الطبقة الحاكمة تعدّ من لا يؤازرها ويتعاون معها خصماً يجب القضاء عليه، لأنّ عدم التعاون مع الدولة هو عدم الاعتراف بأهليّتها للحكم، وانتقاد لسياستها وسيرة رجالها.

لذلك اتّجهت قوة الدولة لمعارضة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)واتّهام منتحليه بسوء العقيدة، والخروج عن الإسلام، فسلكوا في تحقيق ذلك تلك الطرق الخداعة، وأسندوا الى الشيعة ما ليس من عقائدهم، وأوعزوا الى الوعّاظ في المساجد، والقصاص في الطرقات، وإلى العلماء المرتزقة الذين يطلبون ودّ السلطان طلباً لمنفعة، واستدراراً لنعمة، وحيازة لصلة الملوك ليقوموا بكلّ ما يأمرونهم من مخالفة الحقّ، باتهام الشيعة بانّهم يكفّرون جميع الصحابة ـوالعياذ باللهـ وأنّهم لا يعملون بالقرآن.. وألزموهم بأن يذكروا ذلك محفوفاً بشواهد يتقبلها السذّج وعوام الناس، حتى تمكنت في نفوسهم، ولهجت بها ألسنتهم، كأنّها حقيقة لا تقبل أيّ جدل ونقاش، وبدون تفكير وتدبّر انتشرت في ذلك المجتمع السائر في ركاب الدولة فكرة بغض الشيعة، وأنّى لذلك المجتمع بأن يظفر بالتفكير الحرّ وتحكيم العقل، وقد فرضت السلطة عليهم تلك الافتعالات بقوّة قاهرة، لا يستطيعون لها دفعاً ولا يجدون عن الاذعان لها سبيلاً، والناس مع القوّة عند ضعف الإيمان، ولكنّ الحقّ لابدّ أن يظهر مهما طال الزمن وادلهمّت الخطوب.

وعلى أيّ حال فليس من العسير أن يقف المتتبّع على بواعث تلك الافتعالات التي أوجدتها عوامل السياسة، وقوّة الارهاب، وسلطة الاستبداد، التي شوّهت الحقيقة، وغيّرت مجرى الواقع، وأنّ الوقوف أمام ذلك التيار أمر لا يتحمّله إلا رجال الفكر وحاملو ثقل العقيدة الإسلامية.

وصفوة القول أنّ المذهب الجعفري قد انتشر على وجه البسيطة، ولم تقف أمامه تلك المحاولات التي بذلها رجال السلطة وأعوانهم في محوه والوقوف أمام انتشاره، ولم تقض عليه كما قضت على بقيّة المذاهب التي لايروقها انتشارها، كما لم تقف أمامه تلك المجازر والفظائع السود التي يقوم بها خصومه.

وقد أشرنا فيما سبق من أجزاء الكتاب الى عوامل إنشاء المذاهب واختيار رؤسائها، ولذا لزم أن ننبّه هنا الى أنّ تسمية "المذهب الجعفري" لم تكن على منوال التسميات الاُخرى التي تتعلّق بإرادة السلطان، وإنّما كانت هذه التسمية نتيجة لنشاط مدرسة الإمام الصادق وصورة لرعايته لطلاّبه ومنتسبي مدرسته. فكما أشرنا سابقاً أنّه(عليه السلام) كان يتحرّى قابلياتهم ويتولى توجيههم ورعايتهم وحثّهم على العمل والعلم فيسمعهم أرق عبارات الود وأعذب ألفاظ الاحترام، وكان يسمّيهم "أصحاب جعفر بن محمد" ويسعى الى ذيوع تميّزهم في الفقه واستقلال أقوالهم، وكان(عليه السلام) يصرّح بسروره إذا اشتهر أصحابه بالورع وحسن الخلق، وأن يوصف واحدهم بـ (الجعفري) وسنأتي على تفصيل ذلك.

وما دمنا بصدد البحث عن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ، فلابدّ لنا من التنبيه على اُمور ثلاثة:

التنبيه الأول: التابعون والإمام الصادق (عليه السلام) 

قد يبدو للبعض أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) حضر عند أحد من التابعين، أو روى عنه، ومنشأ هذا أنّ بعض من ترجم للإمام الصادق (عليه السلام) ذكر أنّه روى عن نافع وعطاء وعروة بن الزبير والزهري(28).

وهذا القول لايثبته التتبّع، وهو بعيد عن الصواب، بل هي كلمات يلوكها من يرسل القول على عواهنه، ويعطي الآراء جزافاً، وينقل الأقوال بدون تثبّت وتمحيص، فإنّنا لم نجد في حديثه أنّه اسند عن أيّ واحد من الناس سوى آبائه الطاهرين(عليهم السلام)،فإذا أراد أن يسند، فسلسلة حديثه هكذا: حدثني أبي الباقر، قال: حدثني أبي زين العابدين، قال: حدثني أبي الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهو أصحّ الأسانيد عند علماء الحديث كما تقدّم، وهو الترياق المجرّب كما سمّاه بعض العلماء. وربما أرسل حديثه بدون اسناد، ولكنّه أعطى قاعدة مشهورة بقوله: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث أبيه وحديث أبيه حديث علي بن أبي طالب وحديث علي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) (29).

كما أنّنا بعد البحث والتتبع لم نجد في كتب الرجال من يذكره في عداد من حضر على هؤلاء، نعم إلاّ الخزرجي ذكره في من أخذ عن عطاء، وهو كما قلنا بعيد عن الصواب، على أنّ بعض هؤلاء قد كان يحضر عند الإمام الباقر كمحمد ابن المنكدر، والزهري، فلا يتصوّر أن الصادق (عليه السلام) كان يحضر على أحد في عهد أبيه الباقر (عليه السلام)، إذ لم يكن هناك نقص فيحاول اكماله على أيدي هؤلاء، وبعد وفاة أبيه، فقد استقلّ بالفتوى وتزعّم المدرسة، وانتشر ذكره، وأصبح هو المتفرّد بالزعامة.

وأما قولهم: أنّه حضر عند عروة بن الزبير المتوفى سنة (92 هـ) وسمع منه، فهذا من الغرابة بمكان، لأنّ عروة لا تخفى حاله على الإمام الصادق (عليه السلام) وما كان يتصف به من الشذوذ، وعدم الاستقامة بتقرّبه الى الاُمويين، وهو من الوضّاع الذين اتّخذهم معاوية أعواناً يستعين بهم على مهمّاته في وضع الأحاديث الكاذبة، والذين أطلقنا عليهم أعضاء (لجان الوضع).

قال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي: إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير(30).

فمن كانت هذه حاله كيف يصحّ أن ينسب الى الصادق (عليه السلام) الرواية عنه؟ وكذا الزهري فقد كان من اعوان الاُمويين والمتصلين بخدمتهم والمؤازرين لهم، وكان قطب رحى أداروا به مظالمهم، وجسراً يعبرون عليه الى بلاياهم، وسلّماً الى ضلالهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون الشك به على العلماء، ويقتادون به قلوب الجهال. كما جاء في رسالة الإمام زين العابدين (عليه السلام)إليه يرشده بها لطريق الحق والصواب(31). وقد انقطعت صلته بالإمام زينالعابدين(عليه السلام) بعد أن نهل من علمه وتعلم منه حتى جرّه الاُمويون الى قصورهم وأغروه بخدمتهم وتنفيذ أغراضهم.

ومن كانت هذه صفته، فهو مسلوب العدالة، ولا يوثق بحديثه، فكيف يكون مصدراً لحديث أهل البيت؟ ولعلّ الذي أوقع صاحب هذا القول - وهو رواية الصادق (عليه السلام) عن الزهري - إنّه اشتبه عندما رأى في عداد تلامذة الزهري رجلاً يسمّى بجعفر، فتوهّم انّه الصادق كما سبق مثل هذا الاشتباه لكثير من المؤرخين، اذ نسبوا الشهرة بالزجر، والفال، والتنجيم، لجعفر بن محمد الصادق. ولم يفرّقوا بينه وبين جعفر بن محمد الفلكي، المعروف بأبي معشر البلخي، فإنّه كان مشهوراً في الزجر، والفال، والتنجيم، وكان عصره مقارباً لعصر الإمام الصادق، ونقل الناس أخباره في ذلك، ولا يستبعد أنّ أعداء جعفر ابن محمد اشاعوا ذلك، للحطّ من كرامته وبخس حقّه من العلم، والنيل من مكانته الرفعية، وقد ردد هذا القول كثير من الكتّاب بدون وقوف على حقيقةالأمر.

قال ابن كثير: إنّ الذي نسب الى جعفر بن محمد الصادق من علم الزجر، والطرف، واختلاج الأعضاء، إنما هو منسوب إلى جعفر بن محمد أبي معشر الفلكي، وليس بالصادق، وإنّما يغلطون(32).

قلت بل أكثرهم كان يتعمّد ذلك، ولا شيء هناك إلاّ عوامل السياسة، ولا أذهب بك بعيداً في الاستدلال على ذلك، أو ارجع بك الى تلك العصور التي سيطرت عوامل السياسة على عقول أبنائها، فأعمتها عن الحقّ، وأبعدتها عن الصواب، ولكني اسلك بك اقرب الطرق في أقرب العصور - عصر النور أو القرن العشرين - هذا الدكتور أحمد أمين يقع في هذا الغلط، أو يتغافل عن الحقيقة! يقول في فجر الإسلام: في هذا العصر كان العلم - ولا سيّما الديني - يدرّس في المساجد، يجلس الاُستاذ في المسجد، وحوله الآخذون عنه، على شكل حلقة، وتكبر الحلقة وتصغر تبعاً لقدر الاُستاذ. الى أن يقول: وكذلك كان يفعل جعفر الصادق في المدينة - أي انّه يجلس ويجلس الآخذون حوله حلقة- قالوا: وكان يشتغل بالكيمياء والزجر والفال(33).

ولا يخفى على القارئ اللبيب سرعة انتقال الاُستاذ أحمد أمين لنقل ذلك القول وإيراد ذلك الغلط، وما يقصده في ذلك، كما لا تخفى نزعته العدائية للشيعة; فلا يروقه أن يذكر حلقة درس رئيس مذهبهم في المسجد، واعطاء ما يلزم لها من النقل التاريخي، إن كان مؤرّخاً منصفاً، ولكنّه يثقل عليه ذلك.

وخلاصة القول: أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يرو عن أحد من التابعين، ولم يحضر حلقة درس أيّ واحد منهم، أمّا في حياة أبيه، فقد كان في غنىً عن ذلك، وأما من بعده فإنّه أصبح المبرّز في كلّ فنّ، والمرجع الاعلى في الأحكام، وكانت حلقة درسه تضمّ رجال العلم من رؤساء المذاهب وغيرهم، كسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة، ويحيى بن سعيد القطان، وأيوب السجستاني، وعبد الملك بن جريح وغيرهم. فليس من المعقول أن يكون - رئيس مدرسة تضمّ امثال هؤلاء - يحضر درس من هو أقل درجة منه، بل أقلّ درجة من كثير من تلامذته. وأنّ أمثال هذه الأقوال إنما تقال لمجرد المبالغة في التقدير والتوثيق في حقّ من يريدون رفع مقامه، وليس بمستطاع لأيّ أحد أن يأتينا برواية للإمام الصادق (عليه السلام) في سندها أحد أولئك القوم.

التنبيه الثاني: تلامذة الإمام ومركزية الكوفة

إذا أردنا ان نرسل نظرة احصاء لتلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث البلدان النائية التي ينتسبون إليها فسنجد الكوفيين أكثرهم عدداً، وعلى وجه التقريب، يكون عددهم قد يتجاوز الألف. وعكسها الشام فإنّ عدد تلامذته المنتسبين اليها لا يتجاوز العشرة، وأسباب ذلك ربما تعود للنزعة التي يتصف بها كلّ من البلدين. فالكوفة كانت تناصر أهل البيت(عليهم السلام)وتتشيع لهم، والشام على عكس ذلك. وبهذا أصبحت الكوفة محلّ اهتمام الخلفاء الذين يجعلون من أهل البيت(عليهم السلام)خصوماً ويعتقدون بأن لا يستقر أمر الخلافة ما لم يتخذوا لها التدابير للقضاء على نشاطهم العلمي والسياسي. لذلك نجد الدولة الاُموية تهتم بأمر الكوفة وتحاول اخضاعها بالقوة عندما تعيّن ولاة لا رحمة في قلوبهم، ولا وازع دين يردعهم عن الفتك وإراقة الدماء كالحجاج، وزياد، وعبيد الله بن زياد، وخالد القسري. وكذا العباسيون اتخذوها مركزاً للخلافة، لتكون تحت مراقبة الخليفة مباشرة.. هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى: إنّ الكوفة كانت مركزاً تجارياً وصناعياً ملحوظاً في حياة المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري، وازدهرت فيها صناعة المنسوجات الحريرية، وهي ما سمّوها عمل الوشي والخز. وكانت هذه المصنوعات تلقى رواجاً في الأقطار الإسلامية(34)، وكانت محاطة بقرى كثيرة وفيها من غير المسلمين عدد كبير، كالنصرانية في الحيرة وغيرها، ووفد عليها أربعة آلاف من رعايا الفرس عُرفوا بحمراء الديلم(35).

وقد كثرت الهجرة الى الكوفة من ذوي العقائد المتباينة، واختلطوا بمجتمع الكوفة، وكان أكثر هؤلاء يترقبون الفرص للفتك بالمسلمين، انتصاراً لدياناتهم التي قضى عليها الإسلام.

ثم زخرت الكوفة بالموالي، فكان لهم أثر محسوس في تطور الحياة الاجتماعية; وبهذا أصبحت الكوفة تموج بعناصر مختلفة، لاتتّحد في الرأي، ولاتتّفق في الاتّجاه، وهذا الاختلاط يوجد اضطراباً، وعدم الاستقامة في الاُمور، وكان له أثر واضح في اخلاق أهل الكوفة، قد لحظه حذيفة بن اليمان من قبل فبيّنه في خطاب له قائلاً: "يا معشر أهل الكوفة، إنّكم، أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فغيّرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيّرتم وفشت فيكم خلال أربع: بخل، وخبّ (36)، وغدر، وضيق، لم تكن فيكم واحدة منهن، فنظرت في ذلك فإذا ذلك في مولديكم، فعلمت من أين يأتي، فإذا الخبّ من قبل النمط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز" (37).

وحين اتّسع نطاق الحركة العلمية كانت الكوفة مركزاً هاماً لمختلف العلوم، وقد ظهر علم الكلام، وكثر الجدل حول العقائد، وأهمّها البحث عن الأمانة. وقد ازداد نشاط ذوي العقائد الفاسدة، والآراء الشاذة، فأظهروها على سبيل النقاش العلمي، فكانت تلك الآراء تأخذ مفعولها في المجتمع، ويتناقلها الناس ومصدرها الكوفة، وهي شيعية فتنسب تلك المقالة الى الشيعة. وكانت السياسة تؤيد ذلك بغضاً للشيعة ووسيلة للقضاء عليهم، وقد اتّبع المؤرخون للفرق تلك الخطّة، فنسبوا للشيعة فرقاً كثيرة من ذوي المقالات الفاسدة بدون انصاف أو تعقّل، وما ساقهم الى ذلك إلاّ الجهل بعقائد الشيعة، أو البغض لهم اتباعاً لأسيادهم ومجاراة للظروف.

ولا اُطيل الحديث - والحديث ذو شجون - حول تلك الدعاية الكاذبة في نشر الآراء الشاذة، والعقائد الفاسدة، التي يبثّها أعداء الإسلام ليتقبّلها ضعفاء النفوس، والمصابون في تفكيرهم، فينسبوها للشيعة ولا ربط لها بعقائد الشيعة، إلاّ أنّ الكوفة كانت مصدراً لها والكوفة شيعية، وقد تعمّد اُولئك النفر أن يعلنوا سبّ الصحابة ليكون ذلك طريقاً لمؤاخذة شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، الذين تأدبوا بآدابهم واتّبعوا أوامرهم، كما أنّ موجة الغلو قد ظهرت في الكوفة دون غيرها من البلدان، وكان القصد من ذلك ما قلناه وهو: أنّ أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله)أرادوا الوقيعة في أتباعهم فأشاعوا الغلوّ في بلد يعرف أهله بالتشيّع لهم والانتساب إليهم.

وقد عالج أهل البيت(عليهم السلام)تلك المشكلة الخطيرة. وعرفوا تلك الدوافع التي دعت هؤلاء إلى الالتحاق بصفوف الشيعة، واتّضحت لهم غايات خصومهم، الذين يريدون أن يوقعوا بهم المكروه، فأعلنوا البراءة منهم، وجاهروا في لعنهم، وأمروا شيعتهم بالابتعاد عنهم، واليك بعض النصوص في ذلك :

روى هشام بن الحكم: أنّه سمع أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: كان المغيرة يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه ويدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه، ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكل ما كان في كتب أبي من الغلوّ فذلك مما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم(38)

يظهر لنا أن حركة المغيرة كانت حركة يهودية ضد الإسلام، كما أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله : "لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة، إن المغيرة كذب على أبي" الخ (39)التنبيه الثالث :

مدرسة الإمام ومعنى التشيع

إنّنا إذ نُعبر عن المدرسة، فإنّما المقصود بذلك هو تعاليم المذهب وانتشاره، لأنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ينسب للإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لمّا اشتهر به من العلم وكثرة التعاليم في تلك الفترة، وهي بين شيخوخة الدولة الاُموية وطفولة الدولة العباسية، وإلاّ فمذهب الشيعة هو مذهب أهلالبيت(عليهم السلام)، وعنهم يأخذون الأحكام، لأنّهم أصدق الناس في الحديث، وأشدّهم محافظة على أداء رسالة التبليغ، واتّباعاً لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ قرنهم بالكتاب العزيز الدال بكلّ صراحة على وجوب اتباع أهل البيت والتمسك بهم، فإنّه نجاة من الضلالة. وهذا هو التشيّع بمعناه الجلي، ولهذا أخذنا عنوان الكتاب لأن ظروف نشأة المذاهب لا تشمل المذهب الشيعي ولم يخضع لأي طرف منها، كيف وهو في جذوره يمتد الى زمن الرسالة، ولم يكن في وجوده أثر لمصلحة إلاّ مصلحة الدين أو سبب إلاّ سبب العقيدة وبرز اسم الإمام الصادق في تلك المرحلة التي ظهرت فيها دوافع إيجاد المذاهب، فكان أولى أن يطلق اسمه على المذهب تمييزاً لا مساواة وبدواعي تلك الفترة وبإشارة من الإمام(عليه السلام) الذي كان يوجه أصحابه ويعيّن مهامهم الدينية والاجتماعية، وما ينبغي لهم القيام به في ظلّ تلك المرحلة التي ماجت بالأفكار المختلفة والاُصول والمنابع وجعل الإمام لكلّ واحد من أصحابه دوراً مخصوصاً في تلك المرحلة. وراح يعدّهم لتحمل المسؤوليات الدينية بأعلى درجة من التفقه والتقوى . فكان الإمام الصادق ينظر الى أن يُقال في أصحابه "رحم الله جعفربن محمد ما أحسن ما أدّب به أصحابه" وهذا هو التشيع في إحدى مراحله المهمة وعلى أيّ حال فإنّ محور التشيّع وركيزته الأساس اطاعة صاحب الرسالة والتمسك بأهل بيته والاقتداء بتعاليمهم وموالاتهم. ونصّ أهل اللغة بمعناه.

يقول الحافظ الأزهري: الشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي ويوالونهم(40).

وقال في القاموس: وشيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم على كلّ من يتولّى عليّاً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم(41).

وقال في التاج: إذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم وأصل ذلك من المشايعة والمطاوعة(42).

وقال الجوهري: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه ويقال والاه (43).

ويقول ابن منظور الأفريقي: وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى عليّاً واهل بيته "رضوان الله عليهم اجمعين" حتى صار اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم (44).

وبهذا القول نفسه قال ابن الأثير في النهاية ج2 ص246.

وكذا في صبح الأعشى : ج 13 ص 236.

ومجمع البحرين في مادة شيع وغيرها من معاجم اللغة.

وقال أبو حاتم الرازي: "إنّ أول اسم ظهر في الإسلام هو الشيعة، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة هم: أبو ذر، وسلمان، وعمار، والمقداد، حتى آن أوان صفّين فاشتهر بين موالي علي (رضي الله عنه)(45).

وقال ابن النديم: لما خالف طلحة والزبير على عليّ(عليه السلام) وأبيا إلاّ الطلب بدم عثمان، وقصدهما علي (عليه السلام) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جلّ اسمه، سمّى من اتبّعه على ذلك، الشيعة، فكان يقول: شيعي...

ولسنا الآن بصدد الإحاطة بتعريف الشيعة، أو تعيين الزمن الذي نشأت به، ولا نريد ان نطيل الكلام في نقل الاختلاف في سبق هذا الاسم أو تأخّره، إذ من الثابت أنّ هذا الاسم كان على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله).

لكن ما يؤسف له أنّ بعض ذوي الفهم المعكوس قد حملوا اسم الشيعة على غير معناه، وشرّقوا في ذلك وغرّبوا، وقد اضطربت أقوالهم وخرجوا عن منطق العلم في تجاوز الحدّ، وارتكبوا اُموراً لا تليق بمن يتزيا بالعلم، إذ هي تدلّ على نقص في الادراك، وخلل في التفكير! وقد ساهم المستشرقون في هذه الافتعالات ووسّعوا دائرة الطعن على الشيعة، وتبعهم بعض كتّاب العصر(46)الحاضر، بدون التفات إلى نوايا أولئك القوم الذين يحاولون تشويه تاريخ الإسلام.

وممّا تجدر الإشارة إليه: هو أنّ البعض يتعمّد استعمال هذا الاسم على عمومه وحيث كان اسم التشيع يدلّ على الاتباع، فقد أطلق المؤرّخون اسم الشيعة على أنصار العباسيين وأتباعهم، فيقولون: شيعة المنصور أو شيعة الرشيد مثلاً، ويذكرون لهم كثيراً من الحوادث وأهمّ هذه الفرقة هم الشيعة الراوندية وهم شيعة المنصور الدوانيقي الذين غلوا في حبّه بل عبدوه من دون الله.

ولابدّ من الإنتباه إلى ما في بعض نصوص المصادر من ذكر تسمية "الشيعة" وملاحظة السياق وطبيعة الأحداث، فقد جرى بعض المؤرخين على هذا الإطلاق وهم يعنون به أنصار العباسيين ورجالهم أو حتى ملوكهم.

ومن الغريب أنّ بعض كتّاب العصر الحاضر عندما ذكر فرق الشيعة وبيّن عقائدهم التي خبط فيها خبط عشواء جعل الراوندية من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله)وهذا نص قوله :

الراوندية فرقة من غلاة الشيعة ناهضت العلويين في أيام العباسيين، وذهبت الى أن أحقّ الناس بالإمامة هو العباس بن عبد المطلب لأنّه عمّ النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم يأتي من بعد العباس أبناؤه إلى أن يقول : وقد غلت الراوندية أو فريق منهم بل كلّهم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وطاروا قائلين: أنت أنت أي أنت الله(47).

ولا ندري كيف يتفق هذا مع عقائد الإمامية (سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم).

وليس من الصعب الوقوف على كثير من شذوذ الكتّاب الذين دوّنوا أسماء الفرق وألحقوا بفرق الشيعة من ليس منهم عندما نعرف عقائد الشيعة الإمامية، ولكنّ الأغراض والأهواء قد انحرفت بكثير ممن كتب عن الشيعة، وقد ساعد على ذلك خوض بعض الكتاب المعاصرين في بحوث تقصر هممهم عن الإيفاء بشروطها و تعجز قدراتهم عن الإحاطة بظروفها، ولكن بعضها قد بحث بما فيه بيان الحقّ وليس فيه ما يسبب لمن لم يتزود بالاطلاع الكافي ارتباكاً أو خطأً، فإنّ قضية استغلال العباسيين لمشاعر النقمة الكبرى التي اعتملت بها النفوس تجاوباً وتعاطفاً مع أهل البيت الأطهار هي من الحقائق التي لم يختلف عليها، وأنّ العباسيين ركبوا تلك الموجة وأخفوا ما بأنفسهم مستغلين شمولهم بالتسمية، ولكنّهم لم يجسروا على الإعلان عن نواياهم حتى مرّ عهد ملكهم الأول السفاح، وجاء المنصور فبدأت جولة الحرب الجديدة ونزع القناع الأسود عن وجهه. ومسألة شمول العباسيين بآل البيت قيد إطلاقها بالمعارضة الشديدة والإنكار الواضح من قبل الشيعة، لأنّ إطلاقها بالشكل الذي استخدمه العباسيون قد جرّ الاُمة الى بلوى جديدة حملت اُناساً ظلمة جدد الى مواقع الحكم والسلطان، وأصبح الأمر واضحاً بتطورات الأحداث ومجريات السياسة، فكيف نفعل مع خدمة الحكام الذين صرعهم شيطان التعصب في تلك الظروف المظلمة، وراحوا يوسّعون في دلالة التسمية مكابرةً وعناداً؟ وإنّما تركوا لمن أتى من المعاصرين مادة تساعدهم على القول بدون تثبّت.

 

أخطاء وأكاذيب

 

المؤلّفون والشيعة

رأينا أنّ أكثر من كتب حول الشيعة، قد استندوا لأقوال أقوام عاشوا في عصور احتدام النزعات، واشتداد عواصف الطائفية، وإيقاد نار البغضاء بين طوائف المسلمين: من حنفية وشافعية وحنبلية وأشعرية ومعتزلة... ممّا أدّى إلى ارتباك حبل الأمن، وحلّ عرى الموّدة، وهدم صروح الوحدة.

تلك اُمور كانت نتائجها وخيمة يتألّم لها قلب كلّ مسلم، لما أصاب المسلمين من الانحطاط والتأخّر. وانتهى ذلك النزاع إلى حالة مؤسفة، عندما تحوّل إلى عقيدة ومبادئ، واستمدّ كلّ قوّته من اُمور وهمية لامساس لها بالدين، فهم في جانب، وهو في جانب آخر، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِْسْلامُ)(48)، والإسلام يدعو إلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وبث روح الاُخوّة، لتتمّ سعادة البشر في اتباع أوامره والوقوف عند زواجره.

نعم إنّهم كتبوا عن الشيعة بدون تثبّت، واستندوا لأقوال قوم دعاهم حبّ الشغب وخدمة السلطة إلى اختراع تلك الاتهامات. وقد تقوّل أكثر المقلّدين لهم، والناقلين عنهم فزادوا في الطين بلّة.

ولقد ساروا تحت ظلام الأوهام، ولا يعرفون إلاّ ما قيل، ولا يقولون أيّ شيء، تقليداً للسلف وخضوعاً للعاطفة.

وكنّا نأمل من جيلنا الحاضر وأبناء عصر النور، أن لا تميل بهم نزعة الهوى، ولا تخفف العاطفة وزنهم، ولا يلجئوننا إلى نشر تلك الفضائح، واخراج تلك الدفائن، ونحن بأمسّ الحاجة الى اتّجاه واحد، واتحاد كامل، لإيجاد قوة إسلامية متكاتفة، تقف أمام تيار الإلحاد الجارف، وردّ هجمات خصوم الإسلام، والوقوف أمام عدوانهم الغاشم، وتحرير الاُمة الإسلامية من قيود الاستعباد، ورفع كابوس الاستعمار، برفع لواء كلمة "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله"، وأناشيدنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(49) (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُوا)(50).

وقد يكون في هذا الكلام صدمة لمن لا يرتضي التفاهم بين المسلمين لإزالة سوء التفاهم، لأنّا وجدناهم لا يعيشون إلاّ في ظلمة الفتن ومن وراء حجب التمويه والأكاذيب، فهم مع الباطل فلا يروق لهم اظهار كلمة الحقّ لثقلها على بعض النفوس!! لكنّنا نرى أنّه من الخير استمرارنا بهذه الصراحة، لأنّا نفضّل مواجهة الحقيقة بأقصى ما يمكننا من ذلك، لإظهار الحقّ واتباعه، والحق أحقّ أن يتّبع.

مع أحمد أمين في كتبه

إذاً فليس من الحقّ قول أحمد أمين: "والحقّ أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كلّ من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد ادخال تعاليم آبائه من يهودية، ونصرانية، وزردشتية، وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده، والخروج على مملكته الى أن يقول: فاليهودية ظهرت في التشيع في القول بالرجعة، وقال الشيعة: إنّ النار محرّمة على الشيعي إلاّ قليلاً، كما قال اليهود لن تمسنا النار إلا أيّاماً معدودات... الخ(51).

نعم ليس من الحقّ أن يتقوّل على الشيعة بهذا، أو يقلّد ما كتبه المستشرقون وهم الذين دعاهم حب الشغب لإثارة الطائفية بين المسلمين. وفي الواقع أنّ الرجل اتّبع آراء الغربيين، الذين يكتبون عن الإسلام بداعي الحقد والوقيعة في أهله وهو في هذا المورد - بالأخص - قد اتّبع المستشرق "ولهوسن" حيث يقول: إنّ العقيدة الشيعية نبعت من اليهودية أكثر مما نبعت من الفارسية. واتبع أيضاً قول المستشرق "دوزي": أنّ العقيدة الشيعية أساسها فارسي، فالعرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك وبالوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى لانتخاب الخليفة، وقد مات محمد ولم يترك ولداً، فأولى الناس بعده علي بن أبي طالب فمن أخذ الخلافة منه - كأبي بكر وعمر وعثمان والاُمويين - فقد اغتصبها من مستحقها. وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى إلهي، فنظروا النظر نفسه إلى علي وذرّيّته وقالوا: "إن طاعة الإمام أول واجب، وإنّ اطاعته اطاعة الله"(52).

وهذا هو مضمون عبارة أحمد أمين بتصرّف وزيادة. ونحن الآن لا نريد أن نتعرّض لجميع ما كتبه أحمد أمين عن الشيعة وأئمّتهم من سادات أهل البيت وسلالة النبي(صلى الله عليه وآله).

نعم لا نريد أن نذكر جميع أقواله وتقولاته، ولا نقف طويلاً في ردّه ولكن شيئاً واحداً نريد أن نقوله هو: إنّ أحمد أمين كاتب له شهرة فائقة، وآثار كثيرة. ولكن مما يؤسف له أنّ الرجل لم يكن واقعيّاً; بل كان ينقاد للعواطف بسرعة، ويخضع للنزعات ويستسلم للشكوك التي تموج في صدره، فهو يجهل نفسه أمام الواقع ويفقد الجرأة الأدبية، عندما تتجلّى الحقيقة أمامه. ويتّضح ذلك من مؤلّفاته ومقالاته.

إنّ أحمد أمين أديب كاتب، ولكن لم تكن له خبرة في علم الرجال، ولا إلمام في علم الحديث. وله أخطاء في التاريخ فكان اللازم عليه أن يتجنّب الخوض في اُمور ليست من اختصاصه، ليدفع بذلك نقصاً جرّه إلى نفسه، وعيباً لصقه بها. وهو فيما يذهب إليه - في كثير من الآراء - يبرهن على نقص في إدراكه ودراسته، فيستسلم الى آراء المستشرقين الذين انطوى اهتمامهم بالمواضيع الإسلامية على أهداف قذرة أملاها عليهم الاستعمار. وبمزيد الأسف أن (أمين) وعد أنّ يكون أميناً ويتدارك ما أخطأ فيه ولكنه لم يفعل؟!

أخطاء القصيمي

ولا نريد أن نتعرّض للقصيمي (53) في صراعه، فهو مصروع لشدّة داء "الهستريا" ومدفوع بحركة لا شعورية فلا حاجة الى التعرّض له ولأمثاله، ممّن اُبتلي بداء الشغب، وحبّ التفرقة بين المسلمين، خدمة للاستعمار واستدراراً لصلته، وطلباً لنائله، نعم لا نريد أن نتعرّض لخرافاته وسفاسفه، وأخطائه وأكاذيبه، فقلّما يترفّع عن مناقشته. من اوقف نفسه لخدمة أعداء الإسلام.

ولكنّا نودّ أن ننبّه لشيء واحد من أخطائه وأكاذيبه وهو قوله في ج2ص 38: استفتى أحد الشيعة إماماً من ائمتهم ولا أدري أهو الصادق أم غيره؟ في مسألة من المسائل فأفتاه فيها، ثم جاءه من قابل واستفتاه في المسألة نفسها فأفتاه بخلاف ما أفتاه عام أول، ولم يكن بينهما أحد حينما أفتاه بالمرّتين، فشكّ ذلك المستفتي في إمامته وخرج من مذهب الشيعة وقال: إن كان الإمام إنّما أفتاني تقيّةً فليس معنا من يتّقي في المرتين، وقد كنت مخلصاً لهم عاملاً فيما يقولون، وان كان مأتى هذا هو الغلط والنسيان، فالأئمّة ليسوا معصومين إذن. والشيعة تدّعي لهم العصمة، ففارقهم وانحاز إلى غير مذهبهم. وهذه الرواية مذكورة في كُتب القوم.

لا اُريد أن اُسائل القصيمي عن الكتب التي ذكرت فيها هذه الحادثة. ولا الزمه بأن يبيّن لنا اسم الرجل السائل أو الإمام المسؤول، فالقصيمي جوابه - كنقله - كذب وافتعال بيّن. فإذا كذب في النقل يكذب في الجواب. ودائرة الكذب غير محدودة، تمتدّ إلى حيث لا نهاية. وإنّي قد ألقيت القصيمي وكتابه في (سلّة المهملات)(54) فلا أحبّ التعرّض لهفواته، إلا بهذه فقط، لأنّه أراد أن ينال من كرامة الإمام الصادق (عليه السلام) بإسناد هذه لحكاية له على وجه الترديد، وقد اشتبه عليه الأمر في ذلك. أو هو يتعمد ارتكاب الخطأ. وإنّ هذه القضية نقلها على غير وجهها فإنّها لم تكن في كتب الشيعة ولم يكن المسؤول هو الإمام الصادق بل غيره من أئمة المذاهب وإليك نصّها :

جاء رجل من أهل المشرق إلى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة عام أول. فعرضه عليه مما كان يسأل (وفي نسخة سئل عنه) فرجع أبو حنيفة عن ذلك كلّه. فوضع الرجل التراب على رأسه ثم قال: يا معشر الناس، أتيت هذا الرجل عاماً أولاً فأفتاني بهذا الكتاب، فاهرقت به الدماء، وانكحت به الفروج، فرجع عنه هذا العام. قال ابن قتيبة: حدثني سهل بن محمد: قال حدّثنا المختار بن عمر: إنّ الرجل قال له - أي لأبي حنيفة ـ كيف هذا؟ قال: رأياً رأيته فرأيت العام غيره قال: فتؤمنني أن لاترى من قابل شيئاً آخر. قال أبو حنيفة: لا أدري كيف يكون ذلك. فقال له الرجل: لكنني أدري أنّ عليك لعنة الله. انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 62 - 63 المطبوع بمطبعة كردستان بمصر الطبعة الأولى سنة (1326 هـ) .

هذه هي الحكاية التي أخطأ القصيمي في نسبتها للإمام الصادق (عليه السلام) أو غيره من الأئمة مع تصرف فيها منه. ولا أستبعد أنّ الرجل لا يفرّق بين أن يكون أبو حنيفة إماماً للحنفية أو للشيعة، لأنّ كتابه لم يتركز على قواعد علمية، ولا على نقل صحيح. بل هو هوس وتهريج، وتقوّل بالباطل. فلا نودّ مناقشة رجل يحور الوقائع، ويغيّر النص، ويتعمّد الكذب، ولا عتب عليه فهو إنسان أفلت من عقال التعقل، وخرج على الموازين، وحارب الإسلام بدافع الطمع بما في أيدي أعدائه من صهاينة وملاحدة، لهذا نعرض عن الاستمرار في بيان أباطيله وأضاليله، وها نحن نلقيه في سلة المهملات.

مع ابن عبد ربه

ومن الخطأ الإصغاء لأخطاء ابن عبد ربّه - فيما ينقله في ذم الشيعة - من الاُمور التي يتبين لذي العين الباصرة أنّها باطلة، أملاها التعصّب والتشاحن المذهبي. وهي من وضع أقوام تقرّبوا للدولة، بوضع خرافات لمسوا رغبتهم فينشرها، ولم يلتفتوا الى أي مؤاخذة أو نقص. وخذ مثلاً لذلك ما نقله عن مالكبن معاوية (55) أنّه قال لي الشعبي - وذكرنا الرافضة -: يا مالك إني درست الأهواء كلّها فلم أرَ قوماً أحمق من الرافضة ثم قال: اُحذرك الأهواء المضلّة شرّها الرافضة، فإنّها يهود هذه الاُمة، يبغضون الإسلام، كما يبغض اليهود النصرانية ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتاً بأهل الإسلام، وبغياً عليهم إلى أن يقول : قالت اليهود: لا يكون الملك إلاّ في آل داود وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلاّ في آل علي بن أبي طالب، واليهود يؤخّرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة واليهود لاترى الطلاق شيئاً، وكذلك الرافضة. إلى أن قال : واليهود تستحل دم كل مسلم وكذلك الرافضة، الى آخر ما نقله من هذه الاُسطورة، وما فيها من الاُمور التي تضحك الثكلى. كما انّ مثل هذا لا يصدر عن رجل مثل الشعبي(56)، المعروف بالعلم فيجهل أمثال هذه الاُمور، ويصدر عنه مايكذّبه الواقع قبل الوجدان.

صحيح أننا لا نتوقع من الشعبي الدفاع عن الشيعة بعد تحولاته وانقلاباته في المواقف والآراء، وبعد أن استقرّت سيرته على مسالمة الحكام ومسايرة مؤسساتهم في الموقف من الشيعة، إلاّ أنا نستبعد أن يكون الشعبي واحداً من علماء السوء الذين اصطنعتهم الدولة، وقد يصدر عن الشعبي ما يناقض سيرته الماجنة وما يخالف به الشيعة لكن ليس الى هذا الحدّ من الافتراء والسقوط، هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى: إنّ وفاة الشعبي كانت سنة (103 هـ) وظهور اسم الرافضة سنة (121 هـ - 122 هـ) كما يقولون. وقبل هذا التاريخ لم يعرف أحد هذا الاسم. وقالوا: إنّ زيد بن علي سمّاهم بذلك، عندما خرج بالكوفة سنة (121 هـ) ولم يذهب أحد إلى سبق هذا الاسم واشتهاره قبل هذا التاريخ، مع أنّ الناقل وهو مالك بن معاوية لم يعرف وليس له ذكر في كتب الرجال قط، ولكن هذا من اختراع ابن عبد ربه، أو لقّنه بها بعض القصاصين، الذين استخدمتهم السلطة لمحاربة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)،ولا استبعد أنّ هذه التسمية ونسبتها لزيد من اختراعات الأصمعي ومجونه، فهو راوي قصة الشيعة مع زيد في حربه بالكوفة(57)، وقضيّة زيد مشهورة وثبوت الشيعة معه في حربه أمر لا ينكر، ولكنها حيلة سياسية استعملها الاُمويون لتفرقة بعض الناس عنه. إذ دسّوا أدواتهم وعبيدهم بين صفوف أصحاب زيد مستخدمين قضية الشيخين لأغراضهم السياسية ـ هذا على فرض صحة الخبر ـ فتوسّلوا الى إنقاذ حكمهم بمثل هذه الوسيلة والقضاء على ثورة عمّر قلوب أصحابها الإيمان بالإسلام وفاضت صدور جنودها بمشاعر الولاء لآل بيت النبي المصطفى والنقمة على الظالمين المضلّين.

وقد قامت تهمة الرفض في ظلال روح النصب وأفياء العداء لآل البيت النبوي الكريم، ورغم انفضاح بواعثها وتلفيقها فقد ظلّت مداد الأقلام ومضامين الأسفار، لأنّ الظالمين أقاموا سياستهم على ذلك وأذعن الكتّاب والمحترفون ومالوا الى هوى المتسلّطين ودواعي النفع، وإلاّ فإنّ من الإسرائيليات والعقائد اليهودية التي أفشاها كعب الأحبار ـ وهو في عرفهم الثقة المأمون والتابعي الجليل ـ ما يكفي لتجريد الأقلام وصرف الأموال لتشذيب ما علق بأذهان الناس والدعوة الى رفض ما بثّه فيهم اليهود من تجسيم وتشبيه وخرافات وأساطير لاتليق إلاّ بأهلها من قتلة الأنبياء.

ولنتأمّل في ختام القول عن ابن عبدربّه هذه النقطة المهمة: وهي استسهال الاتهام بالتشيّع والرمي بالمغالاة في أهل البيت لا لشيء إلاّ لأنّ الحقيقة قد روعيت والوقائع قد ذكرت، لأنّ العداء للتشيع يقضي على أتباع المتسلّطين وورثة السلف السائرين في ركاب الظلمة بإهمال الحقائق وإغفال الوقائع.

وابن كثير يتهم ابن عبد ربّه بالتشيّع، لأنّ ابن عبدربّه تكلّم عن سيرة خالدبن عبدالله القسري والتي يراها ابن كثير غير صحيحة فتحمله المغيرة على الدخول في دينه ويجعل من التشيّع لأهل البيت سبيلاً لتوهين ما عرف من سيرة خالد بن عبدالله القسري ممّا لم يستطع ابن كثير نفسه منه فكاكاً، فذكر شيئاً منها مرغماً.

ولكنّ كلّ الجرائم تهون دون بطش خالد وجرائمه التي تتفق في منحاها مع القسوة والغلظة التي اتصف بها النواصب ودعاة السلفية.

فيدافع ابن كثير الحافظ عن خالد بما لفظه، والذي يظهر أنّ هذا لا يصحّ عنه فإنّه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع.. وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأنّ صاحب العقد كان فيه تشيّع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربّما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيّع، وقد اغترّ به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره... الخ.

نعم ابن كثير وحده يفهم هذا التشيّع الغريب والذي رأى الاتهام به دفاعاً عن القائم بإطفاء الضلال والبدع. وخالد باعتراف ابن كثير نفسه وتحريره أنّه كان متّهماً في دينه، وبنى لاُمه كنيسة في داره، لأنّ اُمه كانت نصرانية ويدعى بابن النصرانية. وليت الأمر ينتهي بهذا الحد من الفضائل، بل أن خالداً جمع "الإيمان" من أطرافه وبتحرير ابن كثير أيضاً، لقول ابن خلكان كان في نسبه يهود فانتموا الى القرب وكان يقرب من شق وسطيح.

ومثل هذه النماذج جديرة بأن تكون منزهة، لأنّ لديها الاستعداد النفسي لحمل راية العنف والشدة فيكون العداء لها صادراً من الجهة التي تقف بوجه الظلم والعنف.

يطلق ابن كثير على صاحب العقد الفريد تهمة التشيّع، وبذلك يكشف عن واحد من الاُمور التي يتعجّل بها في الحكم. وما أكثرها في منهجه. لقد كان ابن عبدربّه من رجال بلاط عبدالرحمن الناصر الاُموي، ونظم في سيرته ملحمة، ولمّا جاء فيها ذكر الخلفاء لم يذكر الإمام عليّاً، وجعل معاوية رابع الراشدين، فذكر أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ممّا حدا بعالم أندلسي هو منذر ابن سعيد البلوطي للردّ عليه قائلاً:

أو ما عليٌّ ـ لا برحت ملعّناً *** يا ابن الخبيثة ـ عندكم بإمام

ربّ(58) الكساء وخير آل محمّد *** داني الولاء مقدّم الإسلامِ

وقد حملته اُمويّته على عدم ذكر اسم الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو يورد رسالته(عليه السلام)الى هارون الرشيد وقد بعثها إليه من السجن، والتي جاءت في أغلب المصادر واُمّهات كتب التراجم والتي يخاطب فيها الرشيد: "إنّه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء حتى نقضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء ويخسر فيه المبطلون". فيذكرها في العقد الفريد: أنّ الرشيد حبس رجلاً فلمّا طال حبسه كتب إليه. ويذكر المعنى وبلفظ آخر وهو ما ينفرد به(59).

وليت الأمر يقف الى هذا الحدّ ولكنّهم توسّعوا في الكذب، حتى استخدموا ألسنة الشياطين. وإليك مثلاً من ذلك :

أحلام ابن العماد

نقل أبو الفلاح عبد الحيّ بن العماد الحنبلي (60) عن الأعمش - بلا سند - أنّه قال: خرجت في ليلة مقمرة اُريد المسجد، فإذا أنا بشيء عارضني فاقشعرّ منه جسدي، وقلت أمن الجن أم من الإنس؟ فقال من الجن. فقلت أمؤمن أم كافر؟ فقال: بل مؤمن. فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شيء؟ قال: نعم. ثم قال: وقع بيني وبين عفريت من الجن اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنّهما ظلما علياً واعتديا عليه. فقلت: بمن ترضى حكماً؟ فقال: بإبليس. فأتيناه فقصصنا عليه القصة فضحك، ثم قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري، وأهل مودتي، ثم قال: ألا اُحدّثك بحديث؟ قلنا: بلى. قال: اُعلمكم أنّي عبدت الله تعالى في السماء الدنيا ألف عام فسميت فيها العابد، وعبدت الله في الثانية ألف عام فسميت فيها الزاهد وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسميت فيها الراغب ثم رفعت إلى الرابعة، فرأيت فيها سبعين ألف صف من الملائكة يستغفرون لمحبي أبي بكر وعمر، ثم رفعت إلى الخامسة فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر. انتهى.

هذه هي اُسطورة ابن العماد ينقلها للطعن في الشيعة واظهار فضل أبي بكر وعمر، نقدّمها ليتّضح للقارئ مدى الشوط الذي لعبه الجهل في عقول الناس، حتى استخدموا الشياطين في أكاذيبهم (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيطانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمينَ لَفِي شِقَاق بَعِيد)(61) (وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ)(62).

اُسطورة ابن سبأ

ومن الأساطير التي أخذت مفعولها في المجتمع، وتأثّر بها أهله تأثّراً جعلهم يرسلونها إرسال المسلّمات، هي اُسطورة عبد الله بن سبأ. تلك الشخصية الموهومة التي لا وجود لها في التأريخ، وإنّما هي أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون. في أواسط الدولتين : الاُموية والعباسية; إذ بلغ الترف والنعيم أقصاه، وكلما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو اتّسع المجال للوضع، وراجت سوق الخيال، ونسج القصص والأمثال، كي تأنس بها ربّات الحجال والترف والنعمة(63).ولقد اندفع أعداء الشيعة في القرون المتوسطة إلى جعل اُسطورة عبد الله بن سبأ ذات شأن في تأريخ الإسلام، واسندوا إليه اُموراً يأباها البحث المبرّأ من الهوى، ويرفضها العقل السليم، فقد اخترعوا له أفعالاً ومواقف، وأسندوا إليه قصصاً ووقائع، وألبسوه أبراد العظمة، وادعوا له الشجاعة والبسالة; فهو الذي أثار حرب الجمل، وهيّأ جيش مصر لحرب عثمان، وأقام في الكوفة يثير الفتنة على عثمان وعمّاله، ويسير في أنحاء الأقطار الإسلامية بسرعة البرق ليوقد الفتنة، ويعود للمدينة فيؤلب الناس على عثمان، وتأثّر به كثير من كبار الصحابة. إلى آخر ما هنالك من الاُمور العجيبة التي حفت بها شخصية عبدالله بن سبأ.

وقد نصّ كثير من القدماء المحققين على نفي وجود شخصية عبد الله بن سبأ، و أنها اُسطورة وضعها أعداء الشيعة(64)... وكذلك ذهب جماعة من المتأخرين إلى نفيها(65)، وللمستشرقين آراء كثيرة في ذلك: يقول برنار ولويس: "وينسب كثير من المؤرخين المسلمين بداءات التشيع الثوري إلى رجل اسمه عبد الله بن سبأ وهو يهودي يماني، عاصر علياً وكان يدعو إلى تأليهه، فأمر علي بحرقه لما دعا إليه، ومن هنا قيل: إنّ أصل التشيع مأخوذ من اليهودية. ولكن البحث الحديث قد أظهر أنّ هذا استباق للحوادث وانّه صورة مثل بها الماضي وتخيلها الرواة في القرن الثاني الهجري من أحوالهم وأفكارهم السائدة"(66).

فهو يذهب بهذا الى أنّ فكرة عبد الله بن سبأ من تخيّل الرواة نظراً للأفكار السائدة، والأحوال التي كانوا عليها في انتحال القصص والخرافات (67) وأظهر فلهاوزن، وفريد لندر بعد دراسة نقدية: إنّ المؤامرات والدعوة المنسوبتين إلى عبد الله بن سبأ من اختلاق المؤرخين. وقال كايتاني: "إن مؤامرة مثل هذه بهذا التفكير وهذا التنظيم، لا يمكن ان يتصوّرها العالم العربي سنة (35 هـ) بنظامه القبلي القائم على سلطان الاُبوة، وأنّها تعكس العصر العباسي الأول بجلاء".

والغرض أنّ أمثال هذه الأساطير واختراع تلك الخرافات لا تخفى على من اعطاها نظرة صادقة، ووقف وقفة متريث، يريد أن يعرف الواقع، ويصل إلى معرفة البواعث التي أدّت إلى وضعها من قبل سلف مخدوع يسير وراء توجيهات الدولة. وقد تبعهم كثير من أبناء الجيل الحاضر وضربوا على وترهم لتصبح تلك الاُمور الخرافية قواعد ثابتة الاُصول وما هي في عرف الحقّ إلاّ: (وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَار* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(68). وسيأتي في الجزء السادس من هذا الكتاب بحث مستفيض عن هذه الاُسطورة.

وصفوة القول إنّ الاتهامات التي وجّهت للشيعة، إنّما تعود لأسباب سياسية، قد اتخذها الحكام وسيلة للقضاء عليهم، ومحو مذهبهم الذي أصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل الدولة، وشبحاً مخيفاً يقضّ مضاجعهم، لأنّه يتصل بأهلالبيت(عليهم السلام)، وهم أعداء للباطل وحرب على الظالمين.

وقد اتّضح إعلانهم الانفصال عن دولة لاتحترم الحقوق، وتسير بالاُمة على غير هدى، حتى عرف المنتمون لهم بذلك اتباعاً لهم واقتداءً بهم. فكانت من أبرز معالم سيرة أئمة أهل البيت وأهمّ خصائص مسيرة شيعتهم تعاهدها الأئمة الأطهار بالرعاية لكي يعلم الحكّام أنّ أمر العقيدة أبعد من مرماهم وأكبر من سياستهم.

قال الأنباري: كتبت الى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أربع عشرة (مرّة) استأذنه في عمل السلطان فلما كان آخر كتاب كتبته: إنّي أخاف على خيط عنقي وأنّ السلطان يقول: إنك رافضي، ولسنا نشكّ في أنّك تركت العمل للسلطان للترفض. فكتب إليَّ أبو الحسن: إني قد فهمت كتبك، وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وُليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى آخرالكتاب (69).

فيظهر جليّاً أنّ عدم معاونة الدولة والعمل لها آنذاك، يوقع الإنسان بتهمة التشيّع، الذي هو من أعظم الذنوب في ذلك العصر، لأنّهم - أي الشيعة - معارضون لذلك النظام، وناهيك ما يلقى المعارضون لحكام الجور من مقاومة وتنكيل. فإذا رأينا في بعض مراحل حكم بني العباس من عرف بالتشيّع والولاء لأهل البيت(عليهم السلام) وهو في محل من الدولة أو في مسؤولية من الحكم ولم يخف انتماءه، فذلك إن الكثير بقي على أمل إقامة الأمر على ما كانت عليه الثورة ضدّ حكم الاُمويين، كما أنّ كثرة شيعة أهل البيت الساحقة، وتزايد أعداد العلماء منهم وذوي الكفاءة في الشؤون المختلفة جعل من التخلّص منهم أمراً عسيراً. والذين كانوا في الولاية والعمل لأهل الجور منهم لا يفتأون يتّصلون بالأئمة(عليهم السلام)فيرشدوهم الى سبل خدمة الرعية وطرق تجنّب ظلم الناس كما كان عليه النجاشي مع الإمام الصادق، والأنباري الذي تقدّم ذكره مع الإمام الرضا(عليه السلام).

فانتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام)يعتبر في الواقع اتّساعاً للمعارضة، لذلك اجتهد حكّام الجور في معارضته والتنكيل بأهله، ولكنّه استطاع ان يصمد لتلك الاعاصير الجائحة، ويتخطّى تلك العقبات الهائلة، فانتشر على وجه البسيطة، فكان عدد المنتمين إليه مائة مليون أو يزيدون.

وجدير بمن يريد دراسة المذهب الجعفري أن يزن أقوال بعض علماء الرجال الذين ساروا في ركاب الدولة، ونفخوا ببوقها - عندما يترجمون لعلماء الشيعة - فيقولون مثلاً: فلان صدوق إلاّ أنّه مبتدع أو أنّه سيّء المذهب، أو زائغ عن الحق. كما قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب: انه صدوق إلاّ إنّه مبتدع، فلنا صدقه وعليه بدعته (70). إلى آخر ما هنالك من أقوال هي بعيدة عن الصواب. وإذا أردنا ان نسائلهم عن بدعتهم، فلا شيء هناك إلا مخالفة ما شرّعته السياسة لاما شرّعه الإسلام.

وقد رأيت قبل قليل كيف جعلت الأهواء من خالد بن عبدالله القسري المتّهم في دينه قائماً بإطفاء البدع، وابن عبدربّه السنّي متشيّعاً ومغالياً.

نقول هذا ونحن نأسف الأسف الشديد على ذوي التفكير من أبناء العصر أن يعوّلوا على أقوال قوم جرفهم تيار التعصّب، فكان فهمهم للمذهب الجعفري فهماً عاطفياً، لذلك نرى أكثر من كتب عن تأريخ التشريع الإسلامي وبيان المذاهب فيه، قد أهمل ذكر جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام). ولئن دلّ إهمالهم له على شيء فإنّما يدلّ على اعتزازهم بتلك النعرات الطائفية، وتلوث وجدانهم بالرواسب التي ورثوها من السلف المخدوع ليضعوها في طريق وحدة المسلمين في الوقت الذي يكونون فيه بأمس الحاجة إلى إزالة ما خلفته تلك العصور المظلمة، من عقبات تحول بينهم وبين التفاهم والوحدة، وما أحوجهم إليها اليوم لمقابلة أعداء الإسلام الذين يكيدون له بكلّ ما لديهم من حول وقوة، وما أخذناه ماهو إلاّ أمثلة قليلة للقضايا الكبرى التي اختلقها أعداء الشيعة وغيرها ممّا لا يحاط به ولا يحصى، ونحن في هذا العصر نطالب بأن تتبع طرق التفكير السليم والمنطق الصحيح من خلال الإجابة على سبب هذا التحايل والكره، ولماذا يبقى المرء أسير نظرة الأنظمة المتعسفة الذين اتجهوا ضد الشيعة، لأنّهم يمثّلون خطراً؟! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

(ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ)(71).

 

(1) حجة الله البالغة للدهلوي ج1 ص151.

(2) تذكرة الحفاظ ج1 ص206.

(3) مالك بن أنس للخولي ص318.

(4) مالك للخولي ص319 نقلاً عن القاضي عياض في الترتيب ج1 ص27.

(5) مرآة الزمان: القسم الأول ج8 ص44 .

(6) أبو حنيفة للسيد عفيفي المحامي ص6 .

(7) همم ذوي الأبصار ص51.

(8) توالي التأسيس للحافظ ابن حجر ص76.

(9) الاعتصام للشاطبي ج3 ص259.

(10) الوحدة الإسلامية للسيد رشيد رضا ص45.

(11) الدين الخالص للسيد محمد صديق حسن ج3 ص263.

(12) هود : 113 .

(13) الكافي ج5 ص107 ح 7.

(14) حلية الاولياء، للحافظ أبي نعيم ج3 ص194.

(15) بحار الأنوار ج47 ص184 ح 29.

(16) تاريخ الطبري ج9 ص298.

(17) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص182.

(18) إنّ هذا الحديث الشريف لجدير ببسط القول في ما جمعه من مقاصد جليلة، واُمور يجب على كلّ مسلم أن يتدبّرها، وقد ألّف علماؤنا في بيان مقاصده رسائل عديدة.

(19) فضائل الصحابة ج2 ص785 ح 1402 .

(20) ذخائر العقبى ص87.

(21) ديوان المتنبي: 191.

(22) الثائر الأول في الإسلام لمحمد عبد الباقي ص79.

(23) من وحي ذكرى الطف ومواسم إحياء الثورة الحسينية كتبنا "مع الحسين في نهضته" الذي هيأناه بإضافات وتنقيحات لطبعته الثانية إن شاء الله.

(24) تذكرة الحفاظ ج2 ص157.

(25) ذخائر العقبى ص87 .

(26) معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري ص55.

(27) سيأتي الكلام حول الاجتهاد والتقليد، وقد تقدم في الجزء الأول نقل آراء بعض العلماء ورؤساء المذاهب في لزوم فتح باب الاجتهاد.

(28) تهذيب الكمال ج5 ص74 ح950 .

(29) الكافي ج1 ص53 ح 14.

(30) شرح النهج ج1 ص158.

(31) بحار الأنوار ج46 ص132 ح22 .

(32) البداية والنهاية ج11 ص51.

(33) فجر الإسلام ص165.

(34) الأغاني ج2 ص173.

(35) فتوح البلدان للبلاذري ص289.

(36) الخب بفتح الخاء المعجمة: الغدر والخداع والغش.

(37) حركات الشيعة المتطرفين نقلا عن ابن مسكويه تجارب الاُمم ص435 ط ليدن .

(38) رجال الكشي ص224 ح 401.

(39) منهج المقال ص340.

(40) لسان العرب ج10 ص55.

(41) القاموس ج3 ص47.

(42) تاج العروس ج5 ص405.

(43) الصحاح ج1 ص63.

(44) لسان العرب ج10 ص55.

(45) روضات الجنان ص88.

(46) ضحى الإسلام، لأحمد أمين ج3 ص208 - 310، انظر فجر الإسلام ص276 - 277.

(47) الدكتور عادل العوّا ، الكلام والفلسفة ص31.

(48) آل عمران: 19.

(49) الحجرات: 10 .

(50) آل عمران : 103.

(51) فجر الإسلام ص276.

(52) فجر الإسلام ص277.

(53) هو الشيخ عبد الله القصيمي، مؤلف كتاب "الصراع بين الوثنية والإسلام".

(54) هو عنوان موضوع يأتي في هذا الكتاب إن شاء الله.

(55) العقد الفريد ج1 ص259.

(56) هو عامر بن شراحبيل، ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة (103 هـ) روى عن علي وابن مسعود وعمر ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة وعائشة، وهو من رجال الصحاح الستة.

(57) تاج العروس ج5 ص34.

(58) ربّ: بمعنى رابع واختصرت للضرورة الشعرية.

(59) اللفظ الذي جاء به وهو (حبس الرشيد رجلاً، فلمّا طال حبسه كتب إليه: إنّ كل يوم يمضي من نعمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب والحكم لله". العقد الفريد لابن عبدربه ج2 ص29 .

(60) شذرات الذهب ج1 ص25.

(61) الحج: 53.

(62) المؤمنون 97 - 98.

(63) أصل الشيعة واُصولها ص84.

(64) عبد الله بن سبأ للاُستاذ السيد مرتضى العسكري فهو خير كتاب في هذا الموضوع، فقد تتبع فيه أصل وضع هذه الاُسطورة.

(65) الفتنة الكبرى لطه حسين ص1، وخطط الشام لمحمد كرد علي ج6 ص251 - 256.

(66) اُصول الإسماعيلية ص86، انظر عبد الله بن سبأ لسليمان بن حمد العودة ص72.

(67) اُصول الإسماعيلية ص86 - 87.

(68) إبراهيم 26 - 27.

(69) الكافي ج5 ص111 ح 4 في باب عمل السلطان.

(70) ميزان الاعتدال ج1 ص118 / 1252 .

(71) البقرة: 232 .