خطبة 32- و فيها يصف زمانه بالجور، و يقسم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا

معنى جور الزمان

أيّها النّاس إنّا قدْ أصْبحْنا في دهْر عنود و زمن كنود يعدّ فيه الْمحْسن مسيئا و يزْداد الظّالم فيه عتوّا لا ننْتفع بما علمْنا و لا نسْأل عمّا جهلْنا و لا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا .

أصناف المسيئين

و النّاس على أرْبعة أصْناف منْهمْ منْ لا يمْنعه الْفساد في الْأرْض إلّا مهانة نفْسه و كلالة حدّه و نضيض وفْره و منْهمْ الْمصْلت لسيْفه و الْمعْلن بشرّه و الْمجْلب بخيْله و رجله قدْ أشْرط نفْسه و أوْبق دينه لحطام ينْتهزه أوْ مقْنب يقوده أوْ منْبر يفْرعه و لبئْس الْمتْجر أنْ ترى الدّنْيا لنفْسك ثمنا و ممّا لك عنْد اللّه عوضا و منْهمْ منْ يطْلب الدّنْيا بعمل الْآخرة و لا يطْلب الْآخرة بعمل الدّنْيا قدْ طامن منْ شخْصه و قارب منْ خطْوه و شمّر منْ ثوْبه و زخْرف منْ نفْسه للْأمانة و اتّخذ ستْر اللّه ذريعة إلى الْمعْصية و منْهمْ منْ أبْعده عنْ طلب الْملْك ضئولة نفْسه و انْقطاع سببه فقصرتْه الْحال على حاله فتحلّى باسْم الْقناعة و تزيّن بلباس أهْل الزّهادة و ليْس منْ ذلك في مراح و لا مغْدى .

الراغبون في اللّه

و بقي رجال غضّ أبْصارهمْ ذكْر الْمرْجع و أراق دموعهمْ خوْف الْمحْشر فهمْ بيْن شريد نادّ و خائف مقْموع و ساكت مكْعوم و داع مخْلص و ثكْلان موجع قدْ أخْملتْهم التّقيّة و شملتْهم الذّلّة فهمْ في بحْر أجاج أفْواههمْ ضامزة و قلوبهمْ قرحة قدْ وعظوا حتّى ملّوا و قهروا حتّى ذلّوا و قتلوا حتّى قلّوا .

التزهيد في الدنيا

فلْتكن الدّنْيا في أعْينكمْ أصْغر منْ حثالة الْقرظ و قراضة الْجلم و اتّعظوا بمنْ كان قبْلكمْ قبْل أنْ يتّعظ بكمْ منْ بعْدكمْ و ارْفضوها ذميمة فإنّها قدْ رفضتْ منْ كان أشْغف بها منْكمْ .

 قال الشريف رضي الله عنه : أقول و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية و هي من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لا يشك فيه ، و أين الذهب من الرغام ، و أين العذب من الأجاج ، و قد دل على ذلك الدليل الخريت ، و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان و التبيين ، و ذكر من نسبها إلى معاوية ، ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها جملته أنه قال ، و هذا الكلام بكلام علي (عليه السلام) أشبه ، و بمذهبه في تصنيف الناس و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال و من التقية و الخوف أليق ، قال : و متى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد و مذاهب العباد .