تَدوين العِلم

 

تَدوين العِلم

 

أوّل من دوّن العلم

هذا تمهيد لأبحاث تأتي فيما بعد حول علم الحديث وسائر العلوم، فإنّ لعلم الحديث أهمية كبرى، فهو المدار لتفصيل الأحكام وتبيين الحلال من الحرام. وقد اعتنى رجال الاُمة في معرفة الأحاديث النبوية، وسنتعرض لبيان أقسامه وصفات رواته بما له تمام الصله بموضوعنا، والكلام هنا يقع حول أمرين:

1 ـ في أيّ عصر ظهر التدوين، هل هو في الصدر الأول ، أم في العهد الاُموي ، أم في العهد العباسي؟

2 ـ في تعيين أول من دوّن في الإسلام.

اختلفت أقوال المؤرخين في ذلك فمن قائل: إنّ التدوين ظهر في عهد الصحابة ، ومنهم من يقول : إنّه في آخر العهد الاُموي، وأنّ عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة (101هـ) أمر بجمع السنن فكتب دفاتر فبعث بها إلى كلّ بلد، أو أنّه أمر ابن شهاب الزهري بالتدوين، إلى غير ذلك من الاختلاف في الأقوال. وها نحن ذا ندرس الموضوع لنقف على حقيقة الأمر والواقع، ولا مشاحة فإنّ حركة التأليف كانت في العصر العباسي قويّة والنزعة إلى ذلك شديدة، لتشجيعهم الحركة العلمية، وانتعاش العلوم في ظلّ سلطانهم، لأنّهم يحاولون أن يصبغوا الدولة صبغة دينية وجعل اُمورها على منهاج شرعي، كما اقتضت سياستهم لذلك، وقد مرّ بيانه.

وهنا لا بدّ لنا أن نتعرّض للأقوال في تدوين العلم لاستكشاف الحقائق، ومعرفة السابق إلى التدوين في الإسلام.

قال السيوطي في شرح الموطأ: أخرج الهروي في ذمّ الكلام من طريق الزهري: أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن واستشار فيه أصحاب رسول اللّه، فأشار عليه عامتهم في ذلك، فلبث شهراً يستخير اللّه في ذلك شاكاً فيه، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له فقال: إني ذكرت لكم من كتابة السنن ماقد علمتم، ثمّ تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم كتبوا مع كتاب اللّه كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه، وإنّي واللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء ، فترك كتابة السنن(88).

وكان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتابة العلم وتخليده في الصحف كعمر، وابن عباس، والشعبي ، وقتادة ومن ذهب مذهبهم.

قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: «من كره كتابة العلم إنّما كرهه لوجهين: أحدهما أن يتّخذ مع القرآن كتاباً يضاهي به، ولـئلاّ يتّكل الكاتب على مايكتب ، فلا يحفظ فيقلّ الحفظ» (89).

وهذا هو رأي عمر وما أدّى إليه اجتهاده في ذلك. وقال ابن عبد البر أيضاً: كان اعتماد الصحابة أولاً على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى التدوين، فلما انتشر الإسلام وتفرّقت الصحابة ومات معظمهم مست الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة(90).

وبهذا يظهر أنّ التدوين عندهم متأخر عن الصدر الأول ، كما مرّ من رأي عمر في ذلك، ويذهب الغزالي إلى أنّ حدوث التدوين كان في سنة (120هـ)، وبعضهم يرى أنّه قبل ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز.

جاء في الموطأ أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمر ابن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول اللّه أو سنته فاكتبه فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية والقاسم بن محمد بن أبي بكر. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الآفاق: «اُنظروا إلى حديث رسول اللّه فاجمعوه» (91).

وأبو بكر بن محمد بن عمر هذا كان أنصارياً مدنيّاً، ولي القضاء على المدينة لسليمانبن عبد الملك ولعمر بن عبد العزيز، وتوفي سنة (120هـ)، وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز سنة (99هـ) إلى سنة (101هـ)، فعلى هذه الرواية قد يكون أمر أبيبكر بالجمع حوالي سنة (100هـ).

يقول الدكتور أحمد أمين: ولكن هل نفّذ هذا الأمر؟ كلّ ما نعلمه أنّه لم تصل إلينا هذه المجموعة ولم يشر إليها ـ فيما نعلم ـ جامعو الحديث بعد، ومن أجل هذا شكّ بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر ، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهمّ المراجع لجامعي الحديث، ولكن لا داعي إلى هذا الشكّ، فالخبر يروي لنا أنّ عمر أمر، ولم يرو لنا أنّ الجمع تمّ. فلعلّ موت عمر سريعاً عدل بأبي بكر عن أن ينفذ ما أمر به(92)، فلمّا جاء العصر العباسي وانتصف القرن الثاني بدأ التأليف في الحديث، كما بدأ في العلوم الاُخرى، ووجدت هذه النزعة إلى تدوين الحديث في أمصار مختلفة وفي عصور متقاربة، ففي مكّة جمع الحديث ابن جريح المتوفى سنة (150هـ) ـ الرومي الأصل ـ ولم يوثقه البخاري ، وقال : «إنّه لا يتابع في حديثه» (93) وفي المدينة محمد بن إسحاق المتوفى سنة (151هـ) ومالك بن أنس المتوفى سنة (179هـ)، وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة (160هـ)، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة (156هـ)، وحماد بن سلمة المتوفى سنة (176هـ)، وبالكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة (161هـ)، وبالشام الأوزاعي المتوفى سنة (156هـ)، وباليمن معمّر المتوفى سنة (153هـ)، وبخراسان ابن المبارك المتوفى سنة (181هـ)، وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة (175هـ).

قال في كشف الظنون: واعلم أنّه اختلف في أوّل من صنّف في الإسلام، فقيل الإمام عبد العزيز بن جريح البصري المتوفى سنة (155هـ)، وقيل أبوالنضر سعيد بن عروبة المتوفى سنة (156هـ) ، ذكرهما الخطيب البغدادي، وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة (160هـ)، ثم صنّف سفيان بن عيينة المتوفى سنة (198هـ)، ومالك بن أنس بالمدينة، وعبد اللّه بن وهب المتوفى سنة (198هـ) بمصر، وعبد الرزاق باليمن، ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة، وحماد بن سلمة، وروح بن عباد بالبصرة، وهيثم المتوفى سنة (183هـ) بواسط، وعبداللّه بن المبارك المتوفى سنة (182 هـ) بخراسان(94).

قال الغزالي في الإحياء: بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين ، وإنّما حدثت بعد سنة (120هـ) من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجلّ التابعين، وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب لئـلاّ يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبّر والتذكّر وقالوا: احفظوا كما كنّا نحفظ... وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك تصنيف الموطأ، ويقول: ابتدع مالم تفعله الصحابة، وقيل أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جريح في الآثار، وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس بمكة، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني المتوفى سنة (154هـ) باليمن جمع فيه سنناً مأثورة نبويّة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك، ثم جامع سفيان الثوري، ثم في القرن الرابع حدثت مصنفات في الكلام، وكثر الخوض في الجدال، والخوض في إبطال المقالات(95).

وقال ابن عبد البر عن عبد العزيز الداروردي قال : أوّل من دوّن العلم وكتبه ابن شهاب. وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كنّا نكتب الحلال والحرام . وكان ابن شهاب يكتب كلّ ماسمع(96).

وقال السيوطي : أوّل القضاة بمصر سجلّ سجّلاً بقضائه سليم بن عز: قضى في ميراث وأشهد فيه، وكتب كتاباً بالقضاء وأشهد فيه شيوخ الجند، فكان أول القضاة تسجيلاً، وكانت ولايته من سنة (40هـ) إلى موت معاوية، فترى من هذا أنّ الجمع بدأ في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني ـ غالباً ـ وأنّ الفكرة فشت في الأمصار المختلفة ، ومن الصعب تحديد أي مصر كان له السبق، إلاّ إذا اعتبرنا أنّ ابن جريح في مكة كان أسبق هؤلاء العلماء موتاً، فيكون أسبقهم تأليفاً، وربما قلّد في ذلك ، وعمت الفكرة في الأمصار من طريق الحج، فالعلماء الذين رحلوا إلى مكة أخذوا فكرة جمع الحديث منها أثناء حجّهم ، ونشروها في بلادهم ، وجمعوا ما في مصرهم من الحديث كما جمع ابن جريح أحاديث مصره(97).

الشيعة والتدوين

هذا ملخّص ما في الباب من الاختلاف وكثرة الأقوال. ومن المؤسف له أنّ أكثرهم أهمل ناحية سبق أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم إلى التدوين في جميع العلوم الإسلامية. ولا يستغرب هذا فالظروف قد اقتضت ذلك، نظراً لسياسة الوقت، فعدم تعرّضهم لذلك لا لجهة العدم، وإنّما هي اُمور لا تخفى على المتتبع . والحقّ الذي لا غبار عليه: أنّ أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هم الحائزون على قصب السبق، وقد وجّهوا عنايتهم التامّة في تدوين العلوم، واحتفظ تلامذتهم والمختصّون بهم بذلك . فسجّلوا ما تلقوا عنهم، وحفظوا ما أخذوه منهم.

يقول العلاّمة مصطفى عبد الرزاق عند ذكره لأوّل من دوّن الفقه: وعلى كلّ حال فإنّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأنّ اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حريّاً أن يسوقهم إلى الحثّ على تدوين أقضيتهم وفتاواهم(98).

وإنّ أسبق كتاب في الفقه هو كتاب قضاء الإمام علي بن أبي طالب الذي كان عند ابن عباس منه نسخة يعتمد عليها.

أهل البيت(عليهم السلام) أول من دوّن العلم

رأينا كيف اختلفت الأقوال في تعيين السابق إلى تدوين العلم في الإسلام، والمحاولة التي تقضي بظاهرها صرف الحقّ في ذلك عن أهله، كغيرها من المحاولات التي اتخذت ضدّهم من قبل المناوئين لهم، وخصومهم الذين كان يزعجهم ذكر آل محمد بخير، لأنّ ذلك يدخل على خصومهم القلق، وعدم الاستقرار والتنعّم في ملاذّ الحياة، ولكنّ أكثر المسلمين احتفظوا بالولاء لهم رغم كلّ محاولة.

وإنّ لأهل البيت قدماً راسخاً في العلم، وآثاراً خالدة في الإسلام. وفي الواقع أنّ أوّل من دوّن العلم هو سيّد الأوصياء وإمام البلغاء عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وإنّ أسبق كتاب في الفقه هو كتاب الإمام عليّ(عليه السلام) وأحكامه، فقد كانت عند ابن عباس منه نسخة ينظر فيها لأخذ أهمّ القضايا في القضاء عنه، وكان عند الإمام الباقر(عليه السلام) نسخة من كتاب علي(عليه السلام)بخطّه يرجع إليه وتوارثه أولاده وأحفاده، كما أنّ عندهم صحفاً بمختلف الفنون والعلوم يتوارثونها عنه واحداً بعد واحد. ودوّن تلاميذه في عصره ما سمعوه منه وتلقّوه عنه من الأحكام في الدين. كعبد اللّه بن أبي رافع، والأصبغ بن نباتة ، وغيرهم الذين يأتي ذكرهم(99).

عهد الإمام عليّ(عليه السلام) لمالك الأشتر

إنّ أعظم أثر خالد دوّنه الإمام علي بن أبي طالب هو عهده لمالك الأشتر الذي يحتوي على أهم القواعد والاُصول التي تتعلق بالقضاء والقضاة، وإدارة الحكم في الإسلام، وقرر فيه قواعد مهمة في التضامن الاجتماعي، بل التعاون الإنساني في إقامة العدل، وحسن الإدارة، والسياسة وبيان صلاح الهيئة الاجتماعية ، وتنظيم الجيش، وبيان الخراج وأهميته ، وكيف يجب أن تكون المعاملة فيه، والنظر في عمارة الأرض وما يتعلّق بذلك من اُصول العمران، وما فيه صلاح البلاد ومنابع ثروته، وما للتجارة والصناعة من الأثر في حياة الاُمّة، إلى غير ذلك من القواعد الهامة التي تهدف إلى أسمى هدف في العدل الإسلامي، وهو لا يعدّ في عداد الرسائل أو العهود القصير ة الموجزة، بل هو يعتبر في الواقع كتاباً مستقلاً له أهمّيته في التشريع الإسلامي، حتى أصبح موضع العناية من رجال الفكر. وأعطوه كبير عناية بالشرح والإفاضة واعتنى به علماء القانون وساسة الاُمم، فهو أثر خالد ومفخرةالإسلام على ممر الدهور، إذاً فليس من الصحيح إهماله وجعله جزءاً من كتاب ، بل هو كتاب برأسه، وقانون للتشريع الإداري بذاته.

ولهذا العهد شروح عديدة، منها:

1 ـ شرح العـلامة المصلح مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده المتوفى سنة (1323هـ) الموسوم «مقتبس السياسة» المطبوع سنة (1317هـ) .

2 ـ شرح السيد الماجد البحراني، وسماه «التحفة السليمانية» شرحه في ستين فصلاً، طبع في طهران .

3 ـ شرح المولى محمد صالح الروغني القزويني من علماء القرن الحاديعشر.

4 ـ شرح المولى محمد باقر، وقد يظن أنّه المجلسي المتوفى سنة (1111هـ).

5 ـ شرح سلطان محمد المتوفى سنة (1354 هـ) الموسوم أساس السياسة في تأسيس الرياسة.

6 ـ شرح العـلاّمة الهادي البرجندي المطبوع سنة (1355هـ) .

7 ـ شرح الحسين الهمداني الموسوم «هدية الحسام لهداية الحكام».

8 ـ ترجمة الفاضل محمد جمال الدين لهذا العهد الشريف إلى اللغة التركية منظوماً نظماً لطيفاً .

9 ـ شرح العلاّمة الشيخ عبد الواحد المظفر، أسماه ( السياسة العلوية) مخطوط يقع في ثلاثة أجزاء .

10 ـ وشرحه شرّاح نهج البلاغة بشروح وافية، كابن أبي الحديد، والشيخ ميثم، وغيرهما من العلماء الأعلام، ويزيد عدد شروح نهج البلاغة على المائة شرح باللغة العربية وغيرها .

11 ـ شرح القانوني الكبير الاُستاذ توفيق الفكيكي الموسوم بـ «الراعي والرعية» وهو شرح يمتاز عن غيره بكثير من النواحي ، أهمها تطبيقه تلك القواعد على نظم العصر الحاضر من القوانين الحديثة، وقد طبع في النجف سنة (1358 هـ) ويقع في مجلدين.

كما أنّ لهذا العهد شروحاً كثيرة لا يمكن الإحاطة بها، ذكرها شيخنا الحجة الشيخ محسن الطهراني في كتابه «الذريعة».

فكتاب عهد الإمام علي بن أبي طالب هو المثل الأعلى للحكم في الإسلام لما فيه من أهمّ القواعد السياسية ، والإدارية، والقضائية ، والمالية، والنظريات الدستورية، التي تتضمن السعادة لما فيها من نظام عادل.

فجدير إذا اعتنى به علماء الاُمة، ورجال الحكم، وأرباب السياسة والتشريع والقضاء وأعطوه أهمية كبرى وعناية عظيمة .

وسار أولاده وأحفاده في تشجيع حركة التدوين، واحتفظ التاريخ بكثير من تلك الآثار الخالدة.

رسالة الحقوق للإمام زين العابدين

ويجب أن لايغيب عن بالنا ما لرسالة الحقوق التي كتبها الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فهي في الواقع من أعظم الكتب التي دوّنت في القرن الأول، وهي تحتوي على خمسين فصلاً في بيان أهم الحقوق التي يلزم الإنسان القيام بها، لما في ذلك من صلاح الهيئة الاجتماعية في سياسة الإنسان نفسه، وسيرته مع أبناء جنسه، وما يلزم على الحكام في سيرتهم مع الرعية، وما يجب على الرعية للحكام، ومايجب على العبد من العبودية للّه وشكره، والقيام بما يجب عليه إلى غير ذلك من بيان أهم الحقوق والواجبات كحقّ الصلاة، وحقّ السلطان، وحقّ الرعية، وحقّ الرحم، وحقّ الوالد، وحقّ الولد، وحقّ الجليس والصاحب ، وحقّ الخصم، وحقّ الغريب... إلى آخر فصولها القيّمة، وهي كبيرة، وقد طبعت في طهران في ضمن كتاب تحف العقول، وشرحها الخطيب السيد حسن القبانجي شرحاً وافياً في مجلدين طبعا في النجف الأشرف.

مسند زيد بن عليّ ومدونته الفقهية 

ولزيد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب(عليه السلام) مسند كبير، جمع فيه الحديث عن آبائه وأخيه الباقر(عليهم السلام) ، وهو لايزال محل اعتماد المحدثين، ونقلوا عنه في كتب الحديث، ويرمزون له: بـ «ز» . وعدّه في كتاب مفاتيح كنوز السنة من الكتب المعتمدة المنقولة عنها، وكذلك لمحمد بن الحنفية مسند في الحديث، له ذكر مشهور.

ولزيد بن عليّ مدونة فقهية اكتشفت بين المخطوطات القديمة في المكتبة الامبروزية بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية.

وهذا المخطوط يعدّ أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي. وعلى كلّ حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي(100).

ولا مشاحة في أن سبق أهل البيت إلى تدوين الفقه وسائر العلوم الإسلامية أمر لا يمكن إنكاره.

فقد دوّنوا العلم وأمروا تلامذتهم في ذلك، فكانوا يأمرونهم بالكتابة فدوّنوا ما تلقّوه منهم في سائر العلوم، وليس من شكّ أنّ نزعة التدوين عند الشيعة كانت من عهد الإمام عليّ(عليه السلام).

فهذا عليّ بن أبي رافع مولى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان من تلامذة أمير المؤمنين وخواصه، ذكره النجاشي في الطبقة الأولى من مصنّفي الشيعة، وجمع كتاباً في فنون الفقه، تلقّى ذلك عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وكانوا يعظّمون هذا الكتاب . وله كتاب السنن والأحكام .

وأبو سليمان زيد الجهني الذي شهد حروب الإمام عليّ(عليه السلام) وألّف كتاب الخطب في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام).

وعبيد اللّه بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين(عليه السلام) له كتاب قضايا أمير المؤمنين(عليه السلام)، يرويه الشيخ الطوسي، وله كتاب تسمية من شهد مع أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمل وصفين والنهروان، وهو أوّل مصنّف في الرجال ذكره الشيخ محسن الطهراني في مصفى المقال في علم الرجال(101).

وسليم بن قيس من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) له كتاب يرويه عنه أبان بن عياش، وسيأتي الحديث حول هذا الكتاب .

وغير هؤلاء من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ممّن سبقوا إلى التدوين، ولمّا نشطت الحركة العلمية في عهد الإمام الباقر(عليه السلام) وولده الإمام الصادق(عليه السلام)، كثر تدوين الفقه والحديث وسائر العلوم عنهم، واتّجه تلامذتهما إلى التأليف، ولا بدّ من الإشارة إلى ذلك بموجز من البيان .

عصر الإمام الباقر(عليه السلام)

كان لانتعاش العلم في ذلك العصر أثر في اتجاه الناس إلى الأخذ عن أهل البيت، وقد مرّت الإشارة إلى اتّساع مدرسة الإمام الباقر(عليه السلام)، فكان(عليه السلام) قد وحّد جهوده إلى نشر العلم، فاتجهت إليه طلاب الحقيقة، لأنّه خير رائد وأعظم مرشد.

وهو أوّل من أسّس علم الاُصول وفتح بابه وفتق مسائله، ومن بعده ولده الإمام الصادق (عليه السلام) ، وقد أمليا على أصحابهما قواعده وجمعوا من ذلك مسائل دوّنها المتأخرون حسب ترتيب المصنفين فيه برواية مسندة إليهما من دون دخل لآرائهم فيها. ولا وضع قول إلى جنب قولهما، وتلك الكتب موجودة إلى هذا الوقت.

فالإمام الباقر(عليه السلام) هو واضع علم الاُصول وفاتح بابه. وأوّل من صنف فيه هو هشام بن الحكم: صنّف كتاب (الألفاظ ومباحثها)، وهو أهمّ مباحث علم الاُصول ، ثم من بعده يونسبن عبد الرحمن مولى آل يقطين صنّف كتاب (اختلاف الحديث ومسائله)، وهو مبحث تعارض الحديثين ومسائل التعادل والتراجيح ، ثم أخذت حركة التأليف في الاُصول من بعدهما بالتوسعة، واشتهر منهم أئمة أعلام: منهم أبو سهل النوبختي، والحسن بن موسى النوبختي وهما من علماء القرن الثالث ، ومن بعدهما ابن الجنيد وأبو منصور الصرام، وابن داود والشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهم عدد كثير(102).

فالقول بأنّ الشافعي هو واضع علم الاُصول ظلم للحقيقة وخروج عن حدود الإنصاف، على أنّ هذا القول لايؤيّده بقيّة العلماء من سائر المذاهب، فللحنفية اُصول وللمالكية اُصول . نعم لا ينكر أنّ الشافعي ألّف في الاُصول ووسّع دائرة بحثه، ويعتبر عندهم أوّل من صنف فيه، وهو متأخر عن مصنفي الشيعة الذين سبقوا للتصنيف في علم الاُصول.

وقد ذكر ابن النديم(103) كتاب مباحث الألفاظ في تعداد مؤلفات هشام بن الحكم. على أنّا نجد في كتاب الفهرست أيضاً في ترجمة محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ذكر كتاب له يسمى: اُصول الفقه ، وتدّعي الحنفية أيضاً أنّ أوّل من وضع الكتب في اُصول الفقه على مذهب أبي حنيفة هو أبويوسف(104).

والغرض أنّ دعوى وضع الشافعي لعلم الاُصول غير صحيحة، بل يقول الأكثر : إنّه أوّل من صنّف في اُصول الفقه صنف كتاب (الرسالة) وكتاب (أحكام القرآن) كما جاء في البحر المحيط للزركشي(105).

ويقول ابن خلدون : أوّل من كتب في علم الاُصول الشافعي أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس(106).

وقال في (كشف الظنون): أول من ألّف فيه الشافعي(107).

إذاً فالشافعي مؤلّف واضع، ونحن لا ننكر ذلك، ولكن هشام بن الحكم كان أسبق من الشافعي، لأنه ألف مباحث الألفاظ من الأوامر والنواهي والبيان والنسخ، وغير ذلك الذي تلقى معلوماتها عن استاذه الإمام الصادق(عليه السلام) قبل ولادة الشافعي.

وكانت وفاة هشام سنة (179هـ) ووفاة الشافعي سنة (204هـ) فرسالة هشام بن الحكم ـ في علم الاُصول التي ذكرها النجاشي(108) والكشي(109) وابن النديم(110) ـ أقدم من رسالة الشافعي أخذاً وتأليفاً. وقد وصف الشهرستاني صاحب الملل والنحل هشاماً بأنه صاحب غور في الاُصول(111). ورسالة الشافعي نقضها أبو سهل النوبختي من علماء القرن الثالث، وهو من علماءالشيعة.

وإنّ للإمام الباقر(عليه السلام) كتاباً في التفسير يرويه عنه أبو الجارود وقد مرت الإشارة إليه.

أمّا تلامذته الذين ألّفوا في عصره فعددهم كثير: منهم ـ ثابت بن دينار له كتاب يرويه الشيخ الطوسي بطريق واحد، وله كتاب (النوادر) وكتاب (الزهد)، رواهما حميد بن زياد عن محمد بن عياش، وأبان بن تغلب وهو من المؤلفين بشتى العلوم، وكان من تلامذة الباقر والصادق(عليهما السلام) ، ذكره ابن النديم(112).

وحجر بن زائدة الحضرمي له كتاب في الحديث يرويه عنه النجاشي(113)بست وسائط.

وسلام بن أبي عمرة الخراساني له كتاب رواه عنه عبد اللّه بن جبلة والنجاشي(114) بإسناده إلى ابن جبلة عنه، وهو من الكتب الموجودة الباقية بالهيئة الأصليّة.

وكليب بن معاوية بن جبلة الصيداوي الأسدي له كتاب في الحديث يرويه عنه جماعة: منهم عبد الرحمن بن أبي هاشم، ويرويه النجاشي(115) بخمس وسائط عنه. وغيرهم كثير لا يسع المقام ذكرهم.

عصر الإمام الصادق(عليه السلام)

وهو أزهر العصور في نشاط الحركة العلميّة والنزوع إلى التدوين. والإمام الصادق(عليه السلام)هو زعيم تلك الحركة والمعلّم الأوّل في ذلك العهد، فقد انتمى لمدرسته عظماء الاُمة، ورجال العلم ورؤساء المذاهب.

وكان بيته كالجامعة يزدان على الدوام بالعلماء الكبار في الحديث والتفسير والحكمة والكلام، فكان يحضر درسه في أغلب الأوقات ألفان، وفي بعض الأحيان أربعة آلاف من العلماء المشهورين، وقد ألّف تلاميذه من جمع الأحاديث والدروس التي كانوا يتلقونها في مجلسه مجموعة من الكتب تعدّ بمثابة دائرة معارف للمذهب الشيعي أو الجعفري، وقد بلغ عددها في أيام الإمام الحسن العسكري أربعمائة كتاب.

فهشام بن الحكم، والطاقي، وزرارة، وأبو بصير، ومحمد بن مسلم من نوابغ تلاميذ الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وهم في الحقيقة المرجع الأصلي لفقه المذهب الجعفري أو مذهب الشيعة وحكمته، وكان خلفاء الإمام جعفر الصادق يعدّون مورداً فيّاضاً للاستفادة المذهبية والعلميّة للشيعة(116).

وتسابق أعيان تلامذته إلى تدوين الحديث والمسائل الفقهيّة، فكان مجموع ما اُحصي من التأليف في عصره أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، وذكر الشيخ آغا بزرك(117) من مصنّفي تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام) في الحديث فقط أكثر من مائتي رجل مع تراجمهم عدا المؤلّفين من سائر أصحاب الأئمة عليهم السلام، ومجموع ما ذكره سبعمائة وتسعة وثلاثون كتاباً، عدا الكتب التي ذكرها بعنوان الاُصول. وقال في خاتمة البحث : «هذا آخر ما ظفرنا به من فهرس كتب قدماء الأصحاب التي لم تسمّ إلاّ باسم الكتاب وعبّرنا عنها بكتب الحديث لاشتمالها على أحاديثهم التي يروونها عن الأئمة(عليهم السلام) قد أودعت تلك الروايات بعين ألفاظها في المجاميع الأربعة التي ألّفها المحمّدون الثلاثة القدماء: الكافي، والتهذيب، والاستبصار والفقيه، والمحامدة المتأخرة أي: الوافي، والبحار، والوسائل ومستدركه، وغيرها من المجاميع المخطوطة الموجودة في خزائن الكتب في العالم مثل جامع المعارف والأحكام، وجوامع الكلم، ودرر البحار، والشفا في أخبار آل المصطفى، ومستدرك الوافي، ومستدرك البحار، وغير ذلك من الكتب ...»

 

حركة التدوين عند الشيعة

وخلاصة القول أنّ أهل بيت الرسول(عليهم السلام) هم أسبق الناس إلى التدوين وتشجيع الحركة العلمية، فهم أهل الفضل في كلّ علم، حفظوا أحكام الرسول وأخبروا عن أنباء التنزيل، فكانوا معدن العلم، وخزّان الوحي، وورثة الرسولالأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهم عدل القرآن وتراجمته.

ومن الظلم وعدم إنصاف الحقّ الإعراض عن ذكرهم في السبق إلى تدوين العلم، وتعليم الاُمة، ولو فسح المجال وتخلّت السلطة عن التدخل في شؤون العلم لأغراضها لتحررت الأفكار من ذلك الجمود الذي فرضته السلطة، وذكرت الحقيقة التي ترعب الحكام.

وممّا لا شكّ فيه أنّ حركة التدوين عند الشيعة كانت أسبق من غيرهم، وإثبات ذلك لا يستدعي كثير مشقة ومزيد عناء، ولكن الشيء الذي أدى إلى أن يتأخر ذكرهم في السبق: هو أنّ فقههم وحديثهم مأخوذ عن أهل البيت الذين أمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باتباعهم، ولا يخفى على المتتبع المنصف معارضة الاُمويين والعباسيين لإظهار ذكر آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ونشر مآثرهم ،فإنّهم يرون إظهار ذلك إضعافاً لحكمهم ومعارضاً لسياستهم، وقد منع الاُمويون جميع المحدّثين أن يذكروا علياً وأهل بيته بخير ولا يروون حديثهم، فكان العلماء إذا أرادوا أن يحدّثوا عن علي كنّوه بأبي زينب، أو أشاروا إليه بإشارة، متفقٌعليها.

ولمّا جاء الدور العباسي ونشطت الحركة العلمية وظهرت النزعة إلى التدوين وقاموا في تشجيعها، كانت الشيعة في طليعة السابقين لذلك، ولكنّ سياسة الدولة وتطوّر الزمن أدّى إلى أن يصبح المتتبع لآثار آل محمد في الأحكام ـ بل المعروف بحبّهم ـ متهماً بجرم لا يغفر، حتى امتحن كثير منالعلماء.

فهذا الإمام الشافعي على ما هو فيه من اتّضاح الحالة والنزعة إتّهم في التشيّع، وحوسب على ذلك، لأنّه كان يظهر حبّ عليّ ويعتمد على أحكامه في أحكام البغاة على الإمام .

وكذلك الحاكم صاحب (المستدرك) لأنّه كان يطعن على معاوية وروى في كتابه حديث (الموالاة) وغيره.

والحافظ الدارقطني اتّهم في التشيّع، لأنّه كان يحفظ ديوان السيد الحميري.

والحافظ النسائي عذّب بل مات من أثر ذلك، لأنّه حدّث بفضائل عليّ ولم يحدّث بفضائل معاوية، إلى عدد كثير من العلماء المعذّبين باتّهامهم في التشيّع، وليسوا كذلك. وإنّما الشيء الذي أوجب اتهامهم هو : إمّا رواية مناقب أهل البيت(عليهم السلام)، أو استنباط مسألة من الأحكام من طريقتهم، وتلك حقيقة ملموسة، أبرزها التأريخ في مرآته بأجلى صورة وأوضح بيان، فلقي أكثر المحدثين محناً، وواجهوا مصاعب .

أما الذين أرادوا أن يؤكدوا للسلطة القائمة في زمانهم بأنهم منحرفون عن أهل البيت(عليهم السلام)، فتجنّبوا الرواية عنهم، ولم يخرجوا فضائلهم ، فكانوا موضع عناية السلطة ومحلا لثقتها التامة.

هذا ما أردنا بيانه من حركة التأليف عند الشيعة في الصدر الأول بإيجاز، أمّا نشاط الحركة العلميّة فقد بدأ في القرن الثاني، وأشهر الكتب التي ألّفت في ذلك: مصنف شعبة بن الحجاج المتوفى سنة (160هـ) ، ومصنف سفيان بن عيينة المتوفى سنة (198هـ)، ومصنف الليث بن سعد المتوفى سنة (175هـ)، وموطأ مالك بن أنس المتوفى سنة (179هـ) ، ومسند الشافعي المتوفى سنة (204 هـ)، ومختلف الحديث له، والجامع للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، ومجموعات من عاصرهم من حفاظ الحديث كالأوزاعي والحميدي.

موطأ مالك

لا بدّ وأن نذكر هنا نبذة يسيرة عن موطأ مالك وفاء بالوعد وإتماماً للغرض. وقد تقدّم أنّ المنصور لقي مالكاً من قبل في موسم الحج، وفاتحه في كثير من المسائل، واعتذر إليه عمّا لقي من عامله على المدينة، وأمره أن يدوّن كتاباً يحمل الناس عليه، ليوحّد بذلك نظام التشريع ويحمل الناس على الجمود على قول مفت واحد، إلى آخر ما هنالك من أقوال حول تأليف الموطأ، وقد اشترط المنصور عليه أن لا يروي عن عليّ، فوفى مالك بالشرط(118)، إذ لم يرو عن عليّ(عليه السلام) في موطئه(119).

وقد نال موطأ مالك شهرة حتى قالوا: إنّه لا مثيل له ولا كتاب فوقه بعد كتاب اللّه عزّوجلّ(120).

ووضعوا عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) منامات في مدحه وأنّه قال: ليس بعد كتاب اللّه عزّ وجلّ ولا سنتي في إجماع المسلمين حديث أصح من الموطأ(121).

وقالوا: إنّ النبي سمى الموطأ بهذا الاسم.. إلى غير ذلك.

وقد روي عن مالك أنّه قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة فكلّهم واطأني عليه فسميته الموطأ.

وكان قد جمع فيه عشرة الآف حديث ثم هذّبه ونقّحه فلم يبق من ذلك العدد إلاّ ألف وسبعمائة حديث، وقيل خمسمائة(122)، وقيل أقلّ وأكثر لاختلاف النسخ زيادة ونقصاً وإسناداً وإرسالاً.

واختلفوا في منزلة الموطأ من كتب السنة، فمنهم من جعله مقدّماً على الصحيحين كابن العربي، وابن عبد البر والسيوطي(123).

وقال الحافظ ابن حجر: إنّ كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلّده، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع(124) وغيرهما(125).

وجملة ما في الموطأ 1720 حديثاً، المسند منها 600 ، والمرسل 228، والموقوف 613، ومن قول التابعين 285. وقد وصلت مراسيله من طرق اُخرى بواسطة أصحابه. قال ابن حزم: في الموطأ سبعون حديثاً قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة قد رواها جمهور العلماء(126).

وهكذا نرى العلماء يختلفون في صحة كلّ ما اشتمل عليه الموطأ، لاختلافهم في قبول المرسل ونحوه، فالمالكية إذ يقبلونه يحكمون بأن كلّ ما في الموطأ صحيح، وغيرهم إذ لا يقبل المرسل إلاّ بقيود لا يقبلون مرسلاته، ولكن بعض المالكية ندب نفسه لوصل ما ليس متصل السند.

وعلى كلّ حال فكتاب الموطأ يعدّ من أوائل الكتب التي ألّفت في الحديث لا أوّلها، وقد نشره الآخذون عن مالك في الأمصار: كمحمّد بن الحسن الشيباني في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وعبداللّه بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وأشهب في مصر، وأسد بن الفرات في القيراون .

هذه هي أهمّ الكتب المدونة في القرن الثاني عند السنة.

وأمّا حركة التدوين عند الشيعة في ذلك القرن ، فنشاطها مستمر ـ كما تقدم ـ من جميع الوجوه وفي جميع العلوم. وفي القرن الثالث اتجه الناس إلى التدوين بنشاط ملموس ، وحركة قوية. واتجه رواة الحديث في جمعه إلى طريقة الأفراد إذ كان قبل ذلك ممزوجاً بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين ، وأشهر الكتب المولّفة لأهل السنة هي : صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وصحيح الترمذي، وسنن ابن ماجة، وهذه هي التي يطلق عليها الصحاح الست، وأقدمها وأهمها صحيح مسلم والبخاري، ويطلق عليهما الصحيحان، وعلى مؤلفيهما الشيخان، وقد وقع الاختلاف في تفضيل أحدهما على الآخر وأيّهما أصحّ وأشدّ قبولاً. ولنأخذ عن كلّ واحد من أصحاب الصحاح نظرة إجمالية.

صحيح البخاري

البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزية ولد سنة (194هـ) ومات سنة (256هـ) .

انحدر من سلالة فارسية تدين بالمجوسية وأوّل من أسلم من أجداده المغيرة على يد اليمان الجعفي، فهو مولى الجعفيين، لذلك يقال للبخاري: الجعفي لأنّه مولى لهم.

وقد نشأ يتيماً في حجر اُمه، ورحل إلى البلدان في طلب الحديث، ووضع كتابه وخطا فيه خطوة جديدة في جمع الحديث، إذ لم يقتصر على رواية بلد واحد كغيره من علماء الحديث . والذي يظهر أنّ تلك الخطوة أخذها عن علي ابن المديني، وذلك أنّ ابن المديني ألف كتاب العلل، وكان ضنيناً به، فغاب يوماً في بعض ضياعه، فجاء البخاري إلى بعض بني علي بن المديني ، وراغبه بالمال على أن يرى الكتاب يوماً واحداً، فأعطاه له ، فدفعه الى النساخ فكتبوه وردّوه إليه، ولما علم ابن المديني اغتمّ لذلك حتى مات بعد يسير، واستغنى البخاري عنه بذلك الكتاب، وخرج إلى خراسان ، ووضع كتابه الصحيح (127).

وبهذا يتّضح أنّه سلك طريقة ابن المديني وأخذ كتابه واستغنى فيه، ولا حاجة إلى إطالة القول حول البخاري وصحيحه، فقد أشرنا لذلك في الجزء الأوّل، وذكرنا المؤاخذات من قبل المفكّرين عليه كانتقادهم عليه 120 حديثاً، وفي الواقع أنّها أكثر، وفي تقطيع الأحاديث وغير ذلك، وعدّة ما في البخاري من الأحاديث بالمكرر 7397 ، سوى المعلقات والمتابعات والموقوفات(128) وبغير المكرر من المتون الموصولة 2602 ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر سنة (159هـ) . وقد تقدّم الكلام حول البخاري في الجزء الأوّل من هذا الكتاب .

صحيح مسلم

وهو يعدّ في الدرجة كصحيح البخاري. والناس يختلفون في تقديم صحيح البخاري أو مسلم. وكان مسلم من تلامذة البخاري وشاركه في مشايخه. ومسلم هو ابن الحجاج القشيري النيسابوري ولد سنة (204 هـ) وتوفي سنة (261هـ) ، وكان مخلصاً للبخاري، وحصل بينهما فتور آخر أيّامه، دعاه لأن ينتقد من طريقة البخاري في مقدّمة صحيحه.

وقد انتقده الحفّاظ بكثرة روايته عن الضعفاء ، وقد طعنوا في مائة وستين رجلاً من رواة مسلم.

ومع ذلك فقد فضّلوا كتاب مسلم على كتاب البخاري من وجوه:

1 ـ أنّ مسلماً ألّف كتابه في بلده بحضور اُصوله في حياة شيوخه، وأن يتحرز في الألفاظ ، ويتحرّى في السياق.

2 ـ أنّ مسلماً لا يقطع الحديث كما يفعل البخاري، لأنّه يروي جزءاً من الحديث بسند، وقد يروي جزءً آخر بسند آخر في مكان آخر، فيصعب على المحدث معرفة الحديث كاملاً بأسانيده المختلفة.

3 ـ أنّ البخاري قد يقع له الغلط في أهل الشام، وذلك أنّه أخذ كتبهم ، فربّما ذكر الواحد منهم بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنّهما اثنان. أمّا مسلم فقلمّا يقع له الغلط(129) وقال الطبيني : كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري(130).

وقال أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.

وعدد أحاديثه (7375) بالمكرر، ومن غير المكرر نحو أربعة آلاف، وقد أجمع الحفاظ على أنّ البخاري ومسلماً لم يستوعبا تخريج الأحاديث الصحاح.

صحيح الترمذي

والترمذي هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتولد سنة (200هـ) والمتوفى سنة (271هـ) في أواخر رجب.

سمع الحديث من البخاري ، وغيره من علماء بخارى، وكان ضريراً وألف الصحيح، وعرضه على علماء الحجاز، والعراق، وخراسان، وسلك طريقة في تأليفه لم يسلكها من قبله، وهو بيانه حول درجة الحديث، وبيّن الصحيح منه والمعلول، كما ميّز المعمول به من المتروك ، وساق اختلاف العلماء وكتابه جليل القدر كثير الفائدة قليل التكرار. وقد فضّله بعض الحفاظ على صحيح البخاري(131).

والترمذي لم يتجنّب الرواية عن النواصب والخوارج ، كغيره من أصحاب الصحاح، وقد أحصينا عليه جملة منهم، كما أنّ في رجاله كثيراً من الضعفاء والكذابين منهم: سيفبن عمر البرجمي، ويقال السعدي، ويقال الضبيعي صاحب كتاب الردّة والفتوح، كان يروي الموضوعات عن الإثبات، وأنّه يضع الحديث واتّهم بالزندقة، والشيء الذي يلفت النظر أنّ هذا الرجل وهو سيف بن عمر قد اعتمد عليه ابن جرير في تاريخه، فروى عنه بواسطة مكاتبات السري عن شعيب عنه في الحوادث الواقعة من سنة (11 هـ) إلى سنة (37هـ) . وقد ضبط تلك الموضوعات والأكاذيب التي توالت عليها السنون، ولم تنلها يد التنقيب ـ شيخنا فقيه التاريخ العلامة الأميني(132). فقد ذكر الطبري في ج2 من تاريخه في حوادث سنة (11 هـ)، 67 حديثاً عن سيف بن عمر، وأخرج في ج4 في حوادث سنة (12 هـ)، 427 حديثاً عن سيف بن عمر، وأورد في ج4 في حوادث سنة (23هـ)، 207 أحاديث ـ المجموع 701 .

وهذه القائمة العظيمة ـ التي ذكرها الطبري عن هؤلاء المجاهيل والكذابين لها تمام الأثر الفعال في تمويه الحقيقة، ومخالفة الحقّ، وإثارة نار البغضاء بين المسلمين، ولو وسع المجال لأعطينا انموذجاً منها. وقد سار على ذلك المؤرخون من بعد الطبري، كابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون بدون تحقيق، بل تقليداً للطبري.

كما أنّ اُسطورة ابن سبأ كانت من اختراع سيف بن عمر، رواها الطبري(133)، وأخذها عنه المؤرخون، وسنشير لذلك في الجزء السادس إن شاء اللّه .

صحيح أبي داود

أبو داود هو سليمان بن الأشعب بن إسحاق بن بشير الأزدي المتولد سنة (202 هـ) والمتوفى سنة (275هـ)، كان من الحفّاظ، وعدّه الشيرازي في الطبقات من تلامذة أحمد، وصحيحه المعروف بسنن أبي داود. قال فيه الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس، فصار حكماً بين فرق الناس، وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر، وبلاد الشام وكثير من أقطار الأرض(134).

صحيح النسائي

النسائي هو أحمد بن شعيب بن علي أبو عبد الرحمن النسائي المتولد سنة (215هـ) والمتوفى (303هـ) ، كان من أئمة الحديث، وقد برع في علم الحديث وتفرد بالمعرفة وعلوّ الإسناد، وكان أحفظ من مسلم بن الحجاج، وسننه أقل السنن ضعفاً. قاله الذهبي(135).

ولما دخل دمشق فسئل عن معاوية وفضائله، فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس ، حتى يفضّل؟ وفي رواية: ما أعرف له فضيلة إلاّ «لا أشبع اللّه بطنك» ـ وهو دعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عليه فصار يأكل ولا يشبع ـ فما زالوا يدافعونه في خصيتيه ، وداسوه، ثم حمل إلى مكة فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة. وقال الحافظ أبو نعيم: لما داسوه بدمشق، مات بسبب ذلك الدوس فهو مقتول(136).

وكان قد صنّف كتاب الخصائص في فضل عليّ بن أبي طالب وأهل البيت(عليهم السلام)، وأكثر روايته فيه عن الإمام أحمد بن حنبل ، وكذلك صنّف كتاب مسند الإمام علي(عليه السلام)، ويرمزون له في التخريج بـ(عس) ولخصائص علي(عليه السلام) بـ (ص).

صحيح ابن ماجة

ابن ماجة هو: محمد بن يزيد بن ماجة أبو عبد اللّه القزويني المتولد سنة (209هـ) والمتوفى سنة (273هـ) ارتحل إلى العراق، والكوفة، ومكّة والشام، وألّف كتابه في الحديث، وهو أحد الصحاح الستّة . وقدموا كتابه على موطأ مالك.

هذه هي الصحاح الستة التي يخصّها أهل السنة بالثقة على اختلاف في درجاتها في الصحة. على أن هناك كتباً توصف بالصحة، لأنّ الصحيحين لم يستوعبا جميع الأخبار الصحيحة، فألّفت كتب توصف بالصحاح، كصحيح إسحاق بن خزيمة، وصحيح أبي حاتم المتوفى (354هـ)، وصحيح أبي عوانة، وغيرها . وقد استدرك الحاكم النيسابوري على الصحيحين أحاديث خرّجها على شرطهما(137).

عود على بدء

ذكرنا سبق أهل البيت(عليهم السلام) إلى تدوين العلم، واهتمام الشيعة في حفظ آثارهم، والانتهال من عذب غديرهم، إذ وجدوا سنداً قوياً ومرعى خصيباً تتصل سلسلة أحاديثهم بصاحب الرسالة، وهي السلسلة المعروفة بالذهبية، أو هي الترياق المجرّب، فكان الإمام الصادق(عليه السلام) عندما يحدّث بإسناده ، يقول: حدثني أبي محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) . وهناك تتصل هذه السلسلة بالوحي الإلهي، وكذا كلّ واحد من الأئمة(عليهم السلام).

وكان الإمام الصادق(عليه السلام) إذا أرسل حديثه، فهو اتصال بهذه السلسلة، لأنّه كان يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث أبيه، وحديث أبيه حديث أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)(138).

وفي هذا يقول الشاعر:

أوالي اُناساً ذكرهم وحديثهم *** روى جدُّنا عن جبرئيل عن الباري

ولكن بمزيد الأسف أنّ البخاري قد تحرّج وتضايق عن تخريج حديث الإمام الصادق(عليه السلام)، وتوسّع وتساهل لقبول رواية عمران بن حطان(139) وداود ابن الحصين(140)، وأضرابهم من الفسقة الذين عرفوا بالعداء للّه ولرسوله، وكذلك خرّج لرجال دخلوا في الإسلام للدسّ والتضليل(141)، ولم يخرّج حديث الإمام الصادق(عليه السلام) لأنّ ظروفه اقتضت ذلك ونزعته ضربت بسلطانها عليه .

وقد عظم على خصوم الشيعة اختصاصهم بذلك التراث العظيم. ولم يستطع أحد أن يطعن في حديث أهل البيت(عليهم السلام) فالتجأوا إلى الطعن على حملة آثارهم ورواة حديثهم، كما لا ينكر تدخّل عملاء السلطة والدخلاء في الإسلام أن يدخلوا على أهل البيت(عليهم السلام)ممّا لم يحدّثوا به ويتقولوا عليهم ما لم يقولوه، يقصدون بذلك تنفير الناس واشمئزاز النفوس من تلك الروايات المدسوسة، لذلك كانت الشيعة أشدّ تنقية للرجال وتصحيحاً للأحاديث، فألّفوا بذلك كتباً، وتشدّدوا في قبول الرواية، وهذا بحث واسع لا يمكننا أن نخوضه الآن .

الكتب الأربعة

وخلاصة القول : أنّ الشيعة احتفظت بآثار أهل البيت: وسبقت جميع الاُمة إلى تدوين علومهم، فكانت حركة التدوين عندهم قوية في جميع العلوم والفنون.

أمّا ما يختصّ بالفقه والحديث، فكانت اُصولهم أربعمائة أصل، وهي التي سمعها تلامذة الأئمة منهم، وجمعت هذه الاُصول في الكتب الأربعة وهي:

1 ـ الكافي: للشيخ المجدّد محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة(329هـ)، وقد ألّفه في عشرين سنة ، وقد دخل إلى الأقطار الإسلامية في طلب الحديث، وجمع فيه من الأحاديث ستة عشر ألفاً ومائة وتسعين حديثاً، وهو أكثر من مجموع مافي الصحاح الستّة. وليس هذا محل التوسّع في البحث عن الكافي ومكانته .

2 ـ من لا يحضره الفقيه: للشيخ محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الشهير بالصدوق المتوفى سنة (381هـ) بالري، ورد بغداد سنة(355هـ) وحدّث بها، وكان جليلاً حافظاً للأحاديث بصيراً بالرجال ناقداً للأخبار كثير التأليف، وقد أحصيت مؤلفاته فكانت (300) كتاب على اختلاف العلوم، وأهمّها كتابه الجليل وهو «كتاب من لا يحضره الفقيه» الذي هو من أهم كتب الحديث عند الشيعة وعدد أحاديثه (5963) حديثاً .

3 ـ 4 ـ التهذيب والاستبصار: لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن ابن علي الطوسي المولود سنة (385هـ) والمتوفى سنة (460هـ) في النجف الأشرف.

هاجر إلى بغداد سنة (408هـ) في أيام علم الشيعة ورئيسها محمد بن محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد، فاتصل به واستفاد منه، ولما توفي سنة (413هـ) اتصل من بعده بعلم الهدى السيد المرتضى المتوفى سنة (436هـ)، وبعد وفاة السيد استقل الشيخ بالزعامة، وكان كمدرسة جامعة تأوي إليها طلاب العلوم، فكان عدد تلامذته ثلاثمائة من الشيعة وكثير من سائر المذاهب ، لذلك ترجم له السبكي في طبقات الشافعية(142) وغيره، لأنّه كان يملي على أهل المذاهب ويجبيهم عن مسائلهم لغزارة علمه وسعة اطلاعه، فكان يفيد الاُمة بعلومه، وأملى كتابه المعروف بالأمالي على تلامذته، يقع في مجلدين، وكانت له منزلة علمية عظيمة في بغداد، وقد جعل له خليفة عصره ـ القائم بأمر اللّه عبد اللّهبن القادر ـ كرسي الكلام والإفادة، لأنّه فاق أقرانه فتعين هو لتلك المنزلة، ولما هبّت عواصف الطائفية واشتد النزاع بين المذاهب وبين السنة والشيعة بالأخص ، وكان الموقف في هذا الوقت على أشدّ ما يكون من الخصام، ولم تزل الدولة تنضم لجانب السنة فاُحرقت كتب الشيخ بأمر طغرلبك أول ملوك السلاجقة ، قال السبكي: وقد احرقت كتبه ـ أي الشيخ الطوسي ـ عدة نوب بمحضر من الناس(143). وكذلك أمر السلجوقي بإحراق مكتبة الشيعة في محلة الكرخ، وكانت تحتوي على أكثر من عشرة آلاف مجلد من أهم الكتب كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة واُصولهم المحررة، كما ذكر ذلك ياقوت الحموي(144) وفي سنة (448 هـ) نهبت داره وكبست واُخذت كتبه والكرسي الذي كان يجلس عليه للكلام فاُحرقت(145). وهاجر الشيخ إلى النجف فقصده طلاب العلم، فأصبحت دار هجرة لانتهال العلم ولم تزل حركتها بنشاط من ذلك العهد تقصدها وفود العالم الإسلامي لأخذ العلم والانتماء لمعهدها على ممر الدهور.

فالشيخ الطوسي يعدّ في الواقع هو واضع الحجر الأساسي لمعهد النجف الأشرف، وقبره فيها قريب من المرقد المطهر.

وله مؤلفات كثيرة تبلغ الخمسين مؤلفاً في شتّى العلوم. وأهمّها التهذيب والاستبصار في الحديث.

والحديث عن حياة شيخ الطائفة واسع، وناحية البحث عنها لا يمكننا الإلمام بها في هذا العرض الموجز.

أمّا التهذيب فهو أحد الكتب الأربعة والمجاميع القديمة المعول عليها، وقد اُنهيت أبوابه إلى (390) باباً واُحصيت أحاديثه في (13590)، وتوجد منه نسخة بخط المؤلّف.

وأما الاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار فهو أحد الكتب الأربعة التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند فقهاء الشيعة، وقد اُحصيت أحاديثه فكانت (5511) حديثاً.

والغرض أنّ تلك الاُصول والكتب التي اُلّفت في زمن الأئمة قد جمعت في هذه الكتب الأربعة، وفي غيرها كالوافي للمحقّق الكاشاني، والبحار للعلامة المجلسي، والوسائل للمحدث محمد بن الحسن الحر العاملي، ومستدرك الوسائل للشيخ النوري.

وعلى هذا سارت حركة التدوين عند الشيعة باتباع آثار أهل البيت نزولاً على حكم الأدلة والبراهين وتعبّداً بسنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد احتفظت الشيعة باستقلالها الروحي، ولم ترتبط يوماً ما بسلطة لتشجيع حركتها العلمية أو تأييد مبدئها، بل كان ولاة الأمر يحاولون اكتساح ما لهذه الطائفة من أثر، ولكن الشيعة وقفوا أمام ذلك السيل الجارف، واستطاعوا تركيز مبادئهم بقواهم الروحية، ونبغ منهم المحدثون والمفسرون واللغويون والنسابون والشعراء والأدباء ممّا يطول ذكره، وكان لهم الأثر العظيم في جميع فنون الإسلام وعلومه، وقد أحصينا من علماء الحديث الذين خرّج حديثهم أصحاب الصحاح عدداً لا يقل عن مائتين وخمسين رجلاً أكثرهم حفاظ حديث وأعلام في الفقه، وقد اعترف الكلّ لهم بذلك.

إذاً فالتدوين على ما قررناه لم يكن السبق لأحد سوى أهل البيت(عليهم السلام)وشيعتهم ، وليس لمالك ولا لغيره .

مالك ومسألة التفضيل

سبقت الإشارة إلى رأي مالك في التفضيل وأنّه يذهب إلى مساواة الإمام علي(عليه السلام)لسائر الناس، وأنّ أفضل الاُمة الخلفاء الثلاثة، ثم يقف ويقول: هنا يتساوى الناس. فهو لا يرى لعلي(عليه السلام) ميزة عن سائر الصحابة كما يُروى عنه، ومن الغريب ذلك ، فهو يكاد ينفرد بهذا الرأي، ويمتاز عن سائر علماء الاُمة بهذه النزعة، كما أنّه لم يرو عن عليّ في موطئه(146).

ولم تكن مسألة التفضيل من الاُمور الاعتيادية التي يمرّ عليها المؤرخ أو الكاتب فلا يعطيها مزيداً من البيان، فهي من أعظم المشاكل التي حلّت في المجتمع الإسلامي، ولها تمام الأثر في تطور الأوضاع وإثارة نار البغضاء بين المسلمين ، لتدخل السياسة فيها، وما تدخّلت السياسة في أمر إلاّ وجعلته عرضة للاضطراب والتقلّب، ولو انفردت القضية عن ذلك لما كان من ورائها ما كان، ولسارت على ضوء العلم والواقع، وتجرّدت عن الظنون والاتهامات وانتهت بالدليل والإقناع، ولكنّها في الواقع كانت بالإرهاب والقهر والعسف، أو الإغراء والخداع السياسي.

وقد حاولنا بقدر الإمكان أن لا نتعرّض للاُمور التي أثارتها أغراض المتعطشين على السيادة، لتفريق كلمة الاُمة، وإيجاد مشاكل يحاولون من وراء إيجادها حلّ مشاكلهم السياسية، لأنّهم يريدون أن يرغموا الاُمة على اتباع آرائهم، وتصديق أقوالهم ، ولا يكون هناك رأي إلاّ ما تراه الدولة، فإذا وقف المفكّرون إلى جانب غير جانبها فهناك الخطر العظيم من الاضطهاد والاتهام بالعقائد الفاسدة، لأنّ الاستقلال في الرأي لم يكن من صالح الدولة، وهم يحاولون توجيه الناس إلى حيث اتّجهوا، فالمخالف لذلك يتّهم بالخروج على الدولة مرة، وعن الدين اُخرى .

وإنّ من أهمّ المشاكل في تاريخ الإسلام هي مسألة التفضيل، فقد جعلوا عنوان الرفض هو محبّة الإمام عليّ(عليه السلام) وتفضيله على الصحابة. يقول ابن حجر في مقدمة فتح الباري: والتشيّع محبّة عليّ وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه ويطلق عليه رافضي، وإلاّ فشيعي(147).

فالشيعي في عرفهم هو محبة عليّ(عليه السلام) . أما إذا فضّله على أبي بكر وعمر فهو الرافضي . وناهيك ما وراء كلمة الرافضي من خطر عظيم، فقد اتخذته السلطة ذريعة للقضاء على كثير من رجال الاُمة الذين لم ينحازوا إليها، ولم يتعاونوا معها ويقفوا الى جانبها، واتخذت هناك الخدع والمكائد التي تؤدي إلى سفك الدماء، وقام المتمرغون على أعتاب الظلمة، والمتنعمون في خيرات الدولة بما يجلب قلوب ولاة الأمر إليهم في إلصاق العيوب بالشيعة، وذمّهم والطعن في عقائدهم ، حتى قال بعضهم : آكل ذبيحة اليهودي ولا آكل ذبيحة الرافضي(148) وقد عرفت أنّ الرافضي هو الذي يفضّل علياً(عليه السلام) على أبي بكر وعمر فقط.

ولم تكن المسألة في حقيقتها مسألة حبّ لأبي بكر وعمر أو تفضيل بموجب الفضائل والمناقب، وإنّما كانت قضية أوجدتها في الأصل القبلية التي حقدت على الإمام علي ووجدت فيه واترها الذي جندل فرسانها، وأهلك شجعانها، فكيف تترك له الأوليّة والصدارة في الدين والقيادة في الدين، ثم توطأ الحكام من الاُمويين وغيرهم فأكدوا ذلك المنهج، لأنّ المنزع واحد والغاية لا تختلف، وقد جرّت القضية على الاُمة الويلات.

الاختلاف في التفضيل

والغرض أنّ الاُمة اختلفت في مسألة التفضيل على ثلاثة أقوال:

1 ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) على جميع الصحابة، وهو رأي أهل البيت(عليهم السلام) وجميع الصحابة والتابعين ـ إلاّ القليل النادر ـ وجميع الهاشميين وأهل الحجاز وأهل الكوفة، ووافقهم كثير من المتأخرين من علماء ا لسنة تصريحاً أو تلميحاً ، نظراً للظروف التي قضت على المفكرين من رجال الاُمة بمجاراتها.

2 ـ إنّ عليّ بن أبي طالب أفضل الاُمة بعد الشيخين.

3 ـ إنّه أفضلهم بعد الثلاثة، وعليه رأي الجمهور من السنة.

قال القرطبي: والمسألة اجتهادية ومستندها: أنّ هؤلاء الأربعة اختارهم اللّه لخلافة نبيّه وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم بالخلافة(149).

ونحن هنا لا نريد أن نتعرض للأقوال ونقضها، ولا نريد أن نتساءل عن صحة الدليل، ولا نناقش رواية ابن عمر التي أصبحت هي دليل الإجماع

ومستند التفضيل وهي قاصرة عن الدلالة، فلنترك ابن عمر ورأيه ـ أو روايته ـ ولننظر إلى رأي مالك بن أنس في جعل عليّ(عليه السلام) كسائر الناس، لايمتاز عنهم بصفة ولا بفضيلة، وهو رأي انفرد به ولا يوافقه أحد من علماء الإسلام .

روى مصعب وهو تلميذ مالك أنه سأل مالكاً: من أفضل الناس بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال مالك : أبو بكر : قال : ثمّ من ؟ قال: عمر. قال : ثمّ من؟ قال: عثمان. قال : ثمّ من ؟ قال : هنا وقف الناس(150).

ودخل مالك على المنصور فسأله المنصور: من أفضل الناس بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال مالك: أبو بكر وعمر. فقال المنصور أصبت وهذا رأي أمير المؤمنين ـ يعني نفسه ـ (151).وفي رواية ابن وهب: أنّه قال ـ أي مالك ـ : أفضل الناس أبو بكر وعمر، ثم أمسك. فقال له ابن وهب: ثم من ؟ فأمسك فقال له: إني امرئ أقتدي بك في ديني فقال مالك: عثمان. فهو في هذا يتردد في ضمّ عثمان إلى الشيخين ولذلك أمسك ولم يذكر علياً(عليه السلام)بعدهم . وسأله أحد العلويين في مجلس درسه: من خير الناس بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قال مالك: أبو بكر. قال : ثم من؟ قال : عمر. قال: ثم من؟ قال: عثمان. فقال العلوي: لا جالستك أبداً.

يقول الاُستاذ محمد أبو زهرة: إنّ مالكاً (رضي الله عنه) يخالف بذلك إمامين آخرين عاصراه: أحدهما أسن منه ومات قبله ، وثانيهما أصغر منه وهو تلميذه الشافعي، فإنّ أبا حنيفة لا يعدّ علياً كسائر الناس بل يرفعه إلى مرتبة الراشدين من الخلفاء ، ويقدّمه في الترتيب على عثمان (رضي الله عنه)، والشافعي يعلن محبته لعليّ ويحكم على خصومه بأنّهم بغاة، ويعتمد في استنباط أحكام البغاة على ما كان يفعله عليّ(رضي الله عنه) مع الخارجين عليه والذين بغوا على حكمه، حتى لقد اتّهم بأنّه شيعي وحوسب على ذلك وتعرّض للتلف، ولكنّه كان يذكر مناقب أبي بكر ويفضله على عليّ، ولذلك لم يكن رافضياً(152).ولماذا رأى مالك عدم ذكر عليّ في مقام المفضلين ، بل كان يقف بعد عثمان ويقول : هنا يتساوى الناس . فما كان عليّ كسائر الناس، فهل جهل ذلك الإمام الجليل مناقبه وسابقته في الإسلام، وجهاده وحسن بلائه ومقامه من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

لانظنّه أنّه جهل شيئاً من ذلك أو أنكره ، إنّما هو يعرف علياً(رضي الله عنه) ويعرف مقامه، ولكنّه عندما يجيب عن المسألة كان يجيب فيما يتعلق بالخلافة والخلفاء، ولعل لجوابه بعض المبررات وإن كنّا لا نوافقه في جوابه، ثم يذكر المبررات لقول مالك ـ إلى أن يقول ـ : وهو في هذا القول يضرب على نغمة معاوية والاُمويين .

ومهما تكن المبررات التي تدفع إلى ذلك الحكم على سيف الإسلام أخي رسول اللّه، وزوج ابنته ، ومن كانت منه الذرية الطيبة النبوية(عليها السلام)، فإنّ ذلك الحكم يدل على نزعة اُموية(153).

العباسيون والتفضيل

ونحن نقول: إنّها نزعة عباسية أيضاً، وذلك لأنّ العباسيين سرت إليهم نزعة العداء لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة أشدّ ممّا كانت عند الاُمويين، فإنّهم بعد أن كانوا يتفقون مع العلويين في الرأي ويتحدون معهم في الغضب على أعمال اُمية، وينتصرون للعلويين ويخلصون لهم الود، ويذهبون لأحقّية عليّ بالخلافة وأفضليته على جميع الاُمة، وكان المنصور نفسه يحدّث بفضائل عليّ، وهو أحد رواة حديث الغدير(154) ، وكانوا يأمرون الدعاة بأوّل ما يظهرونه للناس هو فضل عليّ وأولاده، فلما استجابت الأمصار لهم، وتمّ زوال الدولة الاُموية، وتربّعوا على دست الحكم حصل ذلك التبدّل السريع، والتحوّل الغريب، فأظهروا العداء لأهل البيت، وساموهم الخسف والهوان، وأصبح العلويون يُطاردون من قبل الدولة، ولا ذنب لهم إلاّ أنّهم المرشّحون للخلافة وإليهم تتجه الأنظار، وعليهم تحوم الآمال، فهم أهل الزعامة الدينية والحقّ الشرعي، وقد سبق الاعتراف من العباسيين لهم بذلك. حقاً أنّه تحوّل غريب ولكنّه الملك، والملك عقيم.

دخل المهدي على أبي عون بن عبد الملك يعوده، وطلب إليه أن يعرض عليه حوائجه، فقال أبو عون: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن ترضى عن عبد اللّه ابن أبي عون، وتدعو به فقد طالت موجدتك عليه، وكان عبد اللّه يرى رأي الشيعة في الخلافة، وأنّ علياً أفضل الخلق بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال المهدي: يا أبا عون، إنّه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا .

فقال أبو عون: هو واللّه يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه ودعونا إليه ، فإن كان قد بدا لكم فمرونا حتى نطيعكم.

وعرضت على المهدي وصية القاسم بن مجاشع التميمي وقد جعل المهدي وصيّه وكان قد كتب فيها: (شَهِدَ اللَّهُ أَنـَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِْسْلامُ)(155). ثم كتب : والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك ويشهد أن محمداً عبده ورسوله وأنّ عليّ بن أبي طالب وصيّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)ووارث الإمامة من بعده. فلما بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمى بالوصية ولم ينظر فيها(156) وعظم عليه ذلك ، لأنّه مخالف لرأي الدولة الجديد. ومن هنا نعرف الفرق بين الماضي والحاضر بذلك التحوّل السريع والتطور الغريب ، كلّ ذلك بغضاً للعلويين وكراهة لموافقتهم في الرأي، حتى أصبحوا يعظّمون الاُمويين ويعاقبون منينتقصهم.

فقد عذّب يحيى بن كثير ـ وهو أحد الأعلام ـ وضرب وحلق رأسه، لأنّه انتقص الاُمويين(157)، وكثير من أمثال ابن كثير، كما عظم على العباسيين ثبوت الخلافة لعليّ بغضاً للعلويين.

قال أبو معاوية: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: لقد هممت أنّ من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت. قال : فسكتّ فقال لي: تكلم ، قلت: إن أذنت لي تكلمت. قال : تكلم .

فقلت : يا أمير المؤمنين، قالت تيم: منا خليفة رسول اللّه . وقالت عدي: منا خليفة خليفة رسول اللّه . وقالت بنو اُمية: منا خليفة الخلفاء . فأين حظّكم فيها يا بني هاشم ؟ واللّه ما حظّكم فيها إلا ابن أبي طالب(158).

ثم تطوّرت الحالة واشتد الأمر من قبل العباسيين حتى أدى الأمر إلى قتل من عرف بحبّ علي وأهل بيته ، واتخذوا لذلك شتّى الطرق ومختلف الأساليب، وأقرب طريق سلكوه للوصول إلى إيقاع الفتك بمن عرف بحبّ أهل البيت هو مسألة تفضيل عليّ(عليه السلام)على الخلفاء ، وجعلوا قاعدة مطردة عندهم وهي: أنّ من فضّل علياً(عليه السلام) فقد طعن على الصحابة، ومن طعن على الصحابة طعن على رسول اللّه، ومن طعن على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)فهو زنديق.

وجعلوا مدح عليّ وذكره بما خصّه اللّه ورسوله من الفضائل التي امتاز بها على غيره طعناً على الصحابة، وموّهوا على السذّج بذلك، وانخدع أكثر الناس واستجاب آخرون تحت الضغط ، ولقي المفكرون من الأمة عناءً، وواجهوا مشاكل عند محاولتهم الوقوف أمام تيار ذلك السيل الجارف ، فساير أكثرهم تلك الأوضاع ، وجارى تلك الظروف دفاعاً عن النفس وطمعاً في الحياة ، فخضعوا لرأي ا لدولة وتجنّبوا الحديث عن أهل البيت وفضائلهم، ودرج الناس على ذلك، ونظروا إلى الشيعة بعيون مزورة وقلوب تتقد بنار العداء، فكانوا لا يصبرون على سماع منقبة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وإذا رأوا أحداً يذكرهم بخير رموه بالرفض، واتّهموه بالزندقة، وقد أعطانا الإمام الشافعي صورة عن تلك الأوضاع بقوله:

إذا في مجلس ذكروا علياً *** وسبطيه وفاطمة الزكية

يقال تجاوزوا يا قوم عنه *** فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من اُناس *** يرون الرفض حبّ الفاطمية(159)

وستلمس عزيزي القارئ أنّ حقيقة تكالب الحكام على مقاومة آثار أهل البيت(عليهم السلام) ومناوأة محبّيهم كانت من أعظم الجنايات التي تركت آثارها على حركة العلم وحالت دون الاستفادة من نتاج الأفكار بحريّة، كما أنّها من أكثر الظواهر إثارة للألم لتمكن الحكام من توجيه الآراء وانقياد الناس إليهم في ذلك دون وعي، فلذلك سيكون فشل سياسة الحكام تجاه أهل البيت من محاور البحث الأساسية.

تطور الخلاف في مسألة التفضيل

ويصف لنا ابن قتيبة(160) أوضاع عصره ونصبهم العداء لأهل البيت(عليهم السلام)وبغضهم للشيعة في تفضيلهم عليّاً(عليه السلام) على جميع الاُمة بقوله: وقد رأيت هؤلاء أيضاً كلما رأوا غلوّ الرافضة في حبّ عليّ وتقديمه; قابلوا ذلك أيضاً بالغلو في تأخير علي كرم اللّه وجهه، وبخسه حقّه، ولحنوا في القول وإن لم يصرّحوا إلى ظلمه، ولم يوجبوا له اسم الخلافة لاختلاف الناس عليه، وأوجبوها ليزيد بن معاوية لاجتماع الناس عليه، واتهموا من ذكره بخير، وتحامى كثير من المحدّثين أن يحدّثوا بفضائله كرم اللّه وجهه، أو يظهروا ما يجب له، وكلّ تلك الأحاديث لها مخارج صحاح.. وساووا بينه في الفضل وبين أهل الشورى، لأنّ عمر لو تبيّن له فضله لقدّمه عليهم وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله حتى تحامى كثير من المحدّثين أن يتحدّثوا بها ، وعنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص ومعاوية، كأنّهم لا يريدونها وإنّما يريدونه ، فإن قال قائل: «أخو رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)عليّ وأبو سبطيه الحسن والحسين وأصحاب الكساء عليّ وفاطمة والحسن والحسين» تمعّرت الوجوه، وتنكرت العيون، وظهرت حسائك الصدور . وإن ذكر ذاكر قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه» و«أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وأشباه هذا; التمسوا لتلك الأحاديث المخارج لينتقصوه ويبخسوه حقه بغضاً منهم للرافضة وإلزاماً لعليّ(عليه السلام) ما لا يلزمه، وهذا هو الجهل بعينه، والسلامة من ذلك أن لا تهلك بمحبّته ولا تهلك ببغضه وأن لا تحتمل ضغناً عليه بجناية غيره، فإنْ فعلت فأنت جاهل مفرط في بغضه، وأن تعرف مكانه من الرسول بالتربية والاُخوة والصهر، والصبر في مجاهدة أعدائه، وبذل مهجته في الحروب بين يديه مع مكانه في العلم، والدين، والبأس، والفضل... إلى أن يقول:

ولو كان إكرامك لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي دعاك إلى محبة من نازع علياً وحاربه ولعنه إذ صحب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يعني معاوية ـ لأنت بذلك في عليّ أولى لسابقته وفضله وخاصيته وقرابته والدناوة التي جعلها اللّه بينه وبين رسوله عند المباهلة حين قال تعالى : (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم )(161) فدعا حسناً وحسيناً (ونساءنا ونساءكم) فدعا فاطمة(عليها السلام) (وأنفسنا وأنفسكم) فدعا علياً(عليه السلام)، ومن أراد اللّه تبصيره بصّره، ومن أراد به غير ذلك حيّره(162).

هكذا تأثّر ذلك المجتمع وتكيّف بمزاج الدولة، ولم تجر الاُمور طبقاً للحقيقة، ممّا أدى إلى مخالفة الواقع والابتعاد عن الحقّ، كما وصف ذلك ابن قتيبة وغيره، ولا يسع المجال لبسط القول في ذكر تلك الأوضاع السياسية التي سار عليها ولاة الأمر، وحملوا الناس على الخضوع لها، ولا يستغرب أن تكون نزعة الدولة نزعة عداء لأهل البيت(عليهم السلام)، ولكنّ الغريب أن يتأثّر فيها بعض من عرف بالفهم ، ووسم بالعلم ، ولم يمنح عيناً تدرك الحقائق. ولا نريد أن نرجع إلى الماضي، ونقف عند تلك المحاولات التي اتخذها خصوم أهلالبيت في العصر الاُموي ليمحوا بذلك ذكرهم ، فقد مرّ كثير من الإشارة إليها، كما أنّا لا نريد أن نحاسب ابن عمر(163) على روايته في التفضيل التي كانت سبباً لإيجاد تلك المشاكل ، ولا نريد أن ندرس نفسيته لنعرف الأسباب التي حملته على ذلك القول، وادعائه أمراً لم يكن له أهليّة الاتصاف به لحداثة سنه وخمول ذكره.

أخرج البخاري من طريق ابن عمر أنّه قال : كنا نخيّر بين الناس فنخيّر أبابكر، ثم عمر، ثم عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم (164).

وفيه أيضاً بلفظ : كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثمعثمان(165).

وهذه الرواية هي عمدة ماتمسّك به القوم في بحث الإمامة، تقليداً لابن عمر، وجرياً مع الظروف وسياسة الزمن، فنحن لا نريد أن نطيل الوقوف على هذه الرواية ، ولانريد أن نناقشها سنداً ودلالة ، وقد كفانا البحاثة الكبير العلامة الأميني نقاشها في غديره. وبيّن نفسية ابن عمر ومؤهلاته ومقدار تحمّله لذلك، وقيمة مايروى عنه في نظر حفاظ الحديث وعلماءالاُمة(166).

ولا نعود إلى مسألة مالك بن أنس عن الأسباب التي حملته على رأي المساواة، ولعلّها لاتخفى على المتتبع، فهو لا يجهل مكانة عليّ(عليه السلام) في الإسلام من البداية إلى النهاية، كما أنّه لايجهل اختصاص عليّ(عليه السلام) بمزيد فضل وعظيم شرف لم يشاركه أحد في ذلك، وقد امتاز على غيره من أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، الذين كانوا على جانب عظيم من الصفات الفاضلة والمزايا الجليلة من الإيمان والصلاح والورع والزهد والجهاد...

فقد كان أسبقهم إلى الإسلام ، وأقربهم من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأشدهم جهاداً في الحرب، وأعلمهم بالدين، وأعظمهم منزلة، فهو أقضى الاُمة، وأعلم الصحابة، وأوّل من أسلم، وقد آزر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر الدعوة وغير ذلك.

وامتاز عنهم بأنه أخو رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنه الذرية الطيبة، وهو نفس محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مطهر من الرجس، ومنزه عن المعائب، فهو يمثل النبي في زهده وورعه وخلقه وهديه وفعله وعلمه وفضله. وهو ورسول اللّه ركيضا رحم، ورضيعا لبن واحد، إلى غير ذلك من المميزات التي اختصّ بها الإمام عليّ(عليه السلام)، وامتاز بها على غيره، فذاته صيغت من فضيلة، ولا يمكننا أن نعطي صورة واقعية عن شخصية الإمام بدراسة حياته بجميع نواحي عظمتها فليس ذلك بمستطاع.

فضل عليٍّ وامتيازه وخصاله

رأينا كيف تدخّلت السياسة في تشويه الحقائق ، وحمل الناس على مخالفة الواقع بأشكال وألوان مختلفة، ممّا أفسد على المجتمع ما صلح، وقامت بسبب ذلك فتن وحروب، وليس ذلك بعجيب ، ولكنّ الأعجب منه حمل من خالف تلك الأوضاع الشاذة، ووقف لجانب الحقيقة على الشذوذ والانحراف، وأن يصبح غرضاً ترشقه سهام التهم بدون تثبت في الحكم، وتدبر في الأمر.

وقد كانت مسألة التفضيل من أهمّ الأسباب التي تذرّع بها ولاة الأمر للقضاء على المفكّرين من الاُمة، وجعلتهم عرضة لخطر غضب الرأي العام من الذين أغواهم شيطان السياسة الفاسدة ليلقوا بأنفسهم في مهاوي الهلكة ، حتى أصبح الأمر بأشدّ مايكون من الخطر، والتجأ الكثير إلى الدفاع عن النفس بالمجاراة للرأي العام الذي تكيّف بسياسة الدولة بدون تدبّر وتفكير.

ولو تجرّدت المسألة عن ذلك التدخل لما كان أيّ شيء من ذلك، لأنّ الحقيقة في جانب ، وما يذهبون إليه في جانب آخر. وإنّما هي أقوال يرددونها اتباعاً لقائليها بدون تحقيق من صحتها.

وإذا أردنا أن نسألهم عن التطبيق العملي يصعب عليهم ذلك، ولا يجدون للإجابة عن طريق المنطق الصحيح سبيلاً.

وأقلّ قدر من التجرّد من دواعي التقليد وعوامل التعصّب يساعد في اكتشاف جذور إظهار هذه المسألة ودفع الإمام عن مكانته الدينية والتاريخية، فقريش التي أوصل سيف علي الحزن الى قلوبها وفجعها بصناديد الكفر لا تريد ذلك، والاُمويون الذين استخذوا تحت أقدام جند النبي عام الفتح وأظهروا الإسلام، تفاقم حقدها الجاهلي وعظم شركها ولم تكتف بسنّة شتم الإمام بل امتدت أياديها القذرة الى العترة الطاهرة قتلاً وسبياً وتشريداً.

وإذا استكشفنا حقيقة الأمر على ضوء الأحاديث النبويّة والآيات القرآنية الواردة في فضل عليّ(عليه السلام) واختصاصه بمزايا لم يشاركه فيها أحد; لوجدنا تلك الآراء التي ذهبوا إليها في مسألة التفضيل، بعيدة عن الصواب ، إذ هي تعطينا صورة واضحة لمقام عليّ(عليه السلام) وأنّه أفضل الاُمة لأنّها حقائق ملموسة لا يمكن لأحد أن يحيد عنها، فهي تقضي بأفضليّته على جميع الاُمة.

كيف؟ وقد مـلأ سمع الدنيا نداء رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وقد رواه جمع من الصحابة يربو عددهم على المائة (167).

وفي حديث(168) الثقلين كفاية للدلالة على علوّ شأن علي وفضله واختصاصه دون سائر الصحابة باقترانه مع القرآن في وجوب الاتباع، فهو مع القرآن والقرآن معه(169).

إذاً كيف يصحّ لقائل أن يقول بمساواته لسائر الناس، وعدم امتيازه عنهم بمؤهلات الفضل؟ ولا غرابة في ذلك بعد أن وقفنا على الأسباب التي أدّت إلى هذا الرأي.

ألعليّ يقال هذا؟ وهو نفس محمد بنصّ الوحي الإلهي بقوله تعالى : (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين)(170) ودعا النبيّ علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال : اللهمّ هؤلاءأهلي(171).

فهو بنصّ القرآن الكريم نفس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو وجد(صلى الله عليه وآله وسلم) نظيراً لعليّ(عليه السلام)لضمّه إليه ، كما صنع في الحسن والحسين.

إذاً ليس في اُمّته من يكون نفسه غير عليّ، وقد احتجّ علي يوم الشورى بذلك، فقال لهم: أنشدكم اللّه هل أحد أقرب إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في الرحم مني. ومن جعله(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه، وإبناه أبناءه، ونساءه نساءه غيري؟ قالوا: اللهم لا ، وقد أصبح ذلك من المقرر عند الناس والمشهور بينهم، ولم يستطع أحد إنكاره.

ولو أصغي الى قواعد البيان وأدلّة اللسان لوضح الحقّ وبان الهدى ولم تصرف كلمة في محكم التنزيل وسفر الإعجاز عن دلالتها ومعناها كذلك قول الله عزّ وجل: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)(172) فلو كان المقصود بنفسه هنا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لاقتضى البيان تعبيراً يتّسق مع الإعجاز والبلاغة بضمير دال عليه(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن التصريح بالنهي عن التخلف عن وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) الإمام علي وهو نفسه كان سبب ذلك. ومن حقّ كتّاب اليوم أن يروا أن بعض مناقب أمير المؤمنين الإمام علي لم تأخذ مكانها من الاهتمام، أو أنّ الشيعة لم يجعلوا بعضها بدرجة اهتمامهم في المناقب الاُخرى كقضية مبيت الإمام في فراش النبي الأعظم التي تُعدّ من أعظم فضائل الإمام وأقوى دلائل الاختصاص بالنبيّ محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)والقرب منه(173). ولكن ما يؤلم الشيعة ويحزّ في نفوس الآخرين من غير الشيعة الذين أبو الاستسلام والتقليد أن تكون قضية إبراز فضل الإمام علي وإظهار مناقبه من اهتمامات الشيعة فحسب، والنظرة البسيطة توضّح بجلاء من هو الإمام علي وما دوره في نصرة الإسلام وحماية نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

قام رجل في مجلس ابن عائشة ، فقال: يا أبا عبد الرحمن من أفضل أصحاب رسول اللّه ؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير .

فقال الرجل: فأين عليّ بن أبي طالب ؟ فقال ابن عائشة: تستفتيني عن أصحابه أم عن نفسه ؟ فقال الرجل : عن أصحابه . قال : إن اللّه تبارك وتعالى يقول: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) فكيف يكون أصحابه مثل نفسه؟(174)

وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي ماتقول في التفضيل؟ قال : في الخلافة أبو بكر، وعمر ، وعثمان. فقلت: فعليّ؟ قال : يابني، عليّ بن أبيطالب من أهل بيت لا يقاس بهم أحد(175).

وكان النبيّ في مختلف الظروف وشتّى المناسبات قد بيّن للناس أنّ علياً كنفسه، وهو منه بمنزلة رأسه من بدنه(176). كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): لينتهين بنو ربيعة، أو لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي(177). وكقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): عليّ مني وأنا منه. ويحدّث ابن عباس عن اُم سلمة أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: يا اُم سلمة علي مني وأنا من عليّ، لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى(178). وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر للملأ في المواقف العامة فضل عليّ(عليه السلام) وأنّه كنفسه ففي الحج أشركه في نحر البدن: وهي الهدي.

قال عرفة بن الحرث الكندي: شهدت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأتى بالبدن فقال: أدعوا لي أبا حسن. فدعي له علي(عليه السلام)فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): خذ بأسفل الحربة. وأخذ(صلى الله عليه وآله وسلم)بأعلاها ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب وأردف علياً(عليه السلام)(179). وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر علياً بأن يقوم على البدن وأن يتولى تقسيم لحومها بنفسه(180). وكان(صلى الله عليه وآله وسلم)يخطب الناس في الحج على ناقته الشهباء وعليّ(عليه السلام) يعبّر عنه ـ أي يفهمها الناس ـ . رواه ابن حجر في المواهب(181)، وأخرجه أبو داود(182)، والنسائي(183)، والبغوي(184)، والطبراني(185).

والنبيّ الأعظم يرعى علياً كما لو كان يرعى نفسه في جميع الأحوال، أخرج الطبراني عن إبراهيم بن رفاعة بن رافع بن مالك بن عجلان الأنصاري عن أبيه عن جدّه قال: أقبلنا يوم بدر، تفقدنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فنادت الرفاق بعضها بعضاً، أفيكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فوقفوا حتى جاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) معه عليبن أبي طالب، فقالوا: يا رسول الله، فقدناك، فقال: «أن أبا حسن وجد مغصاً في بطنه فتخلفت عليه» (186).

وكثير من هذا الباب الذي يدلّ بالبرهان القاطع أنّه(عليه السلام) نفس محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)وشريكه في مميّزاته وصفاته، إلاّ ما علم بالضرورة استثناؤه .

وكان أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرفون عليّاً بتلك المنزلة، ولا يجهلون ذلك الاختصاص.

أخرج الطبري عن ابن عباس : أنّه مرّ بمجلس من مجالس قريش وهم يسبّون علياً، فقال لقائده: أما سمعت هؤلاء ما يقولون؟ قال: سبّوا علياً. قال: فردني إليهم، فرده. فقال: أيّكم الساب لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالوا: سبحان اللّه من سبّ رسول اللّه فقد كفر، فقال : أيّكم الساب لعلي؟ قالوا: أما هذا فقد كان. قال ابن عباس: فأنا أشهد باللّه لسمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللّه، ومن سبّ اللّه عزّ وجلّ أكبّه اللّه على منخره..» (187)

وأخرج النسائي عن عبد اللّه الجدلي. قال: دخلت على اُمّ سلمة، فقالت لي: أيسبّ رسول اللّه فيكم؟ قلت: سبحان اللّه أو معاذ اللّه، قالت: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من سبّ علياً فقد سبني(188)

فامتياز شخصيّة علي(عليه السلام) اقتضت أن يختصّ باُمور لا يشاركه فيها أحد، لذلك كان أخاً للنبي من دون أصحابه يوم آخى النبي بينهم وأخذ بيد عليّ فقال: هذا أخي(189) . وقالت عائشة لرجل من بني ضبة ـ وهو آخذ بخطام جملهاـ : أين ترى علي بن أبي طالب؟ قال: ها هو ذا واقف رافع يده إلى السماء . قالت: ما أشبهه بأخيه. قال الضبي: ومن أخوه؟ قال: رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) . فقال الضبي: فلا أراني اُقاتل رجلاً هو أخو رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فنبذ خطام جملها ومال إلى عليّ(عليه السلام)(190).

وقد أراد اللّه إظهار فضل عليّ، وأراد أن يعرف الناس منزلته فخصّصه بتلك المزايا التي لا يمكن حصرها، وكيف تجهل مكانة عليّ وعظيم منزلته فيساوى مع سائر الناس ؟ وقد جعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حبّ عليّ علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ياعليّ لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق» وقال عليّ(عليه السلام): «إنه لعهد النبي الاُمي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليّ أنّه لا يحبني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق» (191)

وكان أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرفون إيمان الإنسان بحبّه لعليّ، ونفاقه ببغضه له، متخذين من قوله قاعدة مطّردة على الدوام في معرفة الناس، وتمييز الأشخاص. قال أبو سعيد الخدري: كنّا ـ نحن معشر الأنصار ـ نعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب(192). وقال جابر بن عبد اللّه الأنصاري: ما كنّا نعرف المنافقين إلا ببغضهم علياً(193).

فبنصّ هذا الحديث الشريف أنّ محبّ عليّ مؤمن، ومبغضه منافق. والمنافق هو المؤمن بلسانه والكافر بجنانه و (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار).

قال أحمد بن منصور: كنّا عند أحمد بن حنبل ، فقال رجل : يا أبا عبد اللّه، ما تقول في هذا الحديث الذي يروي أنّ عليّاً قال: «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد: وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعليّ(عليه السلام) : «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» قلنا قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق ؟ قلنا: في النار. قال أحمد : فعليّ قسيم النار(194).

وقد امتاز عليّ(عليه السلام) على جميع أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه نظيره في الأداء والتبليغ بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يؤدي عنيّ إلاّ أنا أو رجل مني، وذلك لمّا أرسل أبا بكر ليقرأ براءة على أهل مكة، أوحى اللّه إليه أن يرجعه، ويرسل عليّاً ليقوم مقام النبي في الأداء، فانصرف أبو بكر كئيباً، فقال لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل فيّ شيء؟ قال: لا ، إلاّ أني أمرت أن أبلّغه أنا أو رجل من أهل بيتي. وفي رواية سعد: لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل مني. وفي رواية أبي هريرة: لايبلغ غيري أو رجل مني(195)

فالإرسال كان بوحي من اللّه تعالى. وقد رشّحه لمقام التبليغ ، ووسمه النبيّ بذلك الوسام، وميّزه بتلك الصفة . كما ميّزه(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه باب مدينة علمه لما بينهما من المشاركة والمجانسة بقوله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (196).

قال الهيثمي(197): رواه جماعة وصحّحه الحاكم(198)، وحسّنه الحافظان العلائي(199)، وابن حجر(200).

وقال ابن حجر في شرح الهمزية في تعداد فضائل عليّ(عليه السلام): ومنها العلوم التي أشار إليها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وفي رواية من أراد العلم فليأت الباب. وفي اُخرى عند الترمذي: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها» وفي اُخرى عند ابن عدي: «عليٌّ باب علمي» (201). وقال أيضاً : ممّا يدل على أنّ اللّه سبحانه وتعالى اختصّ عليّاً من العلوم ما تقصر عنه العبارات كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أقضاكم علي» وهو حديث لا نزاع فيه. وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا دار الحكمة وعليّ بابها»، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» (202)

واختصّ عليّ(عليه السلام) بأنّه أحبّ الخلق إليه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقربهم منه، ووجوب محبّته ولزوم اتباعه ، وأنّه مع الحقّ والحق معه، وكان يحلّ له ما يحلّ لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بسد أبواب أصحابه إلاّ باب عليّ. أخرج النسائي من طريق زيد بن أرقم: كان لنفر من أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): سدّوا الأبواب إلاّ باب عليّ فتكلّم بذلك الناس، فقام رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد، فإنّي أمرتُ بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ، وقال فيه قائلكم: واللّه ما سددته ولا فتحته ، ولكنّي أمرتُ فاتبعته(203). أخرجه أحمد والطبراني، وما ذلك إلاّ لميزة في شخص عليّ اقتضت هذا التخصيص. وقد أكبر عمر بن الخطاب هذه الخصلة، وكانت من أهمّ الخصال التي كان يتمنّاها ، فكان يقول : لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. زوّجه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته، وسدّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد، وأعطاه الرايةيوم حنين(204).

وكم تمنّى عمر بن الخطاب بعض ما اختصّ به عليّ(عليه السلام) ، كما يحدّثنا عن نفسه في عدة موارد: كيوم خبير، يوم قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يفتح اللّه عليه، يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ(205)، وكان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن(206).

ولم يشهد المسلمون شخصيّة برزت في ذلك العصر بمؤهلات الفضل والكمال كشخصية الإمام عليّ بن أبي طالب، فلا يستطيع أيّ أحد أن يتطاول إليها في الشرف. وقد بذل النبيّ عنايته في تربيته، وكان يغمره بالحبّ ويأمر بحبّه، ويوجه الناس إلى معرفة مميزاته، وصفات الكمال التي اجتمعت فيه، فكان يعلن للملأ بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبي بعدي» «عليّ مني وأنا من علي ولا يؤدّي عني إلاّ أنا أو علي» أخرجه الترمذي فيصحيحه(207)، والنسائي في خصائصه(208) وغيرهما. «ما تريدون من عليّ إنّ علياً منّي وأنا من عليّ؟» (209). وأخرجه الترمذي بلفظه: «ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ، إنّ عليّاً مني وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي» (210) «من أحبّ عليّاً فقد أحبني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ، ومن آذى عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه» (211). «ياعلي طوبى لمن أحبّك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذبفيك» (212).

وروى عمار بن ياسر قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : أوصي من آمن بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولّى اللّه، ومن أحبّه فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه عزّ وجلّ. أخرجه الطبراني في الكبير وابن عساكر في تاريخه(213).

وأخرج أحمد رواية الإمام علي(عليه السلام) «والله إنّه ممّا عهد إليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) إنّه لا يبغضني إلاّ منافق ولا يحبّني إلاّ مؤمن» (214).

ونكتفي بهذا البيان الذي لم نقصد به التوسّع والإحاطة لتعذّر ذلك، ولكنّها إشارة موجزة من حيث الارتباط في الموضوع. كما وأنّا لم نتعرض لذكر الآيات الواردة في فضل عليّ(عليه السلام) مما أجمع المفسرون على أنّها نزلت فيه، وقد أفرد علماء الإسلام في فضائله ومناقبه ـ التي أختصّ بها وامتاز عن سائر الصحابة ـ مؤلفات كثيرة، عدا ما أودع في مضامين الكتب التي لا تحصى، وأفرد الحافظ أبو نعيم الأصفهاني كتاباً في بيان مانزل من القرآن في عليّ، وله كتاب الخصائص أيضاً. وألّف النسائي والإمام أحمد وعبد الرحمن السكري وغيرهم كتباً في مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام) التي اختص بها دون سائر الصحابة، وعسى أن تتاح لي الفرصة إلى العودة في البحث عن حياة الإمام عليّ بن أبيطالب ، لنقتبس من حياته نظرة واسعة.

ونكتفي هنا بهذه النظرة الخاطفة عن بقيّة مميزاته وصفاته التي يعجز أيّ أحد عن الإحاطة بها، وإعطائها حقّها من البيان ، فإنّ لشخصيته منزلة مرموقة، وما رسمت ريشة التاريخ في صفحة الوجود كصورته بعد صاحب الرسالة.

أقوال الصحابة في عليّ(عليه السلام)

ولا بدّ لنا ـ ونحن في معرض البحث عن مسألة التفضيل أو مشكلته ـ من الرجوع لأقوال الصحابة ولمعرفة ما لمسوه من الحقائق في شخصيّة الإمام عليّ(عليه السلام) وامتيازه بتلك الصفات التي اختصّ بها من بين الاُمة، ولنا بذكر أقوال البعض كفاية عن الإحاطة بأقوال الجميع.

لمّا بويع عليّ وعادت الخلافة إليه بعد أن تخطّته زماناً ، قام خطباء الصحابة في مجلس البيعة، وتكلّموا بما يحقّ لهم أن يتكلموا فيه منهم: ثابت بن قيس قال(215): واللّه ياأمير المؤمنين، لئن تقدّموك في الولاية فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك إليها أمس لقد لحقتهم اليوم، وكنت لا يخفى موضعك، ولا تجهل مكانتك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مععلمك (216).

وقام خزيمة ذو الشهادتين فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولو صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس باللّه، وأولى المؤمنين برسول اللّه، لك ما لهم وليس لهممالك(217).

وقام صعصعة بن صوحان فقال: واللّه يا أمير المؤمنين، لقد زيّنت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها(218).

وقام مالك بن الحرث فقال: أيّها الناس هذا وصيّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن العناء، الذي شهد له كتاب اللّه بالإيمان ، ورسوله بجنّة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأوائل ولا الأواخر(219).

وقام عقبة بن عمر فقال: من له يوم كيوم العقبة، وبيعة كبيعة الرضوان والإمام الأهدى الذي لا يخاف جوره. والعالم الذي لا يخاف جهله(220).

وتتابع الخطباء والشعراء في ذلك اليوم، وبما لا يتّسع المجال لذكره ولا يمكن الإحاطة بجميع أقوالهم في عليّ بشتى المناسبات ، ومختلف المقامات. وعلى الإجمال ، فإنّ أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يعترفون لعليّ بالفضل الذي لا يتطاول إليه أحد، ويرجعون إليه في مهماتهم، ويحدثون بفضله، وعلوّ منزلته.

فهذا أبو بكر كان يكثر النظر إلى وجه عليّ، فقالت له عائشة: يا أبه إنك لتديم النظر إلى وجه عليّ، فقال : يابنية سمعت، رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: النظر إلى وجه عليّ عبادة. أخرجه ابن السمان في الموافقة(221) . وأخرج أبو الحسن الحربي مثله عن عبد اللّه بن مسعود ، والأبهري عن عمر بن العاص مثله. واشتهرت عن أبي بكر أحاديث كثيرة في فضله كما اشتهر عنه رجوعه إليه في أهمّ المسائل .

وهذا الخليفة الثاني كان يعترف بعلم عليّ وأفضليته. وجاءت عنه أقوال كثيرة في ذلك: منها أنّه قال لرجل: لا تذكر عليّاً إلاّ بخير فإنك إن تنقصه آذيت صاحب هذا القبر في قبره ـ يعني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ خرّجه أحمد في المناقب(222)، وابن السمان في الموافقة(223). وقال : أقضانا عليّ. أخرجه الحافظ السلفي(224) وفي لفظ ابن عبد البر أنّه قال: عليّ أقضانا. أخرجه عن ابن عباس(225).

وقال سعيد بن المسيب : كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن(226).

وقال في المجنونة التي أمر عمر برجمها، وفي التي وضعت لستة أشهر فأراد عمر رجمها، فقال له عليّ(عليه السلام) : إن اللّه تعالى يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَشَهْرًا)(227).

وقال في المجنونة : «رفع القلم عن المجنون... الحديث» فكان عمر يقول : لولا عليّ لهلك عمر(228).

وقال اُذينة العبدي: أتيت عمر بن الخطاب ، فسألته من أين أعتمر؟ فقال: إئت عليّ بن أبي طالب فاسأله . وقال له : ما أجد لك إلاّ ما قال عليّ(عليه السلام) وأقواله في علي كثيرة منها(229):

قوله : لايفتينّ أحد في المسجد وعليّ حاضر. وقوله : اللهم لاتبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب . وقوله : اللهم لا تنزل بي شديدة، إلا وأبو الحسن إلى جنبي. وقوله: كاد يهلك ابن الخطاب، لولا عليّ بن أبي طالب. وقوله : عجزت النساء أن تلدن مثل عليّ بن أبي طالب. وقوله : ردّوا قول عمر إلى عليّ(عليه السلام) ، لولا على لهلك عمر. وقوله: يا ابن أبي طالب ، فما زلت كاشف كلّ شبهة، وموضع كلّ علم.

قال ابن الأثير في اُسد الغابة: ولو ذكرنا ما سأله الصحابة به مثل عمر وغيره رضي اللّه عنهم لأطلنا(230).وجاء رجل إلى معاوية بن أبي سفيان فسأله عن مسألة، فقال: سل عنها علي ابن أبي طالب ، فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين، جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي. قال: بئس ما قلت: لقد كرهت رجلاً كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يغزره بالعلم غزاراً ولقد قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي، وكان عمر إن أشكل عليه شيء أخذه منه. أخرجه أحمد بن حنبل فيالمناقب(231).

وقال ابن عباس لعلي: أربع خصال ليس لأحد غيره : هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي كان لواؤه معه في كلّ زحف. وهو الذي صبر معه يوم فرّ غيره. وهو الذي غسّله وأدخله قبره. أخرجه أبوعمر(232).

ولما حضرته الوفاة، قال: اللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب. خرّجه أحمد في المناقب(233).

وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ، فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط(234).

وقال ابن مسعود : أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب(235).

وقال سعد بن أبي وقاص ـ عندما طلب منه معاوية أن يسبّ علياً ـ : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى...» (236)

وكانت عائشة تقول: علي أعلم الناس بالسُنة(237).

ودخل عليها جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، فقال لها: ما تقولين في عليّ فأطرقت رأسها ثمّ رفعته فقالت:

إذا ما التبر حك على محك *** تبيّن غشّه من غير شك

وفينا الغش والذهب المصفى *** عليّ بيننا شبه المحك(238)

وقال معاوية بن أبي سفيان : لما بلغه قتل الإمام عليّ(عليه السلام): لقد ذهب

العلم والفقه بموت ابن أبي طالب . وسئل عطاء: أكان في

أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)أحد أعلم من عليّ قال: واللّه ما أعلمه(239). إلى كثير

ممّا لا يصعب على المتتبّع الوقوف عليه لاستجلاء الحقائق منه. وإظهار ماخفي على كثير من السذّج والبسطاء الذين استولت على شعورهم الدعايات الكاذبة والأقوال الفارغة.

وعلى أيّ حال ، فإنّ مسألة التفضيل لم تقم على سند من العلم والبحث أو التفكير السليم ، ولم يكن هناك دليل اقناعي أو برهان قاطع، بل المسألة تعود لآراء ذوي السلطة كما تقدّم بيانه. وإنّ الإجماع المدّعى لم يحصل إلا في زمن أحمد بن حنبل في عهد المتوكل(240)، وقد كانت بشكل حتمي لا ترجع للواقع من حيث هو، وإذا رجعنا لذلك بدون تحيّز وتعصّب ، بل يترك الأمر وحرية الرأي ، ويجري البحث على ضوء الأدلة والدراسات الصحيحة الخالية من نزعة التعصّب والهوى، وتدخل السياسة لما كان أيّ شيء ولم يحصل الاختلاف في أفضيلة عليّ(عليه السلام) على جميع الاُمة، كما عليه السلف وأكثر علماء الاسلام ، ولكن التدخل في الآراء والمعتقدات من قبل ولاة الأمر أوجد تلك المشاكل، وسلب الناس حرّية الرأي ، لذلك أصبح الكثير منهم يتكتم في إبداء رأيه لما وراء ذلك من الخطر، كما تحامى أكثر المحدّثين ذكر فضائل عليّ وأهل بيته ، وتركوا الرواية عنهم. ويذكر ابن حجر القول في ذلك: وكان سبب ذلك بغض بني اُمية، فكان كلّ من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته، وكلّما أرادوا إخماده وهدّدوا من حدّث بمناقبه لا يزداد إلاّانتشاراً(241).

ويحدّثنا الخطيب البغدادي: أنّ نصر الجهضمي المتوفى سنة (250 هـ) حدث عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه: أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة، فلما حدّث بهذا الحديث أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلّمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول للمتوكل: هذا رجل من أهل السُنة ولم يزل به حتى تركه.

قال الخطيب البغدادي: إنّما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنّه رافضياً ، فلما علم أنه من أهل السنة تركه(242).ومن هذا نعرف عظيم الخطر الذي تلاقيه الشيعة أو الروافض، كما يقولون، فقد أصبح في عرف أهل ذلك العصر أنّ من روى منقبة لعليّ وأهل بيته يعدّ رافضياً، وكم اتهم بذلك من العلماء فأصبحوا عرضة للبلاء، ومحلاً للنقمة ، وما أكثر الشواهد على تأثّر المجتمع بتلك النزعة السياسية، فلا نستغرب تلك الأقوال التي كان يتّخذها أصحابها ضد أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم وسيلة للنجاة وطريقاً لاستمالة قلوب ولاة الأمر إرضاء لهم ، وإنّ غضب اللّه عليهم بمايفترون .

خلاصة البحث في مسألة التفضيل

هذا ما تعلّق الغرض ببيانه حول مسألة التفضيل. بعد أن وقفنا على رأي مالك بن أنس وانفراده برأي يبعث على الاستغراب ، فلا حاجة لنا في الاستمرار بردّه ومناقشته بعد معرفة الأسباب التي دعت لذلك(243)، وإلاّ كيف يتساوى عليّ مع سائر الناس ؟ بعد اختصاصه بمزيد فضل وعلوّ منزلة لايدانيه أحد. فقد ربّاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حجره ونشأ في ظلّه، وتغذّى تعاليمه منه، ونَمَت مواهبه في تربيته، فتأدّب بآدابه، وتخلّق بأخلاقه، واهتدى بهداه، ولازمه طول حياته وسبق إلى تصديقه في الرسالة قبل كلّ أحد ، ولبّى دعوته في مؤازرته يوم نزلت : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ)(244) وفداه بنفسه يوم أزمع كفار قريش على قتله وأمره اللّه بالهجرة(245)، واختصّ النبيّ بمؤاخاته من بين أصحابه يوم آخى بينهم، فأخذ بيد عليّ وقال: هذا أخي(246)، وذلك على سبيل المشاكلة والمجانسة. وعليّ نفس محمّد بنصّ القرآن الكريم، وهو منه بمنزلة رأسه من بدنه ، وهو أعلم الاُمة وأقضاهم وأقربهم وأشدّهم جهاداً .

قال أبان بن عياش : سألت الحسن البصري عن عليّ(عليه السلام) فقال ما أقول فيه؟ كانت له السابقة والفضل والعمل ، والحكمة والفقه، والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقربة إلى أن قال : وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة(عليها السلام): زوجتك خير اُمتي. فلو كان في اُمّته خيراً منه لاستثناه ، ولقد آخى رسول اللّه بين أصحابه ، فآخى بين عليّ ونفسه، فرسول اللّه خير الناس نفساً وخيرهم أخاً(247).

وسأله رجل عن عليّ أيضاً ، وكان يظنّ بالانحراف عنه، فقال: ما أقول في من جمع الخصال الأربع؟ إئتمانه على براءة ، وما قاله له في غزوة تبوك ،فلو كان غير النبوّة شيء يفوته لا ستثناه ، وقول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) : الثقلان كتاب اللّه وعترتي، وأنّه لم يؤمر عليه أمير قط. وقد أمرت الأمراء على غيره(248)

وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل : اجتمعت جماعة عند أبي ، فخاضوا في الخلافة ، فرفع أبي رأسه، وقال: يا هؤلاء قد أكثرتم القول في عليّ والخلافة، إنّ الخلافة لم تزيّن علياً ، بل عليّ زانها .

وعن عبد اللّه أيضاً، قال: سمعت أبي يقول: ماورد لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما ورد لعليّ(عليه السلام)(249).

ولسنا بحاجة إلى ذكر أقوال التابعين وغيرهم من العلماء في مدح عليّ وفضله. ونكتفي بهذه النظرة الخاطفة، ولا يمكن التوسّع في ذلك.

وقصارى القول في مسألة التفضيل: أنّها أهمّ مسألة وأعظم مشكلة. وقد اتخذها خصوم الشيعة في عصر احتدام النزاع بين الطوائف ، ذريعة للوقوع فيهم. والطعن في عقائدهم ، وأصبحوا بتقديمهم عليّاً(عليه السلام) مبتدعة لا تحلّ الرواية عنهم، وهم ـ في نظر طائفة من السلف ـ كفّار لا يجوز الأخذ عنهم(250).

وقالوا: إنّ من يقدم علياً على عثمان فهو من أهل البدع. وإنه لمّما يثير الأسى والشجون أن يضطر المسلم الى النقاش وإيراد الأدلة والحجج في هذه المسألة التي تتظافر على تأكيدها الحقائق التاريخية والشرعية، ومن المؤلم أن ينساق مسلم الى ما اختلقته الأغراض وادّعته القوى التي هدم الإسلام عزّها في الجاهلية ونالها على يد الإمام عليّ ما نالها من ويلات، وليسأل من استسلم للاختلاقات والادّعاءات ما للغير في أن يحتلّ عليّ ما أراده الله له ورسوله؟ ولو أنّ قريشاً تخلّت عن أحقادها ولم تخضع للموتورين منها هل ستكون هذه القضية بمثل هذه الخطورة والمشكلة بمثل هذه الصورة وتصبح من المرتكزات. لكنّها الجاهلية التي استسلمت للإسلام لتسلم رؤوسها وكانت اُمية تقودها، وبواعث الملك والتسلط لذلك كان قول أحمد بن حنبل وقد سأله ولده عن عليّ ومعاوية: «اعلم أنّ علياً كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه شيئاً فلم يجدوا فجاءوا الى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيداً منهم له» (251). وفي قوله ما يصف سنة العداء التي اتّبع بها العباسيون أسلافهم من الحكام وجهود زبانيتهم.

هذا ما أردنا بيانه حول مسألة التفضيل ـ التي هي من أهم المشاكل كما قدمنا ـ وبيان رأي مالك بن أنس ، وبهذا تنتهي دراستنا لحياة مالك ، وبيان آرائه ، ولنا عودة للبحث عنه إن شاء اللّه في الأجزاء القادمة .

وحيث كنّا على موعد مع القراء ـ في آخر الجزء الأوّل ـ بأن نتعرّض للبحث عن اتهام الشيعة في الطعن على جميع الصحابة، أو تكفيرهم أجمع ـ والعياذ باللّه ـ .

ولمناسبة الموضوع نتحول لموضوع الشيعة والصحابة وسنتعرّض لما اُثير حول الشيعة من زوابع التّهم وما لفقه خصومهم من ادعاءات كاذبة وأقوال فارغة، ومن اللّه نطلب التسديد، وهو وليّ التوفيق .

 

 (88) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص35.

(89) جامع بيان العلم ج1 ص292 /374.

(90) جامع بيان العلم ج2 ص34.

(91) تنوير الحوالك ص9 ـ 10.

(92) ضحى الإسلام ج3 ص606 ـ 607 .

(93) كشف الظنون ج2 ص 1012.

(94) الطبقات الكبرى ج7 ص 372.

(95) إحياء علوم الدين ج2 ص143 ـ 144.

(96) سير أعلام النبلاء ج6 ص133 /774.

(97) سير أعلام النبلاء ج5 ص153 / 406.

(98) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص202.

(99) رجال النجاشي ج1 ص 64 / 1 واسمه عبيدالله، كاتب أمير المؤمنين(عليه السلام) ويأتي في صفحة 303.

(100) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص200.

(101) تقدم ذكره في هذا المجلد ص 299 .

(102) تأسيس الشيعة ص310 ـ 314.

(103) الفهرست لابن النديم ص223 ـ 224.

(104) مناقب أبي حنيفة للمكي ج2 ص245.

(105) البحر المحيط، للزركشي ج1 ص7 و 10.

(106) مقدمة تاريخ ابن خلدون ج1 ص576.

(107) كشف الظنون ج1 ص111.

(108) رجال النجاشي ج2 ص398 / 1165.

(109) انظر رجال الكشي ص255 ـ 280 حيث لم يرد ذكر لرسالة هشام بن الحكم في ترجمته.

(110) الفهرست لابن النديم ص223 ـ 224.

(111) الملل والنحل ج1 ص165.

(112) الفهرست لابن النديم ص276.

(113) رجال النجاشي ج1 ص347 / 382.

(114) رجال النجاشي ج1 ص424 / 500.

(115) رجال النجاشي ج2 ص187 / 869.

(116) رسالة الإسلام العدد 4 السنة السادسة من مقال للاُستاذ السيد صادق نشأت الاُستاذ بكلية الآداب بالقاهرة.

(117) الذريعة ج6 ص 301 ـ 374.

(118) كشف المغطى في فصل الموطأص 54 ـ 55.

(119) إذا أحصينا في الموطأ وجدنا ذكر الإمام(عليه السلام)، ويبدو أن تنفيذ مالك لشرط المنصور ـ كما هو رأي المالكية ـ تحاشي الإكثار من فتاوى الإمام(عليه السلام) أدّى الى ذلك. ولذا فإنّ رواية مالك عن اُستاذه الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)في طريقها يرد اسم الإمام علي فمن السلسلة الذهبية التي هي سند أحاديث أهل البيت كما جاءت في حديث الإمام الصادق الذي ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد والكليني في الكافي وغيرهما من علمائنا: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ».

(120) مقدمة النص لابن عبد البر ص9.

(121) كشف المغطى في فضل الموطأ ص2.

(122) شرح الزرقاني على الموطأ ج1 ص7.

(123) تنوير الحوالك ص11.

(124) المرسل من الحديث ما سقط من مسنده الصحابي بأن يرويه التابعي عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة. والمنقطع ما سقط من اثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي، فإن كان مع التوالي فذلك المعضل.

(125) شرح الزرقاني على الموطأ ج1 ص13.

(126) مفتاح السنة للخولي ص24.

(127) تهذيب التهذيب ج9 ص54.

(128) المعلق من الحديث: ما كان في سنده سقط من أوّله. كأن يقول البخاري عن ابن عمر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : كذا. والموقوف: ما انتهى سنده إلى الصحابي فلم يذكر فيه قولاً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا فعلاً، ولا وصفاً، ولا تقريراً. والمقطوع: ما انتهى سنده إلى من دون الصحابي كالتابعي، وقد يطلق على المقطوع (موقوف على فلان) أي الذي انتهى إليه السند.

(129) تاريخ بغداد ج13 ص 102 .

(130) شرح ألفية العراقي ج1 ص16.

(131) راجع الجامع الصحيح ج1 ص 77 ـ 91 مقدمة تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، ط إحياء التراث العربي بيروت.

(132) الغدير ج8 ص336.

(133) تاريخ الطبري ج2 ص 615 و 647 ـ 648 .

(134) تهذيب التهذيب ج4 ص 153 / 2628.

(135) اُنظر سير أعلام النبلاء ج11 ص194 / 2588.

(136) الشذرات ج2 ص240.

(137) اصطلح الرجاليون علىالإشارة لمن خرج لهالبخاري بـ(خ) ومسلم (م) والترمذي (ت) والنسائي(س) ؤوأبو داود (د) وابن ماجة (ق) ولمن خرج حديثه أصحاب الصحاح الستّة (ع) وإذا اجتمع الأربعة (ء) فإذا وجدت العلامة في أول الترجمة ، عرف أنّه حديث صاحب الترجمة رواه من اُشير إليه.

(138) الروضة للحافظ أبي علي النيسابوري ، وروى في ص 175 عن الإمام الباقر(عليه السلام) كذلك عندما سئل عن إرساله الحديث فقال: حديثي حديث أبي...

(139) رجال صحيح البخاري ج2 ص574 / 904 .

(140) رجال صحيح البخاري ج1 ص239 / 319.

(141) وأنكى من هذا كلّه عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري وكان معاصراً له، ولا روى عن الحسن بن الحسن ولا عن زيد بن علي بن الحسين، ولا عن يحيى بن زيد، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبدالله الكامل ابن الحسن الرضا ابن الحسن السبط، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبدالله، ولا عن الحسين الفخي بن علي بن الحسنبن الحسن، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن، ولا عن أخيه إدريس بن عبدالله ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابنطباطبا، ولا عن أخيه القاسم الرسي، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي، ولا عن محمد ابن القاسمبن علي بن عمر الأشرف ابن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري(*) ـ ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة كعبدالله بن الحسن بن جعفر العريضي وغيرهما من ثقل رسول الله، وبقيته في اُمته(صلى الله عليه وآله) حتى أنه لم يرو شيئاً من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة، مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين(عليه السلام):

يا ضربة من تقى ما أراد بها *** إلاّ ليبلغ من ذي الرعش رضوانا

انّى لاذكره يوماً فأحسبه *** أو في البرية عند الله ميزاناً

ــــــــــــــــــــــــــ

(* ) قتل في العراق سنة (250 هـ) قبل وفاة البخاري بست سنوات).

(142) طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص51 وترجم له في الشذرات وفي البداية والنهاية لابن كثير وابن الجوزي في المنتظم وغيرهم .

(143) طبقات الشافعية الكبرى ج4 ص126 ـ 127 / 315.

(144) اُنظر أعيان الشيعة ج9 ص159، معجم البلدان لليقاوت الحموي ج1 ص 534.

(145) المنتظم لابن الجوزي ج8 ص173 و 179 .

(146) شرح الزرقاني على الموطأ ج1 ص13.

(147) هدى الساري ج1 ص641.

(148) الصارم المسلول لابن تيمية ص575.

(149) فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج7 ص27 .

(150) فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج7 ص 27 .

(151) البداية والنهاية لابن كثير ج10 ص130، ترجمة المنصور.

(152) هذه نقطة يجب الالتفات إليها وهي: أن حب عليّ(عليه السلام) والاعتماد على قوله في استنباط الأحكام من علامات التشيع، ويوجب الاتهام وإجراء ا لحساب، وقد افتخر ا لشافعي بهذه التهمة.

وقد بسطنا القول في ذلك بكتابنا (الشيعة في ققص الاتهام)، وهناك نقطة اُخرى ، وهي: أن من يفضل علياً على أبي بكر فهو رافضي، وناهيك ما للرافضي من صفات أقلها الخروج عن الدين.

(153) مالك بن أنس لأبي زهرة ص69 ـ 71.

(154) تاريخ بغداد ج12 ص344.

(155) آل عمران: 18 ـ 19 .

(156) تاريخ الطبري ج6 ص397 حوادث سنة (169 هـ).

(157) تذكرة الحفاظ ج1 ص121.

(158) تاريخ الخطيب ج5 ص244.

(159) نور الأبصار ص176.

(160) هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة المروزي المتوفى سنة (276 هـ) كان من علماء الحديث في القرن الثالث وله مؤلفات كثيرة، يعرف بالدينوري لأنه أقام بالدينور قاضياً مدّة من الزمن فنسب إليها وقد وصفه ابن حجر بالانحراف عن أهلالبيت.

(161) آل عمران: 61 .

(162) الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ص47 ـ 49.

(163) كان من رأي عمر في ابنه أنه لا يحسن أن يطلق امرأته، ولم يره أهلاً لشيء، وليس فيما (وقذته العبادة) شهادة له بل من جملة ما كان يبعد عمر عن ابنه، وقد كان ظن الوالد بابنه صحيحاً حتى أنه بمرور الأيام لم ينصر الحقّ ولم يميز بين إمام الهدى وقائد البغاة فامتنع عن بيعة الإمام علي وطرق على الحجاج بابه ليلاً ليبايع عبدالملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام فأخرج الحجاج رجله من الفراش وقال لابن عمر: أصفق بيدك عليها!!

ويبدو أنّ الحجاج علم حقيقة ابن عمر ممّا اشتهر عنه بعد موقعة الحرّة أو مأساتها ودعوته الى عدم

خلع الطاعة ونكث البيعة فيما خلع الناس يزيد بن معاوية. راجع صحيح مسلم ج2 ص121

ومسند أحمدج2ص48.

(164) البخاري ج5 ص242.

(165) البخاري ج5 ص262.

(166) الغدير ج10 ص3 ـ 73.

(167) الغدير ج1 ص41 ـ 145.

(168) اُنظر الإمام علي بن أبي طالب، لعبدالكريم الخطيب، طبعة بيروت.

(169) ارجح المطالب ص597.

(170) آل عمران : 61.

(171) صحيح مسلم ج5 ص176 من شرح النووي ، وتفسير الرازي ج2 ص488.

(172) التوبة: 120 .

(173) اُنظر الإمام علي بن أبي طالب لعبدالكريم الخطيب. ط بيروت .

(174) المحاسن للبيهقي ج1 ص 49.

(175) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج2 ص120.

(176) انظر الخطيب البغدادي ج7 ص41.

(177) الرياض النضرة ص64.

(178) بحار الأنوار ج 37 ص254 .

(179) شرح المواهب ج8 ص194.

(180) البخاري ج2 ص201.

(181) شرح المواهب ج8 ص205.

(182) سنن أبي داود ج2 ص198 ح 1956.

(183) اُنظر سنن النسائي ج5 ص179 ح 3007 و 3008 ، سنن البيهقي ج5 ص228 ح 9618.

(184) مصابيح السنة ج2 ص277 ح 1941.

(185) المعجم الكبير ج5 ص18 ـ 19 ح 4458.

(186) المعجم الكبير ج5 ص46 .

(187) الرياض النضرة ج2 ص219.

(188) الخصائص ص24، والرياض النضرة ج2 ص219.

(189) مصابيح السنة ج2 ص203.

(190) المحاسن والمساوي للبيهقي ج1 ص35.

(191) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص64، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص27، وذخائر العقبى ص91 والاستيعاب بهامش الإصابة ج3 ص37 وشرح الشفاء للخفاجي ج3 ص457.

(192) صحيح الترمذي ج2 ص299.

(193) الذخائر ص91 والاستيعاب ج3 ص46.

(194) طبقات الحنابلة ج1 ص320.

(195) الرياض النضرة ج2 ص228 والخصائص ص20.

(196) لهذا الحديث طرق معتبرة صحيحة، وقد أفرد له الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق المغربي مؤلفاً يقع في 102 صفحة ذكر فيه طرق الحديث وتعرّض لجميع الأقوال فيه.

(197) مجمع الزوائد ج9 ص117.

(198) المستدرك على الصحيحين ج3 ص137، ح 4637.

(199) المعجم الكبير ج11 ص66.

(200) لسان الميزان ج1 ص297 / 627.

(201) شرح الهمزية ص302 .

(202) اُنظر شرح الهمزية ص303 .

(203) الخصائص ص13، وشرح المواهب اللدنية ج8 ص253.

(204) ذخائر العقبى ص77، ومسند أبي يعلى ص251 .

(205) أخرجه البخاري ومسلم، والترمذي في الصحيح ، والنسائي في الخصائص ، وغيرهم .

(206) الإصابة ج2 ص509 .

(207) الترمذي ج2 ص299.

(208) الخصائص ص20.

(209) الإصابة لابن حجر ج2 ص59.

(210) صحيح الترمذي ج13 ص165 .

(211) الاستيعاب بهامش الإصابة ج3 ص37.

(212) الرياض النضرة ج2 ص285.

(213) كنز العمال ج6 ص145.

(214) مسند أحمد ج1 ص84 .

(215) ثابت بن قيس بن الحطيم بن عدي الأنصاري، توفي في خلافة معاوية شهد مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقعة أحد وما بعده من المشاهد، واستعمله عليّ(عليه السلام) على المدائن وشهد معه حروبه، وقد نسب بعض المؤرخين هذه الكلمة لثابت بن شماس الأنصاري خطيب الأنصار، وهو اشتباه ; لأنّ الشماس قتل يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة أبي بكر.

(216) أعيان الشيعة ج4 ص17.

(217) تاريخ اليعقوبي ج2 ص179.

(218) تاريخ اليعقوبي ج2 ص179.

(219) تاريخ اليعقوبي ج2 ص179.

(220) تاريخ اليعقوبي ج2 ص155.

(221) مناقب عليّ بن أبي طالب لابن المغازلي ص196 ـ 199.

(222) فضائل الصحابة ج2 ص641 ح 1089 .

(223) الرياض النضرة ج2 ص220.

(224) الذخائر ص83.

(225) الاستيعاب ج3 ص39.

(226) تذكرة ا لخواص ص144.

(227) الأحقاف: 15 .

(228) الاستيعاب ج2 ص43.

(229) اُنظر البحار ج40 ص218 ـ 318 .

(230) راجع الاستيعاب لابن عبد البر وشرح الهمزية لابن حجر . والفتح لأحمد بن محمد الصديق . والغدير للأميني تجد هذه الأقوال الواردة عن عمر .

(231) الرياض النضرة ج2 ص257.

(232) المناقب للخوارزمي ص21 ـ 22 .

(233) الرياض النضرة ج2 ص227.

(234) شرح النهج ج2 ص6.

(235) الاستيعاب ج3 ص41.

(236) الخصائص للنسائي ص54.

(237) الاستيعاب بهامش الإصابة ج3 ص40 .

(238) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص193.

(239) كتاب الف باء للبلوي ج1 ص222.

(240) الاستيعاب ج3 ص 54.

(241) الإصابة ج2 ص59 .

(242) تاريخ بغداد ج13 ص287.

(243) سنلتقي في الجزء الثامن مع مالك في تكملة البحث عن رؤساء المذاهب.

(244) الشعراء : 214.

(245) سيرة ابن هشام ج2 ص95.

(246) كنز العمال ج15 ص 115 ح 334، والرياض النضرة ج3 ص 124 و 125، وتذكرة الخواص ص 22 و23، والسيرة الحلبية ج1 ص 311.

(247) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص369.

(248) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص95 ـ 96 .

(249) مناقب أحمد لابن الجوزي ص163.

(250) الكفاية للخطيب البغدادي ص48.

(251) اُنظر شرح الهمزية لابن حجر الهيثمي ص239، تحفة الأحوذي: 10/231.