مواعظه وحكم من حياة النبي يحيى عليه السلام

كان يحيى بن زكريا عليهما السلام نبيا زاهدا عابدا متواضعا يعبد الله حق عبادته ، وكان يجتمع مع العلماء والاحبار من صغر سنه وكان يتواضع لهم مع ما عليه من مقام النبوة والحكمة العالية ، واقترب من الله تعالى ووصل الى درجة السلوك بحيث كان اذا ناجى ربه وقال : يا رب ، قال الله عزوجل : لبيك يا يحيى.

كانت حياته مليئة بالحكم والمواعظ ، نذكر منها وباختصار بعضا منها فيما يلي :

 

عبادة يحيى عليه السلام :

 

روي ان يحيى عليه السلام عندما كان صغيرا اتى بيت المقدس فنظر الى المجتهدين من الاحبار والرهبان عليهم مدارع من الشعر وبرانس الصوف.

فلما نظر الى ذلك ، اتى الى امه ، فقال : يا اماه انسجي لي مدرعة من شعر وبرنسا من صوف حتى آتي بيت المقدس فاعبد الله مع الاحبار والرهبان ، فقالت له امه : حتى يأتي ابيك وياذن لي ... فقال زكريا : يا بني ما يدعوك الى هذا وانما انت صبي صغير ؟

فقال له : « يا ابت اما رأيت من هو اصغر مني سنا قد ذاق الموت ؟ » قال بلى ، ثم قال لامه : انسجي له مدرعه من شعر وبرنسا من صوف ، ففعلت.

فتدرع المدرعة على بدنه ووضع البرنس على رأسه ، ثم اتى بيت المقدس ، فاقبل يعبد الله عزوجل مع الاحبار ، حتى اكلت مدرعة الشعر لحمه.

 

بكائه من خشية الله :

 

كان يحيى عليه السلام من البكائين من خشية الله ، فنظر ذات يوم الى ما قد نحل جسمه ، فأوحى الله تعالى :

يا يحيى اتبكي مما قد نحل من جسمك ، وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار اطلاعة ، لتدرعت مدرعة من الحديد فضلا عن المنسوج ، فبكى حتى اكلت الدموع لحم خديه.

فقال زكريا لولده يحيى : يا بني ما يدعوك الى هذا انما سألت ربي ان يهبك لي لتقر بك عيني ؟ قال : انت امرتني بذلك يا ابة ، قال : ومتى ذلك يا بني ؟

قال : الست القائل : « ان بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها الا البكاؤون من خشية الله ؟ » قال : بلى ، فجد واجتهد وشانك غير شاني.

 

الجبل السكران :

 

وكان زكريا عليه السلام اذا اراد ان يعظ بني اسرائيل يلتفت يمينا وشمالا فان رأى يحيى لم يذكر جنة ولا نارا.

فجلس ذات يوم يعظ بني اسرائيل ، واقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة ، فجلس في غمار الناس ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى ، فانشأ يقول :

حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى ، ان في جهنم جبلا يقال له السكران في اصل ذلك الجبل واديا يقال له الغضبان ، يغضب لغضب الرحمن تبارك وتعالى ، في ذلك الوادي جب قامته مائة عام ، في ذلك الجب توابيت من نار ، في تلك التوابيت صناديق من نار وثياب من نار ، وسلاسل من نار ، واغلال من نار.

فرفع يحيى رأسه فقال : واغفلتاه من السكران ، ثم اقبل هائما على وجهه ....

 

مصائد ابليس :

 

في الامالي عن الامام الرضا عليه السلام : ان ابليس كان يأتي الانبياء عليهم السلام من لدن آدم عليه السلام الى ان بعث الله المسيح عيسى عليه السلام يتحدث عندهم ويسائلهم ولم يكن باحد منهم اشد باسا منه يحيى بن زكريا عليهما السلام.

فقال له يحيى عليه السلام : يا ابا مرة ان لي اليك حاجة فقال : انت اعظم قدرا من ان اردك بمسألة فسلني ما شئت فاني غير مخالفك فيما تريده.

فقال له يحيى عليه السلام : يا ابا مرة اريد ان تعرض علي مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم ، فقال له ابليس : حبا وكرامة وواعده لغد.

فلما اصبح يحيى عليه السلام قعد في بيته ينتظر الموعد واغلق عليه الباب فما شعر حتى دخل من خوخة كانت في بيته ، فاذا وجهه صورة وجه القرد ، وجسده على صورة الخنزير ، واذا عيناه مشقوقتان طولا ، واسنانه عظم واحد بلا ذقن ولا لحية ، وله اربعة ايدي يدان في صدره ويدان في منكبه ، واذا عراقيبه قوادمه واصابعه خلفه وعليه قباء وقد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط بين احمر واصفر واخضر وجميع الالوان ، واذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة ، واذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاليب.

فلما تأمله يحيى عليه السلام قال له ، ما هذه المنطقة التي في وسطك ؟ فقال هذه المجوسية انا الذي سننتها وزينتها لهم.

فقال : وما هذه الخيوط الالوان ؟ قال له : هذه جميع اصباغ النساء ، لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى تقع مع لونها ، فافتتن الناس بها.

فقال له : فما هذا الجرس الذي بيدك ؟ قال : هذا كل لذة من طنبور وبربط وطبل وناي وصرناي (1) ، وان القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فاحرك الجرس فيما بينهم ، فاذا سمعوا استخفهم الطرب ، فمن بين من يرقص ومن بين من يفرقع باصابعه ، وبين من يشق ثيابه.

فقال له : واي الاشياء اضر لعينيك ؟ فقال : النساء ، هن فخوخي ومصائدي فاني اذا اجتمعت على دعوات الصالحين ولعناتهم صرت الى النساء فطابت نفسي بهن.

فقال له يحيى عليه السلام : فما هذه البيضة التي على راسك ؟ قال : بها اوتي دعوات المؤمنين.

قال : فما هذه الحديدة التي ارى فيها الكلاليب ؟ قال : بهذه اقلب قلوب الصالحين.

قال يحيى عليه السلام : فهل ضفرت بي ساعة قط ؟ قال : لا ، ولكن فيك خصلة تعجبني بها.

قال يحيى عليه السلام : فما هي ؟ قال : انت رجل اكول ، فاذا ظفرت واكلت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى عليه السلام : فاني اعطي الله عهدا لا اشبع من طعام حتى القاه.

قال له ابليس : وانا اعطي الله عهدا لا انصح مسلما حتى القاه ، ثم خرج فما عاد اليه بعد ذلك. (2)

قيل : انه قال له يوما الصبيان امثاله : يا يحيى اذهب بنا نلعب ، فقال لهم : ما للعب خُلقت ، وكان يأكل العنب واوراق الشجر ، وقيل : كان يأكل خبز الشعير.

قال الصادق عليه السلام : جاء رجل الى عيسى بن مريم عليه السلام فقال له : يا روح الله اني زنيت فطهرني ، فأمر عيسى عليه السلام ان ينادي في الناس : لا يبقى احد الا خرج لتطهير فلان ، فلما اجتمع واجتمعوا وصار الرجل بالحفرة ، نادى الرجل في الحفرة :

لا يحدني من لله تعالى في جنبه حد ، فانصرف الناس كلهم الا يحيى وعيسى عليهما السلام.

فدنا منه يحيى فقال له : يا مذنب عظني ، فقال له : لا تخلين بين نفسك وبين هواها فتردى ، قال : زدني ، قال : لا تعيرن خاطئا بخطيئته ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : حسبي. (3)

وعن ابي الحسن الاول عليه السلام قال : كان يحيى بن زكريا عليهما السلام يبكي ولا يضحك ، وكان عيسى بن مريم عليهما السلام ، يضحك ويبكي ، وكان الذي يصنع عيسى عليه السلام افضل من الذي يصنع يحيى عليه السلام. (4)

 

________________________________________

1 ـ كل هذه الاسماء ادوات موسيقى.

2 ـ الامالي : عنه قصص البحار للجزائري : ص 447.

3 ـ من لا يحضره الفقيه : 475.

4 ـ اصول الكافي : ج 2 ص 665.