التمثيل الخامس والأربعون – سورة الزخرف

﴿وَكَمْ أرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبيٍّ إلاّ كانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون* فَأهْلَكْنا أشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الأوّلِين﴾.(1)

 

تفسير الآيات:

"البطش": تناول الشيء بصولة، و ربما يراد منه القوة والمنعة، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأمم الماضية التي بعث الله سبحانه رسله إليهم، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم الله سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.

 

هذا هو حال المشبه به، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوةومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم، يقول سبحانه: ﴿كَمْ أرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوّلين﴾ أي الأمم الماضية ﴿وما يأتيهم من نبي إلاّ كانوا به يستهزءُون﴾ فكانت هذه سيرة الأمم الماضية، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم، كما قال: ﴿فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين﴾. أي مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

 

وبعبارة أُخرى: انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالا َُمم الغابرة، فقد ضربنا لهم مثَلَهم، كما قال تعالى: ﴿وَكُلاً ضَرَبنا لَهُمُ الأمْثال﴾.(2)

 

إيقاظ:

ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن، قوله سبحانه: ﴿وَإذا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم﴾.(3)

 

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك و تعالى، يقول سبحانه: ﴿وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً﴾ فردّ عليهم بقوله: ﴿أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون﴾.

 

وقال سبحانه: ﴿وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون﴾(4)

 

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات الله سبحانه.

 

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّـهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم، قال سبحانه: ﴿وَإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً﴾ أي وصف الله به، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات الله.

 

﴿ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم﴾ فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي، وإنّما هي بمعنى الوصف، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات، و هم كاذبون في هذا الوصف، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الأمثال.

 

 

1-الزخرف:6ـ 8.

2-الفرقان:39.

3-الزخرف:17.

4-النحل: 57.

 

تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني