سورة البقرة الآية 101-120

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: كعيسى ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله.

مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ، أي: التوراة. لأنّ كفرهم بالرّسول المصدّق لها، كفر بها فيما تصدّقه.

و قيل : المراد بكتاب اللّه، القرآن.

وَراءَ ظُهُورِهِمْ:

مثل لإعراضهم عنه، بالإعراض عمّا يرمى به وراء الظّهر، لعدم الالتفات إليه.

كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ  أنّه كتاب اللّه، يعني: أنّ علمهم به رصين . ولكن يتجاهلون عنادا.

قال الشّعبيّ:  هو بين أيديهم يقرءونه. ولكن نبذوا العمل به.

قال سفيان بن عيينة:  أدرجوه في الحرير والدّيباج وحلّوه بالذّهب والفضّة.

و لم يحلّوا حلاله. ولم يحرّموا حرامه. فذلك النّبذ. هذا إذا حمل الكتاب على التوراة. وأمّا إذا حمل على القرآن، فإنّه لما جاءهم الرّسول بهذا الكتاب، فلم يقبلوه، صاروا نابذين له.

و اعلم: أنّه تعالى دلّ بالآيتين، على أنّ جلّ اليهود، أربع فرق:

فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها، كمؤمني أهل الكتاب. وهم الأقلّون المدلول عليهم بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

و فرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطّي حدودها، تمرّدا وفسوقا. وهم المعنيّون بقوله:

نبذ فريق منهم.

و فرقة لم يجاهروا بنبذها، لكن نبذوا لجهلهم بها. وهم الأكثرون.و فرقة تمسّكوا بها ظاهرا، ونبذوها خفية، عالمين بالحال، بغيا وعنادا. وهم المتجاهلون.

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ: معطوف على «نبذ»، أي: نبذوا كتاب اللّه. واتّبعوا كتب السّحر الّتي تقرؤها، او تتبعها الشّياطين من الجنّ، أو الإنس، أو منها.

عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على عهد سليمان.

قيل : كانوا يسترقون السّمع، ويضمّون إلى ما سمعوا أكاذيب، ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدوّنونها، ويعلّمون النّاس. وفشى ذلك في عهد سليمان، حتّى قيل: إنّ الجنّ يعلم الغيب. وإن ملك سليمان تمّ بهذا العلم. وإنّه تسخّر به الإنس والجنّ والرّيح له.

و روى العيّاشيّ،  بإسناده، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام. قال: لمّا هلك سليمان، وضع إبليس السّحر. ثمّ كتبه في كتاب. وطواه. وكتب على ظهره:

 «هذا ما وضع آصف بن برخيا، من ملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم. من أراد كذا وكذا فليقل كذا وكذا.» ثمّ دفنه تحت السّرير. ثمّ استأثره لهم. فقال الكافرون:

ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا. وقال المؤمنون: هو عبد اللّه ونبيّه. فقال اللّه في كتابه:

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا. (إلى آخره.)

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ: تكذيب لمن زعم ذلك.

و عبّر عن السّحر، بالكفر، ليدلّ على أنّه كفر. وأنّ من كان نبيّا، كان معصوما عنه.

وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا باستعماله.

و قيل : بما نسبوا إلى سليمان من السّحر.

و قيل : عبّر عن السّحر، بالكفر.

و قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : ولكن (بالتّخفيف)، ورفع الشّياطين.

يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ إغواء وإضلالا.

و الجملة حال عن الضّمير في «كفروا.»و المراد بالسّحر، ما يستعان في تحصيله بالتّقرّب إلى الشّيطان، ممّا لا يستقلّ به الإنسان. وذلك لا يستتبّ إلّا لمن يناسبه في الشّرارة وخبث النّفس. فإنّ التّناسب شرط في التّضامّ والتّعاون. وبهذا يتبيّن  السّاحر عن النّبيّ.

و أمّا ما يتعجّب منه كما يفعله أصحاب الحيل، بمعونة الآلات والأدوية، أو يريك صاحب خفّة اليه، فليس بسحر. وتسميته سحرا، على التّجوّز، أو لما فيه من الدّقّة. لأنّه في الأصل لما خفي سببه.

وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ:

عطف على السّحر. والمراد بها واحد. والعطف لتغاير الاعتبار. أو لأنّه أقوى منه.

أو على ما تتلوا.

قيل : هما ملكان أنزلا لتعليم السّحر، ابتلاء من اللّه تعالى للنّاس، وتمييزا بينه وبين المعجزة.

و قيل : رجلان سمّيا ملكين، باعتبار صلاحهما. ويؤيّده قراءة الملكين.

 (بالكسر) وما روي  أنّهما مثّلا بشرين. وركّب فيهما الشّهوة. فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة. فحملتهما على المعاصي والشرك. ثمّ صعدت إلى السّماء بما تعلّمت منهما. فمحكيّ عن اليهود.

و قيل : «ما أنزل» نفي معطوف على «ما كفر [سليمان‏] »، تكذيب لليهود في هذه القصّة.

بِبابِلَ: ظرف، أو حال من الملكين، أو من الضّمير في أنزل. والمشهور أنّه بلد من سواد كوفة.

هارُوتَ وَمارُوتَ: عطف بيان للملكين. وضع صرفهما، للعجمة والعلمية.

و لو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر- كما زعم بعضهم- لانصرفا.

و من جعل «ما» نافية، أبدلهما من «الشّياطين»، بدله البعض. وما بينهما اعتراض. وقرئ بالرّفع، على تقدير «هما هاروت وماروت».وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ:

فمعناه على الأوّل: ما يعلّمان أحدا حتّى ينهياه ويقولا له: إنّما نحن ابتلاء من اللّه.

فمن تعلّم منّا وعمل به كفر. ومن تعلّم وتوقّى عمله ثبت على الإيمان. فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به.

و على الثّاني: ما يعلّمانه حتّى يقولا إنّا مفتونان. فلا تكن مثلنا.

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، أي: من السّحر، ما يكون سبب تفريقهما.

وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ:

لأنّ الأسباب كلّها مؤثّرة بأمره تعالى.

وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا:

قيل  أي: اليهود.

لَمَنِ اشْتَراهُ، أي: استبدله بكتاب اللّه، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ: نصيب.

وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوا أو اشتروا، على ما مرّ.

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ  قبحه  على اليقين .

و المثبت لهم، أوّلا على التّوكيد القسميّ العقل الغريزيّ، أو العلم الإجماليّ بقبح الفعل، أو ترتّب لعقاب من غير تحقيق. فلا منافاة بين ما سبق وبين هذا.

 [و في عيون الأخبار : حدّثنا محمّد بن القسم المفسّر المعروف بأبي الحسن الجرجاني- رضى اللّه عنه. قال: حدّثنا يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار، عن أبويهما، عن الحسن بن عليّ، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصّادق جعفر بن محمّد- عليهم السّلام- في قول اللّه تعالى وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، قال: «اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا كفرة «الشّياطين» من السّحر والنّيرنجات عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ الّذين يزعمون أنّ سليمان به ملك ونحن- أيضا- به نظهر  العجائب، حتّى ينقاد لنا النّاس. وقالوا: كان‏سليمان كافرا ساحرا ماهرا. بسحره ملك ما ملك، وقدر على  ما قدر. فرد اللّه- عزّ وجلّ- عليهم. فقال: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ. ولا استعمل السّحر [، كما قال هؤلاء الكافرون. وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ]»

 الذي نسبوه إلى سليمان وإلى ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.

و كان بعد نوح- عليه السّلام- قد كثر السّحرة المموّهون . فبعث اللّه تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزّمان، يذكر ما يسحر به السحرة. وذكر ما يبطل به سحرهم، ويردّ به كيدهم. فتلقّاه النّبيّ، عن الملكين. وأدّاه إلى عباد اللّه، بأمر اللّه- عزّ وجلّ- وأمرهم  أن يقفوا به على السّحرة. وان يبطلوه. ونهاهم أن يسحروا به النّاس. وهذا كما يدلّ على السّمّ ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السّمّ.

ثمّ قال- عزّ وجلّ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ، حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ، يعني: أنّ ذلك النّبيّ- عليه السّلام- أمر الملكين، أن يظهرا للنّاس بصورة بشرين، ويعلّماهم ما علّمهما  اللّه من ذلك. فقال اللّه- عزّ وجلّ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ذلك السّحر وإبطاله، حَتَّى يَقُولا للمتعلّم: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ وامتحان للبلاء ، ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا، ويبطلوا به كيد السّحرة. ولا يسحروهم. «فلا تكفر» باستعمال هذا السّحر وطلب الإضرار به ودعاء النّاس إلى أن يعتقدوا أنّك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلّا اللّه- عزّ وجلّ. فأنّ ذلك كفر. قال اللّه تعالى: «فيتعلّمون»، يعني:

طالبي السّحر، «منهما»، يعني: ممّا كتبت الشّياطين على ملك سليمان، من النّيرنجات وما  أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، «يتعلّمون من» هذين الصّنفين، ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. هذا من يتعلّم للإضرار  بالناس. يتعلّمون التضريب بضروب الحيل والتمائم والإيهام، وأنّه قد دفن في موضع كذا، وعمل كذا لتحبّب المرأة إلى‏الرّجل والرّجل إلى المرأة، أو  يؤدي إلى الفراق بينهما.

ثمّ قال- عزّ وجلّ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أي: ما المتعلّمون لذلك  بضارّين به من أحد، إلّا بإذن اللّه، يعني: بتخلية اللّه وعلمه. وإنّه لو شاء، لمنعهم بالجبر والقهر.

ثمّ قال: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. إذا تعلّموا ذلك السّحر، ليسحروا به، ويضرّوا، قد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم فيه. بل ينسلخون عن دين اللّه بذلك. ولقد علّم هؤلاء المتعلّمون لمن اشتراه بدينه الّذي ينسلخ عنه بتعلّمه، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، أي: من نصيب في ثواب الجنّة.

ثمّ قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. ورهنوا  بالعذاب، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّهم قد باعوا الآخرة، وتركوا نصيبهم من الجنّة. لأنّ المتعلّمين لهذا السّحر الّذين يعتقدون أنّ لا رسول ولا إله ولا بعث ولا نشور. فقال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. لأنّهم يعتقدون  أنّها إذا لم تكن آخرة، فلا خلاق لهم في دار بعد الدّنيا. وإن كان بعد الدّنيا، آخرة. فهم مع كفرهم بها، لا خلاق لهم فيها.

ثمّ قال: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ » إذ باعوا الآخرة بالدّنيا ورهنوا بالعذاب الدّائم أنفسهم، لَوْ [كانُوا]  يَعْلَمُونَ أنّهم قد باعوا أنفسهم بالعذاب. ولكن لا يعلمون ذلك، لكفرهم به، فلمّا تركوا النّظر في حجج اللّه، حتّى يعلموا أنّهم عذّبهم على اعتقادهم الباطل وجحدهم الحقّ.

قال يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار، عن أبويهما: إنّهما قالا: فقلنا للحسن، أبي القائم- عليه السّلام : فإنّ قوما عندنا، يزعمون أنّ هاروت وماروت ملكان اختارتهما  الملائكة لمّا كثر عصيان بني آدم، وأنزلهما مع ثالث لهما، إلى الدّنيا ، وإنّهما قد افتتنا بالزّهرة، وأرادا الزّنا بها، وشربا الخمر، وقتلا النّفس المحرّمة، وإنّ اللّه- عزّو جلّ- يعذّبهما ببابل، وإنّ السّحرة منهما يتعلّمون السّحر، وإنّ اللّه تعالى مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الّذي هو الزّهرة.

فقال الإمام- عليه السّلام: معاذ اللّه من ذلك. إن (الملائكة)  معصومون محفوظون من الكفر والقبائح، بألطاف اللّه تعالى. قال اللّه تعالى فيهم : «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وقال- عزّ وجلّ : وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَمَنْ عِنْدَهُ، يعني: الملائكة، «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ. وقال اللّه تعالى  في الملائكة- أيضا: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.

 

ثمّ قال- عليه السّلام: لو كان كما يقولون، كان اللّه قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاءه على  الأرض. وكانوا كالأنبياء في الدنيا و كالأئمّة. فيكون من الأنبياء والأئمّة- عليهم السّلام- قتل النّفس والزّنا.

ثمّ قال- عليه السّلام: أو لست تعلم أنّ اللّه تعالى لم يخل الدّنيا قطّ من نبيّ  أو إمام من البشر؟ أو ليس اللّه يقول : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ، يعنى: إلى الخلق، إِلَّا رِجالًا (نُوحِي)  إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى؟ فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض، ليكونوا أئمّة وحكّاما. وإنّما  أرسلوا إلى أنبياء اللّه.

قالا: فقلنا: فعلى هذا ، لم يكن إبليس- أيضا- ملكا؟

فقال: لا! بل كان من الجنّ. أما تسمعان اللّه- عزّ وجلّ- يقول :

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، كانَ مِنَ الْجِنِّ؟ فأخبر- عزّ وجلّ- أنّه كان من الجنّ. وهو الّذي قال اللّه تعالى : وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.

 

قال الإمام الحسن بن عليّ- عليه السّلام: حدّثني أبي، عن جدّي، عن الرّضا، عن آبائه، عن عليّ- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- اختارنا معاشر آل محمد واختار النّبيّين واختار الملائكة المقرّبين. وما اختارهم إلّا على علم منه بهم، أنّهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته، وينقطعون به عن عصمته، وينتهون به إلى المستخفّين بعذابه  ونقمته.

قالا: فقلنا له: فقد روى  أنّ عليّا- عليه السّلام- لمّا نصّ عليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بالإمامة، عرض اللّه تعالى ولايته في السّماوات على فئام من النّاس وفئام من الملائكة، فأبوها. فمسخهم اللّه ضفادع.

فقال- عليه السّلام: معاذ اللّه! هؤلاء المكذّبون لنا المفترون علينا الملائكة هم رسل اللّه. فهم كسائر أنبيائه  ورسله، إلى الخلق. أ فيكون منهم الكفر باللّه؟

قلنا : لا قال: فكذلك الملائكة. إنّ شأن الملائكة لعظيم وإنّ خطبهم لجليل.

حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ- رضي اللّه عنه - قال: حدّثنا أبي، عن أحمد بن عليّ الأنصاريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم. قال: سمعت المأمون يسأل الرّضا- عليه السّلام- عمّا يرويه النّاس من أمر الزّهرة، وإنّها امرأة، فتن بها هاروت وماروت.

و ما يروونه من أمر سهيل. وإنّه كان عشّارا باليمن.

فقال الرّضا- عليه السّلام: كذبوا في قولهم إنّهما كوكبان، وإنّما كانتا دابّتين من دوابّ البحر. فغلط النّاس. وظنّوا أنّهما كوكبان. وما كان اللّه تعالى ليمسخ أعداءه أنوار مضيئة، ثمّ يبقيها ما بقيت السّماوات والأرض. وإنّ المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام، حتّى ماتت. وما يتناسل منها شي‏ء. وما على وجه الأرض مسخ اليوم. وانّ التي وقع عليها اسم المسوخة  مثل القرد والخنزير والدّبّ وأشباهها، إنّما هي مثل ما مسخ اللّه تعالى على‏صورها قوما غضب اللّه عليهم ولعنهم بإنكارهم توحيد اللّه وتكذيبهم (رسل اللّه). وأمّا هاروت وماروت، فكانا ملكين علّما النّاس [السحر]  ليحترزوا به من سحر السّحرة ويبطلوا به كيدهم. وما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ فكفر قوم باستعمالهم لمّا أمروا بالاحتراز منه. وجعلوا يفرّقون بما يعملون  بين المرء وزوجه. قال اللّه تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، يعني: بعلمه.

عن الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل. في تعداد الكبائر وبيانها، من كتاب اللّه. وفيه : يقول الصّادق- عليه السّلام: والسّحر، لأنّه تعالى يقول: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.

 

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام. قال: إنّ سليمان بن داود- عليهما السّلام- أمر الجنّ . فبنوا له بيتا من قوارير. فبينما هو (متّك)  على عصاه ينظر إلى الشّياطين كيف يعملون وينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة، فإذا هو برجل معه في القبّة. ففزع منه. وقال:

من أنت؟

فقال: أنا الّذي لا أقبل الرّشا. ولا أهاب الملوك. أنا ملك الموت. فقبضه وهو متك  على عصاه. فمكثوا سنة يبنون وينظرون إليه. ويد أبون  له، ويعملون، حتّى بعث اللّه الإرضة. فأكلت منسأته. وهي العصا. فلمّا خرّ تبيّنت الإنس، أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب، ما لبثوا سنة في العذاب المهين. فالجنّ تشكر الإرضة بما عملت بعصا سليمان.

قال: فلا تكاد تراها في مكان إلّا وجد عندها ماء وطين. فلمّا هلك سليمان، وضع إبليس السّحر. وكتبه في كتاب. ثمّ طواه. وكتب على ظهره: «هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم. من أراد كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا.» ثمّ دفنه تحت سريره. ثمّ استأثره لهم. فقرأه. فقال الكافرون: ما كان‏سليمان يغلبنا إلّا بهذا. وقال المؤمنون: بل هو عبد اللّه ونبيّه. فقال اللّه- جلّ ذكره:

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ. وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ.

 

و ما روى في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه- عليهم السّلام. قال: إنّ المسوخ من بني آدم، ثلاثة عشر- إلى أن قال- وأمّا الزهرة، فكانت امرأة فتنت هاروت وماروت. فمسخها [اللّه‏]  كوكبا .

و عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. قال: سألت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن المسوخ. فقال: هي  ثلاثة عشر- إلى أن قال عليه السّلام- وأمّا الزّهرة، فكانت امرأة نصرانيّة. وكانت لبعض ملوك بني إسرائيل. وهي الّتي فتن بها هاروت وماروت. وكان اسمها ناهيد .

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى محمّد بن الحسن بن علان، عن أبي الحسن- عليه السّلام. حديث طويل. يقول فيه: ومسخت الزّهرة. لأنّها كانت امرأة، فتن بها هاروت وماروت.

بإسناده  إلى عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمّد- عليهم السّلام. حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام: وأمّا الزّهرة. فإنها كانت امرأة تسمّى ناهيد. وهي الّتي تقول النّاس إنّه افتتن بها هاروت وماروت.

و بإسناده  إلى عليّ بن جعفر، عن مغيرة، عن أبي عبد اللّه- عن أبيه، عن جدّه- عليهم السّلام. حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام: وأمّا الزّهرة، فكانت امرأة فتنت  هاروت وماروت. فمسخها اللّه- عزّ وجلّ- زهرة .

و في تفسير عليّ بن ابراهيم ، حدّثنى أبي، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن‏

 رئاب، عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر- عليه السّلام. قال: سأله عطاء ونحن بمكة، عن هاروت وماروت. فقال أبو جعفر- عليه السّلام: إنّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء إلى الأرض، في كلّ يوم وليلة، يحفظون أعمال  أوساط أهل الأرض، من ولد آدم والجن، فيكتبون  أعمالهم. [و] يعرجون بها إلى السّماء.

قال: فضجّ أهل السماء، من معاصي أهل الأرض.  فتؤامروا  فيما بينهم ممّا يسمعون ويرون من افترائهم الكذب على اللّه- تبارك وتعالى- وجرأتهم عليه. ونزّهوا اللّه ممّا يقول فيه خلقه ويصفون. فقال طائفة من الملائكة: يا ربّنا! أمّا  تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك وممّا يصفون فيك الكذب ويقولون الزّور ويرتكبون المعاصي؟ وقد نهيتهم عنها. ثمّ أنت تحلم عنهم وهم في قبضتك وقدرتك وخلال عافيتك.

قال أبو جعفر- عليه السّلام: فأحبّ اللّه أن يري الملائكة القدرة، ونفاد أمره في جمع خلقه، ويعرّف الملائكة ما منّ به عليهم ممّا  عدله عنهم من صنع خلقه، وما طبعهم عليه من الطّاعة، وعصمهم من الذّنوب.

قال: فأوحى اللّه إلى الملائكة، ان انتدبوا  منكم ملكين، حتّى أهبطهما إلى الأرض. ثمّ أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشّهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلته في ولد آدم. ثمّ أختبرهما في الطّاعة لي.

قال : فندبوا لذلك هاروت وماروت. وكانا أشدّ  الملائكة قولا في الغيب لولد آدم واستئثار غضب اللّه عليهم.

 [قال:]  فأوحى اللّه إليهما، أن «اهبطا إلى الأرض. فقد جعلت فيكما من طبائع‏المطعم والمشرب  والشّهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلت في ولد آدم .»

قال: ثمّ أوحى اللّه إليهما: «انظرا أن لا تشركا بي شيئا. ولا تقتلا النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحق . ولا تزنيا. ولا تشربا الخمر.»

قال: ثمّ كشط عن السّماوات السّبع، ليريهما قدرته. ثمّ أهبطهما إلى الأرض، في صورة البشر ولباسهم. فهبطا ناحية بابل. فرفع  لهما بناء مشرف . فأقبلا نحوه. فإذا بحضرته امرأة جميلة حسناء متزيّنة عطرة مسفرة مقبلة  نحوهما.

قال: فلمّا نظرا إليها وناطقاها وتأمّلاها ، وقعت في قلوبهما موقعا شديدا، لموضع الشّهوة الّتي جعلت فيهما. فرجعا إليها، رجوع فتنة وخذلان. وراوداها عن نفسها.

فقالت لهما: إنّ لي دينا أدين به. وليس أقدر في ديني على أن أجيبكما، إلى ما تريدان، إلّا أن تدخلا في ديني الّذي أدين به.

فقالا لها: وما دينك؟

قالت: لي إله من عبده وسجد له، كان علىّ  السّبيل، إلى أن أجيبه، إلى كلّ ما سألني.

فقالا لها: وما إلهك؟

قالت: إلهي هذا الصّنم.

قال: فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: «هاتان خصلتان ممّا نهينا عنه ، الشّرك والزّنا. لأنّا إن سجدنا لهذا الصّنم وعبدناه، أشركنا باللّه. وإنّما نشرك باللّه لنصل إلى الزّنا.

و هو ذا نحن نطلب الزّنا. فليس نخطأ إلّا بالشّرك.» فائتمرا بينهما. فغلبتهما الشّهوة الّتي جعلت فيهما.

فقالا لها: فإنّا نجيبك إلى ما سألت.فقالت: فدونكما. فاشربا هذا الخمر. فإنّه قربان لكما عنه  وبه تصلون إلى ما تريدان.

فائتمرا بينهما. فقالا: هذه ثلاث خصال ممّا نهانا عنها ربّنا، الشرك والزّنا وشرب الخمر. وإنّما ندخل في شرب الخمر والشّرك، حتّى نصل إلى الزّنا.

فائتمرا بينهما. فقالا: ما أعظم بليتنا  بك. وقد أجبناك إلى ما سألت.

قالت: فدونكما. فاشربا من هذا الخمر. واعبدا هذا الصّنم. واسجدا له.

فشربا الخمر. وعبدا الصّنم. ثمّ راوداها عن نفسها. فلمّا تهيّأت لهما، وتهيّئا لها، دخل عليهما سائل يسأل. فلمّا أن رآهما ورأياه، ذعرا منه.

فقال لهما: إنّكما لمريبان  ذعران. فقد خلوتما  بهذه المرأة العطرة الحسناء. إنّكما لرجلا سوء.

و خرج عنهما. فقالت لهما: لا وإلهي! ما تصلان الآن إليّ. وقد اطّلع هذا الرّجل على حالكما. وعرف مكانكما. ويخرج الآن ويخبر بخبركما. ولكن بادرا إلى هذا الرّجل.

فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني. ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما. وأنتم مطمئنّان آمنان.

قال: فقاما إلى الرّجل. فأدركاه. فقتلاه. ثمّ رجعا إليها. فلم برياها. وبدت لهما سوآتهما. ونزع عنهما رياشهما. وأسقط في أيديهما.

قال: فأوحى اللّه إليهما: إنّما أهبطتكما إلى الأرض، مع خلقي ساعة من النّهار.

فعصيتماني بأربع من معاصي كلّها قد نهيتكما عنها. [و تقدّمت إليكما فيها.]  فلم تراقباني.

و لم تستحيا منّي. وقد كنتما أشدّ من نقم على أهل الأرض بالمعاصي. واستجرّ  غضبي وأسفي عليهم. ولمّا جعلت فيكما من طبع خلقي وعصمتي إيّاكما من المعاصي، فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة؟

فقال أحدهما لصاحبه: نتمتّع من شهواتنا  في الدّنيا، إذ صرنا إليها إلى نصير، إلى عذاب الآخرة.فقال الآخر: إنّ عذاب الدّنيا، له مدّة وانقطاع. وعذاب الآخرة، قائم لا انقضاء له. فلسنا نختار عذاب الآخرة الدّائم الشّديد، على عذاب الدّنيا المنقطع الفاني.

قال: فاختارا عذاب الدّنيا. وكانا يعلّمان النّاس السّحر، في أرض بابل. ثمّ لمّا علّما النّاس السّحر، رفعا من الأرض إلى الهواء. فهما معذّبان منكّسان معلّقان في الهواء، إلى يوم القيامة.

فهو موافق لمذهب العامّة.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن أسباط، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ بولاية الشّياطين، عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.

 

و في كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ- رحمه اللّه - عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه قال السّائل له- عليه السّلام: فمن أين علم الشّياطين السّحر؟

قال: من حيث عرف الأطباء الطّب، بعضه تجربة وبعضه علاج.

قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت؟ وما يقول النّاس بأنهما يعلّمان النّاس السّحر؟

قال: إنّهما موضع ابتلاء وموقف فتنة بتسبيحهما اليوم، لو فعل الإنسان كذا وكذا، لكان كذا وكذا. ولو يعالج بكذا وكذا، لصار كذا أصناف السّحر فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما. فيقولان لهم: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. فلا تأخذوا عنها ما يضرّكم ولا ينفعكم.

قال: أفيقدر السّاحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب والحمار، أو غير ذلك؟

قال: هو أعجز من ذلك. وأضعف من أن يغيّر خلق اللّه. إنّ من أبطل ما ركّبه اللّه وصوّره وغيّره، فهو شريك اللّه في خلقه. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.]

 

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالرّسول وما جاء به، وَاتَّقَوْا بترك المخالفة، لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ  جهلهم، لترك التّدبّر، أو  العمل‏بالعلم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:

 [في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه الطّيّار ، عن ابن أبي عمير، عن جميل. قال: كان الطّيّار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة. وإنّما أمرت الملائكة بالسّجود لآدم.

فقال: إبليس لا اسجد فما لإبليس يعصي حين لم يسجد، وليس هو من الملائكة؟

قال: فدخلت أنا وهو، على أبي عبد اللّه- عليه السّلام: قال: فأحسن واللّه في المسألة.

فقال: جعلت فداك! أ رأيت ما ندب اللّه- عزّ وجلّ- إليه المؤمنين من قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، أدخل في ذلك المنافقون معهم؟

قال: نعم. والضّلّال وكلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة. وكان إبليس ممّن أقرّ بالدّعوة الظّاهرة، معهم.

و في روضة الكافي : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن عليّ بن حديد، عن جميل بن درّاج. قال سأل الطّيّار أبا عبد اللّه- عليه السّلام- وأنا عنده. فقال له: جعلت فداك! أ رأيت  قوله- عزّ وجلّ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في غير مكان من مخاطبة المؤمنين؟ أ يدخل في هذا المنافقون؟

قال: نعم. يدخل في هذا المنافقون والضّلّال وكل من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة.

و قد تقدّم هذان الحديثان‏]

 

لا تَقُولُوا راعِنا. وَقُولُوا انْظُرْنا:

كان المسلمون يقولون لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا ، يا رسول اللّه!، أي: راقبنا. وتأنّ بنا حتّى نفهمه ونحفظه‏

. وكانت لليهود كلمة  يتسابّون بها عبرانيّة، كما قال الباقر- عليه السّلام‏

 - وهي راعينا. فلمّا سمعوابقول  المؤمنين راعنا افترصوه وخاطبوا به الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- وهم يعنون به تلك المسبّة، فنهي المؤمنون عنها. وأمروا بما هو في معناها. وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا، وانتظرنا من نظره إذا انتظره.

و قرئ «أنظرنا»، من الإنظار، بمعنى الإمهال، و«راعونا» على لفظ الجمع، للتّوقير، و«راعنا» (بالتّنوين)، أي: قولا ذا رعن، نسبة إلى الرّعن. وهو الهوج ، لمشابهة قولهم راعينا.

وَ اسْمَعُوا، أي: أحسنوا الاستماع لما يكلّمكم به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ويلقي عليكم من المسائل بآذان  واعية وأذهان حاضرة، حتّى لا تحتاجوا إلى الاستعارة وطلب المراعاة.

أو: واسمعوا، سماع  قبول وطاعة. لا يكن مثل سماع اليهود، حيث قالوا: سمعنا وعصينا.

او: واسمعوا ما أمرتم به بجدّ، حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه.

وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ، يعني: للّذين تهاونوا بالرّسول، عذاب موجع مؤلم.

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ:

نزلت تكذيبا لجمع من الكافرين يظهرون مودّة المؤمنين ويزعمون أنّهم يودّون لهم الخير.

و المودة: محبّة الشي‏ء، مع تمنّيه. ولذلك يستعمل في كلّ منهما.

و «من»، للتّبيين. لأنّ الَّذِينَ كَفَرُوا جنس، تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون.

أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ:

مفعول «يودّ».

و «من» الأولى، مزيدة للاستغراق، والثّانية، للابتداء.

و المراد بالخير، ما يعمّ الوحي والعلم والنّصرة.وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ:

روي عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- وعن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام : أنّ المراد برحمته هاهنا، النّبوّة.

و في شرح الآيات الباهرة : روى الحسن بن أبي الحسن الدّيلميّ- رحمه اللّه- عمّن رواه، بإسناده عن أبيّ بن صالح، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي الحسن الرّضا، عن أبيه موسى، ان أبيه جعفر- صلوات اللّه عليهم- في قوله تعالى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، قال: المختصّون  بالرّحمة، نبيّ اللّه ووصيّه وعترتهما. إنّ اللّه تعالى خلق مائة رحمة:

فتسع وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمّد وعليّ وعترتهما. ورحمة واحدة، مبسوطة على سائر الموجودين.]

 

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ :

فيه إشعار بأنّ النّبوّة من فضله، وأنّ كلّ خير نال عباده في دينهم أو دنياهم، فإنّه من عنده، ابتداء منه، إليهم، وتفضّلا عليهم، من غير استحقاق منهم لذلك عليه. فهو عظيم الفضل ذو المنّ والطّول.

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها:

نزلت لمّا قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر، ثمّ ينهاهم عنه. ويأمرهم بخلافه؟

و النّسخ»، في اللّغة، إزالة الصّورة عن الشي‏ء وإثباتها في غيره، كنسخ الظّلّ للشّمس. ومنه التّناسخ. ثمّ استعمل في كلّ منهما، كقولك: نسخت الرّيح الأثر. ونسخت الكتاب.

و نسخ الآية، بيان انتهاء التّعبّد بها:

إمّا بقراءتها فقط، كآية الرّجم. فقد قيل: إنّها كانت منزلة فرفع لفظها . فقط، دون حكمها.

أو بالعكس، كقوله : إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ.

 (الاية) فهذه الاية ثابتة في الخطّ، مرتفعة الحكم.

أو بهما، كما روي عن أبي بكر، قال: كنّا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم. فإنّه كفر بكم.» فرفع وإنساؤها إذهابها، عن القلوب.

و «ما»، شرطيّة جازمة، لننسخ. منتصبة به على المفعوليّة.

نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أي: بما هو خير للعباد في النّفع والثّواب، أو مثلها في الثّواب.

 [و قرأ ابو عمرو  بقلب الهمزة ألفا.]

 [و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن إسحاق بن محمّد، عن شاهويه بن عبد اللّه الجلاب. قال: كتب إليّ أبو الحسن في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر. وقلقت لذلك. فلا تغتمّ. فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وصاحبك بعدك أبو محمّد ابني. وعنده ما تحتاجون إليه. يقدّم ما يشاء اللّه ويؤخّر ما يشاء.  ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وقد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

و في تفسير العيّاشيّ : عن عمر بن يزيد. قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ- ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها».

 

فقال: كذبوا. ما هكذا هي إذا كان ينسخها. نأت بمثلها ينسخها .

قلت: هكذا قال اللّه؟

قال: ليس هكذا قال اللّه- تبارك وتعالى.

قلت: فكيف قال؟

قال: ليس فيها ألف ولا واو. قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. يقول: ما نميت من إمام، أو ننسه ذكره، نأت بخير منه من صلبه مثله.

و فيه : عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله تعالى‏ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها قال: النّاسخ ما حوّل. وما ينسيها، مثل الغيب الّذي لم يكن بعد، كقوله : يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.

قال: فيفعل اللّه ما يشاء. وما يحوّل ما يشاء، مثل قوم يونس إذ بدا له. فرحمهم.

و مثل قوله : فتولّ عنهم فما أنت بملوم.

قال: أدركتهم رحمته.]

 

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ . فهو يقدر على النّسخ والإتيان، بمثل المنسوخ، وبما هو خير منه؟

أَ لَمْ تَعْلَمْ:

الخطاب للنّبيّ. والمراد هو وأمّته، لقوله:

أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: يملك أموركم. ويدبّرها على حسب ما يصلحكم. وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ أو منسوخ؟

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ  الفرق بين «الوليّ» و«النّصير»، أنّ «الوليّ» قد يضعف عن النصرة.

و «النّصير» قد يكون أجنبيّا عن المنصور.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟:

لمّا بيّن لهم أنّه مالك أمورهم، ومدبّرها على حسب مصالحهم، من نسخ الآيات وغيره، وقرّدهم على ذلك بقوله «ألم تعلم»، أراد أن يوصيهم بالثّقة به فيما هو أصلح لهم، ممّا يتعبّدهم به وينزل عليهم، وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحته آباء اليهود على موسى، من الأشياء الّتي كانت عاقبتها وبالا عليهم.

قيل : نزلت في أهل الكتاب، حين سألوا أن ينزّل [اللّه‏]  عليهم كتابا من السّماء. وقيل: في المشركين، لمّا قالوا لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه.

وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ومن ترك الثّقة بالآيات المنزلة وشكّ فيها واقترح غيرها.فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ، أي: الطّريق المستقيم حتّى وقع في الكفر، بعد الإيمان.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً:

روى  أنّ فنحاص بن عازورا وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر، بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على حقّ ما هزمتم. فارجعوا إلى ديننا. فهو خير لكم، وأفضل. ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم؟

قالوا: شديد.

قال: فإنّي عاهدت أن لا أكفر بمحمّد ما عشت.

فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبا.

قال حذيفة: وأمّا أنا فقد رضيت باللّه ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، وبالقرآن اماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا.

ثمّ أتيا رسول اللّه. وأخبراه. فقال: أصبتما خيرا. وأفلحتما، فنزلت.

و عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في حيّ بن أخطب وأخيه أبي ياسر بن أخطب.

و قد دخلا على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حين قدم المدينة. فلمّا خرجا قيل لحيّ: هو نبيّ.

قال: هو هو.

فقيل: فما له عندك؟

قال: العداوة إلى الموت.

و هو الّذي نقض العهد. وأثار الحرب يوم الأحزاب.

و قيل : نزلت في كعب بن الأشرف.

حَسَداً: علّة ود .

مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ:

امّا متعلّق بودّ، أي: تمنّوا ذلك من عند أنفسهم، وتشبيههم لا من قبل التّديّن والميل مع الحقّ، أو بحسدا، أي: حسدا منبعثا من أصل نفوسهم.مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالمعجزات والنّعوت المذكورة في التوراة.

فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا:

 «العفو»: ترك عقوبة المذنب. و«الصّفح»: ترك تثريبه.

حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الّذي هو الإذن في قتالهم، وضرب الجزية عليهم، أو قتل قريظة، وإجلاء بني النضير.

قيل : إنّ هذه الآية، منسوخة. فقال بعضهم: بقوله : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وبعضهم: بآية السّيف. وهو قوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ».

و المرويّ عن الباقر- عليه السّلام، أنّه قال : لم يؤمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بقتال، ولا أذن له فيه، حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وقلّده سيفا.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ، فيقدر على الانتقام منهم.

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: عطف على «فاعفوا». كأنّه أمرهم بالصّبر والالتجاء إلى اللّه، بالعبادة والبرّ.

وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ، كصلاة، أو صدقة. وقرئ  [تقدموا]  من أقدم، تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، أي: ثوابه.

إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : لا يضيع عنده عمل عامل.

و قرئ  بالياء. فيكون وعيدا. «وَ قالوا» عطف على «ودّ» والضّمير لأهل الكتاب.

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً: جمع هائد، كعوذ وعائذ وباذل وهو جمع للمذكّر والمؤنّث، على لفظ واحد.

و الهائد: التّائب الرّاجع إلى الحقّ.و قيل : مصدر. يصلح للواحد والجمع، كما يقال: رجل صوم وقوم صوم.

و قيل : أصله يهود: فحذفت الياء الزّائدة.

و على ما قلنا، فتوحيد الاسم المضمر وجمع الخبر، لاعتبار اللّفظ والمعنى.

أَوْ نَصارى: سبق تحقيقه. والكلام على اللّفّ بين قولي الفريقين. والتّقدير:

و قالت اليهود: لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا. والنّصارى لن يدخل الجنّة، إلّا من كان نصارى، ثقة بأن السامع يرد إلى كلّ فريق قوله، وأمنا من الالتباس، لما علم من التّعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما، صاحبه.

تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ:

إشارة إلى الأمانيّ المذكورة. وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم وأن يردّوهم كفّارا. وأن لا يدخل الجنّة غيرهم.

أو إلى ما في الآية على حذف مضاف، أي: أمثال تلك الأمنيّة المذكورة في الآية، أمانيّهم.

و الجملة اعتراض.

و الأمنيّة: أفعولة من التّمنّي، كالأضحوكة والأعجوبة والجمع الأضاحيك والأعاجيب.

قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على اختصاصكم بدخول الجنّة.

و البرهان والحجّة والدّلالة والبيان، بمعنى واحد. وقد فرّق عليّ بن عيسى، بين الدّلالة والبرهان، بأن قال: «الدّلالة» قد ينبئ عن معنى فقط. لا يشهد لمعنى آخر. و«البرهان» ليس كذلك. لأنّه بيان عن معنى ينبئ عن معنى آخر. وقد نوزع في هذا الفرق. وقيل: «إنّه محض الدّعوى ».

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ  في دعواكم. فإنّ كلّ قول لا دليل عليه غير ثابت.

و في هذه الآية، دلالة على فساد التّقليد في الأصول. الا ترى أنّه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوا ببرهان؟

و فيها- أيضا- دلالة على جواز المحاجّة في الدّين.و فيها- أيضا- دلالة على أنّه لا حجّة في إجماع يخلو عن معصوم. وإلّا لجاز لهم أن يقولوا البرهان. إنّا أجمعنا على ما قلنا. فالمتمسّكون بالإجماع المذكور، أضلّون من محرّفي أهل الكتاب.

بَلى: اثبات لما نفوه، من دخول غيرهم الجنّة.

مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ:

من  أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، أو قصده وتوجّهه له، وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله، فَلَهُ أَجْرُهُ الّذي يستوجبه ثابتا، عِنْدَ رَبِّهِ: لا يضيع ولا ينقص.

و الجملة جواب «من»، إن كانت شرطيّة، وخبرها، إن كانت موصولة.

و «الفاء» لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط. فيكون الرّدّ بقوله «بلى» وحده، أو يكون «من أسلم»، فاعلا لفعل محذوف، أي: بلى يدخلها من أسلم.

و يكون قوله «فله أجره»، كلاما معطوفا على يدخلها «من أسلم».

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ  في الآخرة.

و هذا ظاهر على قول من يقول: أنّه لا يكون على أهل الجنّة خوف ولا حزن في الآخرة. وأمّا على قول من قال: بعضهم يخاف ثمّ يأمن، فمعناه أنّهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم. لأنّهم يكونون على ثقة، بأنّ ذلك لا يفوتهم.

 [و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه- حديث طويل، عن النّبي- صلّى اللّه عليه وآله. وفيه: فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لأصحابه: قولوا إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي: نعبد واحدا. لا نقول كما قال الدّهريّة: «إنّ الأشياء لا بدو لها وهي دائمة.» ولا كما قال الثّنويّة الّذين قالوا: «إنّ النّور والظّلمة هما المدبّران.» ولا كما قال مشركوا العرب: «إنّ أوثاننا آلهة.» فلا نشرك بك شيئا. ولا ندعو من دونك إلها، يقول هؤلاء الكفّار. ولا نقول كما تقول النّصارى واليهود: «إنّ لك ولدا.» تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا.

قال: فذلك قوله.: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى.

 و قالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفّار: ما قالوا؟

قال اللّه: يا محمّد! تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الّتي يمنّونها بلا حجّة. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ وحجّتكم على دعواكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ كما أتى محمّد ببراهينه الّتي سمعتموها.

ثمّ قال: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، يعني: كما فعل هؤلاء الّذين آمنوا برسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا سمعوا براهينه وحجّته وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله للّه، فَلَهُ أَجْرُهُ، ثوابه عِنْدَ رَبِّهِ، يوم فصل القضاء، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكافرون بما يشاهدونه من العقاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عند الموت. لأنّ البشارة بالجنان، تأتيهم.

و فيه ، عن الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: فالجدال بالّتي هي أحسن: قد قرنه العلماء بالدّين والجدال بغير الّتي هي أحسن، محرّم وحرّمه اللّه على شيعتنا.

و كيف يحرّم  الجدال جملة وهو يقول: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى.، قال اللّه تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» فجعل  علم الصّدق والإيمان بالبرهان وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالّتي هي أحسن والّتي ليست بأحسن؟

و في كتاب الخصال ، في احتجاج عليّ- عليه السّلام- على النّاس، يوم الشورى. قال: نشدتكم باللّه! هل فيكم أحد قال له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- مثل ما قال لي؟: أهل ولايتك يخرجون يوم القيامة من قبورهم، على نوق بيض شراك نعالهم نور يتلألأ. قد سهلت عليهم الموارد. وفرجت عليهم  الشّدائد. واعطوا الأمان.

و انقطعت عنهم الأحزان، حتّى ينطلق بهم إلى ظلّ عرش الرّحمن. فوضع  بين أيديهم مائدة. يأكلون منها حتّى يفرغ من الحساب يخاف النّاس ولا يخافون ويحزن النّاس ولا يحزنون غيري.»

قالوا: اللّهمّ لا!]

 

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ‏ءٍ، أي: أمر يصحّ ويعتدّ به. وهذه‏مبالغة عظيمة. لأنّ المحال والمعدوم، يقع عليهما اسم الشي‏ء. فإذا نفي إطلاق اسم الشي‏ء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به، إلى ما ليس بعده. وهذا كقولهم أقلّ من لا شي‏ء.

وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ‏ءٍ:

قال ابن عبّاس : لمّا قدم وفد نجران من النّصارى على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أتتهم أحبار اليهود. فتنازعوا عند رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فقال رافع بن حرملة: «ما أنتم على شي‏ء.» وجحد نبوّة عيسى. وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران: «ليست اليهود على شي‏ء.» وجحد نبوّة موسى. وكفر بالتّوراة. فأنزل اللّه هذه الآية.

وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ:

الواو للحال. والكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك، والحال أنّهم من أهل العلم والتّلاوة للكتب.

و حقّ من حمل التوراة، أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب اللّه، أو آية، أن لا يكفر بالباقي. لأنّ كلّ واحد من الكتابين، مصدّق للثّاني، شاهد بصحته. وكذلك كتب اللّه جميعا، متواردة في تصديق بعضها بعضا.

كَذلِكَ، مثل ذلك الّذي سمعت به على ذلك المنهاج.

قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، كعبدة الأصنام والمعطّلة، قالوا لكلّ أهل دين:

 «ليسوا على شي‏ء» وهذا توبيخ عظيم لهم، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم، في سلك من لا يعلم.

و مِثْلَ قَوْلِهِمْ، يحتمل احتمالين: أحدهما أنّه مفعول مطلق لقال والآخر أنّه مفعوله، يعني: أنّ قولهم، مثل قولهم في الفساد، ومقولهم مثل مقولهم في الدّلالة على أنّ ما عدا دينهم، ليس بشي‏ء.

فان قيل: لم وبّخهم؟ وقد صدقوا فإنّ كلا الدّينين بعد النّسخ ليس بشي‏ء.

قلت: لم يصدقوا ذلك. وإنّما قصد كل فريق، إبطال دين الآخر، من أصله والكفر بنبيّه وكتابه، مع أن ما لم ينسخ منهما، حقّ واجب القبول والعمل به، مع الإيمان بالنّاسخ.

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ: بين الفريقين،يَوْمَ الْقِيامَةِ:

هي مصدر. إلّا أنّه صار كالعلم، على وقت، بعينه. وهو الوقت الّذي يبعث اللّه- عزّ وجلّ- فيه الخلق. فيقومون من قبورهم، إلى محشرهم. تقول: قام يقوم قياما وقيامة، مثل: عاذ يعوذ عياذا وعياذة.

فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  بما يقسم لكلّ فريق، ما يليق به من العذاب.

و قيل : بأن يكذّبهم، وأن يدخلهم النّار.

و قيل : بأن يريهم من يدخل الجنّة عيانا، ومن يدخل النّار عيانا.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ:

الآية عامّة لكلّ من خرّب مسجدا، أو سعى في تعطيل مكان مرشّح للصّلاة. وإن نزلت في الرّوم، لما غزوا بيت المقدس وخرّبوه وقتلوا أهله حتّى، كانت أيّام عمر، وأظهر المسلمين عليهم، وصاروا لا يدخلونها  إلّا خائفين، على ما روى عن ابن عبّاس .

و قيل : خرّب بخت نصر بيت المقدس. وأعانه عليه  النّصارى.

و المرويّ عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام : أنّها نزلت في قريش، حين منعوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- دخول مكّة والمسجد الحرام.

 [و روى عن زيد بن عليّ، عن آبائه، عن عليّ- عليه السّلام : أنّه أراد جميع الأرض لقول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا.]

 

أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ:

ثاني مفعولي «منع» لأنّك تقول: منعته كذا.

و يجوز أن يحذف حرف الجرّ، مع «أن.»

و لك أن تنصبه مفعولا له ، بمعنى: منعها كراهة أن يذكر.

وَ سَعى فِي خَرابِها بالهدم، أو التّعطيل.أُولئِكَ، أي: المانعون، ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، أي:

ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها، إلّا بخشية وخضوع، فضلا عن أن يجرءوا على تخريبها.

أو ما كان الحقّ أن يدخلوها، إلّا خائفين من المؤمنين، أن يبطشوهم، فضلا عن أن يمنعوهم منها.

أو ما كان لهم في علم اللّه تعالى، أو قضائه، فيكون وعدا للمؤمنين بالنّصرة واستخلاص المساجد منهم. وقد أنجز وعده.

لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ:

قال قتادة : المراد بالخزي، أن يعطوا الجزية عن يد، وهم صاغرون.

و قال الزّجّاج : المراد به السبّي والقتل، إن كانوا حربا، وإعطاء الجزية، إن كانوا ذمّة.

و قال أبو عليّ : المراد به، طردهم عن المساجد.

و قال السّديّ : المراد به خزيهم إذا قام المهديّ وفتح قسطنطنيّة. فحينئذ يقتلهم.

و الكلّ محتمل. واللّفظ بإطلاقه يتناوله.

وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ  بظلمهم وكفرهم.

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ:

 «اللّام»، للملك. و«المشرق» و«المغرب»، اسمان لمطلع الشّمس ومغربها.

و المراد بهما ناحيتا  الأرض، أي: له الأرض، كلّها. لا يختص به مكان دون مكان . فإن منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام والأقصى، فقد جعلت لكم الأرض مسجدا.

فَأَيْنَما تُوَلُّوا: ففي أي مكان فعلتم التّولية، أي: تولية وجوهكم، فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي: جهته الّتي أمر بها، أو فثمّ ذاته، أي: عالم مطّلع بما يفعل فيه.

إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطته بالأشياء، أو برحمته، عَلِيمٌ  بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن، كلّها.

قيل : إنّ اليهود أنكروا تحويل القبلة عن بيت المقدس. فنزلت الآية ردّا عليهم.

و قيل : كان للمسلمين التّوجّه حيث شاءوا، في صلاتهم. وفيه نزلت الآية. ثمّ نسخ بقوله  فَوَلِّ وَجْهَكَ (إلى آخره).

و قيل : نزلت الآية في صلاة التّطوّع على الرّاحلة، تصلّيها حيثما توجّهت، إذا كنت في سفر. وأمّا الفرائض، فقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، يعني: أنّ الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة. وهو المرويّ عن أئمّتنا- عليهم السّلام. قالوا: وصلّى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إيماء على راحلته أينما توجّهت به، حيث خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكّة، وجعل الكعبة خلف ظهره.

و

روى عن جابر ، قال: بعث رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- سريّة كنت فيها. فأصبتنا ظلمة. فلم نعرف القبلة. فقال طائفة منّا: «قد عرفنا القبلة، هي هاهنا، قبل الشّمال.» فصلّوا. وخطّوا خطوطا. وقال بعضنا: «القبلة هاهنا. قبل الجنوب.» فخطّوا خطوطا. فلمّا أصبحوا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلمّا قفلنا  من سفرنا، سألنا النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- عن ذلك. فسكت. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

 [في كتاب الخصال ، في سؤال بعض اليهود عليّا- عليه السّلام- عن الواحد إلى المائة: قال له اليهوديّ. فأين  وجه ربّك؟

فقال عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام : يا بن عبّاس! ائتني بنار وحطب.

فأتيته بنار وحطب. فأضرمها. ثمّ قال: يا يهوديّ! أين يكون وجه هذه النّار؟

فقال: لا أقف لها على وجه.قال: ربيّ  عزّ وجلّ على  هذا المثل.

وَ لِلَّهِ  الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

 

و فيه ، بإسناده إلى سلمان الفارسيّ، في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق المدينة، مع مائة من النّصارى، بعد وفاة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها، ثمّ أرشد إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فسأله عنها، فأجابه. فكان فيما سأله، أن قال له: أخبرني عن وجه الرّبّ- تبارك وتعالى.

فدعا- عليه السّلام- بنار وحطب. فأضرمه. فلمّا اشتعلت قال عليّ- عليه السّلام: أين وجه هذه النّار؟

قال : هي وجه من جميع حدودها.

قال عليّ- عليه السّلام: هذه النّار مدبّرة مصنوعة، لا يعرف وجهها. وخالقها لا يشبهها. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. لا يخفى على ربّنا خافية.

و في كتاب علل الشرائع : حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسرور رحمه اللّه؟ قال:

 

حدّثنا الحسين بن محمّد بن عامر، عن عمّه عبد اللّه بن عامر، عن محمّد بن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام. قال: سألته عن الرّجل يقرأ السّجدة وهو على ظهر دابّته.

قال: يسجد حيث توجّهت به. فإنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان يصلّي على ناقته، وهو مستقبل المدينة. يقول اللّه- عزّ وجلّ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

 

و في من لا يحضره الفقيه : وسأله معاوية بن عمّار، عن الرّجل يقوم في الصّلاة، ثمّ ينظر بعد ما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة، يمينا أو شمالا.

فقال له: قد مضت صلاته. وما بين المشرق والمغرب قبلة. ونزلت هذا الآية في قبلة المتحيّر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

و في كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ- رحمه اللّه : قال أبو محمّد- عليه السّلام: قال‏

 رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لقوم من اليهود: أو ليس قد ألزمكم في الشّتاء أن تحترزوا من البرد بالثّياب الغليظة، وألزمكم في الصّيف أن تحترزوا من الحرّ. فبدا له في الصّيف حين أمركم، بخلاف ما كان أمركم به في الشّتاء؟

فقالوا: لا فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: وكذلك اللّه تعبّدكم في وقت، لصلاح يعلمه بشي‏ء، ثمّ بعّده في وقت آخر، لصلاح آخر، يعلمه بشي‏ء آخر. فإذا أطعتم اللّه في الحالين، استحققتم ثوابه.

فأنزل اللّه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ، يعني: إذا توجّهتم بأمره، فثمّ الوجه الّذي تقصدون منه اللّه وتأملون ثوابه.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه : قال السّائل: من هؤلاء الحجج! قال: هم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ومن حلّ محلّه من أصفياء اللّه الّذين قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ الّذين قرنهم اللّه بنفسه وبرسوله وفرض على العباد من طاعتهم، مثل الّذي فرض عليهم منها لنفسه.

و فيه : قال- عليه السّلام- أيضا- في الحجج: وهم وجه اللّه الّذي قال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

 

و في كتاب المناقب، لابن شهر آشوب : أبو المضاء، عن الرّضا- عليه السّلام- قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: عليّ- عليه السّلام.]

 

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً:

نزلت لمّا قالت اليهود: «عزير بن اللّه»، والنّصارى: «المسيح بن اللّه»، ومشركوا العرب: «الملائكة بنات اللّه.»

و عطفه على «قالت اليهود»، أو «منع»، أو مفهوم قوله «و من أظلم» وقرأ ابن عامر بغير واو، والباقون بالواو . [و في كتاب علل الشرائع ، بإسناده إلى سفيان بن عيينة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لم يخلق اللّه شجرة إلّا ولها ثمرة تؤكل. فلمّا قال النّاس: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً»، ذهب نصف ثمرها. فلمّا اتخذوا مع اللّه إلها، شاك الشّجر.]

 

سُبْحانَهُ:

روى عن طلحة بن عبيد اللّه ، أنّه سأل النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- عن معنى قوله «سبحانه» فقال: «تنزيها له عن كلّ سوء».

بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:

ردّ لما قالوا، أو استدلال على فساده بأنّه خالق ما في السّموات وما في الأرض الّذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح.

كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ، مطيعون. لا يمتنعون عن مشيئته. وكلّ من كان بهذه الصّفة، لم يجانس مكوّنه الواجب لذاته. ومن حقّ الولد أن يجانس والده. فلا يكون له ولد.

و إنّما جاء بما الّذي لغير أولي العلم، تحقيرا لشأنهم.

و تنوين «كلّ»، عوض عن المضاف إليه، أي: كلّ ما فيهما، أو كلّ من جعلوه ولدا له.

و في الآية، دلالة على أنّ من ملك ولده أو والده، انعتق عليه. لأنّه تعالى نفى الولد، بإثبات الملك. وذلك يقتضي تنافيهما. وهو المرويّ عن أئمّتنا- عليهم السّلام.

 

 

بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:

يقال: بدع الشي‏ء، فهو بديع، كقولك: برع الشي‏ء، فهو بريع. وبَدِيعُ السَّماواتِ من إضافة الصّفة المشبّهة، إلى فاعلها، أي: بديع سماواته وأرضه.

و قيل : البديع بمعنى المبدع، كما أنّ السّميع، في قول الشّاعر:

          «أمن ريحانة             الدّاعي السّميع»

، بمعنى المسمع.

و هو دليل آخر على نفي الولد.و تقريره: أنّ الوالد، عنصر الولد المنفعلة بانفصال مادّته عنه. واللّه سبحانه، مبدع الأشياء كلّها. فاعله على الإطلاق. منزّه عن الانفعال. فلا يكون والدا. وهذا التّقرير يصحّ على التّقديرين. لأنّ كونه تعالى مبدعا، يلزمه كون مخلوقه بديعا وبالعكس.

و الإبداع اختراع الشي‏ء، لا عن شي‏ء، دفعة. وهو أليق بهذا الموضع من الصّنع الّذي هو تركيب الصّورة بالعنصر والتّكوين الّذي يكون بتغيّر وفي زمان غالبا.

و قرئ بديع، مجرورا على البدل، من الضّمير في «له»، ومنصوبا، على المدح.

 [و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن عبد اللّه بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن سدير الصّيرفيّ. قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ- بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فقال  أبو جعفر- عليه السّلام: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- ابتدع الأشياء كلّها بعلمه، على غير مثال كان قبله. فابتدع السّماوات والأرض ، ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون. أما تسمع لقوله تعالى  وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ؟

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة]  وَإِذا قَضى أَمْراً: إذا أراد إحداث أمر، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ :

من كان التّامّة، أي، أحدث، فيحدث. وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال. بل حصول ما تعلّقت به إرادته، بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع، بلا توقّف.

و فيه تقرير لمعنى الإبداع. وإيماء إلى دليل آخر. وهو أنّ اتخاذ الولد ممّا يكون بأطوار. وفعله تعالى مستغن عن ذلك.

قيل : كان سبب ضلالتهم، أنّ أرباب الشّرائع المتقدّمة، كانوا يطلقون الأب على اللّه تعالى، باعتبار أنّه السّبب الأوّل، حين  قالوا: «إنّ الأب، هو الرّبّ الأصغر.

و اللّه سبحانه وتعالى هو الأب الأكبر.» ظنّت الجهلة منهم، أنّ المراد به معنى الولادة.فاعتقدوا ذلك تقليدا. ولذلك كفر قائله. ومنع منه مطلقا جسما، لمادّة الفاسد.

 [و في كتاب نهج البلاغة : يقول لما  أراد كونه، قال : «كُنْ فَيَكُونُ» لا بصوت يفزع  ولا نداء يسمع. وإنّما كلامه سبحانه، فعل منه، إنشاء . ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا. ولو كان قديما، لكان إلها ثانيا.

و فيه : يقول ولا يلفظ . ويريد ولا يضمر.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم- عليه السّلام- أنّه قال: ولا أجده يلفظ بشقّ فم . ولكن كما قال اللّه- عزّ وجلّ- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. بمشيئة، من غير تردّد في نفس.

و في كتاب الإهليلجة : قال الصّادق- عليه السّلام- في كلام طويل: فالإرادة للفعل، إحداثه، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بلا تعب وكيف.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه. فإرادة اللّه، هي الفعل. لا غير ذلك. يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف. لذلك ، كما أنّه بلا كيف.

و فيه  حديث طويل، عن الرّضا- عليه السّلام- أيضا- يقول فيه: و«كن» منه صنع. وما يكون به المصنوع.]

 

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، أي: جهلة المشركين، أو المتجاهلون من أهل الكتاب.

لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كما يكلّم الملائكة، أو يوحي إلينا بأنّك رسوله. وهذا استكبار منهم.أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ وحجّة على صدقك. وهذا جحود لأن ما أتاهم آيات استهانة.

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية، مِثْلَ قَوْلِهِمْ:

فقالوا: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» وغير ذلك.

تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم، في العمى والعناد.

و قرئ بتشديد الشّين.

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ : اي: يطلبون اليقين، أو يوقنون. الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد.

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، مؤيّدا به، بَشِيراً وَنَذِيراً: فلا عليك إن كابروا.

وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ، أنّهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت.

و قرأ نافع ويعقوب «و لا تسأل»، على لفظ النّهي، مبيّنا للفاعل. وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام

 

 

و فيه، حينئذ، إشارة إلى تعظيم عقوبة الكفّار. كأنّها لا يقدر أن يخبر عنها، أو السّامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السّؤال.

و «الجحيم»: المتأجّج من النّار. من جحمت النّار يجحم جحما، إذا اضطرمت.

وَ لَنْ تَرْضى، وإن بالغت في إرضائهم، عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى، حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ:

كأنّهم قالوا: «لن نرضى عنك حتّى تتّبع ملّتنا»، إقناطا منهم لرسول اللّه، عن دخولهم في الإسلام. فحكى اللّه- عزّ وجلّ- كلامهم. ولذلك قال تعالى:

قُلْ تعليما للجواب، إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى. لا ما تدعون إليه.

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، أي: أقوالهم الّتي هي أهواء وبدع، بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: من الوحي، أو الدّين المعلوم صحّته بالبراهين الصّحيحة،ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ  يدفع عنك عقابه.

و في هذه الآية، دلالة على ان من علم اللّه تعالى منه، أنّه لا يعصي يصحّ وعيده.

لأنّه علم أنّ نبيّه- عليه السّلام- لا يتّبع أهواءهم. والمقصود منه التّنبيه على أنّ حال أمّته فيه، اغلظ من حاله. لأن منزلتهم، دون منزلته.

و قيل : الخطاب للنّبيّ والمراد أمّته.