التمثيل الواحد والثلاثون - سورة الإسراء

﴿وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً *إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾.(1)

 

تفسير الآيات

 

"الغلُّ": ما يقيَّد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال، ومعنى قوله: ﴿مغلولة إلى عنقك﴾ أي مقيَّدة به.

 

"الحسرة": الغم على ما فاته والندم عليه، وعلى ذلك يكون محسوراً، عطف تفسير لقوله "ملوماً" ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

 

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء، وهذا كناية عن الإسراف، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية وإن لم يكن منطوقاً، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان، وهي: ﴿وَالّذينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً﴾.(2)

 

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها:

 

روى الطبرى أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: قل له: إنّ أُمّي تستكسيك درعاً، فإن قال: حتى يأتينا شيء.، فقل له: إنها تستكسيك قميصك. فأتاه، فقال ما قالت له، فنزع قميصه فدفعه إليه، فنزلت الآية.

 

ويقال انّه (عليه السلام) بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار، وقالوا:إنّ محمداً اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة ﴿إنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ أي يوسع مرة ويضيق مرة، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(3)

 

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول، قال: تلا أبو عبد الله هذه الآية: ﴿وَالّذينَ إذا أنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً﴾. قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى، فأرخى كفه كلها، ثمّ قال: هذا الإسراف، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها، وقال: هذا القوام.(4)

 

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

 

إنّ النحل يمتصّ رحيق الأزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

 

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الإفراط والتفريط، فمنع عن الشح، كما منع عن الإسراف في البذل.

 

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله: ﴿واقْصُدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير﴾.(5)

 

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية، فمن جانب يصرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ على بن أبى طالب (عليه السلام).(6)

 

 ومن جانب آخر يقول الإمام على (عليه السلام) : "هلك فىَّ اثنان :محب غال، ومبغض قال".(7)

 

فالإمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالأمة الوسط، قال سبحانه: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾.(8)

 

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير الموَمنين (عليه السلام) حول الاعتدال نأتي بنصها:

 دخل الإمام على العلاء بن زياد الحارثى و هو من أصحابه يعوده، فلمّا رأي سعة داره، قال:

 "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرَّحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة".

 فقال له العلاء: يا أمير الموَمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: "وماله؟" قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: "عليّ به".

فلمّا جاء قال: "يا عديّ نفسك: لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك".

قال: يا أمير الموَمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

قال: "ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل (الحق) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره!"(9)

 

1 ـ الإسراء:29ـ30.

2 ـ الفرقان:67.

3 ـ مجمع البيان: 3|412.

4 ـ البرهان في تفسير القرآن: 3|173.

5 ـ لقمان: 19.

6 ـ حلية الأولياء:1|86.

7 ـ بحار الأنوار: 34|307.

8 ـ البقرة:143.

9 ـ نهج البلاغة، الخطبة 209.

 

تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني