عصر الامام الصادق عليه السلام

تمهيد 

كنّا نتحدّث عن نشأة المذاهب الإسلامية وعوامل انتشارها وما يتعلّق بذلك من تطورات وأحداث.

كما تحدّثنا عن بعض ما يتعلّق بحياة الإمام الصادق (عليه السلام) ومشاكل عصره ، والإشارة إلى مدرسته ، وذكر عدد قليل من تلامذته ورواة حديثه.

وفي هذا الجزء نعود ـ بعون اللّه ـ للبحث عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام)ومدرسته ، وبعض رواة حديثه ، بعد أن نشير لحوادث عصره ، يوم ساد الاضطراب والقلق جميع البلاد الإسلامية ، وعمّ الخوف جميع الارجاء فلم يأمنه الطفل الراقد في مهده ، ولا الشيخ القابع في داره عندما اتّسعت دائرة المؤاخذات على ولاة الأمر ، وسوء تصرّف العمال وجورهم على الرعية ، بشكل لامجال معه إلاّ إلى انفجار ثورة دمويّة ، وانقلاب يؤدّي إلى إنهيارالدولة.

وكان أهمّ عوامل الثورة على الاُمويين هو الانتصار لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)والطلب بثأرهم ، لأنّ الاُمويين أراقوا دماءهم من غير أن تراعى حرمة لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم ، فكانت هتافات الثوار الى الرّضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) هو سيد أهل البيت (عليهم السلام) وزعيم الهاشميين في عصره ، وهو محطّ آمال الاُمة ومعقد أمانيها ، وهو الشخصية التي بلغت بمواهبها وسموّ معناها الى أرفع درجة من الكمال ، وأعلى ذروة من الفضل ، ولم تكن منزلته في المجتمع يعلوها الخفاء أو يحوطها شيء من الغموض.

وهنا لابدّ لنا أن نتساءل : هل أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان بمعزل عن ذلك المعترك السياسي ؟ وأنّه لم يشارك في ذلك النشاط الذي كانت دعامته هو، الدعوة لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وأنّه دعا عبد اللّه بن الحسن ليمدّ يده فيبايعه، لانّه أكبر سنّاً من ولده محمد ذي النفس الزكية يوم اجتمع الهاشميون في الأبواء للمداولة في الأمر ، ومبايعة رجل من آل البيت(عليهم السلام) تناط به مسؤولية الدعوة، كما ذكره ذلك بعض الكتّاب بدون سند.

والإجابة على هذه الأسئلة تحصل عندما ندرس عوامل الثورة ، ونعرف نفسيات الثوار ونزعاتهم ، واختلاف مشاربهم وآرائهم.

ويتّضح لنا ذلك عندما نقف على الخطّة التي اختطّها الإمام لنفسه في ذلك الجو الهائج بالفتن ، والمائج بالأهواء ، إذ لم يستجب لدعوة زعماء الثورة لبيعته ، لأنّه لا يعدّهم من رجاله ولا الزمان زمانه ، ولم يغامر في نفسه وأهل بيته مغامرة عقيمة الانتاج ، تعود على المجتمع بأخطار جسيمة ، وعلى أهل بيته بسوء العاقبة ، لأنّه يعلم النتائج وما يؤول اليه الأمر وينظر إلى الحوادث عن كثب ، نظر الحكيم البصير ، والسياسي الخبير بعواقب الاُمور، وكثيراً ما اعلن حقائق تلك الأوضاع وكشف نوايا اُولئك القادة وما يهدفون اليه من وراء الدعوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

كما أنّه نهى أبناء عمّه عن التّسرّع في الأمر وعدم القيام بأيّ نشاط ثوري الى أن يأتي الوقت المناسب; لأنّ القيام بشيء قبل أن يستحكم أمره، مفسدة له.

وسنتحدّث في هذا الجزء وغيره ـ ان شاء اللّه ـ عن خطّته الحكيمة وأساليب دعوته القوية ، ومنهجه السياسي الرصين بصفته إمام عصره وزعيم أهل بيته ، بعد أن نستعرض بعضاً من مشاكل عصره، وأسباب قيام الثورة التي أطاحت بالحكم الاُموي.

عصره ومشاكله 

يمتدّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) من آخر خلافة عبد الملك بن مروان الى وسط خلافة المنصور الدوانيقي ، أي من سنة (83 هـ) إلى سنة (148 هـ) فقد أدرك طرفاً كبيراً من العصر الاُموي ، وعاصر كثيراً من ملوكهم ، وشاهد من حكمهم أعنف أشكاله ، وقضى حياته الأولى حتى الحادية عشرة من عمره مع جده زين العابدين (عليه السلام) ، وحتى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر (عليه السلام) ، ونشأ في ظلّهما يتغذّى تعاليمه ، وتنمو مواهبه ، وتربى تربيته الدينية ، وتخرَّج من تلك المدرسة الجامعة ، فاختصّ بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة (114 هـ) واتّسعت مدرسته بنشاط الحركة العلمية في المدينة ومكة والكوفة ، وغيرها من الأقطار الإسلامية، وهذا هو الدور الخاص الذي يهمّنا العرض له وتلزمنا دراسته.

كان العصر الذي اختصّ به الإمام الصادق (عليه السلام) عصر فتن واضطراب في جميع البلاد الإسلامية ، وحروب طاحنة ونزاع بين رجال الدولة ، وقد اصطدمت بتحركات تهدّد كيانها ، وتجاوبت البلاد بلغة الإنكار على الاُمويين، والمؤامرات السرية قد قاربت النجاح في تدبيرها الخفيّ، وهم في غفلة عن معالجة تلك المشاكل التي حلّت بالاُمة، ولم ينظروا الى المصالح التي تحتاجها سلامة البلاد كاهتمامهم بمصالح أنفسهم.

وقد عمّ الاستياء جميع الطبقات لسوء المعاملة الاقتصادية والسياسية ، وكان وضع الدولة يستوجب العمل على إيجاد طرق لحلّ تلك المشاكل التي فتحت عليهم باب المؤاخذات من جميع الطبقات، فقد كانت سيرة الحكام تخالف نظم الإسلام بصورة لا مجال الى السكوت عنها.

وتتابعت الحوادث واشتدّت الاُمور ، وكلّما ولي الحكم واحد منهم تزداد قائمة المؤاخذات ، وتظهر في عهده اُمور تبعث في النفوس الكراهة لعهدهم والاستياء منهم.

وكان الوضع الاقتصادي عاملا مهمّاً في بث النقمة ومضاعفة المقاومة لذلك الحكم ، فقد عملوا على زيادة الخراج واتباع الطرق السيئة في الجباية ، وأجحفوا في تقديره كما فعلوا في فارس. إذ كان عمال بني اُمية يخرصون الثمار على أهلها ، ثم يقوّمونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون فيه ، فيأخذونها على قيمتهم التي قدروها(1) وأخذوا الجزية ممن لم تجب عليهم كما فعلوا بمصر ، فإنّ عبد العزيز بن مروان أمر بإحصاء الرهبان فأحصوا ، واُخذت منهم الجزية ، وهي أول جزية أخذت من الرهبان.

وفرض الاُمويون ضرائب إضافية ، كالرسوم على الصناعات والحرف وعلى من يتزوّج أو يكتب عرضاً.

وأرجعوا الضرائب الساسانية التي تسمى هدايا النوروز ، وأوّل من طالب بها معاوية، وأمر أهل السواد أن يهدوا له في النوروز والمهرجان ، ففعلوا

ذلك، وبلغ ثلاثة عشر الف الف درهم(2).

وقدم دهقان هرات واسمه خراسان ، إلى أسد بن عبد اللّه القسري عامل هشام سنة (119 هـ) بهدايا المهرجان بما قيمته ألف ألف(3).

ويقول الطبري : قدم والي هرات ، ومعه دهقان سنة (120 هـ) بهدايا كان بها قصران : قصر من فضة وقصر من ذهب ، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة ، وصحاف من ذهب وصحاف من فضة ، والديباج الهروي والقوهيوالمروي(4).

وبعث عبد الملك بن مروان الى عامله في الجزيرة يأمره أن يحصي الجماجم ويعتبر الناس كلّهم عمّالاً بأيديهم ، ويحسب ما يكسبه العامل سنته كلّها ، ثم يطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته ، وطرح أيام الأعياد كلّها ، ففعل العامل ، ووجد الذي يحصل من ذلك في السنة لكلّ فرد أربعة دنانير فألزمهم ذلك جميعاً(5)

وكان عامل اليمن : محمد بن يوسف أخو الحجاج قد ارتكب أنواع العسف والجور ، فكان يصادر أملاك الاهالي وأموالهم ، وضرب عليهم ضريبة معينة عدا الخراج الذي ضربه الإسلام(6).

وقدم اُسامة بن زيد على سليمان بن عبد الملك بما اجتمع عنده من الخراج ـ وكان والياً عليه في مصر ـ وقال له : يا أمير المؤمنين إنّي ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت ، فإن رأيت أن ترفق بها وترفه عليها ، وتخفّف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها وصلاح معايشها ، فافعل ، فإنّه يستدرك ذلك في العام المقبل. فقال له سليمان : هبلتك اُمك ، احلب الدر ، فإذا انقطع فاحلب الدم،فالنجا(7).

وبهذا جهدت الرعية ، وفقدت الرفاهة ، فكان الكل متأثراً من تأدية تلك الضرائب الثقيلة التي تتمتع بها أقلية مستهترة ، ولا يهمّ ولاة الأمر بما ينجم من وراء ذلك من خراب البلاد ، واغتنم العمّال رغبة ولاة الأمر في تحصيل المال وجبايته ، فكانوا يعبثون في جبايتها للحصول على الثروة من وراء ذلك. وربّما كان الخلفاء من الاُمويين يُخولون عمالهم ما يحصل تحت أيديهم من جبايةالضرائب.

فقد خوّل والي خراسان ما حصل له ، وهو عشرون الف الف درهم من تلكالضرائب.

وسوغ يزيد بن معاوية لعبد الرحمن بن زياد والي خراسان بما اعترف له من المال ، وهو عشرون ألف درهم ، وكان عنده من العروض أكثر منها ، فقال عبد الرحمن يوماً لكاتبه : إنّي لأعجب كيف يجيئني النوم وهذا المال عندي! فقال له : وكم مبلغه ! قال : إنّي قدرت ما عندي لمائة سنة ، في كلّ يوم ألف درهم لا أحتاج منه الى شراء رقيق ولا كراع ولا عرض من العروض ، فقال له كاتبه : أنام اللّه عينك أيها الأمير ، لا تعجب من نومك وهذا المال عندك ، ولكن اعجب من نومك إذا ذهب ثم نمت !

فذهب ذلك المال كلّه ، أودع بعضه فذهب ، وجحد بعضه ، وسرق بعضه.

فآل أمره الى أن باع فضة مصحفه ، وكان يركب حماراً صغيراً تنال رجله الأرض ، فلقيه مالك بن دينار ، فقال له : ما فعل المال الذي قلت فيه ما قلت ؟ قال : كلّ شيء هالك إلاّ وجهه !(8)

مشكلة الخراج

ولمّا ولي عمر بن عبد العزيز ، عالج مشكلة الخراج والجزية والضرائب الإضافية التي هي أعظم من الخراج ، إذا لم تكن محدودة أو مقرّرة ، بل يعود أمرها الى العمال أنفسهم. فكتب الى عامل الكوفة :

أمّا بعد فإنّ أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدّة في أحكام اللّه ،وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء ، وإنّ قوام الدين العدل والاحسان ، فلا يكن شيء أهمّ إليك من نفسك ، فلا تحملها قليلا من الاثم ، ولا تحمل خراباً على عامر ، وخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر. ولا يؤخذن من الغامر إلاّ وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض ، ولا تأخذن اُجور الضرابين ، ولا هدية النوروز والمهرجان ، ولا ثمن المصحف ، ولا اُجور الفتوح ، ولا اُجور البيوت ، ولا درهم النكاح. ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري ، فإنّي قد وليتك من ذلك ما ولاني اللّه. ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه ، وانظر من أراد من الذريّة أن يحجّ، فعجّل له مائة ليحج بهاوالسلام(9].

وانتهى ذلك الاصلاح الذي سار فيه عمر بوفاته ، لأنّ يزيد بن عبد الملك ـ

عندما ولي الخلافة ـ أمر باعادة تلك الضرائب التي أمر عمر بإبطالها ، فكتب إلى عمّاله :

أمّا بعد فإنّ عمر كان مغروراً ، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده. وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى ، أخصبوا أم أجدبوا ، أحبّوا أم كرهوا ، حيوا أمماتوا(10).

فزاد الضغط وعظمت المحنة ، وأصبحت هذه الضرائب عبئاً ثقيلا أثقلت كاهل الاُمة، وبالأخص البلاد المغلوبة التي وقعت تحت «إسراف العمال في تحصيل الأموال وجبايتها، وعبثهم بما تحت أيديهم منها ، وانفاقها في مصالحهم الشخصية ، وقد كانت تتخذ أمرة إحدى الولايات وسيلة للحصول على الثروة وجمع المال» (11).

وممّا يدلّنا على عظيم الاهتمام في تحصيل الولاية للحصول على الثروة ; قضية بلالبن أبي بردة عندما وفد على عمر بن عبد العزيز فلزم المسجد يصلي ويديم الصلاة ، فأعجب به عمر. فقال عمر لعلاء بن أبي بندار : إن يكن سر هذا كعلانيته ، فهو رجل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره ، فجاء إليه وهو في المسجد وقال له : قد عرفت حالي من أمير المؤمنين ، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي ؟ قال : لك عمالتي سنة ، وهي عشرون ألف ألف ، قال : فاكتب بذلك ، فكتب له ورجع العلاء الى عمر بن عبد العزيز ، فكتب الى عامله بالكوفة : إنّ بلالاً غرّنا باللّه ، فسبكناه فوجدناه خبثاً كلّه والسلام(12).

فنرى بلالاً يبذل عشرين ألف ألف للحصول على إمرة العراق ، فلابدّ أن يتعوّض بأضعافها في أقلّ من سنة ، كما تقتضيه سيرة الولاة وجشع الجباة في ذلك الدور.

سيرة الجباة 

وكانت جباية العراق قد أسندت الى الدهاقين ـ رؤساء القبائل ـ فساروا فيهم سيرة غير مرضية.

وفي خراسان كانت الضرائب توزع على رؤوس الأهلين لا على مساحة الأرض ، إذ لو فرض على مساحة الأرض ، لوقع أكثره على الدهاقين.

وقد فرض الاُمويون الضريبة على من أسلم ، وكان ذلك سبباً في تأخّر خطى انتشار الاسلام ، لأنّ الضريبة تؤخذ من غير المسلم ، وهي الجزية والخراج ، وعند إسلام الذمّي يعفى من الإثنين. فلما دخل كثير من الذميين في الإسلام عن عقيدة ، أو عن رغبة في الخلاص من الضرائب ، عرف النقص في ميزانية الدولة ، ففرض الاُمويون الجزية والخراج على من أسلم ، فوقف انتشار الإسلام ، لمعارضته لمصالح الدولة المادية. وقد لمس أهل الكتاب والملل والديانات روح التسامح فمن تحرّكت في نفسه دوافع الإيمان الحقّ وجد في الأحكام الإسلامية روحاً جديدة وفي الشريعة المحمدية توحيداً حقّاً، ومن راح يتقي دفع الحقّ المالي الذي ترتب على الفتح الإسلامي فصار الى طريقة إشهار الإسلام، ولكنّه بمرور الوقت يجد أنّ ما اتخذه ستاراً ينفذ الى الأعماق بنوره ويرى في سلوك المخلصين وأفعال جنود الدعوة حوافز على الإيمان.

ثم انقلب المسؤولون في الحكم الى جباة وكاد سلوك الدعاة الأول ينحصر في مجالات ضيقة، لأنّ الملوك أقبلوا على الدنيا بكلّ وجوهها ولم يكن لهم من الإسلام إلاّ الاسم. ومن الدواهي أن يتابعهم على ذلك الذين اتّخذوا الدين زيّاً وبنيت مكانتهم في المجتمع على أساس صلتهم بالدين وتفرغهم لاُمور الشريعة. ولم يكن إسقاط تلك الضرائب في الواقع مضرّاً في مصلحتها أو مخلاً في ميزانيتها، بل كان معارضاً لشجع الولاة، وطمع الجباة ومصلحة الدهاقين، فكانت تلك الأعمال القاسية التي سار عليها العمال تفسح للناقمين مجالاً واسعاً، وتملأ القلوب على الاُمويين غيظاً، لأنّ سيرة العمال مستمدة من سلطان لا يهمّه تذمر الرعية، ولا يصغي لشكاية مظلوم، ويعظم على المسلمين أن تسودهم اُمة تتجاهر بالظلم وتخالف الأحكام. وقد هجرت السنن وبنت تعاليم الكتاب وراء الظهور، حتى أصبح ذلك من شعار الدولة، فكان رجال الاُمّة يتألمون من تلك الأوضاع السيئة، وما حلّ بالاُمة الإسلامية من الجور والعسف بالحكم، وإراقة الدماء وغصب الأموال وهتك الحرمات، فقام دعاة الإصلاح وصلحاء الصحابة بالمعارضة منذ عهد الدولة الأول، وأنكر المسلمون أشدّ الإنكار معاملة الاُمويين الجائرة.

وكلّما امتد عمر الدولة ازداد السخط وعظم الإنكار من جميع الطبقات، ولهذا رافقت الثورات حكم الاُمويين منذ البداية.

وكانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي بداية الانطلاق لنشر الوعي الاسلامي ضد الاُمويين، وصرخة مدوية هزّت عروش الظالمين، وأوّل طلائع تلك الثورات الإسلامية هي ثورة المدينة المنوّرة في واقعة الحرّة سنة (63 هـ) استنكاراً لأعمال يزيد وإجرامه.

فكانت ثورة دموية انتهت بالغلبة للجيش الاُموي، وأقدم جيش يزيد الذي أعدّه لهذا الغرض على ارتكاب فظائع ومذابح وجرائم ما أجمع المؤرخون على استنكاره، فقد أباح مسلم المدينة ثلاثاً لجنده يقتلون أهلها، ويسلبونهم أموالهم، وقتل ثمانون من أصحاب الرسول والباقون منهم أخذت عليهم البيعة ليزيد، بيعة عبودية واسترقاق.

كما قتل سبعمائة رجل من حملة القرآن، وألف وسبعمائة من بقايا المهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من أوساط الناس سوى النساءوالصبيان(13).

وافتض الاُمويون ألف عذراء(14). اضافة الى أعمال النهب والسبي، وكان الرجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعلها افتضت في وقعة الحرة(15).

ثم تتابعت الثورات في البلاد العربية، وتفاقمت حركة الإنكار على سوء السيرة، والظلم للرعية والاستهانة بمقدرات الاُمة فكانت ثورات في العراق وفي الحجاز وفي الاردن ومصر وغيرها.

الموالي والثورة

وبعد هذا العرض يمكننا تفنيد مزاعم القائلين: بأنّ الموالي هم العامل الوحيد لانهيار الدولة الاُموية لأسباب ذكروا منها:

إنّ الدولة الاُموية عربية بحتة وليس في مناصب الدولة للموالي نصيب.

وإنّ الموالي كانوا يحقدون بذلك على المجتمع العربي الممثل في الدولةالاُموية.

وإنّ الموالي قد حاولوا اعادة المجد الساساني ، وأنّ الصراع بين الكتلتين إنّما هو صراع عنصري بحت ، وكانت مؤازرتهم للدعوة الهاشمية إنّما هو طمع في استرداد المجد القديم. الى غير ذلك مما ذكره كثير من الكتّاب من مستشرقين وغيرهم.

ونحن لا ننكر أثر الموالي في الثورة على الدولة الاُموية ، كيف وقد تكاملت القوى في خراسان ، وظهرت الدعوة وعظم أمر أبي مسلم الخراساني؟

ولكنّنا لا نذهب الى ماذهبوا إليه من إسناد العوامل الى الموالي فحسب ، ومعنى هذا سلب الاُمة الإسلامية من كلّ وعي وشعور بما لمسوه من اُمور كان اللاّزم إنكارها ، وعدم الخضوع لها وقد أشرنا لبعض الحوادث من قبل.

هذا من جهة ومن جهة اُخرى أنّ الثورة في بلاد فارس كان أكثر زعمائها من رؤساء العرب كسليمان بن كثير الخزاعي ، وقحطبة بن شبيب الطائي وأبوداود الشيباني وغيرهم من رؤساء قبائل العرب في خراسان وهم من المقاتلة أيام الفتوح الاُولى من النزارية واليمانية.

وكان رجال الدعوة من العرب لا من الفرس كنصر بن صبيح التميمي وعبد الرحمن بن سلم والجهم بن عطية وغيرهم.

وكان النقباء جلهم من العرب والمنتسبين إلى أشهر القبائل : فمنهم خمسة من خزاعة ، وثلاثة من تميم وبعضهم من ربيعة وغيرها من القبائل العربية.

الموالي ووظائف الدولة

وأما القول بأنّ الاُمويين قد أبعدوا الموالي عن وظائف الدولة ممّا بعث الحقد في قلوبهم والكيد للاُمويين فهو غير صحيح ; لأنّا نرى أنّ الموالي قد استغلّوا أهمّ وظائف الدولة في العصر الاُموي، كرئاسة الديوان وجباية الخراج وأمانة السر ، وقيادة الجيوش وإمارة بعض البلدان ، وإليك اُنموذجاً من ذلك:

سرجون بن منصور مولى معاوية كان يتولّى رئاسة ديوان الرسائل والخراج لمعاوية وابنه يزيد ولمعاوية بن يزيد ولمروان بن الحكم.

عبد الرحمن بن دراج تولى الرسائل لمعاوية ، وكان أخوه على خراج العراق في أيامه.

مرداس مولى زياد بن أبيه كان على رئاسة ديوان الرسائل لزياد ، وكان على الخراج في العراق مولاه زاذا نفروخ.

أبو الزعيزعة مولى عبد الملك كان يتولّى ديوان الرسائل في عهده، وكان أمين سره عمربن الحارث مولى بني عامر.

جناح مولى عبد الملك: يترأس ديوان الخاتم.(16)

أبو العلاء يزيد بن أبي مسلم مولى ثقيف: يتقلّد للحجاج رسائله ويقتل الناس بأمره ، وولي خراج العراق بعد موت الحجاج.(17)

سعيد الصابي: على ديوان الخاتم للوليد بن عبد الملك ، وكاتبه شعيب العماني مولاه.

الليث بن أبي فروة: مولى اُم الحكم كان يكتب لعمر بن عبد العزيز ، وجعل خراج العراق بيد عبد اللّه بن ذكوان مولى رملة بنت شيبة.(18)

محمد بن يزيد مولى الأنصاري: كان والياً على مصر من قبل عمر بن عبد العزيز ، وبعد وفاة عمر عزله يزيد بن عبد الملك وولّى مكانه يزيد بن مسلم مولى ثقيف.(19)

سالم مولى سعيد بن عبد الملك: كان على ديوان الرسائل للوليد بن يزيد.

عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء : كان يتولّى رئاسة ديوان الرسائل لمروان الحمار: وكذلك عثمان بن قيس مولى خالد القسري.(20)

طارق بن زياد مولى موسى بن نصير: كان من القوّاد العسكريين.(21)

نيزك بن صالح مولى عمر بن عبد العزيز: كان على إمارة الشاش..

اُسامة مولى معاوية على إمارة مصر.(22)

طارق بن عمر مولى عثمان بن عفان ولي المدينة وكان من ولاة الجور.(23)

وكان الكثير منهم يتولّى السلطة التشريعية كعطاء بن يسار مولى ميمونة اُم المؤمنين المتوفى سنة (102 هـ).

وعلى قضاء مصر سمنان مولى عبد اللّه بن عمرو بن العاص المتوفى سنة(127 هـ).

وكان مفتيمصر وشيخها أبو رجاء بن حبيب المتوفى سنة (128 هـ) وغيرهؤلاء.

وكان الاُمويون يكرمون علماء الموالي ويشيدون بذكرهم. فقد نادى منادي الدولة أن لا يفتي إلاّ عطاء بن رباح ، وأرسلوا نافع الديلمي مولى ابن عمر المتوفى سنة (117 هـ) الى مصر يعلم الناس السنن.

وكانت الفتيا بدمشق لسليمان بن أبي موسى المتوفى سنة (117 هـ) مولىالاُمويين.(24)

ولزيد بن أسلم العدوي المتوفى سنة (136 هـ) حلقة في المسجد النبوي.

ويطول بنا الحديث ويتّسع البحث إن أردنا استقصاء ذكر من أشغل وظائف الدولة الهامة من الموالي ، من ولاة وقواد وقضاة وأمناء سر وامراء خراج وجباة أموال.

أسباب انهيار الدولة

ومهما تكن محاولة جعل انهيار الدولة لحقد الموالي فحسب ، فهو أمر بعيد كلّ البعد عن الصحة، وإنّ الباعث له تبرئة الاُمويين من كل ما ارتكبوه ، وأنّ المسلمين قد أقرّوا ذلك الحكم ولم يعارضوا ، وأنّ انهيار الدولة كان لأسباب عنصرية.

وليس ببعيد أن تكون هذه المحاولة من اُناس حملهم حب الاُمويين عليها كما حمل غيرهم على وضع الأحاديث التي يستطيعون بواسطتها التمويه على السذج من الناس في تبرير تلك الأعمال المنكرة منها:

يحدّثنا ابن الأثير أنّ معاوية بن أبي سفيان قال لولده يزيد : اطلب منّي فلست بسائل شيئاً إلاّ أجبتك اليه ، فقال : حاجتي أن تعتقني من النار لأنّ من ولي أمر اُمة محمد ثلاثة أيام أعتقه اللّه من النار ، فتعقد لي البيعة بعدك(25).

وساروا على هذا يفهمون الناس ويركزون عقيدة ولايتهم أمر الاُمة والدين ويتحلّون بالقداسة، مع عظيم تلك المنكرات حتى سرت هذه الفكرة الى عمّالهم وقواد الجيوش.

هذا مسلم بن عقبة لما فعل بالمدينة ما فعل وانصرف، ثم نزل به الموت في الطريق فقال: إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة ، ولا أرجى عندي منه في الآخرة(26).

وأشهد عند الوليد أربعين شيخاً منهم أنّ الخليفة لا يعاقب ، وأن من ولي أمر الاُمة ثلاثة أيام اُعتق من النار ; وهم يحاولون بذلك ردّ تلك الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم في التشديد على الولاة ، وإلزامهم بالعدل وهم لا يستطيعون ذلك ويخشون الإنكار. فقد صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال لجابر بن عبد اللّه: أعاذك اللّه من إمارة السفهاء، قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : اُمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهديي ، ولا يستنّون بسنتي ، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يردوا حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردوا عليَّ حوضي(27)

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ هلاك اُمتي أو فساد اُمتي رؤوس اُمراء اُغيلمة سفهاء من قريش(28).

وعن كعب بن عجرد مرفوعاً : سيكون اُمراء يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومن أعانهم على ظلمهم فليس منّي ولا أنا منه ، ولا يرد عليّ الحوض يوم القيامة ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه ، ويرد عليّ الحوض يوم القيامة(29).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «سيكون عليكم اُمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة حتى يؤخروها فصلوها لوقتها» (30)

وعن عوف بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وماهي : أولها ملامة وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة ، إلاّ من عدل وكيف يعدل مع قريبه(31)

وعن بشر بن عاصم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من ولي شيئاً من أمر المسلمين اُتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم ، فإن كان محسناً نجا ، وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فهوى به سبعين خريفاً» ، رواه الطبراني.(32)

وعن أبي ذر مثله ، وعن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : أفضل الناس عند اللّه منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق ، وشرّ عباد اللّه عند اللّه منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق(33). أخرجه الترمذي(34) والطبراني في الأوسط(35).

وعن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «يجاء بالإمام الجائر يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلحوا عليه فيقال له : سد ركناً من أركان جهنم» ، رواه البزار.(36)

وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «مامن أمير عشرة إلاّ يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلاّ العدل». رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح(37) ، ومثله عن سعد بن عبادة. وعن أبي هريرة بزيادة «وإن كان مسيئاً زيد غلاً إلى غله» رواه البزار(38)، والطبراني(39).

وعن عمر بن الخطاب أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال: ألا أخبركم بخيار اُمرائكم وشرارهم، خيارهم الذين تحبّونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم وشراء اُمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. أخرجه الترمذي

وعن أنس بن مالك : قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من ولي من اُمور المسلمين شيئاً فغشهم فهو في النار.(40)

وقد وضعوا في فضائل معاوية من الأحاديث المكذوبة والأقوال الشاذة التي يتبرأ منها الإسلام، فأنكر المسلمون ذلك ، ولكن أنّى يجدي الإنكار في وقت ألجمت فيه الأفواه، وكبتت الشعور ، وحكم على أهل الصدق منهم بالتنكيل الشديد ، والطرد والتبعيد؟ وقد حقق الحفاظ تلك الأكاذيب وأظهروا حقائقها ، ونصّوا على وضعها ، وإليك بعضاً منها :

أخرج أبو نعيم في الحلية بسند عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ; فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية.(41)

وعن هشام بن عروة عن عائشة في حديث طويل فيه أنّ النبي دعا لمعاوية فقال : اللهم اهده بالهدى واجنبه الردى ، واغفر له في الآخرة والأولى.(42)

الى غير ذلك من الأكاذيب والموضوعات التي يتحرّج القلم عن ذكرها ، وقد وضع جزءاً من تلك الأكاذيب في فضل معاوية بعض المشهورين بالكذب، وهو محمد بن عبد الواحد وأمره مشهور في ذلك(43).

والّف الهيتمي كتاباً في فضل معاوية وما أبعده عن الفضائل! ولا يسع الوقت لمناقشته(44) بعد ان كفانا ذلك حفّاظ الحديث ورجال العلم(45).

ولم يكتفوا بالأكاذيب على رسول اللّه بوضع الأحاديث، حتى جرتهم أطماعهم وساقتهم جرأتهم على اللّه وعلى رسوله بوضع الأحاديث في مدح عاصمة ملكهم ومقرّ دولتهم ، ولا نودّ اطالة الحديث في المحاولات الفاشلة في تبرير أعمال الاُمويين وإسناد الثورة عليهم لا من جهة حكمهم بل من جهة العنصرية فحسب.

عظات وعبر

وعلى أيّ حال فقد بيّنا أنّ الثورة بصورتها العامة إنّما هي ضد الحكم الاُموي، وقد كانت هذه الثورات عنيفة ، تعبّر بعمق وأصالة عن استنكار المسلمين لتلك المعاملة القاسية التي عاملوا بها الاُمة ، واتخاذهم تلك الاجراءات ضد أهل البيت (عليهم السلام) وهم يحسبون أنّهم يحسنون لأنفسهم صنعاً ، ويأملون من ورائها تخليد سلطانهم مع الزمن ، ولم يلتفتوا الى حراجة الموقف وسوء العاقبة; حيث إنّ الخلافة الإسلامية تدور عليها سعادة الاُمة وقوّة الإسلام، وقد عظم على المسلمين أن تتحوّل من أوج العظمة الى حضيض الاستهتار ، وأصبحت الأوضاع مقلوبة، فوليها بعد الخلافة الراشدة من لا عهد له بالدين ، ولا معرفة له بالهدى ، وهم أولو غلظة لا ينفذ الى قلوبهم شعاع الرحمة ، فلا يسمعون لمتظلّم شكوى ، ولا يدفعون عن الاُمة ما يسوؤها من تلك المعاملات القاسية.

فكانت عاقبة أمرهم أن مزّقوا كلّ ممزّق ، وخرج بقية السلف منهم من رجال ونساء هائمين على وجوههم خوفاً على أنفسهم وطلباً للنجاة ، ولجأوا لبلاد النوبة، فأخرجهم عظيمها ، فكانوا عرضة للخطر ، حتى صاروا الى بجاوة، فقاتلهم عظيمها ، وانصرفوا يريدون اليمن ، ومروا في البلاد هائمين.

وكان عبيد اللّه وعبد اللّه ولدا مروان الحمار آخر ملوك الاُمويين هما قادة تلك الفرقة الهائمة ، فعرض لهما طريقان بينهما جبل ، فأخذ كلّ واحد منهما في طريق ، وهما يريان أنّهما يلتقيان بعد ساعة ، فسارا يومهما ذلك ، ثم راما الرجوع فلم يقدرا وسارا أياماً ، ثم لقي عبد اللّه منسراً من مناسر الحبشة فقاتلهم فزرقه رجل منهم بمزراق فقتل عبد اللّه واستأسر أصحابه ، فأخذت الحبشة كلّ ما معهم وتركوهم ، فمروا في البراري عراة حفاة حتى أهلكهم العطش ، فكان الرجل يبول في يده ويشربه حتى لحقوا عبيد اللّه بن مروان، وقد ناله من العري والشدّة أكثر ممّا نالهم ، ومعه عدة من حرمه عراة حفاة ، قد تقطعت أقدامهم من المشي ، وشربوا البول حتى تقطّعت شفاههم ، ووافوا المندب فأقاموا بها شهراً، وجمع الناس لهم شيئاً ثم خرجوا يريدون مكة في زي الحمالين(46). ولمّا سبيت نساء مروان ومررن على منازله رفعن أصواتهن بالبكاء. وهذا من أعظم العظات والعبر.

ويروى أنّ عامر بن صالح الخراساني صاحب مقدمة صالح بن علي عمّ السفاح لما قتل مروان الجعديآخر ملوك بني اُمية دخلدار مروان وجلس على سريره ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته ، وأقبل يوبخها فقالت له : يا عامر، إنّ دهراً أنزل مروان وأقعدك على سريره حتى تعشيت عشاءه ، لقد أبلغ في موعظتك ، وعمل في إيقاظك وتنبيهك، إن عقلت وفكرت ، ثم قالت : يا أبتاه ويا أمير المؤمنيناه ، فأخذ عامر الرعب ، ولما بلغ السفاح ذلك كتب اليه يوبخه(47).

وكان عبيد اللّه بن مروان ولي العهد قد ظفر به المنصور وأودع في السجن ، وأخرجه المنصور يوماً من سجنه وكان مقيداً بقيد ثقيل ، فقال له المنصور : بلغني أنّ لك قصة عجيبة مع ملك النوبة فما هي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين والذي أكرمك بالخلافة ما اقدر على النفس من ثقل الحديد ، ولقد صدأ قيدي من رشاش البول ، وأصبّ عليه الماء في أوقات الصلاة ، ثم قصّ عليه القصة وأعاده إلى السجن ، وأودع فيه الى أيام الرشيد فهلك(48).

ولمّا دخل عبد اللّه بن علي دمشق أمر بنبش قبور بني اُمية ، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلاّ خيطاً مثل الرماد ،ونبش قبر عبد الملك ابن مروان فوجدوا فيه جمجمة ، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد ، وأخرج جسد هشامبن عبد الملك فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذرّاه في الهواء(49).

وقتل سليمان بن علي بالبصرة جماعة من بني اُمية وأمر بهم فجرّوا بأرجلهم وألقوا في الطريق فأكلتهم الكلاب ، واختفى كثير منهم كعمر بن معاوية بن عمر بن سفيان بن عتبة فضاقت عليه الأرض ، والتجأ الى سليمان ابن علي متخفياً ، ووقف على رأسه ، فقال : لفظتني البلاد اليك ، ودلّني فضلك عليك. فإما قتلتني فاسترحت ، وإما رددتني سالماً فأمنت. فقال : ومن أنت ؟ فعرّفه نفسه. فقال : مرحباً بك ما حاجتك ؟ فقال : إنّ الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهنّ وأقربهم اليهنّ قد خفن لخوفنا ، ومن أخاف خيف عليه ، فقال: حقن اللّه دمك ووفر مالك ، وكتب بذلك الى السفاح فأمنه(50).

قيام الدولة العباسية

وطويت صفحة الدولة الاُموية بقتل مروان الجعدي(51) وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ، بويع له بالخلافة سنة (126 هـ) وقتل يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة (132 هـ). وفي هذه السنة قامت الدولةالعباسية.

وتوقع الناس في العهد الجديد عهداً سعيداً وانتقالا مباركاً ، ونتيجة صالحة بعد خوض غمرات الحروب ، ومشاهدة المحن والتضحية في سبيل تحقيق تلك الاُمنية ، وهي إقامة دولة عادلة تحكم بكتاب اللّه وسنّة نبيّه، التي لم يظفر بها المسلمون في العهد الاُموي إلاّ ببعضها في أيام عمر بن عبد العزيز.

فتطلّعوا فجر ذلك العهد الميمون ، وشخصوا بأبصارهم الى معرفة المتربع على دست الحكم ، وهو الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصبح المجتمع يزخر بآمال عظيمة ، لأنّهم أعدل الناس في الحكم ، وأعلمهم بالدين ، فانكشف الأمر بظهور بني العباس واختصاصهم بمنصب الخلافة ، بعد أن خابت آمال بعض زعماء الثورة وقوّاد الجيش بإسناد الحكم لآل علي (عليه السلام) ، وفي طليعتهم جعفر بن محمد وقد رفض ذلك الطلب كما سيأتي بيانه.

ولم يكن العباسيون ليتجرأوا على الإفصاح عن نواياهم وأغراضهم وهم ينضمون جموع الناقمين ومسيرة الثورة وابقوا على ما في نفوسهم، وهم يتمسكون في السرِّ بشمول شعار «الرضا من آل محمد» لعائلتهم ولم يخطر ذلك ببال الثوار، وظل العباسيون يضمرون نواياهم.

والدعوة لم تكن للعباسيين ، ولم تكن دولتهم هي المتوقعة ، بل هي الى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب ، وهم دعاة هذه النهضة انتصاراً للعلويين وطلباً بدمائهم الزكية ، وبذلك استطاعوا أن ينظموا حزبهم ويجمعوا انصارهم ، وهم ينضمون الى جانب العلويين في جميع الدور الاُموي ، ويخفون ما أبدته الأيام وأظهره الزمن عندما حان الوقت لاقتطاف ثمار تلك الاتعاب ، إذاً لابدّ أن يستنكر الناس هذا الأمر ، ويؤاخذوهم بهذا الاختصاص.

وشعر العباسيون بتحسس الناس، كما شعروا بعدم ثقة أكثر العرب بدولتهم; فلا يستطيعون أن يشيدوا كيان دولتهم على أكتافهم ، فرأوا من الضرورة تقوية الجيش والاعتماد على القوة بالأكثرية الساحقة ، فاختصوا بالخراسانيين من بين عناصر الدولة ، وأطلقوا عليهم اسم الشيعة والأنصار ، لأنهم عرفوا نفسياتهم من قبل ، فجعلوا بلادهم مهداً للدعوة ، ومحلا لبذر تلك الفكرة، كما جاء في وصية إبراهيم الإمام ، فاظهروا العطف على أبناء عمّهم في دورهم الجديد واهتمامهم بتتبع قتلة الحسين (عليه السلام) ، اظهاراً لنصرة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإقناعاً للرأي العام.

ولمّا دخل نساء مروان الحمار على صالح بن علي تكلّمت ابنة مروان الكبرى فقالت : يا عمّ أمير المؤمنين حفظ اللّه لك من أمرك ما تحبّ، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمّك، فليسعنا من عفوك ما وسعك من جورنا ، قال : واللّه لا أستبقي منكنّ أحداً... ـ الى أن قال لها ـ : ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين وأهل بيته ؟ ألم يخرج اليه بحرم رسول اللّه سبايا فأوقفهن موقف السبي ؟ ألم يحمل رأس الحسين (عليه السلام) وقد قرع دماغه ؟ فما الذي يحملني على الاستبقاء عليكن ؟ قالت : فليسعنا عفوك(52).

ولمّا قتل مروان وجيء برأسه الى السفاح ، فلما رآه سجد ورفع رأسه فقال: الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ، ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين ، وتمثل بقول الشاعر :

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم *** ولا دماؤهم للغيظ ترويني(53)

حتى عرف الناس منهم ذلك ، وأنشد الشعراء في تلك الغاية التي كانت تقوم بها الدولة في دورها الجديد عندما قتل السفاح بقية الاُمويين ، ثم أمر بالقائهم في الصحراء في الانبار فجرّوا بأرجلهم ، وعليهم سراويلات الوشي فوقف عليهم سديف وأنشد :

طمعت اُمية أن سيرضى هاشم *** عنها ويذهب زيدها وحسينها

كلا وربّ محمد وإلهه *** حتى يبيد كفورها وخؤونها(54)

إلى غير ذلك من الاُمور التي اتخذوها في تهدئة الرأي العام ، وقام السفاح بالأمر وأظهر في خطبته الافتتاحية ما تميل اليه النفوس من المواعيد من اعادة العدل والمساواة والعمل بكتاب اللّه وسنة نبيّه، بقوله :

أيّها الناس لكم ذمّة اللّه تبارك وتعالى وذمّة رسوله وذمّة العباس علينا أن نحكم فيكم بما انزل اللّه ونعمل فيكم بكتاب اللّه، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)(55) ثم ذكر أعمال بني اُمية وما ارتكبوه في الاُمة.

فأخذ الناس بنود هذه الخطبة بعين الاعتبار ، وتوقّعوا تحقيق تلك الوعود ، ولكنّها كانت وهماً من الأوهام وأقوالاً حملتها الريح.

افتتحت صحيفة الدولة العباسية مصبوغة بالدم القاني ، وورثوا سلطان الاُمويين بعد ذلك الانقلاب ، وكانت الأسباب التي أدت الى فوزهم بالخلافة بعضها اُمور غير متوقعة ، وبعضها ساعدهم الحظ فيها ، فكان نصيبهم النجاح. وأهمّ تلك الأسباب التي اعتمدوا عليها هي الانتصار لآل محمد من بني اُمية ، لأنّهم اضطهدوا آل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)فكانت هذه المشكلة من أعظم المشاكل التي تقف أمامهم في سبيل توطيد ملكهم وامتداد سلطانهم ، لأنّهم يعرفون العلويين ونفسياتهم ومنزلتهم في المجتمع الإسلامي، لذلك كان أهمّ شيء عندهم هو أمر العلويين ، والوقوف أمام نفوذهم ، فاتخذوا تلك الطرق في إقناع الناس وأظهروا لهم الحب المصطنع والعطف الذي ينطوي من ورائه غيض يحرق القلوب ، فكانت أيام السفاح وشطر من خلافة المنصور على تلك السياسة الهادئة ريثما يتمّ لهم النفوذ وتحكم أسس الدولة.

ولمّا آن وقت اظهار ما كانوا يكتمونه ، نفّذوا تلك الخطط الانتقامية من آل علي (عليه السلام) ، فلم يدّخر المنصور ـ بعد أن عظمت شوكته وامتدّ سلطانه ـ وسعاً لسحق العلويين وحزبهم ، لأنه يرى أن في بقائهم تحطيم نفوذه وتمزيق ملكه الذي ناله باسمهم بعد املاق وبؤس واضطهاد وعذاب ، فهو يتوقع في كل آونة قيام ثورة دموية يترأسها علويّ يحوط به عدد كثير من الاُمة ، فتوجّه بكلّ مافيوسعه من جد وحزم ، وأنالهم شرّ أنواع العذاب ، وصبّ عليهم كؤوس غضبه وعاملهم بقسوة وشدة ، حتى قال أحد مخضرمي الدولتين شعراً :

يا ليت جور بنيمروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار

 

 

(1) العصر العباسي الأول. الاُستاذ عبد العزيز الدوري.

(2) تاريخ الوزراء للجهشياري ص15.

(3) الكامل لابن الأثير ج5 ص216.

(4) تاريخ الطبري ج5 ص465 حوادث سنة 120 هـ.

(5) الخراج ص27.

(6) السيادة العربية ص28.

(7) تاريخ الوزراء للجهشياري ص32.

(8) تاريخ الوزراء للجهشياري ص32.

(9) الكامل لابن الأثير ج5 ص29، تاريخ الطبري ج8 ص139.

(10) الكامل لابن الأثير ج3 ص273.

(11) السيادة العربية ص30.

(12) الكامل للمبرد ج1 ص158 ط 1.

(13) انظر البداية والنهاية ج1 ص22 والدولة الإسلامية للخربوطلي ص205.

(14) النجوم الزاهرة ج1 ص161 .

(15) الآداب السلطانية لابن الطقطقي ص107 .

(16) تاريخ الطبري ج6 ص181 ـ 182.

(17) تاريخ دمشق ج65 ص388، ترجمة يزيد بن أبي مسلم، الرقم 8437 .

(18) تاريخ الطبري ج6 ص180 ـ 181.

(19) تاريخ الطبري ج6 ص617.

(20) تاريخ الطبري ج6 ص181 و 182.

(21) البداية والنهاية ج9 ص98 ـ 99.

(22) انظر تاريخ خليفة بن خياط ص251.

(23) تهذيب الكامل ج13 ص348 / 2953.

(24) تهذيب الكمال ج12 ص92 / 2571.

(25) الكامل ج4 ص62.

(26) الكامل ج4 ص61.

(27) مسند أحمد ج3 ص321.

(28) مسند احمد ج2 ص255.

(29) تأريخ بغداد للخطيب البغدادي ج2 ص 437، ترجمة محمد بن صالح، الرقم 957.

(30) مسند أحمد ج5 ص35.

(31) الترغيب والترهيب ج3 ص132.

(32) المعجم الكبير ج2 ص39 ، ح1219.

(33) الخرق بالضم : الجهل والحمق ، ومنه الحديث : الرفق يمن والخرق شؤم.

(34) انظر مجمع الزوائد ج5 ص197.

(35) المعجم الأوسط ج1 ص230 ، ح350.

(36) مجمع الزوائد ج5 ص371، حديث 9039 .

(37) مسند أحمد ج37 ص120 ، ح22456.

(38) البحر الزخار ج29 ص192 ، ح3740 .

(39) المعجم الكبير ج6 ص22 ، ح5387 و 5388.

(40) كنز العمال ج5 ص757 ، ح14300.

(41) الحلية ج10 ص293.

(42) انظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج2 ص913 / 1748 ـ 1751.

(43) انظر الخطيب ج2 ص357.

(44) اُنظر الغدير ج10 و 11 فهناك تعرف معاوية ، فقد أبرز صورته البحاثة الأميني في اطار الواقع ، وهناك تعرف تلك الأحاديث وقيمتها ، فقد ناقشها من الطرق العلمية بما لا مجال الى إنكاره.

(45) لسان الميزان ج1 ص300، حديث 637 و ج4 ص258 حديث 5020، وفوائد المجموعة ص419.

(46) تاريخ اليعقوبي ج2 ص347 ـ 348، العقد الفريد لابن عبد ربه ج5 ص199 ـ 201.

(47) الشذرات ج1 ص184.

(48) الشذرات ج1 ص186.

(49) الكامل ج5 ص205.

(50) الكامل ج5 ص206.

(51) نسبة الى جعد بن درهم وكان مؤدبه وهو من زنادقة أهل الشام.

(52) الكامل ج5 ص204.

(53) الكامل ج5 ص203.

(54) العقد الفريد ج3 ص207.

(55) الكامل ج5 ص197.