الطوفان وصنع السفينة

بعد ما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه الى عبادة الله ، وبعد التبليغ الذي دام اكثر من تسعمائة وخمسين سنة ، وبعد ان تحمل انواع الالام والعذاب والاهانة والتهم وغير ذلك.

بعد هذا اقبل على الدعاء ، ورفع نوح عليه السلام يديه الى السماء وقال : « وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا ، انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا » (1).

بعد ذلك وقبل نزول الغضب والطوفان ، اعقم الله اصلاب الرجال وارحام النساء ، فلبثوا اربعين سنة لا يولد لهم ولد ، وقحطوا في تلك الاربعين سنة حتى هلكت اموالهم واصابهم الجهد والبلاء ، ثم قال لهم نوح : استغفروا ربكم انه كان غفارا ، فاعذر اليهم وانذر فلم يزدادوا الا كفرا.

عند ذلك امر الله عزوجل نوح عليه السلام ان يغرس النخل ، فاقبل بغرس النخل ، فكان قومه يمرون به فيسخرون منه ويستهزؤون به ويقولون : شيخ قد اتى له تسعمائة سنة يغرس النخل ، وكانوا يرمونه بالحجارة ، فلما كبر النخل واستحكم امر بقطعه ، فسخروا منه ايضا وقالوا : لما بلغ النخل مبلغه قطعه ، ان هذا الشيخ قد خرف وبلغ منه الكبر.

بعد ذلك امره الله ان ينحت السفينة وامر جبرئيل ان ينزل عليه ويعلمه كيف يتخذها ، فقدر طولها في الارض الفا ومائتي ذراع ، وعرضها ثمان مائة ذراع ، وطولها في السماء ثمانون ذراعا ، فقال : يارب من يعينني على اتخاذها ؟ فاوحى الله اليه : ناد في قومك ، فنادى نوح فيهم بذلك فاعانوه عليها ، وكان يمر به قومه ويسخرون منه ويقولون : يتخذ سفينة في البر.

وفي رواية اخرى عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال : سأل نوح عليه السلام ربه ان ينزل على قومه العذاب ، فاوحى الله اليه ان يغرس نواة من النخل فاذا بلغت فاثمرت واكل منها اهلك قومه وانزل عليهم العذاب.

فغرس نوح النواة واخبر اصحابه بذلك ، فلما بلغت النخلة واثمرت واجتنى الثمر نوح واكل واطعم اصحابه ، قالوا له : يا نبي الله الوعد الذي وعدتنا ، فدعا نوح ربه وساله الوعد الذي وعده ، فاوحى الله اليه ان يعيد الغرس ثانية ... ، فاخبر نوح اصحابه بذلك فصاروا ثلاث فرق ، فرقة ارتدت ، وفرقة نافقت ، وفرقة ثبتت مع نوح.

حتى فعل نوح ذلك عشر مرات ، وفعل الله ذلك باصحاب الذين يبقون معه فيفترقون كل فرقة ثلاث فرق على ذلك.

فلما كان في المرة العاشرة جاء اليه رجل من اصحابه الخلص والمؤمنون فقالوا له : يا نبي الله : فعلت بنا ما وعدت او لم تفعل فانت صادق نبي مرسل لا نشك فيك ولو فعلت ذلك بنا ، قال : فعند ذلك استجاب الله دعوة نوح واهلك قومه ، وادخل الخاص منهم معه السفينة ، فنجاهم الله تعالى ونجى نوحا معهم بعدما صفوا وذهب الكدر منهم.

فلما فرغ نوح عليه السلام من صنع السفينة امره الله ان ينادي بالسريانية ، لا يبقى بهيمة ولا حيوان الا حضر ، فادخل من كل جنس من اجناس الحيوان زوجين في السفينة ، وكان عدد الذين امنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا ، فقال الله تعالى : « ... فاذا جاء امرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون » (2).

قيل كان صنع السفينة في مسجد الكوفة.

فلما كان في اليوم الذي اراد الله هلاكهم ، كانت امرأة نوح تخبز في الموضع الذي يعرف « بغار التنور » (3) في مسجد الكوفة ، وقد كان نوح اتخذ لكل نوع من اجناس الحيوان موضعا في السفينة ، وجمع لهم فيها ما يحتاجون اليه من الغذاء.

لما فار التنور صاحت امرأة نوح ، فجاء نوح الى التنور ، فوضع عليها طينا وختمه حتى ادخل جميع الحيوانات السفينة ، ثم جاء الى التنور ففضى الخاتم ورفع الطين ، وانكشفت الشمس ، وجاء من السماء ماء منهمر صب بلا قطر ، وتفجرت الارض عيونا ، وهو قوله عزوجل : « ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على امر قد قدر ... » (3).

وبعد ذلك امرهم الله تعالى وقال لهم : « اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها » (4).

فدارت السفينة وضربتها الامواج حتى وصلت الى مكة ، وطافت بالبيت ، وكان قد غرق جميع ما في الدنيا الا موضع البيت ، وانما سمي البيت العتيق لانه اعتق من الغرق ، فبقي الماء ينصب من السماء اربعين صباحا ، ومن الارض حتى ارتفعت السفينة.

فلما غرق الجميع ونجى نوح واصحابه ، رفع يده الى السماء ثم قال : « يا رهمان اتقن » اي : يا رب احبس ، او احسن ، فامر الله الارض ان تبلع ماءها وللسماء ان تمسك المطر ، وقضي الامر واستوت على الجودي ، وهو جبل في الموصل.

وبعد ذلك امر الله تعالى نوحا ان يهبط من السفينة بسلام وبركات ، فنزل نوح عليه السلام بالموصل من السفينة مع الثمانين نفر من اصحابه واهله الذين كانوا معه في السفينة ، وبنوا لهم مدينة وسميت « مدينة الثمانين ».

________________________________________

1 ـ نوح : 27 و 28.

2 ـ المؤمنون : 27.

3 ـ « او بنار التنور » قال البعض : كانت العلامة بين نوح وربه لحلول الطوفان ان يفور التنور ، قال اخرون : ان كلمة « تنور » اسمعملت هنا مجازا عن غضب الله تعالى ، ولكن يبدو ان « التنور » بمعناه الحقيقي اقوى.

3 ـ القمر : 11.

4 ـ هود : 41.