يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤام

قال أيده الله: وحدثني الوالد أعلى الله مقامه قال: خرجت يوم الرابع عشر من شهر شعبان من الحلة أريد زيارة الحسين عليه السلام ليلة النصف منه، فلما وصلت إلى شط الهندية، وعبرت إلى الجانب الغربي منه، وجدت الزوار الذاهبين من الحلة وأطرافها، والواردين من النجف ونواحيه، جميعا محاصرين في بيوت عشيرة بني طرف من عشائر الهندية، ولا طريق لهم إلى كربلاء لأن عشيرة عنزة قد نزلوا على الطريق، وقطعوه عن المارة، ولا يدعون أحدا يخرج من كربلا ولا أحدا يلج إلا انتهبوه.

قال: فنزلت على رجل من العرب وصليت صلاة الظهر والعصر، وجلست أنتظر ما يكون من أمر الزوار، وقد تغيمت السماء ومطرت مطرا يسيرا.

فبينما نحن جلوس إذ خرجت الزوار بأسرها من البيوت متوجهين نحو طريق كربلا، فقلت لبعض من معي: اخرج واسأل ما الخبر؟

فخرج ورجع إلي وقال لي: إن عشيرة بني طرف قد خرجوا بالأسلحة النارية، وتجمعوا لايصال الزوار إلى كربلا، ولو آل الأمر إلى المحاربة مع عنزة.

فلما سمعت قلت لمن معي: هذا الكلام لا أصل له، لأن بني طرف لا قابلية لهم على مقابلة عنزة في البر، واظن هذه مكيدة منهم لاخراج الزوار عن بيوتهم لأنهم استثقلوا بقاءهم عندهم، وفي ضيافتهم.

فبينما نحن كذلك إذ رجعت الزوار إلى البيوت، فتبين الحال كما قلت فلم تدخل الزوار إلى البيوت وجلسوا في ظلالها والسماء متغيمة، فأخذتني لهم رقة شديدة، وأصابني انكسار عظيم، وتوجهت إلى الله بالدعاء والتوسل بالنبي وآله، وطلبت إغاثة الزوار مما هم فيه. فبينما أنا على هذا الحال إذ أقبل فارس على فرس رابع(1) كريم لم أر مثله وبيده رمح طويل وهو مشمر عن ذراعيه، فأقبل يخب به جواده(2) حتّى وقف على البيت الذي أنا فيه، وكان بيتا من شعر مرفوع الجوانب، فسلم فرددنا عليه السلام ثمّ قال: يا مولانا _ يسميني باسمي _ بعثني من يسلم عليك، وهم كنج محمّد آغا وصفر آغا، وكانا من قواد العساكر العثمانية يقولان فليأت بالزوار، فانا قد طردنا عنزة عن الطريق، ونحن ننتظره مع عسكرنا في عرقوب السليمانية على الجادة.

فقلت له: وأنت معنا إلى عرقوب السليمانية؟

قال: نعم.

فأخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعتان ونصف تقريبا فأمرت(3): بخيلنا، فقدمت إلينا.

فتعلق بي ذلك البدوي الذي نحن عنده وقال: يا مولاي لا تخاطر بنفسك وبالزوار وأقم الليلة حتّى يتضح الأمر.

فقلت له: لا بدّ من الركوب لإدراك الزيارة المخصوصة.

فلما رأتنا الزوار قد ركبنا، تبعوا أثرنا بين ماش(4) وراكب فسرنا والفارس المذكور بين أيدينا كأنه الأسد الخادر، ونحن خلفه، حتّى وصلنا إلى عرقوب السليمانية فصعد عليه وتبعناه في الصعود، ثمّ نزل وارتقينا على أعلى العرقوب فنظرنا ولم نر له عينا ولا أثرا، فكأنما صعد في السماء أو نزل في الأرض ولم نر قائدا ولا عسكرا.

فقلت لمن معي: أبقي شك في أنه صاحب الأمر؟

فقالوا: لا والله.

وكنت وهو بين أيدينا أطيل النظر إليه كأني رأيته قبل ذلك، لكنني لا أذكر أين رأيته فلما فارقنا تذكرت أنه هو الشخص الذي زارني بالحلة، وأخبرني بواقعة السليمانية.

وأما عشيرة عنزة، فلم نر لهم أثرا في منازلهم، ولم نر أحدا نسأله عنهم سوى أنا رأينا غبرة شديدة مرتفعة في كبد البر، فوردنا كربلا تخب بنا خيولنا فوصلنا إلى باب البلاد، وإذا بعسكر على سور البلد فنادوا من أين جئتم؟ وكيف وصلتم؟ ثمّ نظروا إلى سواد الزوار ثمّ قالوا سبحان الله هذه البرية قد امتلأت من الزوار أجل أين صارت عنزة؟

فقلت لهم: اجلسوا في البلد وخذوا أرزاقكم ولمكة رب يرعاها.

ثمّ دخلنا البلد فإذا أنا بكنج محمّد آغا جالسا على تخت قريب من الباب فسلمت عليه فقام في وجهي فقلت له: يكفيك فخرا أنك ذكرت باللسان، فقال: ما الخبر؟

فأخبرته بالقصة، فقال لي: يا مولاي من أين لي علم بأنك زائر حتّى ارسل لك رسولا وأنا وعسكري منذ خمسة عشر يوما محاصرين في البلد لا نستطيع أن نخرج خوفا من عنزة.

ثمّ قال: فأين صارت عنزة؟

قلت: لا علم لي سوى أني رأيت غبرة شديدة في كبد البر كأنها غبرة الظعائن ثمّ أخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعة ونصف، فكان مسيرنا كله في ساعة وبين منازل بني طرف وكربلا ثلاث ساعات ثمّ بتنا تلك الليلة في كربلا.

فلما أصبحنا سألنا عن خبر عنزة فأخبر بعض الفلاحين الذين في بساتين كربلا قال: بينما عنزة جلوس في أنديتهم وبيوتهم إذا بفارس قد طلع عليهم على فرس مطهم، وبيده رمح طويل، فصرخ فيهم بأعلى صوته يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤام(5) عساكر الدولة العثمانية تجبهت عليكم(6) بخيلها ورجلها، وها هم على أثري مقبلون فارحلوا وما أظنكم تنجون منهم.

فألقى الله عليهم الخوف والذل حتّى أن الرجل يترك بعض متاع بيته استعجالا بالرحيل، فلم تمض ساعة حتّى ارتحلوا بأجمعهم وتوجهوا نحو البر فقلت له: صف لي الفارس فوصف لي وإذا هو صاحبنا بعينه، وهو الفارس الذي جاءنا والحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.

قلت: وهذه الحكاية سمعتها شفاها منه أعلى الله مقامه، ولم يكن هذه الكرامات منه ببعيدة، فانه ورث العلم والعمل من عمه الأجل الأكمل السيد باقر القزويني خاصة السيد الأعظم، والطود الأشيم، بحر العلوم أعلى الله تعالى درجتهم، وكان عمه أدبه ورباه وأطلعه على الخفايا والأسرار، حتّى بلغ مقاما لا يحوم حوله الأفكار، وحاز من الفضائل والخصائص ما لم يجتمع في غيره من العلماء الأبرار.

منها أنه بعد ما هاجر إلى الحلة واستقر فيها وشرع في هداية الناس وإيضاح الحق وإبطال الباطل، صار ببركة دعوته من داخل الحلة وأطرافها من الأعراب قريبا من مائة ألف نفس شيعيا إماميا مخلصا مواليا لأولياء الله، ومعاديا لأعداء الله.

بل حدثني طاب ثراه أنه لما ورد الحلة لم يكن في الذين يدعون التشيع من علائم الإمامية وشعارهم، إلا حمل موتاهم إلى النجف الأشرف، ولا يعرفون من أحكامهم شيئا حتّى البراءة من أعداء الله، وصاروا بهدايته صلحاء أبرار أتقياء وهذه منقبة عظيمة اختص بها من بين من تقدم عليه وتأخر.

ومنها الكمالات النفسانية من الصبر والتقوى، وتحمل أعباء العبادة، و سكون النفس، ودوام الاشتغال بذكر الله تعالى، وكان رحمه الله لا يسأل في بيته عن أحد من أهله وأولاده ما يحتاج إليه من الغداء والعشاء والقهوة والغليان وغيرها عند وقتها، ولا يأمر عبيده وإماءه بشيء منها، ولولا التفاتهم ومواظبتهم لكان يمر عليه اليوم والليلة من غير أن يتناول شيئا منها مع ما كان عليه من التمكن والثروة والسلطنة الظاهرة، وكان يجيب الدعوة، ويحضر الولائم والضيافات، لكن يحمل معه كتبا ويقعد في ناحية، ويشتغل بالتأليف، ولا خبر له عما فيه القوم، ولا يخوض معهم في حديثهم إلا أن يسأل عن أمر ديني فيجيبهم.

وكان دأبه في شهر الصيام أن يصلي المغرب في المسجد ويجتمع الناس، ويصلي بعده النوافل المرتبة في شهر رمضان، ثمّ يأتي منزله ويفطر ويرجع ويصلي العشاء بالناس، ثمّ يصلي نوافلها المرتبة، ثمّ يأتي منزله والناس معه على كثرتهم فلما اجتمعوا واستقروا، شرع واحد من القراء فيتلو بصوت حسن رفيع آيات من كتاب الله في التحذير والترغيب، والموعظة، مما يذوب منه الصخر الأصم ويرق القلوب القاسية، ثمّ يقرأ آخرا خطبة من مواعظ نهج البلاغة، ثمّ يقرأ آخرا تعزية أبي عبد الله عليه السلام ثمّ يشرع أحد من الصلحاء في قراءة أدعية شهر رمضان ويتابعه الآخرون إلى أن يجيء وقت السحور، فيتفرقون ويذهب كل إلى مستقره.

وبالجملة فقد كان في المراقبة، ومواظبة الأوقات والنوافل والسنن والقراءة مع كونه طاعنا في السن آية في عصره، وقد كنا معه في طريق الحج ذهابا وإيابا وصلينا معه في مسجد الغدير، والجحفة، وتوفي رحمه الله الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1300 قبل الوصول إلى سماوة، بخمس فراسخ تقريبا، وقد ظهر منه حين وفاته من قوة الإيمان والطمأنينة والإقبال وصدق اليقين ما يقضي منه العجب، وظهر منه حينئذ كرامة باهرة بمحضر من جماعة، من الموافق والمخالف ليس هنا مقام ذكرها.

ومنها التصانيف الرائقة الكثيرة، في الفقه والاصول والتوحيد والكلام وغيرها، ومنها كتاب في إثبات كون الفرقة الناجية فرقة الامامية أحسن ما كتب في هذا الباب، طوبى له وحسن مآب.

 

 

 

 

(1) يعنى أنه داخل في السنة الخامسة، يقال: أربع الغنم: دخلت في السنة الرابعة والبقر وذوات الحافر: دخلت في السنة الخامسة، وذوات الخف دخلت في السابعة.

(2) الخبب: مراوحة الفرس بين يديه ورجليه أي قام على احداهما مرة وعلى الاخرى مرة، وقيل هو السرعة.

(3) في النسخة (فقلت).

(4) في النسخة (حاشر) والسياق يقتضي ما أثبتناه.

(5) الزؤام من الموت: الكريه أو المجهز السريع.

(6) هكذا في النسخة.