الإمام الصادق (عليه السلام)في عهد المنصور

الإمام الصادق (عليه السلام)في عهد المنصور 

 

تمهيد 

انتقل الأمر بعد السفاح إلى أخيه أبي جعفر المنصور سنة (136 هـ) وكان السفاح لين الجانب مع أبناء عمه يصلهم ويتظاهر بالعطف عليهم ويتحمس لما نالهم من الأذى وما حل بهم من نكبات في العهد الاموي ويعلن بأخذ ثأرهم والانتقام من عدوهم .

وكان العلويون والعباسيون على وئام ولم تنقطع بينهم الصلات ولم يحدث بينهم ما يثير الأحقاد ويفرق الكلمة وإن كان العباسيون قد استأثروا بالأمر ونقضوا بيعتهم التي عقدوها بالأبواء لآل علي (عليهم السلام) .

ولكن المنصور الدوانيقي عندما ولي الحكم ومهد له الأمر غدر بأبناءعلي(عليه السلام) وتعرضوا في عهده لخطر شديد ونالهم من الأذى مالم يكنبالحسبان.

يقول السيوطي(272) : والمنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين وكانوا شيئا واحدا .

وإن سيرة حياته مليئة بتلك الحوادث المحزنة التي لقيها آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهده من قتل وسجن وتشريد كما أشرنا له من قبل .

لقد كان المنصور قوي النزعة الى انتهاز الفرصة للإيقاع بمن يظن به نشاطا

سياسيا أو علميا فهو يتوصل بكل وسيلة إلى نيل مقصده ولا يتوقف بأن يسيء إلى من أحسنوا إليه ويتنكر لمن قدموا له المعروف وغمروه بفضلهم .

يقول المقدسي(273): كان رجلا أسمر نحيفا طويل القامة قبيح الوجه دميم الصورة ذميم الخلق أشح خلق الله وأشد حبا للدينار والدرهم سفاكا للدماء ختارا بالعهود غدارا بالمواثيق كفورا بالنعم قليل الرحمة وكان جال في الأرض وتعرض للناس وكتب الحديث وحدث في المساجد وتصرف في الأعمال الدنية والحرف الشائنة وقاد القود لأهلها وضربه سليمان بن حبيب بالسياط في الجملة والتفصيل كان رجلا دنيا خسيسا كريها شريرا فلما أفضى الأمر إليه أمر بتغيير الزي وتطويل القلانس فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل فقال أبو دلامة في هجوه:

وكنا نرجي من إمام زياد *** فزاد الإمام المصطفى بالقلانس

تراها على هام الرجال كأنها *** ديار يهود جللت بالبرانس

وعلى أي حال فقد تقدم في الأبحاث السابقة من الجزء الأول بعض أخباره مع الإمام الصادق (عليه السلام) ومحاولته الفتك به مرارا ولكن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا فقد عصمه الله منه ودفع شره عنه .محاولة المنصور قتل الإمام (عليه السلام)

وهنا نعود لذكر بعض مالقيه الإمام الصادق (عليه السلام) في عهد المنصور لنأخذ صورة عن الحياة التي كان يحياها الإمام (عليه السلام) في عهده . وما من شك أن المنصور قد حاول عدة مرات أن يفتك بالإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) وأرسل إليه من يحضره عنده عدة مرات .

وقد عزم على الحج في سنة (147 هـ) لأجل القبض على الإمام الصادق(عليه السلام) فلم يتم له ذلك(274).ولكن هل أن المنصور سجن الإمام الصادق (عليه السلام) ثم أطلقه أم أنه كان يعزم على ذلك ويحضره أمامه ويترك عما عزم عليه ؟ .

وإن بعض المؤرخين قد ذكر أن المنصور قد حبس الإمام الصادق (عليه السلام)(275) وبعضهم لم يتعرض لذلك كما أن أكثرهم قد أهمل كثيرا من الحوادث التي جرت في عهد المنصور على أهل البيت(عليهم السلام) وبالأخص أخبار الإمامالصادق(عليه السلام) .

ونحن بعد ذكرنا لبعض أخبار الإمام (عليه السلام) مع المنصور نستطيع أن نقف على كثير من الحقائق :

حدث الربيع حاجب المنصور قال : لما استقرت الخلافة لأبي جعفر المنصور قال لي : يا ربيع ابعث إلى جعفر بن محمد .

قال الربيع : فذهبت إليه وقلت : يا أبا عبد الله أجب أمير المؤمنين فقام معي فلما دنونا من الباب قام الإمام الصادق فحرك شفتيه ثم دخل فسلم فلم يرد المنصور السلام ثم رفع رأسه إليه فقال :

يا جعفر أنت الذي ألبت علي ؟

فاعتذر إليه الإمام حتى سكن غضبه فقال : اجلس أبا عبد الله ثم دعا بمدهن غالية فجعل يطيبه بيده والغالية تقطر من بين أنامل المنصور ثم قال : انصرف أبا عبد الله وقال : يا ربيع اتبع أبا عبد الله جائزته وضاعفها .

قال الربيع : فخرجت فقلت : يا أبا عبد الله شهدت مالم تشهد وسمعت مالم تسمع وقد دخلت ورأيتك تحرك شفتيك عند دخولك إليه أشيء تؤثره عن آبائك الصالحين ؟

فقال الصادق : حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا حزنه أمر دعا بهذا الدعاء وكان يقول : هو دعاء الفرج :اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكفني بركنك الذي لا يرام واحفظني بعزك الذي لا يضام واكلأني في الليل والنهار وارحمني بقدرتك علي أنت ثقتي ورجائي فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري وكم من بلية ابتليتني بها قل بها لك صبري وكم خطيئة ركبتها فلم تفضحني فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني ويا من قل عند بلائه صبري فلم يخذلني ويامن رآني على الخطايا فلم يعاقبني يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا وياذا الأيادي التي لا تحصى عددا ويا ذا الوجه الذي لا يبلى أبدا وياذا النور الذي لا يطفأ سرمدا ! أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وأن تكفيني شر كل ذي شر بك أدرأ في نحره وأعوذ بك من شره وأستعينك عليه . اللهم أعني على ديني بدنياي وعلى آخرتي بالتقوى واحفظني فيما غبت عنه ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته . يامن لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة اغفر لي ما لا يضرك وهب لي ما لا ينقصك . يا الهي أسألك فرجا قريبا وأسألك العافية من كل بلية وأسألك الشكر على العافية وأسألك دوام العافية وأسألك الغنى عن الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . اللهم بك أستدفع مكروه ما أنا فيه وأعوذ بك من شره يا أرحم الراحمين(276)

وبهذا فقد رد الله كيد المنصور ودفع عن الإمام شره لأنه(عليه السلام) عليه من الله جنة واقية .

كما حدث الربيع مرة اخرى بأن المنصور أرسله لاستقدام جعفر الصادق(عليه السلام)لشيء بلغه عنه فلما وافى قال الحاجب :

أعيذك بالله من سطوة هذا الجبار فإني رأيت ضرره عليك شديدا .

فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : علي من الله جنة واقية تعينني إن شاء الله . استأذن لي عليه فلما دخل الإمام(عليه السلام) دار بينهما حديث طويل وكان الإمام يجيب عما يوجه إليه المنصور من تهم حتى هدأ غيظه وتصاغر أمام قوة الإيمان وسلطان الحق وقال المنصور : صفحت عنك لعذرك وتجاوزت عنك لصدقك فحدثني بحديث أنتفع به ويكون لي زاجرا عن الموبقات .

فقال الصادق (عليه السلام) : عليك بالحلم فإنه ركن العلم واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفي غيظا وتداوى حقدا ويحب أن يذكر بالصولة واعلم بانك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر فقال المنصور : وعظت فأحسنت وقلتفأوجزت.

وكان المنصور كلما دخل المدينة فلا يهمه أمر إلا الوقيعة بأبي عبد الله ويسلك إلى ذلك مختلف الطرق وشتى الوسائل ولكن الإمام (عليه السلام) كان بقوة إيمانه والتجائه إلى ما وعد الله المؤمنين من الدفاع عنهم فهو لا يهتم ولا يخشى بطشه .

وأرسل إليه مرة اخرى وهو بالمدينة كما حدث الربيع وقال: انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير فإن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتى تأتي أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) وقل له : هذا ابن عمك يقرئك السلام ويسألك المصير إليه في وقتك هذا فإن سمح بالمسير معك وإن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر إليه في ذلك .

قال الربيع : فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته معفرا خديه مبتهلا بظهر يديه قد أثر التراب في وجهه وخديه فأكبرت أن أقول له شيئا حتى فرغ من صلاته ودعائه ثم انصرف بوجهه .

فقلت : السلام عليك يا أبا عبد الله فقال : وعليك السلام ما جاء بك ؟ فأخبرتهالخبر .

فقال : يا ربيع (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم... )(277) .ويحك يا ربيع (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون* أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون* أفأمنوا مكر الله فلايأمن مكر الله إلاالقوم الخاسرون)(278) ثم قال : وعليه السلام ثم اقبل على صلاته ثم صرف إلي وجهه فقلت هل بعد السلام شيء ؟ فقال : قل له : (أفرأيت الذي تولى* وأعطى قليلا وأكدى* أعنده علم الغيب فهو يرى)(279).ثم قال له : بلغه إنا قد خفناك وخافت لخوفنا النسوة فإن كففت وإلا أجرينا اسمك في كل يوم خمس مرات إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أربع دعوات لا يحجبن عن الله : دعاء الوالد لولده والأخ بظهر الغيب لأخيه والمظلوم والمخلص .

وأرسل إليه محمد بن الربيع وأمره أن يأتيه به على الحالة التي هو عليها وقال : امض الى جعفر بن محمد فتسلق على حائطه ولا تفتح عليه بابا فيغير بعض ماهو عليه ولكن أنزل عليه نزولا فامتثل ما أمره .

قال محمد بن الربيع : فوجدته قائما يصلي فلما سلم من صلاته قلت : أجب أمير المؤمنين .

فقال (عليه السلام) : دعني ألبس ثيابي . فقلت : ليس إلى تركك من سبيل إلى أن جاء به على حالته وأدخل على المنصور فلما نظر إليه قال :

يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك على أهل هذا البيت من بني العباس وما يزيدك ذلك إلا شدة الحسد وما تبلغ به ما تقدره؟

فقال (عليه السلام) : والله ما فعلت شيئا من هذا ولقد كنت في ولاية بني امية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فو الله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفاهم الذي كان بي وكيف أصنع هذا ؟ وأنت ابن عمي وأمس الخلق بي رحما . فأطرق المنصور ساعة ثم رفع وسادة إلى جنبه فأخرج إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال : هذه كتبك إلى خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوكدوني.

فقال (عليه السلام) : والله ما فعلت وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيرني إلى بعض حبوسك حتى يأتيني الموت فهو مني قريب .

فقال : لا ولا كرامة ثم أطرق وضرب يده إلى السيف فسل منه مقدار شبر ثم رد السيف وقال : يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا السن أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين ؟ تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء ؟ .

فقال (عليه السلام) : لا والله ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي ثم أقبل على جعفر يعاتبه وجعفر يعتذر إليه ثم رفع رأسه وقال : اظنك صادقا(280).وعن عبد الله بن أبي ليلى قال : كنت بالربذة مع المنصور وكان قد وجه إلى أبي عبد الله فأتي به فلما جيء به صاح المنصور : عجلوا به قتلني الله إن لم أقتله . فأدخل عليه مع عدة جلاوزة فلما انتهى إلى الباب رأيته قد تحركت شفتاه ودخل فلما نظر إليه المنصور قال : مرحبا يا ابن عم مرحبا يا ابن رسول الله فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته ثم خرج فسأله ابن أبي ليلى عما قاله عند دخوله على المنصور فأجابه الإمام : نعم إني قلت :ما شاء الله ما شاء الله لا يأتي بالخير إلا الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله ما شاء الله كل نعمة فمن الله ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .(281)

وعن صفوان بن مهران الجمال قال : رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور أن جعفر بن محمد بعث مولاه المعلى بن خنيس بجباية الأموال من شيعته وأنه كان يمد بها محمد بن عبد الله فكاد المنصور أن يأكل كفه على جعفر غيظا وكتب إلى أمير المدينة أن يسير إليه جعفر بن محمد ولا يرخص له في التلوم والمقام . فلما بلغه قال لي : تعهد راحلتنا فإنا غادون في غد إن شاء الله إلى العراق فلما أصبح أبو عبد الله رحلت له الناقة وسار متوجها إلى العراق حتى قدم مدينة أبي جعفر فاستأذن وأذن له فلما رآه قربه وأدناه ثم أسند قصة الرافع على أبي عبد الله فقال الصادق (عليه السلام) : معاذ الله قال المنصور : تحلف على براءتك إلى أن قال المنصور: إني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك حتى يواجهك فجيء به واعترف أمام جعفر بصحة ما رفعه عنه . فقال أبو عبد الله : تحلف أيها الرجل ؟ قال : نعم ثم ابتدأ الرجل باليمين فقال الصادق : لا تعجل في يمينك . ثم حلفه بما أراد وانتقم الله من الساعي عاجلا .(282)

وعن محمد بن عبد الله الاسكندري قال : كنت من ندماء المنصور وخاصته فدخلت عليه فوجدته مغتما فقلت : ماهذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال لي : يا محمد لقد قتلت من أولاد فاطمة مقدار مائة وبقي سيدهم وإمامهم فقلت له من ؟ قال : جعفر الصادق فقلت : يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة فقال : يا محمد وقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك عقيم وقد آليت على نفسي أن لا أمسي عشيتي هذه أو أفرغ منه .

قال محمد : ثم دعا سيافا وقال له : إذا أنا أحضرت أبا عبد الله وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي من رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه ثم أحضر أبا عبد الله فرأيت المنصور يمشي بين يديه واستقبله وأجلسه على سريره . ثم قال : سل حاجتك يا ابن رسول الله قال : أسألك أن لا تدعوني ...(283).ونحن نستظهر من هذه الحوادث عدة امور :

1 إن حنق المنصور على الإمام ومحاولته الفتك به لم يكن لباعث عداء متأصل فهو قد اتصل به أيام المحنة وسمع الحديث وكان من المؤازرين له إذ المنصور كان من أكبر الدعاة للعلويين وقد بايع محمد ذي النفس الزكية وكان يدعو الناس للثورة على الامويين باسم العلويين .

ولكن المنصور عندما ولي الحكم وتحول إليه الأمر تنكر لأبناء عمه فكان حرصه على ملكه يدعوه لأن يقضي على أعظم شخصية منهم تتجه اليها أنظار العالم الإسلامي فقد كان موقف الإمام في عصر انتشار العلم وشهرته التي ملأت الآفاق تقض مضجع المنصور وتنكد عليه عيشه فوجود الإمام الصادق كان من أخطر المشاكل التي تواجهها دولة العباسيين لأنهم جلبوا قلوب الناس بالغضب على امية لسوء السيرة التي ارتكبوها مع أبناء علي فنالوا بذلك السلطان الذي ساعدهم الحظ على الحصول عليه فتظاهروا بالدين مع أن أعمالهم لا يمكن التوفيق بينها وبين نظم الإسلام الواقعية .

والإمام الصادق (عليه السلام) لعظيم منزلته كانت تتجه إليه الأنظار فبمجرد إنكاره على الدولة يشتد جانب المنكرين من العلويين وغيرهم فيتسع ميدان المؤاخذات . والدولة في دورها الجديد لا يمكنها أن تقف تجاه حزب العلويين وغيرهم لذلك نرى المنصور وقف بين السلب والإيجاب في قضية الإمام الصادق (عليه السلام) فهو يعزم على قتله مجازفا في ذلك ولكن دهاءه وحذره من سوء العاقبة يدعو إلى التريث فكان يتظاهر بالعطف حتى حان الزمن وحصلت الفرصة .

2 اتضح لنا من حديث إضبارة الكتب المزورة أن ذلك العمل يدل على وجود قوة متكاتفة من الدخلاء في الإسلام على السعي بكل جهد لتفريق الامة وإيقاد نار الفتنة بتزوير الكتب على الإمام الصادق (عليه السلام) وانتحال الأقوال التي يسلب لب المنصور سماعها ويخرج عن حدود اتزانه فيخاطب الإمام بتلك اللهجة القاسية التي لا تصدر إلا عن جاهل لا يعرف ما يقول .

وإن كنت لا أستبعد التزوير من المنصور نفسه أو من رجال بلاطه وعلى أي حال فإن الدخلاء في صفوف المسلمين يجهدون في إيقاد نار الفتنة لحصول ثورة دموية فيقفون موقف المتفرج وأينما أصابت فتح فإنهم يأملون بقتل الإمام الصادق (عليه السلام) حصول اضطراب وحوادث تؤدي إلى ضعف الدولة الفتية وانحلالها لأنهم يعلمون ما لأهل البيت في قلوب المسلمين من الولاء وأن الإمام الصادق هو الذي تجب طاعته وتحرم مخالفته وهم الذين يسميهم المنصور بالأوغاد . وفي الحقيقة هم علماء دار الهجرة وفيهم خيرة الشباب النابه وكذلك في سائر الأمصار .

والمحصل ان مسألة تزوير الكتب لا تخلو من اثنين : إما هؤلاء القوم الذين يريدون ضعف الامة الإسلامية وإما المنصور ورجالاته أرادوا أن يكون لهم طريقا لقتل الإمام وعذرا به يعتذرون للمنكرين عليهم ولكن الله رد مكر الجميع وخيب سعيهم وكان عليه من الله جنة واقية .

3 يظهر من رواية صفوان الجمال المتقدمة أن الإمام الصادق (عليه السلام) دخل بغداد وأفاد الناس بها من علمه «وإن بالجانب الغربي من بغداد على ضفة الفرات شمال جسره الغربي اليوم المعروف بالجسر القديم مكان يعرفه الناس بمدرسة الصادق وليس فيه اليوم أثر بين ولعله أفاد الناس فيه عند مجيئه إلى بغداد على عهد المنصور» (284).والغريب أن الخطيب البغدادي(285) لم يذكره ولكن لا يستغرب ذلك ممن نشأ في عصر احتدام التعصب الطائفي ولا تجهل نفسية الخطيب .

4 إن المنصور مهما بلغت به الحالة من الشذوذ والانحراف عن الإمام الصادق ومهما بلغ من عدائه وبغضه لا يجهل منزلة الإمام ويعرف له قدره . ولقد حاول أن يستميله ويجلب وده ولكن الإمام ابتعد عنه وأعلن سخطه عليه وعلى ولاته كما اتضح من سيرته فكان اهتمام المنصور بأمره أعظم من كل أحد لأن الملك عقيم ولا يقف أمام تركيز دعائمه شيء فقد أسرف المنصور في سفك الدماء في سبيل ذلك حتى قتل أقرب الناس إليه وأمسهم رحما به لقد قتل عمه عبد الله بن علي .

يحدثنا المسعودي : أن المنصور سلم عبد الله بن علي إلى أبي الأزهر المهلب بن أبي عيسى فلم يزل عنده محبوسا ثم أمره بقتله فدخل عليه ومعه جارية له فبدأ بعبد الله فخنقه حتى مات ثم مده على الفراش ثم أخذ الجارية ليخنقها فقالت : يا عبد الله قتلة غير هذه فكان أبو الأزهر يقول : ما رحمت أحدا قتلته غيرها فصرفت وجهي عنها وأمرت بها فخنقت ووضعتها معه على الفراش(286).كما يتضح لنا أن المنصور كان يخشى دعوة الإمام الصادق (عليه السلام) وكان يتهيبه في نفسه فهو يشعر بالتصاغر أمام هيبة الإمام مهما بلغت هيبة المنصور المصطنعة ومهما كانت عظمته في ملكه .

وقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) مجاب الدعوة وعرف الناس عنه ذلك فهو يلجأ إلى الله تعالى في كل ما يهمه ويفزع إليه في شدائده إذ الدعاء سلاح المؤمن ومخ العبادة .

وقد شاهد المنصور كثيرا من ذلك كدعاء الإمام الصادق (عليه السلام) على حكيم ابن عياش الكلبي شاعر الامويين مفتخرا بقتل زيد بن علي بقوله :

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة *** ولم نر مهديا على الجذع يصلب

وقستم بعثمان عليا سفاهة *** وعثمان أزكى من علي وأطيب

قال ابن حجر : فجاء رجل إلى جعفر الصادق فقال : هذا ابن عياش ينشد للناس هجاءكم بالكوفة . فقال : هل علقت بشيء منه ؟ فقال : نعم فأنشده الأبيات فرفع جعفر يديه فقال : اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبك فخرج حكيم فافترسه الأسد(287).وقصة رجل السوء الذي سعى بالإمام عند المنصور فلما حج المنصور أحضر الساعي وأحضر الإمام وقال للساعي: أتحلف؟ قال: نعم فحلف. فقال الإمام الصادق للمنصور: حلفه بما أراه فقال: حلفه فقال الإمام قل: برئت من حول الله وقوته والتجأت الى حولي وقوتي لقد فعل جعفر كذا وكذا. فامتنع الرجل ثم حلف فما تم حتى مات(288).

الإمام الصادق وولاة المنصور

وكانت له مواقف مع ولاة المنصور الذين كانوا يتحدون مقامه ويحاولون إيقاع الأذى تبعا لرئيسهم وامتثالا لأمره منها :

إن أحد ولاة المدينة خطب يوم الجمعة وكان الإمام حاضرا فحمد الله ثم ذكر عليا وتعرض له فقام أبو عبد الله الصادق بذاك الحفل وقال له :ونحن نحمد الله ونصلي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين . أما ما قلت من خير فنحن أهله وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى فاختبر يامن ركب غير راحلته وأكل غير زاده ! إرجع مأزورا .

ثم أقبل على الناس فقال : ألا انبئكم بأخلى الناس ميزانا يوم القيامة وأبينهم خسرانا من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق؟ فسكت الوالي ولم ينطق بحرف وخرج من المسجد .(289)

ومثل هذا لا يتحمله المنصور لأنه لا يخفى عليه فإن الرصد والعيون يوصلون إليه كل ما يصدر من الإمام الصادق فهو يتقد بنار غيظه ويتحين الفرص لإطفائها عندما يظفر به .

ولما كان داود بن علي واليا على المدينة بالغ في إيذاء العلويين وتتبع أنصارهم . وفي أيامه قتل المعلى بن خنيس قتله السيرافي صاحب شرطةداود .

وكان المعلى (رحمه الله)من مواليجعفر بن محمد وأتباعه وصودرت أمواله وتحمل ما تحمل في سبيل نصرة أهل البيت (عليهم السلام) . وقد ذكروا في سبب قتله أقوالا منها: أن المعلى طلب منه داود أن يدله على المخلصين من شيعة أهلالبيت فامتنع وهدده بالقتل وأصر على امتناعه وتفانيه وإخلاصه لأهل البيت (عليهم السلام) فأمر داود بقتله .

ومنهم من يرى أن قتله كان بسبب القيام بالدعوة لمحمد بن عبد الله ذي النفس الزكية وكان لهذا الحادث الأثر العظيم في نفس الإمام الصادق. وقد رأى في هذا الاعتداء اعتداء على حقه وحربا معلنة عليه يدل على ذلك عنف الاحتجاج الذي احتج به على الأمير والتهديد الذي هدده به فقد أجمعت روايات الباحثين في سيرته على أنه مشى إلى ديوان الأمير وهو محنق على خلاف عادته وألقى خطابا موجزا قال فيه :

«قتلت مولاي وأخذت مالي أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولاينام على الحرب ؟ وقد جرى إثر الخطاب أخذ ورد بين الإمام والأمير لايخلوان من العنف ولكن الأمير حاول التنصل وإحالة التقصير على صاحب شرطته . فكانت الحجة واهية . ولم يكن للأمير مهرب من القود فأمر بقتل السيرافي ولما أخذ ليقتل صرح القاتل قائلا : يأمرونني بقتل الناس فأقتلهم لهم . فيأمرون بقتلي .

وهي كلمة تدل على أن القاتل كان مأمورا بإزهاق روح المعلى بن خنيس وأنه امتثل أمر الأمير داود بذلك» (290).وكما قلنا : إن الإمام الصادق كان يلجأ إلى الله في مهماته فقد أهمه قتل المعلى ودعا على داود حتى سمعوه يقول : الساعة الساعة فما استتم دعاؤه حتى سمعت الصيحة في دار داود .

وأنه قال في دعائه : اللهم إني أسألك بنورك الذي لا يطفى وبعزائمك التي لا تخفى وبعزك الذي لا ينقضي وبنعمتك التي لا تحصى وبسلطانك الذي كففت به فرعون عنموسى(291)

وهكذا بقي أبو عبد الله يتحمل ضروب الأذى وأنواع المحن وكان الخطر محدقا به ويدل على ذلك حديثه المشهور وكلمته الخالدة : «عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها» (292)

وكان سفيان الثوري يكثر الدخول عليه قبل أن يشتد الأمر على الإمام ولما دخل عليه في تلك الأيام يطلب منه أن يحدثه قال : يا سفيان أنت رجل يطلبك السلطان وأنا رجل أتقي السلطان قم فاخرج غير مطرود .(293)

وخلاصة القول أن الإمام الصادق (عليه السلام) لقي في أيام المنصور محنا وواجه صعوبات لم يلق بعضا منها في العهد الاموي . كما أن المنصور اقتضت سياسته عند اشتداد ملكه أن يقضي على الإمام الصادق واتخذ شتى الوسائل في ذلك . فمرة يحضره للفتك به كما تقدم وكانت سلامته في تلك المواقف اعجوبة لأن المنصور لا يتوقف عن إراقة الدماء وليس له وازع يحجزه عن ارتكاب المحارم ولكن عناية الله وعينه التي كانت ترعى الإمام دفعت عنه كيده .

يحدثنا علي بن ميسرة قال : لما قدم أبو عبد الله على أبي جعفر أقام أبو جعفر مولى له على رأسه وقال له : إذا دخل جعفر بن محمد فاضرب عنقه فلما دخل أبو عبد الله نظر إلى أبي جعفر وأسر شيئا في نفسه ثم أظهره : «يا من يكفي خلقه كلهم ولا يكفيه أحد اكفني شر عبد الله بن علي ...» فسلمه الله من شره واستجاب دعاءه(294).وكان يعرف كيد المنصور ووسائله التي اتخذها ضده فمرة يرسل أموالا إلى العلويين علىيد رجال من أعوانه يتظاهرون بأنهم غرباء من أهلخراسان فإذا دفعوا المال إلى أحد من العلويين يأخذون منه كتابا بوصول المال .

وجاء أحد هؤلاء الرجال إلى الإمام الصادق وقد أرسل معه المنصور مالا جزيلا ليدفعه إليه وإلى عبد الله بن الحسن فجاء الرجل إلى المسجد وكان الصادق يصلي فيه فجلس خلفه ينتظره فالتفت الإمام إليه وقال : يا هذا اتق الله وقل لصاحبك يعني المنصور اتق الله ولا تغرن أهل بيت محمد فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج ...(295)

وكذلك كان المنصور يكتب رسائل مزورة على لسان بعض شيعة أهلالبيت ويرسلها بيد أعوانه ويحاول أن ينال غرضه عندما يحصل على جواب من الإمام لتلك الكتب والرسائل ولكنه لم يظفر بشيء من ذلك للخطة التي اتخذها الإمام ولنظره الصائب ورأيه السديد .

وكثرت السعايات به إلى المنصور واجتهد الوشاة بكل حيلة أن ينالوا قصدهم وغرضهم بذلك التقرب إلى المنصور بما يرفعونه إليه من أخبار الإمام التي تدور حول اتصاله بأنصاره وأوليائه في الحجاز والعراق وخراسان وأنهم كانوا يحملون زكاة أموالهم إليه وقد زوروا على لسانه كتبا إلى هؤلاء الأنصار يدعوهم فيها إلى خلع بني العباس .

وعلى أي حال فإن المنصور كان يهتم بأمر العلويين عامة وبجعفر بن محمد خاصة لأن شبح الثورة يلوح على الدوام في مخيلته فهو يقض ولا يقر له حال ويبذل كل مافي وسعه لتحصيل غايته .

سياسة المنصور تجاه العلويين

اقتضت سياسة المنصور أن يعامل العلويين معاملة قاسية لم يشهد التاريخ مثلها لأنه يعلم ويعلم كل أحد أن الامة ترى أهلية أهل البيت للخلافة وهم أولى بالأمر من غيرهم لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسبا ولما اتصفوا به من المؤهلات لذلك من وفور العلم والتمسك بالدين وقد برهنوا على عدلهم فيالحكم .

وقد كان العباسيون والعلويون من قبل يجمعهم السخط على أعمال الامويين كما ملأ سمع الدنيا انتصار العباسيين لأبناء عمهم فقد أظهروا للناس التودد لأهل البيت (عليه السلام) وكانوا يتفجعون لما نالهم من الامويين ويمسحون دموعهم المصطنعة بتلك الأيدي التي خضبوها من دمائهم فيما بعد وكانوا يظهرون للناس إنكارهم الشديد على الامويين لأعمالهم السيئة وما قابلوا به أهل البيت (عليهم السلام) بقلوب لا عهد لها بالرحمة كما أوضحوا ذلك في كثير من مواقفهم وأقوالهم وقد قطعوا على أنفسهم عهدا في نصرة آل محمد . ولما تم الأمر ونالوا غايتهم ونجحت خططهم التي دبروها في استغلال تلك الفرصة وتم لهم ما أرادوا نراهم يذيقون العلويين أنواع الأذى وضروب المحن وعاملوهم أعظم مما كان الامويون يعاملونهم به .

فقد كان المنصور يطارد العلويين ويضيق عليهم الدنيا ويذيقهم أنواع العذاب ولنا بما فعله مع اسرائهم منهم كفاية على عظيم ما كان يتحمله من الغيظ والحقد .

فقد جمع منهم جماعة فيالربذة وأثقلهم بالحديد وضربهم بالسياط حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم ثم حملهم إلى العراق على أخشن مركب وتوجه بهم إلى الكوفة فكانت خاتمة مطافهم ذلك السجن الضيق الذي لا يعرفون فيه الليل من النهار وسلط عليهم شرطة ابتعدوا على الرقة كابتعاده عن الإنسانية فقد عذبوهم بأمره .

كما أنه أمر أن تترك أجساد الموتى منهم في السجن . فاشتدت رائحة الجثث على الأحياء فكان الواحد منهم يخر ميتا إلى جنب أخيه .

ولما قتل إبراهيم بن عبد الله أرسل برأسه إلى أبيه مع الربيع وهو في السجن وكان أبوه عبد الله يصلي فقال له أخوه إدريس أسرع في صلاتك ياأبا محمد فالتفت إليه وأخذ رأس ولده وقال : أهلا وسهلا يا أبا القاسم والله لقد كنت من الذين قال الله عز وجل فيه : (الذين يوفون بعهد الله ولاينقضون الميثاق* والذين يصلون مآأمر الله به أن يوصل)(296) . فقال له الربيع : كيف أبو القاسم في نفسه ؟ . قال : كما قال الشاعر :

فتى كان يحميه من الذل سيفه *** ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابها

ثم التفت إلى الربيع فقال : قل لصاحبك قد مضى من يومنا أيام والملتقى القيامة .

فمكثوا في ذلك السجن لا يعرفون أوقات صلاتهم إلا بأجزاء من القرآن حتى كانت نهاية أمرهم أن أمر المنصور بهدم السجن على الأحياء منهم(297)ليذوقوا الموت من بين ألم القيود وثقل السقوف والجدران وكان منهم من سمر يديه في الحائط .

وهكذا اقتضت سياسة المنصور أن يعامل العلويين بهذه المعاملة القاسية وقد أمر ببعضهم فوضع بالبناء حيا .

ولما خشي المنصور عاقبة فعله مع أبناء الحسن خشي الإنكار عليه فقام خطيبا بالهاشمية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

يا أهل خراسان أنتم شيعتنا وأنصارنا ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيرا منا وإن ولد ابن ابي طالب تركناهم والذي لا إله إلا هو فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير إلى أن يقول : ثم وثب بنو امية علينا فأماتوا شرفنا وأذهبوا عزنا والله ما كانوا لهم عندنا ترة يطلبونها وما كان ذلك كله إلا بسببهم وخروجهم يعني العلويين فنفونا من البلاد فصرنا مرة بالطائف ومرة بالشام ومرة بالسراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا فأحيى الله شرفنا وعزنا بكم وأظهر حقنا وأصار الينا ميراثنا من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فقر الحق في قراره وأظهر الله مناره وأعز أنصاره وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الامور فينا على قرارها من فضل الله وحكمه العدل وثبوا علينا حسدا منهم وبغيا لهم بما فضلنا الله به عليهم وأكرمنا من خلافته ميراثنا من نبيه .. إلى آخر خطبته(298).ولا يخفى ما في هذه الخطبة من الامور المخالفة للواقع وإنما استعمل هذه اللهجة وسيلة لإرضاء أنصاره وخشية من إنكارهم عليه فهو يحاول أن يحل تلك المشكلة بهذه اللهجة الباردة. والواقع أن العلويين لم ينهضوا حبا للملك وطمعا في السيادة وإنما كانت مواقفهم مشرفة يدعوهم للنهوض إباؤهم للضيم ورعايتهم لمصلحة الامة وهو ما يفرقهم عن غيرهم وقد أقر المنصور في هذه الخطبة بأن ما لحقهم من بني امية كان بسبب مواقف العلويين.

ويعلل ابن الساعي نهضة العلويين بقوله : إن من يمعن النظر كل الإمعان بتاريخ الإسلام يعلم علما يقينا أن كل من خرج من أهل البيت ما كان ذلك إلا عن مصيبة نابته وذل إهانة فإن الامويين كانوا يمنون على الموالي وصعاليك العرب بمئات الألوف من الدنانير ويعطونهم الاقطاع والضيعات ويستعملونهم على الممالك ويستوزرونهم ويقترون على الفاطميين حتى يصير الفاطمي في ضيق ومحنة شديدة ويرى الذين يفرطون لبني امية ويتمسخرون لهم في مجالسهم ويشاركونهم في شرابهم وفسقهم وفجورهم يتقلبون بأنواع الرفاهة . فهنالك يهز الجماعة الفاطمية شرفهم ونخوتهم فيخرجون لا خروجا عن الطاعة ولا نقضا لبيعة(299) ولكن يقولون أرض الله واسعة فيهاجر أحدهم إلى ناحية من الأرض فيها قوم من امة جده فإذا وصلهم حركتهم نخوة الدين فاحترموه وأكرموه وألفته قلوبهم واجتمعوا عليه فمتى بلغ خبره الامويين قالوا: خرج ورب الكعبة وساقوا عليه القواد والجنود ولا يزالون حتى يتركوه شهيدا . وكذلك بنو العباس ...(300).ويجب هنا أن نلحظ الفرق بين خطة الامويين في معاملة أهل البيت وبين خطة العباسيين فإنهم يختلفون عن الامويين . فاولئك قد جاهروا بالعداء لأهلالبيت بكل ما للجهر بالعداء من طرق ولم يتكتموا في شيء من سياستهم . وهل بعد قتل الحسين (عليه السلام)وسبي نسائه وإعلان سب أميرالمؤمنين وجعل ذلك سنة متبعة من شيء يدعو إلى التكتم؟ ولكن العباسيين لم يسلكوا ذلك الطريق بل تظاهروا بالولاء لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) طمعا في السيطرة وحب اللإمرة .

وقد تحقق ذلك عندما ولي المنصور وتثبتت دعائم الدولة فأوقع بالعلويين فكانوا أول الضحايا وفيمقدمة القوافل التي تساق للسجون وساحات الإعدام . وقد تحدثنا عن بعض أعمال المنصور مع العلويين وتشريدهم وإراقة دمائهم . ولعل أفجع حادث وأشجى حديث هو حديث الخزانة وإليك بيان ذلك :

حديث الخزانة

وحديثها شجون فقد احتفظ المنصور بخزانة ادخرها ليوم لا ينفع فيه مال ولابنون ادخرها ليوم الفصل يوم يعض الظالم على يديه أجل ما هذه الخزانة التي احتفظ بها في حياته وأوصى بها المهدي بعد وفاته ودفع مفتاحها إلى ريطة زوجة المهدي وأوصاها أن لا تدفعها إلابيده عندما يصح لها موت المنصور؟ ولما مات المنصور وآن لريطة أن تنفذ وصيته بفتح تلك الخزانة ولعلها كانت تأمل أنها تحتوي على نفائس من الجوهر تحلي بها جيدها فوق ما وهبتها الكف الظالمة كما حظت ببغيتها من الخزائن الاخرى.

فجاءت مع المهدي ولا ثالث معهما إلا عين الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . فاستبقا بكل بهجة وسرور لفتح تلك الخزانة العظيمة فوجدوا هناك أشلاء مطرحة وجثثا هامدة وإليك حديثها : حدث الطبري في تاريخه قال :

لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي . وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد وعهد اليها ودفع اليها مفاتيح الخزائن وتقدم اليها وأحلفها ووكد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي ولا هي إلا أن يصح عندها موته فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة .

فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور أنه تقدم اليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحدا حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها وعمل عليها دكانا(301) . ولا حاجة بنا إلى بيان أكثر من هذا مما استعمله المنصور مع أهلالبيت .

تظاهر المنصور بالعدل

والذي يلفت النظر : هو محاولة المنصور تغطية أعماله بأقوال فارغة وادعاء كاذب وتظاهر بالزهد .

قيل لجعفر بن محمد (عليه السلام) : إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة وإنه يرقع قميصه .

فقال جعفر (عليه السلام) : الحمد لله الذي ابتلاه بفقر نفسه في ملكه(302)

وضرب كاتبه محمد بن جميل خمس عشرة درة لأنه لبس سراويل كتان وقال له : إن هذا من السرف وهو يحاول بذلك أن يفهم الناس بأنه أمين على أموال الامة ودينه يمنعه بأن يرى كاتبه يسرف في لباسه .

وخطب في يوم عرفة فقال :

أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وأنا خازنه على فيئه أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه باذنه فقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم فتحني وإذا شاء أن يقفلني أقفلني فارغبوا إلى الله أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم !(303)

فهو يحاول أن يتبرأ من عهدة بخله ويدعي طهارة ثوبه مما علق به من الدماء وأنه أمر يعود إلى الله وبأمره إذ هو سلطانه فيتبع الحق ويخالف الباطل ولكن الواقع غير ما يقول .

ثم نراه يصل إلى درجة اخرى من التظاهر بالقداسة بموافقة أعماله لما يرضي الله ولكنها امور ادعائية لا صلة لها بالواقع . فهو يقول في خطبةاخرى:

الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . فاعترضه معترض عن يمينه وهو أبو الجوزاء فقال : أيها الإنسان أذكرك من ذكرت به ؟ .

فقطع الخطبة ثم قال : سمعا سمعا لمن حفظ عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا ثم التفت إليه قائلا له : وإياك وإياكم معشر الناس اختها فإن الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت فردوا الأمر إلى أهله توردوه موارده وتصدروه مصادره وعاد إلى خطبته .(304)

فهو بهذا الرد يخيف الناس ويهدد من يرد عليه أو ينقد عمله لأنه يظهر نفسه بالمحافظة على الدين وأنه يحكم بأمر الله ولا يتبع الهوى وأنه رجل عدل ومثال تقوى إذ هو سلطان الله يعمل بمشيئته ولا يخالف حكمه; وكان ينقد سياسة الامويين وأعمالهم; مع أن عهده كان امتدادا للحكم الامويوزيادة .

قال المنصور يوما لعبد الرحمن الأفريقي : كيف سلطاني من سلطان بنيامية ؟ .

فقال عبد الرحمن : ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور إلا رأيته فيسلطانك(305).وكان عبد الرحمن هذا من أهل افريقيا يطلب العلم مع المنصور قبل الخلافة فلما ولي المنصور وظهر الجور في عهده قدم عبد الرحمن على المنصور فأقام ببابه شهرا لا يمكنه الدخول عليه .

فلما أذن له بالدخول قال له المنصور : ما أقدمك ؟

قال : ظهر الجور ببلادنا فجئت لأعلمك فإذا الجور يخرج من دارك ورأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم . فغضب المنصور وأمر بإخراجه(306).ولما حج المنصور في السنة التي مات فيها فبينما هو يطوف بالبيت إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو اليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.

فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا بالقائل فسأله عن قوله فقال : يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالامور على جليتها فقال : أنت آمن على نفسك ومالك .

فقال : إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت .

فقال : ويحك فكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء عندي ؟!

فقال : يا أمير المؤمنين لأن الله استرعاك للمسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجابا معهم من الأسلحة وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الضعيف ولا الفقير ولا الجائع ولا العاري وما منهم إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها وتجمعها فلا تقسمها قالوا : هذا قد خان الله تعالى فمالنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه فاتفقوا على أن لا يصل اليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا ولا يخرج لك عامل إلا أقصوه ونفوه حتى تسقط منزلته فلما اشتهر هذا عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم فكان أول من صانعهم عمالك في الهدايا ليقووا بهم على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة لينالوا بهم ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وفسادا وصار هؤلاء شركاؤك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول عليك فإن أراد رفع قصته إليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلا للمظالم فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفا من بطانتك وإذا صرخ بين يديك ضرب ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تفكر فما بقاء الإسلام على هذا(307).وقال له عمه عبد الصمد بن علي : لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو ؟!! فقال : لأن بني مروان لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة(308).ووقفت في طريقه يوم دخل المدينة ابنة صغيرة لعبد الله بن الحسن وهي تستعطفه وتطلب منه الرحمة والاشفاق عندما يقع نظره عليها وهي بتلك الحالة وتخاطبه برقة واستعطاف :

ارحم كبيرا سنه متهدم *** في السجن بين سلاسل وقيود

إن جدت بالرحم القريبة بيننا *** ما جدكم من جدنا ببعيد

وكانت تأمل إطلاق أسيرها رحمة بحالها ولكن المنصور عندما سمع صوتها قال : أذكرتنيه ثم أمر به فأحدر بالمطبق وضيق عليه سجنه وكان السجن خاتمة مطاف ذلك الأسير ونهاية حياته .

ورغم هذه الأعمال وما اتضح للناس من سوء السيرة والإجحاف بحقوق الرعية فقد كان يحاول أن يصبغ الدولة بصبغة دينية وأنه الوارث الشرعي لهذا الحق وهو القائم بالعدل .

كان المنصور يطارد العلماء الذين يأمرونه بالمعروف وينكرون أعماله ويقرب آخرين ممن خضع لغير الحق .

وكان يريق دماء أبناء رسول الله ويملأ السجون منهم بينما نراه يحتفظ بحصيرة بالية قد مرت عليها السنون يدعي : بأنها كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتبرك بها أمام الناس وجعل لها موضعا خاصا وخادما يحتفظ بها يحملها أوقات الصلاة أمام الناس ليظهر لهم أنه محافظ على آثار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تمويها وخداعا .

وكان يطلب من الزهاد والوعاظ أن يعظوه بمجلسه فيرق عند سماع الوعظ ويبكي ولكنه بدون اتعاظ وتجري دموعه ولكن بدون خشوع وإنما هو من باب : كف تذبح واخرى تسبح إلى غير ذلك من الامور التي كان يفعلها إغراء للناس ليغطي أعماله التي ارتكبها .

وسار على ذلك أحفاده ووضعت في دولتهم بشائر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون لهم في قلوب الناس اعتقاد راسخ وسلطة دينية فمن الأحاديث التي وضعت لإعلاء شأنهم ; اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمن أحبهم .(309)

وبصورة اخرى : «اللهم اغفر للعباس وولد العباس ولمن أحبهم اللهم اغفر للعباس ما أسر وما أعلن وما أبدى وما أخفى وما كان وما يكون منه ومن ذريته إلى يوم القيامة» (310). وهذه أحاديث مكذوبة كما حققها الحفاظ من علماء الحديث .

وبهذا يريدون أن يكونوا في سلامة من المؤاخذة وعليهم حصانة من العقاب كما حاولوا أن تكون دولتهم هي الدولة الصالحة التي يبشر بها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فرووا عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يسمى السفاح(311) وبلفظ آخر عن المهدي بن المنصور عن آبائه مرفوعا : ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي(312).يقول الدكتور أحمد أمين : فوضعت الأساطير حول العباس وعبد الله بن العباس وغيرهما من آل العباس من مثل ما يروى أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة لما اشتد القحط فسقاهم الله تعالى به وأخصبت الأرض فقال عمر : هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون له : ساقي الحرمين(313).وتصوير بعض المؤرخين بأنه أي عبد الله بن العباس سياسي محنك قدير كان يرسم الخطط لعلي بن أبي طالب مع أن أكبر مزية له في الواقع هي سعة علمه إلى غير ذلك(314).وقد حقق الحفاظ هذه الأحاديث وغيرها الواردة في حق بني العباس وقد نصوا على أنها موضوعة(315) من قبل أناس تقربوا إليهم بالكذب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عندما لمسوا رغبتهم في تأييد سلطانهم وأنهم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولياء الأمر . وإن ارتكبوا الجرائم وخالفوا الإسلام .

* * *

وعلى أي حال فإن المنصور الدوانيقي كان سيء السيرة مع أبناء علي (عليه السلام)وقد قابل الإمام الصادق (عليه السلام) بكل جفاء وغلظة وتشدد في أمره وحاول الفتك به مرارا حتى حان الوقت وحل الأجل فدس إليه السم وقضى عليه في سنة (148 هـ).

وقد تحمل الإمام الصادق (عليه السلام) من طاغية زمانه أكثر مما تحمله من خصومه الامويين ولكنه (عليه السلام) لم تهن عزيمته وسار في نهجه الذي نهجه لنفسه من الدعوة إلى الله ومناصرة المظلومين وإعلان الغضب على المنصور ووجوب مقاطعته وعدم المؤازرة له والمعاونة معه لأن حكومته غير شرعية فهو ظالم غاشم وحاكم مستبد .

ولم تلن قناته يوما ما أو يخدع بحيل المنصور فيتحول عن رأيه أو يتنازل عن أحقيته للإمرة دونه ولكن الوقت لم يأت والزمان ليس بزمانه ولا يريد أن يزج الامة في حرب طاحنة تكون نتائجها غير مرضية . فسلك(عليه السلام) طريق التريث والنظر إلى العواقب ونهض إلى إصلاح المجتمع ليصلح وضع الدولة وحاول تطهير القلوب من رواسب الخلافات التي خلفها العهد الاموي ووسع دائرتها العهد العباسي .

الشيعة وأهل البيت

ومن حقنا هنا أن نشير إلى عظيم المحنة والخطر الجسيم الذي حل بأتباعه(عليه السلام) من بعده وما اتخذته السلطات الغاشمة في إنزال العقوبة بهم .

لقد ارتبط اسم الشيعة باسم أهل البيت فهم أنصارهم من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ عرف المحب لعلي بأنه شيعي له ثم شمل المناصر له وهكذا أهل بيته فإن أنصارهم وأتباعهم شيعة لهم .

وبطبيعة الحال أن ينالوا من الأذى مالم ينل غيرهم; لأن أهل البيت (عليهم السلام) في جميع الأدوار هم المعارضون لتيار الظلم وهم دعاة الحق والعدل فأريقت دماؤهم ونالهم من طغاة زمانهم ما يقف القلم عند بيان بعض تلك المآسي فكيف الاحاطة بها وسردها جميعا.

وإذا كان أهل البيت أنفسهم لم يسلموا من نقمة الظالمين وسخط الجبارين فالشيعة أولى بأن تشتد عليهم المحن وتتوجه إليهم سهام الانتقام .

وقد خاض الشيعة عدة معارك وبذلوا أنفسهم في سبيل مناصرة دعاة الحق والعدل ولم يثنهم الخوف أو تحولهم الأطماع عن منهجهم الذي ساروا عليه فكانوا في معارضتهم يثقلون كاهل الدولة واسم التشيع يدخل الرعب في قلوب الحكام ولهذا فقد سلكوا في معارضة الشيعة كل الطرق .

وقد أدخل اولئك الحكام بمعاونة علماء السوء في روع أتباعهم أن الشيعة إنما يناصرون آل محمد لا رعاية لحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصاياه فيهم وأنهم عدل القرآن بل إنهم اعتقدوا أنهم آلهة وهم بهذا يحاولون تكفير الشيعة .

كما أنهم حرموهم من كل ما يتمتع به غيرهم من سعة العيش وحرية الفكر وإظهار العقائد وإقامة الشعائر الدينية .

فكان الزنديق يعيش في سعة من العيش وإن أنكر الخالق والحد في عقيدته فلا يؤاخذ بشيء ما دام مسالما للدولة .

والشيعي مضايق من كل جهاته ويرمى بسوء العقيدة مع اقراره لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ولا يسلم من الطعن لأنه معارض للسلطة . فمنعوهم من الحديث ومن يأخذ الحديث عنهم يناله سوء الاتهام ووسموهم بالخروج عن الدين واتهموهم بالزندقة والإلحاد ليتوصلوا إلى حلية دمائهم ورد رواياتهم .

هذا إجمال سنفصله فيما بعد وقد أشرنا لبعضه من قبل وذكرنا ما بذل الولاة في محاربة الشيعة ودعايتهم ضد أهل البيت وأتباعهم ما خرجوا عن الواقع المحسوس واستعملوا الخرافات والأباطيل ليضلوا الناس عن طريق الحق ونهج الرشاد .

ونحن نأمل كما يأمل كثير من الناس أن تهزم خرافات الأجيال الماضية بقوة العلم وتخضع تلك الأشباح الهائلة على التقهقر فقد وقفت في طريق وحدة المسلمين واتفاقهم لتعود لواقعها من حيث هي وتكشف الحقائق ويظهر لجيلنا المثقف خطأ الوضع; فإنه لا يكاد يخضع لتلك الخرافات التي هيمنت على عقول الأجيال زمنا طويلا .

ولننتقل الآن إلى البحث عن حياة الإمام مالك بن أنس الأصبحي الإمام الثاني من الأئمة الأربعة ونتعرف عليه ملتزمين البحث التاريخي بدون تعصب له أو عليه .

 

 (272) تاريخ الخلفاء ص102 .

(273) البدء والتاريخ ج6 ص90 91 .

(274) النجوم الزاهرة لجمال الدين الأتابكي ج2 ص6 .

(275) سمط النجوم الغوالي للعصامي المكي ج3 ص239 .

(276) عيون الأدب والسياسة لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل ص163 .

(277) الحديد : 16 .

(278) الاعراف : 97 99 .

(279) النجم : 33 35 .

(280) البحار ج47 ص195 197 .

(281) كشف الغمة ج2 ص412 .

(282) البحار ج47 ص200 201 .

(283) البحار ج11 ص124 .

(284) حياة الإمام الصادق لشيخنا المظفر ج1 ص146 .

(285) هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي أبو بكر الخطيب المتوفى سنة (463 هـ) تفقه على مذهب الشافعي ورحل إلى نيسابور في سنة (415 هـ) لاضطراب الأحوال ببغداد وحدوث التعصب بين المذاهب وقد آذاه الحنابلة واستتر في فتنة البساسيري وخرج الى الشام لأنه كان على مذهب أحمد ابن حنبل قال ابن الجوزي : فمال عنه أصحابنا لما رأوا من ميله الى المبتدعة وآذوه فانتقل إلى مذهب الشافعي وتعصب في تصانيفه . كما أن الحنفية حملوا عليه وفسقوه .

(286) مروج الذهب ج3 ص230 .

(287) الإصابة ج1 ص395 .

(288) الكواكب الدرية ج1 ص94 .

(289) البحار ج47 ص165 .

(290) بحوث في فقه الرجال للمكي العاملي ص189 نقلا عن «اختيار معرفة الرجال ص379 حديث 710 مؤرخ العراق لابن الفوطي لفضيلة العلامة الشبيبي.

(291) الكافي ج2 ص557 .

(292) البحار ج75 ص202 ح35 .

(293) الكافي ج2 ص561 .

(294) الكافي ج2 ص561 .

(295) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص302 .

(296) الرعد: 20 21 .

(297) مروج الذهب ج3 ص299 الكامل لابن الأثير ج4 ص371 .

(298) مروج الذهب للمسعودي ج3 ص312 .

(299) لم تكن للعباسيين بيعة في رقاب العلويين فإنهم لم يعترفوا بولايتهم ولم يلزموا بالبيعة لهم وعلى هذا ساروا وتبعهم أنصارهم .

(300) تاريخ ابن الساعي ص36 .

(301) تاريخ الطبري ج6 ص344 .

(302) الكامل لابن الأثير ج6 ص13 .

(303) تاريخ الطبري ج6 ص330 .

(304) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص105 .

(305) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص105 .

(306) تاريخ بغداد ج10 ص215 .

(307) تاريخ ابن الساعي ص19 .

(308) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص104 .

(309) تاريخ بغداد ج10 ص39 .

(310) انظر شرح الهمزية لابن حجر ص318 .

(311) تاريخ بغداد ج1 ص48 .

(312) تاريخ بغداد ج1 ص 48 .

(313) أسد الغابة ج3 ص111 .

(314) ضحى الإسلام ج2 ص29 .

(315) الموضوعات لابن الجوزي ج2 ص30 37 .