سورة المائدة الآية 101-120

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ:

الشّرطيّة وما عطف عليها، صفتان «لأشياء». والمعنى: لا تسألوا رسول اللّه عن أشياء، إن تظهر لكم تغمّكم، وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم.

و هما كمقدّمتين، تنتجان ما يمنع السّؤال. وهو، أنّه ممّا يغمّهم. والعاقل لا يفعل ما يغمّه.

 «و أشياء» اسم جمع. كطرفاء. غير أنّه قلبت لامه، فجعلت لفعاء.

و قيل : أفعلاء، حذفت لامه. جمع، لشي‏ء. على أنّ أصله: شي‏ء، كهين.

أو شي‏ء، كصديق، مخفّف.

و قيل: أفعال. جمع له من غير تغيير، كبيت وأبيات. ويردّه منع صرفه.

في روضة الكافي: عن الباقر- عليه السّلام-: «لا تسألوا عن أشياء لم تبد لكم إن تبد لكم تسؤكم».

و في تفسير العيّاشي : عن أحمد بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا- عليه السّلام- وكتب في آخره: أو لم تنتهوا عن كثرة المسائل، فأبيتم أن تنتهوا.

إيّاكم وذلك، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم. فقال اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إلى قوله: كافِرِينَ.

و في المجمع ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: خطب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ. فقام عكاشة بن محصن، ويروى سراقة بن مالك [فقال:]  أفي كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا.

فقال رسول اللّه: ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم. واللّه لو قلت: نعم، لوجبت. ولو وجبت ما استطعتم. ولو تركتم لكفرتم. فاتركوني كما تركتكم. فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشي‏ء، فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شي‏ء، فاجتنبوه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها. فأقبلت فقال لها عمر: غطّي قرطك، فإن قرابتك من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لا تنفعك شيئا.

فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللّخناء؟ ثمّ دخلت على رسول اللّه، فأخبرته بذلك وبكت. فخرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فنادى: الصّلاة جامعة. فاجتمع النّاس.

فقال: ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع. لو قد قربت  المقام المحمود، لشفعت في أحوجكم . لا يسألني اليوم أحد من أبوه  إلّا أخبرته.

فقام إليه رجل فقال: من أبي يا رسول اللّه؟] .

فقال: أبوك غير الّذي تدّعي له. أبوك فلان بن فلان.فقام آخر: قال: من أبي يا رسول اللّه؟

فقال: أبوك الّذي تدّعي له. ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ما بال الّذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟

فقام إليه عمر، فقال له: أعوذ باللّه- يا رسول اللّه- من غضب اللّه وغضب رسوله . اعف عنّي عفا اللّه عنك. فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (الآية).

و في مجمع البيان:  وقيل: إنّ تقديره: لا تسألوا  عن أشياء عفا اللّه عنها، إن تبد لكم تسؤكم. فقدّم وأخّر. فعلى هذا يكون قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْها صفة «لأشياء»  أيضا. ومعناه: كفّ  اللّه عن ذكرها و لم يوجب فيها حكما. وإلى هذا [المعنى‏]  أشار

أمير المؤمنين- عليه السّلام- [في قوله:]  إنّ اللّه فرض  عليكم فرائض، فلا تضيّعوها.

و حدّ لكم حدودا، فلا تعتدوها. ونهاكم عن أشياء، فلا تنتهكوها. وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا، فلا تتكلّفوها.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة : حدّثنا محمّد بن [محمد بن‏]  عصام الكلينيّ- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكلينيّ، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمريّ- رضي اللّه عنه- أن يوصل لي كتابا، قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ. فورد في التّوقيع بخطّ مولانا صاحب الزّمان: وأمّا ما وقع من الغيبة، فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.

 إنّه لم يكن أحد  من آبائي، إلّا وقد وقعت  في عنقه بيعة لطاغية زمانه.

و إنّي أخرج حين أخرج، ولا بيعة لاحد من الطواغيت في عنقي.

 [و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم‏]، عن أبيه،]  عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن حمّاد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إذا حدّثتكم بشي‏ء، فسألوني من كتاب اللّه [ثمّ‏]  قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- نهى عن القليل والقال، وفساد المال، وكثرة السّؤال.

فقيل له: يا بن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه؟

قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.  وقال : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. وقال: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن عيسى، عن يونس وعدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه جميعا عن عبد اللّه بن سنان وابن مسكان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إذا حدّثتكم بشي‏ء، فسألوني من كتاب اللّه. ثمّ قال في حديثه: إنّ اللّه نهى عن القيل والقال. وذكر مثله.] .

عَفَا اللَّهُ عَنْها: صفة أخرى «لأشياء»، يعني: أشياء عفا اللّه عنها، ولم يكلّف بها. ويؤيّده ما روي سابقا عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

أو استئناف، أي: عفا اللّه عمّا سلف من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها.وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ : لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، ويعفو عن كثير.

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ:

الضّمير للمسألة، الّتي دلّ عليها «تسألوا». ولذلك لم يعدّ «بعن». أو «لأشياء» بحذف الجارّ.

مِنْ قَبْلِكُمْ: متعلّق «يسألها».

قيل : وليست صفة «لقوم». فإنّ ظرف الزّمان، لا يكون صفة للجثّة، ولا حالا منها، ولا خبرا عنها. وفيه نظر .

ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ : حيث لم يأتمروا بما سألوا، وجحدوا.

ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ: ردّ وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهليّة.

في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد، قالوا: وصلت، فلا يستحلّون ذبحها ولا أكلها. وإذا ولدت عشرا، جعلوها سائبة، ولا يستحلّون ظهرها ولا أكلها.

و «الحام» فحل الإبل. لم يكونوا يستحلّونه. فأنزل اللّه- عزّ وجلّ- إنّه لم يكن يحرّم شيئا من ذلك.

و فيه:  وقد روي أنّ «البحيرة» النّاقة إذا أنتجت خمسة أبطن. فإن كان‏الخامس ذكرا، نحروه فأكله الرّجال والنّساء. وإن كان الخامس أنثى، بحروا  أذنها، أي: شقّوه.  وكانت حراما على النّساء [و الرّجال‏]  لحمها ولبنها. فإذا ماتت  حلّت للنّساء. و«السّائبة» البعير يسيب بنذر يكون على الرّجل إن سلّمه اللّه- عزّ وجلّ- من مرض أو بلغه منزلة أن يفعل ذلك. و«الوصيلة» من الغنم. كانوا إذا ولدت الشّاة سبعة أبطن، فإن كان السّابع ذكرا ذبح فأكل منه الرّجال والنّساء. وإن كانت أنثى تركت في الغنم. وإن كانت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها. فلم تذبح. وكان لحومها حراما على النّساء، إلّا أن يموت منها شي‏ء فيحل أكلها للرّجال والنّساء. و«الحام» الفحل، إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره. وقد يروى «الحام» هو من الإبل. إذا أنتج عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره. فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء.

 (انتهى).

 [و في تفسير العيّاشي : قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: البحيرة، إذا ولدت وولد ولدها بحرت.

و]  المعنى «ما جعل»: ما شرّع ووضع اللّه ذلك. ولذلك تعدّى إلى مفعول، وهو «بحيرة». و«من» مزيدة.

وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ: بتحريم ذلك، ونسبته إليه.

وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، أي: الحلال من الحرام، والمبيح من المحرّم. أو الآمر من النّاهي. وأنّ ذلك افتراء. بل يقلّدون في تحريمها رؤساءهم، الّذين يمنعهم حبّ الرّئاسة عن الاعتراف به.

في مجمع البيان : عن ابن عبّاس، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: أنّ عمر بن يحيى بن قمعة بن جندب  كان قد ملك مكّة. وكان أوّل من غير دين إسماعيل.

فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيّب السّائبة، ووصل الوصيلة،و حمى الحامي. قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فلقد رأيته في النّار تؤذي أهل النّار ريح قصبته. وروي: بحر قصبته في النّار.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: بيان لقصور عقلهم، وانهماكهم في التّقليد. وأن لا سند لهم سواه.

أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ : الواو، للحال.

و الهمزة دخلت عليها، لإنكار الفعل على هذه الحال، أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالّين.

و المعنى: أنّ الاقتداء، إنّما يصحّ بمن علم أنّه عالم مهتد. وذلك لا يعرف إلّا بالحجّة، فلا يكفي التّقليد.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، أي: احفظوها والزموا إصلاحها.

و الجارّ والمجرور جعل اسما «لألزموا». ولذلك نصب «أنفسكم».

و قرئ، بالرّفع، على الابتداء.

لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ: لا يضرّكم الضّالّ إذا كنتم مهتدين.

قيل : نزلت، لمّا كان المؤمنون يتحسّرون على الكفرة ويتمنّون إيمانهم.

و قيل: كان الرّجل إذا أسلم، قالوا له: سفّهت آباءك [أو لاموه.]  فنزلت.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أصلحوا أنفسكم، ولا تتّبعوا عورات النّاس، ولا تذكروهم. فإنّه لا يضركم ضلالتهم إذا كنتم صالحين.

و في مجمع البيان : [روي أنّ‏]  أبا ثعلبة سأل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن هذه الآية؟

فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر. فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا.

و هوى متّبعا وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم.و «لا يضركم» يحتمل الرّفع، على أنّه مستأنف. ويؤيّده، أنّه قرئ: «لا يضيركم». والجزم، على الجواب. أو النّهي. لكنّه ضمّت الرّاء، اتّباعا لضمّة الضّاد المنقولة إليها من الرّاء المدغمة. وتنصره قراءة من قرأ: «لا يضركم» بفتح الرّاء. و«لا يضرّكم» بكسر الضّاد وضمّها. من ضاره، يضيره. ويضوره.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : وعد ووعيد للفريقين. وتنبيه، على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، أي: فيما أمرتم شهادة بينكم.

و المراد بالشّهادة، الإشهاد. وإضافتها إلى الظرف، على الاتّساع.

و قرئ: «شهادة» بالنّصب والتّنوين، على ليقم.

إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: إذا شارفه، وظهرت أماراته. وهو ظرف «للشّهادة».

حِينَ الْوَصِيَّةِ: بدل منه. وفي الإبدال تنبيه، على أنّ الوصيّة ممّا ينبغي أن لا يتهاون فيها. أو ظرف «حضر».

اثْنانِ: فاعل «شهادة». ويجوز أن يكون خبرها، على حذف المضاف.

ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: من المسلمين. أو من أقاربكم. وهما صفتان «لاثنان».

أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ: عطف على «اثنان»، أي: من أهل الكتاب والمجوس.

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: سافرتم فيها.

فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ، أي: قاربتم الأجل.

تَحْبِسُونَهُما: تقفونهما وتصبّرونهما. صفة «الآخران».

و الشّرط بجوابه المحذوف، المدلول عليه بقوله: «أو آخران من غيركم» اعتراض فائدته، الدّلالة على أنّه ينبغي أن يشهد اثنان منكم، فإنّ تعذّر كما في السّفر فمن‏

غيركم. أو استئناف، كأنّه قيل : كيف نعمل إن ارتبنا بالشّاهدين؟ فقال:

تحبسونهما.

مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ: لتغليظ اليمين بشرف الوقت. ولأنّه وقت اجتماع النّاس.

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ، أي: الآخران.

إِنِ ارْتَبْتُمْ، أي: ارتاب الوارث منكم. وهو اعتراض.

لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً: مقسم عليه. والمعنى: لا نستبدل بالقسم أو باللّه عرضا من الدّنيا، أي: لا نحلف باللّه كاذبا لطمع.

وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى: ولو كان المقسم له قريبا منّا. وجوابه- أيضا- محذوف، أي: لا نشتري.

وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ، أي: الشّهادة الّتي أمرنا بإقامتها.

و عن الشّعبي : أنّه وقف على «شهادة»، ثمّ ابتدأ «اللّه» بالمدّ، على حذف القسم وتعويض حرف الاستفهام. وروي عنه بغيره، كقولهم: آللَّه لأفعلنّ.

إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ، أي: إن كتمنا.

و قرئ: «لملاثمين» بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الّلام، وإدغام النّون فيها .

فَإِنْ عُثِرَ: فإن اطّلع.

عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً، أي: فعلا ما أوجبا إثما، بسبب تحريف الشّهادة.

فَآخَرانِ: فشاهدان آخران.

يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ: من الّذين جنى عليهم. وهم الورثة.

و قرأ حفص: «استحقّ» على البناء للفاعل. وهو الأوليان.الْأَوْلَيانِ: الأحقّان بالشّهادة لقرابتهما ومعرفتهما. وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هما الأوليان. أو خبر «آخران». أو مبتدأ، خبره «آخران». أو بدل منهما، أو من الضّمير في «يقومان».

و قرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر، عن عاصم: «الأولين» على أنّه صفة «للّذين».

أو بدل منه، أي: من الأولين الّذين استحقّ عليهم.

و قرئ: «الأوّلين» على التّثنية، وانتصابه على المدح. و«الأولان» وإعرابه إعراب «الأوليان» .

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما: أصدق منهما، وأولى بأن تقبل. سمّى اليمين شهادة، لوقوعها موقعها. كما في اللّعان.

وَ مَا اعْتَدَيْنا: ما تجاوزنا فيها الحقّ.

إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ : الواضعين الباطل موضع الحقّ. أو الظّالمين أنفسهم إن اعتدينا.

ذلِكَ، أي: الحكم الّذي تقدّم. أو تحليف الشّاهدين.

أَدْنى: أقرب.

أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها: على نحو ما حملوها، من غير تحريف وخيانة فيها.

أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ: أن تردّ اليمين على المدّعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة.

قيل : وإنّما جمع الضّمير، لأنّه حكم يعمّ الشّهود كلّهم.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا: ما توصون به سمع إجابة.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ : الخارجين عن الحقّ بالخيانة في الشّهادة إلى حجّة، أو إلى طريق الجنّة.

و معنى الآيتين: أنّ المحتضر إذا أراد الوصيّة، ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي‏نسبه أو دينه على وصيّته. أو يوصي إليهما احتياطا. فإن لم يجدهما بأن كان سفر، فآخران من غيرهم. ثمّ إن وقع نزاع وارتياب، أقسما على صدق ما يقولان بالتّغليظ في الوقت. فإن اطّلع على أنّهما كذبا بأمارة ومظنّة، حلف آخران من أولياء الميّت.

و في الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتّهذيب : عن الصّادق- عليه السّلام-: اللّذان منكم، مسلمان. واللّذان من غيركم، من أهل الكتاب.

فإن لم تجدوا من أهل الكتاب، فمن المجوس. لأنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية. وذلك إذا مات الرّجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين، أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد الصّلاة  فيقسمان باللّه- تعالى- لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ..

قال: وذلك، إن ارتاب  وليّ الميّت في شهادتهما. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا شهدا بالباطل، فليس له أن ينقض شهادتهما حتّى يجي‏ء بشاهدين فيقومان مقام الشّاهدين الأوّلين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.

 

فإذا فعل ذلك، نقض شهادة الأوّلين وجازت شهادة الآخرين. يقول اللّه- تعالى-:

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا (الآية).

و في الكافي  مرفوعا: [خرج‏]  تميم الدّاريّ وابن بيدي وابن أبي مارية في سفر.

و كان تميم الدّاريّ مسلما، وابن بيدي وابن أبي مارية نصرانيّين. وكان مع تميم الدّاريّ خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذّهب وقلادة، أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتلّ تميم الدّاريّ علّة شديدة. فلمّا حضره الموت، دفع ما كان معه إلى ابن بيدي وابن أبي مارية وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته. فقدما المدينة، وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته. فافتقد القوم الآنية والقلادة، فقال‏أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا، أنفق فيه نفقة كثيرة؟

فقالا: لا، ما مرض إلّا أيّاما قلائل.

قالوا: فهل سرق منه شي‏ء في سفره هذا؟

قالا: لا.

قالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟

قالا: لا.

قالوا: فقد افتقدنا أفضل شي‏ء كان معه آنية منقوشة بالذّهب مكلّلة بالجوهر وقلادة.

فقال: ما دفع إلينا، فقد أدّيناه إليكم. فقدّموهما إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأوجب [رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  عليهما اليمين. فحلفا، فخلّى عنهما. ثمّ ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما. فجاء أولياء تميم إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقالوا: يا رسول اللّه، قد ظهر على ابن بيدي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من اللّه- تعالى- الحكم في ذلك. فأنزل اللّه- تبارك وتعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ. (الآية).

فأطلق اللّه- تعالى- شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فهذه الشّهادة الأولى الّتي جعلها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً، أي: أنّهما حلفا على كذب فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما، يعني: من أولياء المدّعي. مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يحلفان باللّه، إنّهما أحقّ بهذه الدّعوى منهما. وإنّهما قد كذبا فيما حلفا باللّه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ..

فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أولياء تميم الدّاريّ، أن يحلفوا باللّه على ماأمرهم به، فحلفوا. فأخذ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- القلادة والآنية من ابن بيدي وابن أبي مارية، وردّهما إلى أولياء تميم الدّاريّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، ما يقرب منه.

و في الكافي ، في عدّة أخبار، عن الصّادق- عليه السّلام-: إذا كان الرّجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم، جاز شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة.

و اعلم، أنّه ينبغي أن يحمل الإحلاف على ما إذا كانا وصيّين. وأمّا إذا كانا شاهدين على الوصيّة، فلا يحلف الشّاهد وإن كان ذمّيّا بالإجماع.

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ:

قيل : ظرف «للا يهدي».

و قيل : بدل من مفعول «و اتّقوا» بدل اشتمال. أو مفعول «و اسمعوا» على حذف المضاف، أي: اسمعوا خبر يوم جمعهم. أو منصوب بإضمار «اذكر».

فَيَقُولُ: للرّسل.

ما ذا أُجِبْتُمْ، أي: أيّ إجابة أجبتم؟ على أنّ «ما ذا» في موضع المصدر. أو بأيّ شي‏ء أجبتم؟ فحذف الجارّ. وهذا السّؤال لتوبيخ قومهم، كما أنّ سؤال «الموؤدة» لتوبيخ الوائد. ولذلك:

قالُوا لا عِلْمَ لَنا، أي: لا علم لنا بما كنت تعلمه.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ :

قيل : فتعلم ما نعلمه ممّا أجابونا وأظهروا لنا، وما لم نعلم ممّا أضمروا في قلوبهم. وفيه التّشكّي منهم، وردّ الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم.

و قيل : المعنى: لا علم لنا إلى جنب علمك. أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا،و إنّما الحكم للخاتمة.

و قرئ: «علّام» بالنّصب. على أنّ الكلام قد تمّ بقوله: «إنّك أنت»، أي:

إنّك الموصوف بصفاتك المعروفة. و«علّام» منصوب على الاختصاص. أو النّداء .

و قرأ حمزة وأبو بكر: «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع .

و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا أحمد بن محمّد بن عبد العزيز  المقريّ قال:

 

 [قال: حدّثنا أبو عمرو محمّد بن جعفر المقريّ الجرجانيّ،]  حدّثنا أبو بكر محمّد بن الحسن الموصليّ ببغداد قال: حدّثنا محمّد بن عاصم الطّريقي  قال: حدّثنا أبو زيد بن عبّاس  بن يزيد بن الحسن بن عليّ الكحّال مولى زيد بن عليّ قال: حدّثنا أبي زيد  بن الحسن قال: حدّثني موسى بن جعفر- عليهما السّلام- قال: قال الصّادق- عليه السّلام-: يقولون: لا علم لنا بسواك. وقال: القرآن كلّه تقريع، وباطنه تقريب.

و في روضة الكافي : عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن بريد الكناسي [قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا. قال: فقال:]  إنّ لهذا تأويلا «يقول ما ذا أجبتم» في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على أممكم؟ قال: فيقولون: «لا علم لنا» بما فعلوا من بعدنا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عنه- عليه السّلام- مثله.

 

من دون أن يسمّيه تأويلا.إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي: الّتي أنعمت.

عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ: بدل من «يوم يجمع». وهو على طريقة «و نادى أصحاب الجنّة».

و المعنى: أنّه- تعالى- يوبّخ الكفرة يومئذ بسؤال الرّسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات، فكذّبهم طائفة وسمّوهم: سحرة. وغلا آخرون، فاتّخذوهم آلهة.

أو نصب بإضمار «اذكر».

إِذْ أَيَّدْتُكَ: قوّيتك. وهو ظرف «لنعمتي». أو حال منه.

و قرئ: «آيدتك» .

بِرُوحِ الْقُدُسِ: بجبرئيل- عليه السّلام- أو بالكلام، الّذي به يحيا الدّين أو النّفس حياة أبديّة، ويطهر من الآثام.

تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، أي: كائنا في المهد وكهلا. والمعنى:

تكلّمهم في الطّفوليّة والكهولة على سواء. والمعنى: إلحاق حاله في الطفوليّة بحال الكهولة في كمال العقل، والتّكلّم وبه استدل على أنّه سينزل، فإنّه رفع قبل أن يكتهل.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي: سبق تفسيره في آل عمران.

و قرأ نافع ويعقوب: «طائرا». ويحتمل الإفراد والجمع، كالباقر .

 [و في عيون الأخبار  في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع أهل الأديان وأصحاب المقالات في التّوحيد: قال الرّضا- عليه السّلام-: يا نصرانيّ، أسألك عن مسألة.

قال: سل. فإن كان عندي علمها، أجبتك.قال الرّضا- عليه السّلام-: ما أنكرت أنّ عيسى- عليه السّلام- كان يحيي الموتى بإذن اللّه- عزّ وجلّ-؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك، من أجل أنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فهو ربّ مستحقّ لأن يعبد.

قال الرّضا- عليه السّلام-: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى- عليه السّلام- مشى على الماء، وأحياء الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص. فلم تتّخذه أمّته ربّا، ولم يعبده أحد من دون اللّه- عزّ وجلّ- ولقد صنع حزقيل النّبيّ- عليه السّلام- مثل ما صنع عيسى بن مريم. فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم، بستّين سنة. ثمّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أ تجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التّوراة، اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثمّ انصرف بهم إلى بابل، فأرسله اللّه- عزّ وجلّ- إليهم فأحياهم؟ هذا في التّوراة لا يدفعه إلّا كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثمّ قال: يا يهوديّ، خذ على هذا السّفر من التّوراة. فتلا- عليه السّلام- علينا من التّوراة آيات، فأقبل اليهوديّ يترجّح لقرائته ويتعجّب. ثمّ أقبل على النّصرانيّ فقال: يا نصرانيّ، أ فهؤلاء كانوا قبل عيسى، أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

فقال الرّضا- عليه السّلام-: لقد اجتمعت قريش على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فسألوه أن يحيي لهم موتاهم. فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-.

فقال له: اذهب إلى الجبّانة، فناد بأسماء هؤلاء الرّهط الّذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان ويا فلان ويا فلان، يقول لكم محمّد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: قوموا بإذن اللّه- عزّ وجلّ- فقاموا ينفضون التّراب عن رؤوسهم. فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم. ثمّ أخبروهم أنّ محمّدا قد بعث نبيّا، فقالوا: وددنا أنّا أدركناه فنؤمن

 به. ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلّمه البهائم والطّير والجنّ والشّياطين، ولم نتّخذه ربّا من دون اللّه- عزّ وجلّ- ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.] .

وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ، يعني: اليهود حين همّوا بقتله.

إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ: ظرف «لكففت».

فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ، أي: ما هذا الّذي جئت به إلّا سحر.

و قرأ حمزة والكسائيّ: «إلّا ساحر». فالإشارة إلى عيسى- عليه السّلام- .

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، أي: أمرتهم على ألسنة رسلي.

 [و في تفسير العيّاشي : محمّد بن يوسف الصّنعانيّ، عن أبيه قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام-: إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ..

قال: ألهموا.] .

أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي: يجوز أن تكون «أن» مصدريّة، وأن تكون مفسّرة.

قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ : مخلصون.

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ: منصوب «باذكر».

 [و في كتاب التّوحيد ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع أصحاب المقالات والأديان: قال الرّضا- عليه السّلام- للجاثليق: سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواريّ عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟

قال الرّضا- عليه السّلام-: على الخبير سقطت. أمّا الحواريّون، فكانوا اثني عشر رجلا. وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا. وأمّا علماء النّصارى، فكانوا ثلاثة رجال:يوحنّا الأكبر بأجّ، ويوحنّا بقرقيسا، ويوحنا الدّيلميّ بزجّان . وعنده كان ذكر النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وذكر أهل بيته وأمّته. وهو الّذي بشّر أمّة عيسى وبني إسرائيل به.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه قال: قلت لأبي الحسن الرّضا- عليه السّلام-: لم سمّي الحواريّون الحواريّين؟

قال: أمّا عند النّاس، فإنّهم سمّوا: حواريّين، لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثّياب من الوسخ بالغسل. وهو اسم مشتقّ من الخبز الحوار. وأمّا عندنا، فسمّي الحواريّون: الحواريّين، لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذّنوب بالوعظ والتّذكير.] .

و قيل : «إذ» ظرف «لقالوا» تنبيها على أنّ ادّعاءهم الإخلاص مع قولهم.

هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ: لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة.

 [و في تفسير العيّاشي  عن يحيى الحلبيّ في قوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. قال:

قراءتها: «هل تستطيع ربّك»، يعني: هل تستطيع أن تدعو ربّك.] .

و قيل : هذه الاستطاعة، على ما تقتضيه الحكمة والإرادة. لا على ما تقتضيه القدرة.

و قيل: المعنى: هل يطيع ربّك، أي: هل يجيبك. واستطاع، بمعنى: أطاع.

كاستجاب، وأجاب.

و قرأ الكسائيّ: «تستطيع ربّك» أي: سؤال ربّك. والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف. و«المائدة» الخوان، إذا كان عليه الطّعام. من ماد [الماء،]  يميد: إذا

تحرّك. أو مادة: إذا أعطاه. وكأنّها تميد من تقدّم إليها. ونظيرها [قولهم:] شجرة مطعمة .

قالَ اتَّقُوا اللَّهَ: من أمثال هذا السّؤال.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : بكمال قدرته، وصحّة نبوّتي. أو صدقتم في ادّعائكم الإيمان.

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها: تمهيد عذر، وبيان لما دعاهم إلى السّؤال. وهو أن يتمتّعوا بالأكل منها.

وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا: بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته.

وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا: في ادّعاء النّبوّة. أو أنّ اللّه يجيب دعوتنا.

وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ : إذا استشهدتنا للعين، دون السّامعين للخبر.

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك. أو أنّهم لا يقلعون عنه. وأراد إلزامهم الحجّة بكمالها.

اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً:

قيل : أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظّمه. وكان يوم الأحد. ولهذا اتّخذه النّصاري عيدا.

و قيل : العيد، السّرور العائد. ولذلك سمّي يوم العيد: عيدا.

و قرئ: «تكن» على جواب الأمر .

لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا: بدل من «لنا» بإعادة العامل، أي: عيدا لمتقدمينا ومتأخّرينا.

و قيل : يأكل منها أوّلنا وآخرنا.و قرئ: «لأولانا وأخرانا» بمعنى: الأمّة. أو الطّائفة .

وَ آيَةً: عطف على «عيدا».

مِنْكَ: صفة لها، أي: وآية كائنة منك على كمال قدرتك، وصحّة نبوّتي.

وَ ارْزُقْنا: المائدة. أو الشّكر عليها.

وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ : خير من يرزق. لأنّك خالق الرّزق، ومعطيه بلا عوض.

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ: إجابة إلى سؤالكم.

و قرأ نافع وابن عامر، بالتّشديد .

فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً، أي: تعذيبا. ويجوز أن يجعل مفعولا به، على السّعة.

لا أُعَذِّبُهُ:

الضّمير، للمصدر، أو «للعذاب» إن أريد به ما يعذّب به، على حذف حرف الجرّ.

أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ، أي: من عالمي زمانهم.

قيل : أو العالمين مطلقا. فإنّهم مسخوا قردة وخنازير. ولم يعذّب بمثل ذلك غيرهم.

في مجمع البيان : اختلفت العلماء في المائدة، هل نزلت أم لا؟ والصّحيح، أنّها نزلت لقوله- سبحانه-: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فلا يجوز أن يقع في خبره الخلف. ولأنّ الأخبار قد استفاضت عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وأصحابه التّابعين أنّها نزلت.

و عن الباقر- عليه السّلام- : أنّ عيسى بن مريم- عليه السّلام- قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما، ثمّ سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه. فصاموا ثلاثين يوما، فلمّافرغوا قالوا [: يا عيسى،]  إنّا لو عملنا لأحد من النّاس فقضينا عمله، لأطعمنا طعاما.

و إنّا صمنا وجعنا. فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السّماء. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتّى وضعتها  بين أيديهم. فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم.

و عن عمّار بن ياسر ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: نزلت المائدة خبزا ولحما. وذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منه. قال: فقيل لهم: فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا، أو تخبّئوا، أو ترفعوا. فإن فعلتم ذلك عذبتكم. قال: فما مضى يومهم حتّى خبّؤوا ورفعوا وخانوا.

و عن سلمان الفارسيّ- رضي اللّه عنه - أنّه قال: واللّه، ما تبع عيسى شيئا من المساوئ قطّ، ولا انتهر يتيما، ولا قهقه ضحكا، ولا ذبّ ذبابا عن وجهه، ولا أخذ عن أنفه من شي‏ء نتن  قطّ، ولا عبث قطّ. ولمّا سأله الحواريّون أن ينزّل عليهم المائدة، لبس صوفا وبكى وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (الآية) فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم.

فبكى عيسى- عليه السّلام- وقال: اللّهمّ، اجعلني من الشّاكرين. اللّهمّ، اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. واليهود ينظرون إليها. ينظرون إلى شي‏ء لم يروا مثله قطّ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى- عليه السّلام- وتوضّأ، وصلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها وقال: بسم اللّه خير الرّازقين. فإذا هو سمكة مشويّة ليس عليها فلوس، تسيل سيلا من الدّسم. وعند رأسها ملح. وعند ذنبها خلّ. وحولها من ألوان  البقول، ما عدا الكرّاث. وإذا خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثّاني عسل، وعلى الثّالث سمن، وعلى الرّابع جبن، وعلى الخامس قديد.فقال شمعون: يا روح اللّه، أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة؟

فقال عيسى: ليس شي‏ء ممّا ترون من طعام الدّنيا، ولا من طعام الآخرة.

و لكنّه شي‏ء افتعله اللّه- تعالى- بالقدرة الغالبة. كلوا ممّا سألتم، يمدكم ويزدكم  من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح اللّه، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى.

فقال عيسى- عليه السّلام- يا سمكة، أحيي بإذن اللّه- تعالى- فاضطربت السّمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها، ففزعوا  منها. فقال: ما لكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها. ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا؟ يا سمكة، عودي كما كنت بإذن اللّه- تعالى- فعادت السّمكة مشويّة كما كانت.

فقالوا: يا روح اللّه، كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن.

فقال عيسى- عليه السّلام-: معاذ اللّه أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها. فخافوا أن يأكلوا منها. فدعا لها عيسى- عليه السّلام- أهل الفاقة والزّمنى والمرضى والمبتلين، فقال: كلوا منها جميعا ولكن الهناء، ولغيركم البلاء. فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة، من فقير ومريض ومبتلى وكلّهم شبعان يتجشّأ. ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة، فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السّماء. ثمّ طارت المائدة صعدا، وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم. فلم يأكل يومئذ منها زمن إلّا صحّ، ولا مريض إلّا بري‏ء، ولا فقير إلّا استغنى ولم يزل غنيّا حتّى مات. وندم الحواريّون، ومن لم يأكل منها.

و كانت إذا نزلت، اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار يتزاحمون عليها.

فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم. فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى. فلا تزال منصوبة يؤكل منها، حتّى إذا فاء الفي‏ء طارت صعدا وهم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم.

و كانت تنزل غبّا، يوما ويوما لا. فأوحى اللّه- تعالى- إلى عيسى‏- عليه السّلام-: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء. فعظم ذلك على الأغنياء، حتّى شكّوا وشكّكوا النّاس فيها. فأوحى اللّه إلى عيسى- عليه السّلام-: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا، إنّ من كفر بعد نزولها أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ..

فقال عيسى- عليه السّلام-: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم.» فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش. فلمّا رأى النّاس ذلك، فزعوا إلى عيسى- عليه السّلام- وبكوا وبكى على الممسوخين أهلوهم. فعاشوا ثلاثة أيّام، ثمّ هلكوا.

و في تفسير أهل البيت- عليهم السّلام -: كانت المائدة تنزل عليهم، فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثمّ ترفع. فقال كبراؤهم ومترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها. فرفع اللّه المائدة ببغيهم، ومسخوا قردة وخنازير.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : واقتصر على ما نسبه إلى تفسير أهل البيت مقطوعا.

 [و في تفسير العيّاشي : عن عيسى العلويّ، عن أبيه، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: المائدة الّتي نزلت على بني إسرائيل مدلّاة بسلاسل من ذهب.

. عليها تسعة ألوان  [و تسعة]  أرغفة.

الفضيل بن يسار، عن أبي الحسن- عليه السّلام-  قال: إنّ الخنازير من قوم عيسى. سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها، فمسخهم اللّه خنازير.

عن عبد الصّمد بن بندار  قال: سمعت أبا الحسن- عليه السّلام- يقول:

كانت الخنازير قوما من القصّارين. كذّبوا بالمائدة، فمسخوا خنازير.و في تهذيب الأحكام : أحمد بن محمّد، عن محمّد بن الحسن الأشعريّ، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: الفيل مسخ- إلى قوله-: والجرّيث والضّبّ قوم  من بني إسرائيل، حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم- عليه السّلام- لم يؤمنوا فتاهوا. فوقعت فرقة في البحر، وفرقة في البرّ.

و في كتاب الخصال : عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- قال: سألت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن المسوخ؟

فقال: هي  ثلاثة عشر: الفيل [و الدّبّ‏]  والخنزير- إلى قوله-: وأمّا الخنازير، فكانوا قوما  نصارى سألوا ربّهم- تعالى- إنزال المائدة عليهم. فلمّا أنزلت عليهم، كانوا أشدّ ما كانوا كفرا وأشدّ تكذيبا.] .

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ: يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم. «و من دون اللّه» صفة «لإلهين». أو صلة «اتّخذوني». ومعنى «دون»: إمّا المغايرة. فيكون فيه تنبيه على أنّ عبادة اللّه- تعالى- مع عبادة غيره كلا عبادة. فمن عبده مع عبادتهما، كأنّه عبدهما ولم يعبده. أو القصور. فإنّهم لم يعتقدوا أنّهما مستقّلان باستحقاق العبادة، وإنّما زعموا أنّ عبادتهما توصل إلى عبادة اللّه- تعالى- فكأنّه قيل: اتّخذوني وأمّي متوصّلين بنا إلى اللّه.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لم يقله، وسيقوله.

إنّ اللّه إذا علم أنّ شيئا كائن، أخبر عنه خبر ما قد كان.و عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-  مثله.

 

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وذلك أنّ النّصارى زعموا، أنّ عيسى قال:

اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فإذا كان يوم القيامة يجمع اللّه بين النّصارى وبين عيسى فيقول: أَ أَنْتَ قُلْتَ (الآية).

قالَ سُبْحانَكَ، أي: أنزّهك تنزيها، من أن يكون لك شريك.

ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ: ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحقّ لي.

إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ: تعلم ما أخفيته في نفسي، كما تعلم ما أعلنته، ولا أعلم ما تخفيه من معلومات. وقوله: «في نفسك» للمشاكلة.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ : تقرير للجملتين، باعتبار منطوقه ومفهومه.

و في تفسير العيّاشي : عن جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في تفسير هذه الآية: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ..

قال: إنّ الاسم الأكبر ثلاثة وسبعون حرفا. فاحتجب الرّبّ- تعالى- منها بحرف. فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه- عزّ وجلّ- أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا.

فتوارثتها الأنبياء حتّى صارت إلى عيسى- عليه السّلام- فذلك قول عيسى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، يعني: اثنين وسبعين حرفا من الاسم الأكبر. يقول: أنت علّمتنيها، فأنت تعلمها ولا أعلم ما في نفسك. يقول: لأنّك احتجبت من خلقك بذلك الحرف، فلا يعلم أحد ما في نفسك.

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ: تصريح بنفي المستفهم عنه، بعد تقديم ما يدلّ عليه.أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ: عطف بيان للضّمير في «به». أو بدل منه.

و ليس من شرط البدل جواز إسقاط المبدل منه مطلقا، حتّى يلزم منه بقاء الموصول بلا عائد. أو خبر مضمر. أو مفعوله، مثل: هو. أو أعني. ولا يجوز إبداله من «ما أمرتني به» لأنّ المصدر لا يكون مقول القول. ولا أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ الأمر مسند إلى اللّه. وهو لا يقول: اعبدوا اللّه ربّي وربّكم. والقول لا يفسّر، بل الجملة تحكي بعده.

إلّا أن يؤوّل القول بالأمر، فكأنّ مثل ما أمرتهم «إلّا بما أمرتني به أن اعبدوا اللّه.».

وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، أي: رقيبا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوا. أو شاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان.

فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي:

قيل : بالرّفع إلى السّماء لقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ.

 [و على ما سبق في الخبر «من أنّه قبض روحه بين السّماء والأرض ثمّ ردّت إليه» لا حاجة إلى هذا التّوجيه‏]  (فقط في المتن و. ر.).

و التّوفّي: أخذ الشي‏ء وافيا. والموت نوع منه. قال اللّه- تعالى-: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها.

كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ: المراقب لأحوالهم. فتمنع من أردت عصمته من القول به، بالإشارة بالدّلائل والتّنبيه بإرسال الرّسل وإنزال الآيات.

وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ : مطّلع مراقب له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ: تملكهم وتطلع على جرائمهم. فيه تنبيه على أنّهم استحقّوا ذلك، لأنّهم عبادك وقد عبدوا غيرك.

وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : فلا عجز ولا استقباح.

فإنّك القادر القويّ على الثّواب والعقاب، الّذي لا يثيب ولا يعاقب إلّا عن حكمة وصواب. فإنّ المغفرة مستحسنة  لكلّ مجرم. فإن عذّبت فعدل، وإن غفرت تفضّل.و عدم غفران الشّرك بمقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع التّرديد والتّعليق «بإن».

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ:

قرأ نافع: «يوم» بالنّصب، على أنّه ظرف «لقال». وخبر «هذا» محذوف. أو ظرف مستقرّ وقع خبرا، والمعنى: هذا الّذي مرّ من كلام عيسى واقع يوم ينفع .

و قيل : إنّه خبر، ولكن مبنيّ على الفتح بإضافته إلى الفعل.

و [هو غير صحيح‏]  لأنّ المضاف إليه معرب. والمراد بالصّدق، الصّدق في الدّنيا. فإنّ النّافع ما كان في حال التّكليف.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن النّعمان، عن ضريس، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.

قال: إذا كان يوم القيامة وحشر النّاس للحساب، فيمّرون بأحوال يوم القيامة.

فلا ينتهون إلى العرصة حتّى يجهدوا جهدا شديدا.

قال: فيقفون بفناء العرصة، ويشرف الجبّار عليهم وهو على عرشه. فأوّل من يدعى بنداء يسمع الخلائق أجمعين، أن يهتف باسم محمّد بن عبد اللّه النّبيّ القرشيّ العربيّ.

قال: فيتقدّم حتّى يقف على يمين العرش.

قال: ثمّ يدعى بصاحبكم عليّ، فيتقدّم حتّى يقف على يسار رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثمّ يدعى بأمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فيقفون على يسار عليّ- عليه السّلام- ثمّ يدعى بنبيّ نبيّ وأمّته معه من أوّل النّبيّين إلى آخرهم وأمّتهم معهم، فيقفون عن يسار العرش.

قال: ثمّ أوّل من يدعى للمساءلة القلم.

قال: فيتقدّم فيقف بين يدي اللّه في صورة الآدميّين.فيقول اللّه: هل سطّرت في اللّوح ما ألهمتك وأمرتك به من الوحي؟

فيقول القلم: نعم يا ربّ، قد علمت أنّي قد سطّرت في اللّوح ما أمرتني وألهمتني به من وحيك.

فيقول اللّه: فمن يشهد لك بذلك؟

فيقول: يا ربّ، وهل اطّلع على مكنون سرّك خلق غيرك؟

قال: فيقول له اللّه: أفلحت حجّتك.

قال: ثمّ يدعى باللّوح، فيتقدّم في صورة الآدميّين حتّى يقف مع القلم. فيقول له: هل سطّر فيك القلم ما ألهمته وأمرته به من وحي؟

فيقول اللّوح: نعم يا ربّ، وبلّغته إسرافيل . [فيتقدّم مع القلم واللّوح في صورة الآدميين، فيقول اللّه: هل بلّغك اللّوح ما سطر فيه القلم من وحي؟

فيقول: نعم يا ربّ، وبلّغته جبرئيل.]  فيدعى بجبرئيل فيتقدّم حتّى يقف مع إسرافيل، فيقول اللّه له: هل بلّغك إسرافيل ما بلّغ؟

فيقول: نعم يا ربّ، وبلّغته جميع أنبيائك، وأنفذت إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك، وأدّيت رسالاتك إلى نبيّ نبيّ ورسول رسول وبلّغتهم كلّ وحيك وحكمتك وكتبك، وأنّ آخر من بلّغته رسالاتك ووحيك وحكمتك وعلمك وكتابك وكلامك محمّد بن عبد اللّه العربيّ القرشيّ الحرميّ حبيبك.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: فانّ أوّل من يدعى من ولد آدم للمساءلة محمّد بن عبد اللّه. فيدنيه اللّه حتّى لا يكون خلق أقرب إلى اللّه يومئذ منه. فيقول اللّه: يا محمّد، هل بلّغك جبرئيل ما أوحيت إليك وأرسلته به إليك من كتابي وحكمتي وعلمي، وهل أوحى ذلك إليك [يا محمّد؟] .

فيقول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: نعم [يا ربّ.]  قد بلّغني جبرائيل جميع‏ما أوحيته إليه وأرسلته به من كتابك وحكمتك  وعلمك، وأوحاه إليّ.

فيقول اللّه لمحمّد: هل بلّغت أمتك- يا محمّد- ما بلّغك جبرئيل من كتابي وحكمتي وعلمي؟

فيقول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: نعم يا ربّ. قد بلّغت أمّتي جميع ما أوحيت  إليّ من كتابك وحكمتك وعلمك، وجاهدت في سبيلك.

فيقول اللّه لمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله-: فمن يشهد لك بذلك؟

فيقول محمّد: يا ربّ، إنّك أنت الشّاهد لي في تبليغ  الرّسالة وملائكتك والأبرار من أمّتي، وكفى بك شهيدا. فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرّسالة. ثمّ يدعى بأمّة محمّد فيسألون: هل بلّغكم محمّد رسالتي وكتابي وحكمتي وعلمي وعلّمكم ذلك؟ فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرّسالة والحكمة والعلم.

فيقول اللّه لمحمّد: فهل استخلفت في أمّتك من بعدك من يقوم فيهم بحكمتي وعلمي، ويفسّر لهم كتابي، ويبيّن لهم ما يختلفون فيه من بعدك حجّة لي وخليفة في الأرض؟

فيقول محمّد: نعم يا ربّ. قد خلّفت فيهم عليّ بن أبي طالب أخي ووزيري [و وصيّي‏]  وخير أمّتي، ونصبّته لهم علما في حياتي، ودعوتهم إلى طاعته، وجعلته خليفتي في أمّتي وإماما تقتدي به الأمّة بعدي  إلى يوم القيامة.

فيدعى بعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فيقال له: هل أوصى إليك محمّد واستخلفك في أمّته ونصبّك علما لأمّته في حياته، وهل قمت فيهم من بعده مقامه؟

فيقول له عليّ- عليه السّلام-: نعم يا ربّ. قد أوصى إليّ محمّد، وخلّفني في‏

أمّته، ونصّبني لهم علما في حياته. فلمّا قبضت محمّدا إليك، جحدتني أمّته، ومكروا بي، واستضعفوني، وكادوا يقتلونني، وقدّموا قدّامي من أخّرت، وأخّروا من قدّمت، ولم يسمعوا منّي ولم يطيعوا أمري. فقاتلتهم في سبيلك حتّى قتلوني.

فيقال لعليّ: هل خلّفت من بعدك في أمّة محمّد حجّة وخليفة في الأرض، يدعو عبادي إلى ديني وإلى سبيلي؟

فيقول عليّ- عليه السّلام-: نعم يا ربّ. قد خلّفت فيهم الحسن ابني وابن بنت نبيّك. فيدعى بالحسن بن عليّ فيسأل عمّا سئل عنه عليّ بن أبي طالب.

قال: ثمّ يدعى بإمام إمام وبأهل عالمه، فيحتجّون. بحجّتهم. فيقبل اللّه عذرهم، ويجيز حجّتهم.

قال: ثمّ يقول اللّه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.

و في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام- في حديث طويل: وحقيقة الصّدق، ما يقتضي تزكية اللّه- تعالى- لعبده. كما ذكر عن صدق عيسى بن مريم- عليهما السّلام- في القيامة، بسبب ما أشار إليه من صدقة براءة  للصّادقين من رجال أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فقال- عزّ وجلّ-: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ : بيان النّفع.

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ : فيه تنبيه على كذب النّصارى، وفساد دعواهم في المسيح وأمّه. وإنّما لم يقل: «من» تغليبا للعقلاء. لأنّ «ما» يطلق متناولا للأجناس كلّها، فهو أولى بإرادة العموم.