سورة المائدة الآية 61-80

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا: نزلت في يهود نافقوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أو في عامّة المنافقين . 

وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ، أي: يخرجون من عندك كما دخلوا، ولم يؤثّر فيهم ما سمعوا منك. والجملتان حالان من فاعل «قالوا».

و «بالكفر» و«به» حالان من فاعلي «دخلوا» و«خرجوا». و«قد» وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصحّ أن يقع حالا، أفادت- أيضا- لما فيها من التّوقّع أنّ أمارة النّفاق [كانت لائحة عليهم، وكان الرسول يظنّه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، قوله: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا [قال:]  نزلت في‏عبد اللّه ابن أبيّ لمّا أظهر الإسلام وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ  قال: «و خرجوا به» من الإيمان.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ : أي: من الكفر. وفيه وعيد لهم.

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ، أي: من اليهود والمنافقين‏] .

يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ: أي: في الحرام وقيل الكذب ، لقوله عن قولهم الإثم.

وَ الْعُدْوانِ الظّلم، ومجاوزة الحدّ في المعاصي.

و قيل : الإثم، ما يختصّ بهم. والعدوان، ما يتعدّى إلى غيرهم.

وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ، أي: الحرام. خصّه في الذّكر، للمبالغة.

لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ : لبئس شيئا عملوه.

لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ:

تحضيض لعلمائهم على النّهي عن ذلك. فإنّ «لو لا» إذا دخل على الماضي، أفاد التّوبيخ.

و إذا دخل على المستقبل، أفاد التّحضيض.

لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ : أبلغ من قوله: لبئس ما كانوا يعملون. من حيث أنّ الصّنع، عمل الإنسان بعد تدرّب فيه وتروّ وتحرّي إجادة. ولذلك ذمّ به خواصّهم. ولأنّ ترك الحسنة أقبح من مواقعة المعصية. لأنّ النّفس تلتذّ بها وتميل إليها.

و لا كذلك ترك الإنكار عليها، فكان جديرا بأبلغ الذّمّ.

عن ابن عبّاس : هي أشدّ آية في القرآن.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرّحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل، عن حسن قال: خطب أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: أمّا بعد، فأنّه إنّما هلك‏من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرّبّانيّون والأحبار عن ذلك.

و أنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرّبّانيّون [و الأحبار]  عن ذلك نزلت بهم العقوبات. فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.

و الحديث طويل، أخذنا منه موضع الحاجة.

عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد ، وعليّ بن إبراهيم [، عن أبيه‏]  جميعا، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر [، عن أبان، عن أبي بصير،]  عن عمرو بن رياح عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قلت له: بلغني أنّك تقول: من طلّق لغير السنّة أنّك لا ترى طلاقه شيئا؟

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: ما أقوله بل اللّه يقوله. أما واللّه لو كنّا نفتيكم بالجور كنّا شرّا منكم، لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. (الآية).

 «و في نهج البلاغة  قال- عليه السّلام- في خطبة له، وهي من خطب الملاحم:

أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه  بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب؟ ومن أين تؤتون، وأنّى تؤفكون؟ فلكلّ أجل كتاب، ولكلّ غيبة إياب، فاستمعوا  ربّانيكم، وأحضروه قلوبكم، واستيقظوا أن يهتف بكم».

 

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: قيل : أي: هو ممسك يقتر بالرّزق.

و غلّ اليد وبسطها، مجاز عن البخل والجود. ولا قصد فيه إلى إثبات يد، وغلّ، وبسط. ولذلك يستعمل حيث لا يتصوّر ذلك، كقوله:

         جاد الحمى بسط اليدين بوابل             شكرت نداه تلاعه ووهاده‏

 ونظيره من المجازات المركّبة: شابت لمّة اللّيل.و قيل: معناه: أنّه «فقير لقوله- تعالى-: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ»  فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.

و في عيون الأخبار ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع سليمان المروزيّ، بعد كلام طويل له- عليه السّلام- في إثبات البداء، وقد كان سليمان ينكر، ثمّ التفت إلى سليمان فقال: أحسبك  ضاهيت [اليهود في هذا الباب.

قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود] .

قال: قالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، يعنون: أنّ اللّه قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئا. فقال- عزّ وجلّ-: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا..

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى إسحاق بن عمّار، عمّن سمعه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ لم يعنوا: أنّه هكذا. ولكنّهم قالوا: قد فرغ من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص. وقال اللّه- جلّ جلاله- تكذيبا لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. ألم تسمع اللّه- عزّ وجلّ- يقول: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا: دعاء عليهم بالبخل والنّكد. أو بالفقر والمسكنة. أو بغلّ الأيدي حقيقة، يغلّون أسارى في الدّنيا ومسحبين إلى النّار في الآخرة.

فتكون المطابقة، من حيث اللّفظ وملاحظة الأصل. كقولك: سبّني، سبّ اللّه دابره.

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ: ثنّى اليد مبالغة في الرّدّ، ونفى البخل عنه، وإثباتا لغاية الجود فإنّ غاية ما يبذله السّخيّ من ماله أن يعطيه بيديه، وتنبيها على منح الدّنيا والآخرة وعلى ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه بن قيس، عن أبي الحسن الرّضا

 - عليه السّلام- قال: سمعته يقول: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ.

فقلت له: يدان هكذا- وأشرت بيدي إلى يديه-؟ فقال: لا،]  لو كان هكذا كان مخلوقا.

و بإسناده إلى حنان بن سدير ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: وقوم وصفوه [باليدين، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ.

و قوم وصفوه‏]  بالرّجلين، فقالوا: وضع رجله  على صخرة بيت المقدس، فمنها ارتقى إلى السّماء. ووصفوه بالأنامل، فقالوا: إنّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إنّي وجدت برد أنامله على قلبي. فلمثل هذه الصّفات قال: رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.

يقول: رب المثل الأعلى عمّا به مثّلوه. وللّه المثل الأعلى. الّذي لا يشبهه شي‏ء، ولا يوصف، ولا يتوهّم. فذلك المثل الأعلى.

و بإسناده إلى أبي بصير : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: أنا يد اللّه المبسوطة على عباده بالمرحمة والمغفرة.

و الحديث طويل، أخذنا منه موضع الحاجة.

و بإسناده إلى مروان بن صباح  قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا. وجعلنا عينه في عباده، ولسانه النّاطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرّأفة والرّحمة.

و الحديث طويل، أخذنا منه موضع الحاجة.

 [و في تفسير العيّاشي : عن حمّاد، عنه في قول اللّه: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، يعنون:

أنّه قد فرغ ممّا هو كائن لُعِنُوا بِما قالُوا قال اللّه- عزّ وجلّ-: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ.] .يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ: على ما تقتضيه الحكمة والصّلاح.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً: على طغيانهم وكفرهم. كما يزداد المريض مرضا من تناول غذاء الأصحّاء.

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ: فكلماتهم مختلفة، وقلوبهم شتّى. فلا يقع بينهم موافقة.

كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: كلّما أرادوا محاربة غلبوا.

قيل : كانوا في أشدّ بأس وأمنع دار، حتّى أنّ قريشا كانت تعتضد بهم، وكان الأوس والخزرج تتكثّر بمظاهرتهم. فذلّوا وقهروا. وقتل النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- بني قريظة، وأجلى بني النّضير، وغلب على خيبر وفدك. فاستأصل اللّه شأفتهم، حتّى أنّ اليوم تجد اليهود في كلّ بلدة أذلّ النّاس.

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً: للفساد. بمخالفة أمر اللّه، والاجتهاد في محو ذكر الرّسول من كتبهم.

و قيل : لمّا خالفوا حكم التّوراة سلّط اللّه عليهم بخت نصر [، ثم أفسدوا فسلّط عليهم فطرس الروميّ.]  ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثمّ أفسدوا فسلّط [اللّه‏]  عليهم المسلمين.

وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ : فلا يجازيهم إلّا شرّا.

و في تفسير العيّاشي : عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- عن قوله:

كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ كلّما أراد جبّار من الجبابرة هلكة آل محمّد- عليه السّلام- قصمه [اللّه.]

 

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا: بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وبما جاء به.

وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ: الّتي فعلوها. ولم يؤاخذهم بها.

وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ : فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله، وإن جلّ.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ: بإذاعة ما فيها، والقيام بأحكامها.

وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ:

في الكافي والعيّاشيّ : عن الباقر- عليه السّلام- يعني: الولاية.

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ: لوسّع عليهم أرزاقهم، وأفيض عليهم بركات من السّماء والأرض.

في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: مِنْ فَوْقِهِمْ المطر. وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ النّبات.

مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: قد دخلوا في الإسلام.

في تفسير علىّ بن إبراهيم : قوم من اليهود دخلوا في الإسلام، فسمّاهم اللَّه مقتصدة.

وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ : وفيه معنى التّعجّب، أي: ما أسوأ عملهم. وهم الّذين أقاموا على الجحود والكفر.

 [و في تفسير العيّاشي : عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: تفرّقت أمّة موسى على إحدى وسبعين ملّة، سبعون منها في النّار وواحدة في الجنّة. وتفرّقت أمّة عيسى على اثنتين  وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النّار وواحدة في الجنّة. وتعلو أمّتي على الفرقتين جميعا بملّة، واحدة في الجنّة وثنتان وسبعون في النّار.

قالوا: من هم يا رسول اللّه؟قال: الجماعات. [الجماعات‏] .

قال يعقوب بن يزيد : كان عليّ بن أبي طالب إذا حدّث هذا الحديث عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- تلا فيه قرآنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إلى قوله: ساءَ ما يَعْمَلُونَ. وتلا- أيضا-: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ، يعني: أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

و في شرح الآيات الباهرة : روى [الشّيخ الصّدوق‏]  محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن أحمد، عن سلمة بن الخطّاب، عن عليّ بن يوسف ، عن العبّاس بن عامر، عن أحمد بن زريق الغمشاني ، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ولايتنا ولاية اللّه- عزّ وجلّ- لم يبعث اللّه نبيّا إلّا بها.

و روى- أيضا- عن أحمد بن محمّد  عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضل، عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: ولاية عليّ- عليه السّلام- مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الأنبياء إلّا بنبوّة محمّد ووصيّه عليّ- صلوات اللّه عليهما- وقوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بإرسال السّماء عليهم مدرارا وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بإعطاء الأرض خيراتها وبركاتها. ومثله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً] .

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، يعني: في عليّ- عليه السّلام- فعنهم- عليهم السّلام- كذا نزلت.

وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، أي: إن تركت تبليغ ما انزل إليك في‏ولاية عليّ- عليه السّلام- وكتمته، كنت كأنّك لم تبلّغ شيئا من رسالات ربّك في استحقاق العقوبة.

و قرئ: «رسالته» على التّوحيد .

وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: يمنعك من أن ينالوك بسوء.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ :

في الجوامع : عن ابن عبّاس وجابر بن عبد اللّه: أنّ اللّه أمر نبيّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن ينصّب عليّا- عليه السّلام- للنّاس ويخبرهم بولايته، فتخوّف- عليه السّلام- أن يقولوا: حابى ابن عمّه. وأن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فنزلت هذه الآية. فأخذه بيده يوم غدير خمّ وقال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه.

 [و العياشي، عنهما، ما في معناه ] .

 

و رواه في المجمع ، عن الثعلبيّ والحسكانيّ وغيرهما من العامّة.

و في أصول الكافي : [محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، ومحمّد بن الحسين جميعا، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- وذكر حديثا طويلا، وفيه يقول- عليه السّلام-:]  ثمّ نزلت الولاية، وإنّما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل اللّه- تعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. وكان كمال الدّين بولاية عليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليه-.

فقال عند ذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أمّتي حديثو عهد بالجاهليّة، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمّي يقول قائل ويقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني، فأتتني عزيمة من اللّه بتلة أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذّبني، فنزلت:يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (الآية).

فأخذ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بيد عليّ فقال: يا أيّها النّاس، إنّه لم يكن نبيّ من الأنبياء ممّن كان قبلي إلّا وقد عمّره اللّه، ثمّ دعاه فأجابه. فأوشك أن أدعى، فأجيب. وأنا مسؤول، وأنتم مسؤولون. فما ذا أنتم قائلون؟

فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وأدّيت ما عليك، فجزاك اللّه أفضل جزاء المرسلين.

فقال: اللّهمّ اشهد- ثلاث مرّات- ثمّ قال: يا معشر المسلمين، هذا وليّكم من بعدي، فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: كان واللّه عليّ أمين اللّه على خلقه، وغيبه، ودينه الّذي ارتضاه لنفسه.

 [عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعا، عن أبي جعفر- عليه السّلام-]  قال: أمر اللّه- عزّ وجلّ- رسوله  بولاية عليّ- عليه السّلام- وأنزل عليه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (الآية) وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي. فأمر اللّه محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- أن يفسّر لهم الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ. فلمّا أتاه ذلك من اللّه، ضاق بذلك صدر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وتخوّف أن يرتدّوا عن دينهم، وأن يكذّبوه. فضاق صدره وراجع ربّه- عزّ وجلّ- فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (الآية) فصدع بأمر اللّه- تعالى ذكره- فقام بولاية عليّ- عليه السّلام- يوم غدير خمّ فنادى الصّلاة جامعة. وأمر النّاس أن يبلّغ الشّاهد الغائب.

قال- عليه السّلام-: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكان الولاية آخر الفرائض. فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏

 . قال: يقول اللّه- عزّ وجلّ-: لا أنزل عليكم بعدها فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.

 [محمّد بن الحسين وغيره، عن سهل ، عن محمّد بن عيسى ومحمّد بن يحيى ومحمّد بن الحسين جميعا عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، وعبد الكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: فلمّا رجع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من حجّة الوداع نزل عليه جبرئيل- عليه السّلام- فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فنادى النّاس، فاجتمعوا. وأمر بسمرات فقمّ شوكهنّ. ثمّ قال- صلّى اللّه عليه وآله-: يا أيّها النّاس، من وليّكم وأولى النّاس بكم من أنفسكم؟

فقالوا: اللّه ورسوله.

فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه- ثلاث مرّات- فوقعت حسكة النّفاق في قلوب القوم وقالوا: وما أنزل اللّه- جلّ ذكره- هذا على محمّد قطّ، وما يريد إلّا أن يرفع بضبع ابن عمّه.] .

و في كتاب الاحتجاج  [للطّبرسيّ- رحمه اللّه- بإسناده إلى محمّد بن عليّ الباقر-]  عليه السّلام- أنّه قال: حجّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من المدينة، وقد بلّغ جميع الشّرائع قومه غير الحجّ والولاية. فأتاه جبرئيل- عليه السّلام- فقال له: يا محمّد، إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقرئك السّلام ويقول لك: إنّي لم أقبض نبيّا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي، إلّا بعد إكمال ديني وتأكيد حجّتي، وقد بقي عليك من ذلك فريضتان ممّا يحتاج أن تبلّغهما قومك: فريضة الحجّ وفريضة الولاية والخلافة من بعدك. فإنّي لم أخل أرضي من حجّة ولن أخليها أبدا. فإنّ اللّه يأمرك أن تبلّغ قومك الحجّ، تحجّ ويحجّ معك‏كلّ  من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب، وتعلّمهم من معالم حجتهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك على مثال الّذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشّرائع.

فنادى منادي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في النّاس: ألا إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يريد الحجّ، وأن يعلّمكم من ذلك مثل الّذي علّمكم من شرائع دينكم، ويوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره. فخرج [رسول اللّه‏] - صلّى اللّه عليه وآله- وخرج معه النّاس، وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله، فحجّ بهم. وبلغ من حجّ مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب، سبعين ألف إنسان أو يزيدون، على نحو عدد أصحاب موسى- عليه السّلام- السّبعين ألف الّذين أخذ عليهم بيعة هارون- عليه السّلام- فنكثوا واتّبعوا العجل والسّامريّ. وكذلك [أخذ]  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- البيعة  لعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- بالخلافة على عدد أصحاب موسى- عليه السّلام- فنكثوا البيعة واتّبعوا العجل [السّامريّ‏]  سنّة بسنّة، ومثلا بمثل. واتّصلت التّلبية ما بين مكّة والمدينة.

فلمّا وقف بالموقف أتاه جبرئيل- عليه السّلام- عن اللّه- تعالى- فقال:

يا محمّد إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقرئك السّلام، ويقول لك: إنّه قد دنا أجلك ومدّتك وأنا مستقدمك على ما لا بدّ منه ولا عنه محيص. فاعهد عهدك، وقدّم وصيّتك، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسّلاح والتّابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء- عليهم السّلام- فسلّمها  إلى وصيّك وخليفتك من بعدك حجّتي البالغة على خلقي عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-. فأقمه للنّاس علما. وجدّد عهده وميثاقه وبيعته. وذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الّذي واثقتهم به وعهدي الّذي‏عهدت إليهم من ولاية وليّي ومولاهم ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-. فإنّي لم أقبض نبيّا من الأنبياء، إلّا من بعد إكمال ديني  وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي. وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي، باتّباع وليّي وطاعته. وذلك أنّي لا أترك أرضي بغير [وليّ ولا]  قيّم، ليكون حجّة لي على خلقي. ف الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (الآية)  بولاية وليّي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. عليّ عبدي، ووصي نّبييّ، والخليفة من بعده، وحجّتي البالغة على خلقي مقرون طاعته بطاعة محمّد نبيّي ومقرون طاعته مع طاعة محمّد بطاعتي. من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني. جعلته علما بيني وبين خلقي، من عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن أشرك ببيعته كان مشركا، ومن لقيني بولايته دخل الجنّة، ومن لقيني بعداوته دخل النّار. فأقم يا محمّد عليّا علما، وخذ عليهم البيعة، وجدد عليهم  عهدي وميثاقي لهم الّذي واثقتهم عليه. فإنّي قابضك إليّ ومستقدمك عليّ.

فخشي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قومه وأهل النّفاق والشّقاق، أن يتفرّقوا ويرجعوا جاهليّة  لما عرف من عداوتهم ولما تنطوي عليه أنفسهم لعليّ- عليه السّلام- من العداوة والبغضاء . وسأل جبرئيل- عليه السّلام- أن يسأل ربّه العصمة من النّاس، وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من النّاس عن اللّه- جلّ اسمه- فأخّر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف. فأتاه جبرئيل- عليه السّلام- في مسجد الخيف. فأمره أن يعهد عهده، ويقيم عليّا [علما]  للنّاس [يهتدون به.]  ولم يأته بالعصمة من اللّه- جلّ جلاله- بالذي أراد، حتّى بلغ  كراع الغميم بين مكّة والمدينة. فأتاه جبرئيل- عليه‏السلام- وأمره بالّذي أتاه به من قبل اللّه ، ولم يأته بالعصمة.

فقال: يا جبرئيل، إنّي أخشى قومي أن يكذّبوني، ولا يقبلوا قولي في علي .

فرحل، فلمّا بلغ غدير خمّ قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبريل- عليه السّلام- على خمس ساعات مضت من النّهار بالزّجر والانتهار  والعصمة من الناس.

فقال: يا محمّد، إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقرئك السّلام، ويقول لك: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

و كان أوائلهم قريب  من الجحفة. فأمر  بأن يردّ من تقدّم منهم، ويحبس  من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ليقيم عليا للنّاس ، ويبلّغهم ما أنزل اللّه- تعالى- في عليّ- عليه السّلام- وأخبره بأنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد عصمه من النّاس.

فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عند ما جاءته العصمة مناديا ينادي في النّاس بالصّلاة جامعة، ويرد من تقدّم منهم، ويحبس من تأخّر. فتنحّى عن يمين الطّريق إلى جنب مسجد الغدير، أمره بذلك جبرئيل- عليه السّلام- عن اللّه- عزّ وجلّ- و[كان‏] في الموضع سلمات، فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن يقمّ ما تحتهنّ وينصب له أحجار كهيئة المنبر ليشرف على النّاس. فتراجع النّاس، واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون.

فقام رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فوق تلك الأحجار. ثمّ حمد اللّه- تعالى- وأثنى عليه. فقال: الحمد للّه الّذي علا في توحّده، ودنا في تفرّده، وجلّ في سلطانه،و يحيي، ويفقر ويغني، ويضحك ويبكي [و يدني ويقصي‏]  ويمنع ويؤتي. له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كلّ شي‏ء قدير. يولج اللّيل في النّهار، ويولج النّهار في اللّيل. لا إله إلّا هو العزيز الغفّار. مجيب الدّعاء ، ومجزل العطاء. محصي الأنفاس، وربّ الجنّة والنّاس. لا يشتكل عليه شي‏ء، ولا يضجره صراخ المستصرخين، ولا يبرمه إلحاح الملحّين. العاصم للصّالحين، والموفّق للمفلحين، ومولى العالمين. الّذي استحقّ من كلّ [من‏]  خلق أن يشكره ويحمده.

 [أحمده‏]  على السّرّاء والضّرّاء والشّدّة والرّخاء. وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله. أسمع أمره. وأطيع وأبادر إلى كلّ ما يرضاه، وأستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته لأنّه اللّه الّذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره. [و]  أقرّ له على نفسي بالعبوديّة، وأشهد له بالرّبوبيّة. وأؤدّي ما أوحي إليّ، حذرا من أن أفعل فتحلّ بي منه قارعة، لا يدفعها عنّي أحد وإن عظمت حيلته. لا إله إلّا هو، لأنّه قد أعلمني أنّي إن لم أبلّغ ما أنزل إليّ فما بلّغت رسالته. وقد ضمن لي- تبارك وتعالى- العصمة. وهو [اللّه‏]  الكافي الكريم. فأوحى إليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في علي  وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

معاشر النّاس، ما قصّرت في تبليغ ما أنزل اللّه- تعالى- إلي . وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: إنّ جبرئيل- عليه السّلام- هبط إليّ مرارا ثلاثا يأمرني عن السّلام ربّي وهو السّلام، أن أقوم في هذا المشهد، فأعلم كلّ أبيض وأسود، أنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي والإمام من بعدي، الّذي محلّه منّي محلّ هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، وهو وليّكم بعد اللّه ورسوله. وقد أنزل اللّه- تبارك وتعالى-و عظم في أركانه، وأحاط بكلّ شي‏ء علما وهو في مكانه، وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، مجيدا لم يزل محمودا، لا يزال بارئ المسموكات، وداحي المدحوّات، وجبّار الأرضين والسّموات. سبّوح قدّوس  ربّ الملائكة والرّوح. متفضّل على جميع من برأه، متطوّل على من أنشأه.  يلحظ كلّ عين، والعيون لا تراه. كريم حليم ذو أناة. قد وسع كلّ شي‏ء برحمته ، ومنّ عليهم بنعمته. لا يعجل بانتقامه، ولا يبادر إليهم بما استحقّوا من عذابه. قد فهم السّرائر، وعلم الضّمائر، ولم تخف عليه المكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيّات. له الإحاطة بكلّ شي‏ء، والغلبة على كلّ شي‏ء، والقوّة في كلّ شي‏ء، والقدرة على كلّ شي‏ء. ليس مثله شي‏ء، وهو منشئ الشي‏ء حين لا شي‏ء. دائم قائم بالقسط، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. جلّ عن أن تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللّطيف الخبير. لا يلحق أحد وصفه من معاينة، ولا يجد أحد كيف هو من سرّ وعلانية إلّا بما دلّ- عزّ وجلّ- على نفسه.

و أشهد أنّه اللّه الّذي ملأ الدّهر قدسه، والّذي يغشى الأبد نوره، والّذي ينفذ أمره بلا مشاورة مشير ولا معه شريك في تقدير ولا تفاوت في تدبير. صوّر ما أبدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلّف ولا احتيال. أنشأها فكانت، وبرأها فبانت. فهو اللّه الّذي لا إله إلّا هو، المتقن الصّنعة، الحسن الصّنيعة، العدل الّذي لا يجور، والأكرم الّذي ترجع إليه الأمور.

و أشهد أنّه الّذي تواضع كلّ شي‏ء لقدرته، وخضع كلّ شي‏ء لهيبته. مالك الأملاك ، ومفلك الأفلاك، ومسخّر الشّمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمّى. يكوّر اللّيل على النّهار ويكوّر النّهار على اللّيل، يطلبه حثيثا. قاصم كلّ جبّار عنيد، ومهلك كلّ شيطان مريد. لم يكن معه ضدّ ولا ندّ. أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. إله واحد، وربّ ماجد. يشاء فيمضي، ويريد فيقضي، ويعلم فيحصي، ويميت‏عليّ بذلك آية من كتابه : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وعليّ بن أبي طالب أقام الصّلاة وآتى الزّكاة وهو راكع، يريد اللّه- عزّ وجلّ- في كلّ حال.

و سألت جبرئيل- عليه السّلام- أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم- أيّها النّاس- لعلمي بقلّة المتّقين، وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وختل المستهزئين بالإسلام. الّذين وصفهم اللَّه في كتابه، بأنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هيّنا وهو عند اللّه عظيم. وكثرة أذاهم لي في غير مرّة حتّى سمّوني: أذنا.

و زعموا أنّي كذلك لكثرة ملازمته إيّاي وإقبالي عليه، حتّى أنزل اللّه- عزّ وجلّ- في ذلك قرآنا : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ على الّذين يزعمون أنّه أذن خَيْرٌ لَكُمْ. (الآية) ولو شئت أن أسمّي بأسمائهم لسمّيت، وأن أومئ إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدلّ عليهم لدللت. ولكنّي- واللّه- في أمورهم قد تكرّمت. وكلّ ذلك لا يرضى اللّه منّي إلّا أن أبلغ ما أنزل إليّ. ثمّ تلا- عليه السّلام-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- في علي- وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

فاعلموا معاشر النّاس، أنّ اللّه قد نصّبه لكم وليّا وإماما. مفترضا طاعته، على المهاجرين والأنصار، وعلى التّابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجميّ والعربيّ والحر والمملوك والصّغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كلّ موحّد ماض حكمه جائز قوله نافذ أمره. ملعون من خالفه، مرحوم من تبعه. ومن صدّقه  فقد غفر اللّه له ولمن سمع منه وأطاع له.

معاشر النّاس، إنّه آخر مقام أقومه في هذا المشهد. فاسمعوا وأطيعوا، وانقادوا لأمر ربّكم. فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- هو ربّكم ووليّكم  وإلهكم، ثمّ من دونه محمّد

وليكم  القائم المخاطب لكم، ثمّ من بعدي عليّ وليّكم وإمامكم بأمر اللّه  ربّكم، ثم الإمامة في ذريّتي من ولده إلى يوم [القيامة، يوم‏]  تلقون اللّه ورسوله. لا حلال إلّا ما أحلّه اللّه، ولا حرام إلّا ما حرّمه اللّه. عرّفني الحلال والحرام، وأنا أمضيت بما علّمني ربّي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.

معاشر النّاس، ما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه فيّ، وكلّ علم علمته  فقد أحصيته في علي  إمام المتّقين. ما من علم، إلّا [و قد]  علّمته عليّا. وهو الإمام المبين.

معاشر النّاس، لا تضلّوا عنه، ولا تنفروا منه، ولا تستنكفوا  من ولايته. فهو الّذي يهدي إلى الحقّ ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، ولا تأخذه في اللّه لومة لائم. ثمّ أنّه أوّل من آمن باللّه ورسوله، و[هو]  الذي فدى رسول اللّه  بنفسه، و[هو]  الّذي كان مع رسول اللّه ولا أحد يعبد اللّه مع رسوله من الرّجال غيره.

معاشر النّاس، فضّلوه فقد فضّله اللّه، واقبلوه فقد نصّبه اللّه.

معاشر النّاس، إنّه إمام من اللّه. ولن يتوب اللّه على أحد أنكر ولايته، ولن يغفر اللّه له حتما، على اللّه أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه، وأن يعذبه عذابا نكرا  أبد الآباد ودهر الدّهور «فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة اعدّت للكافرين».

 

أيّها النّاس، بي- واللّه- بشّر الأوّلون من النّبيّين والمرسلين. وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجّة على جميع المخلوقين من أهل السّماوات والأرضين. فمن شكّ في ذلك فهو كافر، كفر الجاهليّة الأولى. ومن شكّ في شي‏ء من قولي هذا فقد شك في الكلّ منه،و الشّاكّ في الكلّ  فله النّار.

 [معاشر النّاس، حباني اللّه بهذه الفضيلة منّا منه عليّ، وإحسانا منه إليّ. ولا إله إلّا هو له الحمد منّي أبد الآبدين ودهر الدّاهرين على كلّ حال.] .

معاشر النّاس، فضّلوا عليّا، فإنّه أفضل النّاس بعدي من ذكر وأنثى، بنا أنزل اللّه الرّزق وبقي الخلق، ملعون ملعون، مغضوب مغضوب من ردّ قولي هذا ولم يوافقه. ألا إنّ جبرئيل خبّرني عن اللّه- تعالى- بذلك ويقول: من عادى عليّا ولم يتولّه، فعليه لعنتي وغضبي وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ  واتّقوا اللّه أن تخالفوه، فتزلّ قدم بعد ثبوتها، إنّ اللّه خبير بما تعلمون.

معاشر النّاس، إنّه جنب اللّه الّذي نزل  في كتابه [فقال تعالى : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ‏]  يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ..

معاشر النّاس، تدبّروا القرآن، وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهه. فو اللّه لن يبيّن  لكم زواجره ولا يوضّح لكم تفسيره، إلّا الّذي أنا آخذ بيده ومصعده إليّ وشائل بعضده ومعلمكم: ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. وهو عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي. وموالاته من اللّه- عزّ وجلّ- أنزلها عليّ.

معاشر النّاس، إنّ عليّا والطّيّبين من ولدي هم الثّقل الأصغر، والقرآن هو الثّقل الأكبر: فكلّ واحد منبئ عن صاحبه وموافق له. لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. هم أمناء اللّه في خلقه، وحكّامه  في أرضه. [ألا وقد أدّيت، ألا وقد بلّغت،]  ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- قال وأنا قلت عن اللّه- عزّ وجلّ- ألا إنّه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره. ثمّ ضرب‏بيده إلى عضده، فرفعه. وكان منذ أوّل ما صعد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- مثال عليّا حتّى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

ثمّ قال: معاشر النّاس، هذا عليّ أخي ووصيّي وواعي علمي، وخليفتي على أمّتي وعلى تفسير كتاب اللّه- عزّ وجلّ- والدّاعي إليه، والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي على طاعته، والنّاهي عن معصيته. خليفة رسول اللّه، وأمير المؤمنين، والإمام الهادي، وقاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين بأمر اللّه. أقول: ما يبدّل القول لديّ [بأمر اللّه  ربّي. أقول: اللّهمّ، وال من والاه، وعاد من عاداه، والعن من أنكره، واغضب‏]  على من جحد حقّه. اللّهمّ، إنّك أنزلت عليّ أنّ الإمامة [بعدي‏]  لعليّ وليّك، عند تبياني ذلك ونصبي إيّاه، بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم نعمتك  ورضيت لهم الإسلام دينا، فقلت : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. اللّهمّ إنّي أشهدك [و كفى بك شهيدا]  أنّي قد بلّغت.

معاشر النّاس، إنّما أكمل اللّه- عزّ وجلّ-  دينكم بإمامته. فمن لم يأتمّ به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على اللّه- عزّ وجلّ- فأولئك الّذين حبطت أعمالهم وفي النّار هم [فيها]  خالدون لا يخفّف اللّه  عنهم العذاب ولا هم ينظرون.

معاشر النّاس، هذا عليّ أنصركم لي، وأحقّكم بي، وأقربكم إليّ، وأعزّكم عليّ. واللّه- عزّ وجلّ- وأنا عنه راضيان. وما نزلت آية رضى إلّا فيه، وما خاطب اللّه الّذين آمنوا إلّا بدأ به، ولا نزلت آية مدح في القرآن إلّا فيه. ولا شهد اللّه  بالجنّة في‏هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ.  إلّا له، ولا أنزلها في سواه [، ولا مدح بها غيره.

معاشر النّاس، هو ناصر دين اللّه، والمجادل عن رسول اللّه، وهو التّقي النّقي الهادي المهديّ‏]  نبيّكم خير نبيّ، ووصيّكم خير وصيّ، وبنوه خير الأوصياء.

معاشر النّاس، ذرّيّة كلّ نبيّ من صلبه، وذرّيّتي من صلب عليّ.

معاشر النّاس، إنّ إبليس أخرج آدم من الجنّة بالحسد، فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزلّ أقدامكم. فإنّ آدم- عليه السّلام- أهبط إلى الأرض بخطيئة واحدة وهو صفوة اللّه- عزّ وجلّ- فكيف بكم وأنتم أنتم؟ ومنكم أعداء اللّه. ألا إنّه لا يبعض عليّا إلّا شقي، ولا يتولّى عليّا إلّا نقيّ، ولا يؤمن به إلّا مؤمن مخلص. وفي عليّ- واللّه- أنزلت سورة العصر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالْعَصْرِ إلى آخره.

معاشر النّاس، قد استشهدت اللّه وبلّغتكم رسالتي وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ..

معاشر النّاس، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ..

معاشر النّاس، «آمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزل معه ». «من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها ».

معاشر النّاس، النّور من اللّه- عزّ وجلّ- فيّ، ثمّ مسلوك  في عليّ- عليه السّلام- ثمّ في النّسل منه إلى القائم المهديّ، الّذي يأخذ بحقّ اللّه وبكلّ حقّ هو لنا. لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد جعلنا حجّة على المقصّرين والمعاندين والمخالفين والخائنين والآثمين والظّالمين من جميع العالمين.

معاشر النّاس، إنّي أنذركم «أنّي رسول اللّه إليكم قد خلت من قبلي الرّسل أ فإن متّ أو قتلت انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاو سيجزي اللّه الشّاكرين .» ألا وإنّ عليّا [هو]  الموصوف بالصّبر والشّكر، ثمّ من بعده ولدي من صلبه.

معاشر النّاس، «لا تمنّوا على اللّه تعالى إسلامكم » فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده «إنّه لبالمرصاد ».

معاشر النّاس، [، إنّه‏] سيكون من بعدي أئمّة يدعون إلى النّار، ويوم القيامة لا ينصرون.

معاشر النّاس، إنّ اللّه وأنا بريئان منهم.

معاشر النّاس، إنّهم وأشياعهم وأتباعهم وأنصارهم في الدّرك الأسفل من النّار، ولبئس مثوى المتكبّرين. ألا إنّهم أصحاب الصّحيفة، فلينظر أحدكم في صحيفته.

قال: فذهب على النّاس- إلّا شر ذمة منهم- أمر الصّحيفة.

معاشر النّاس، إنّي أدعها إمامة ووراثة في عقبي إلى يوم القيامة. وقد بلّغت ما أمرت بتبليغه حجّة على كلّ حاضر وغائب، وعلى كلّ أحد، وممّن شهد أو لم يشهد، ولد أو لم يولد. فليبلّغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة. وسيجعلونها ملكا واغتصابا. ألا لعن اللّه الغاصبين والمغتصبين. وعندها سنفرغ لكم أيّها الثّقلان فيرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.

معاشر النّاس، «إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لم يكن يذركم على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطّيّب وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب .».

معاشر النّاس، «إنّه ما من قرية إلّا واللّه مهلكها بتكذيبها » «و كذلك يهلك القرى وهي ظالمة»  كما ذكر اللّه- تعالى- وهذا إمامكم ووليّكم. وهو مواعيد اللّه.و اللّه يصدق ما وعده.

معاشر النّاس، قد ضلّ قبلكم أكثر الأوّلين. واللّه لقد أهلك الأوّلين، وهو مهلك الآخرين [. قال اللّه تعالى : أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.] .

معاشر النّاس، إنّ اللّه قد أمرني ونهاني، وقد أمرت عليّا ونهيته فعلم الأمر والنّهي من ربّه- عزّ وجلّ- فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا لنهيه ترشدوا، وصيروا إلى مراده ولا تتفرّق بكم السّبل عن سبيله.

 [معاشر النّاس،]  أنا صراط اللّه المستقيم الّذي أمركم باتّباعه، ثمّ عليّ من بعدي، ثمّ ولدي من صلبه. أئمّة يهدون بالحقّ  وبه يعدلون. ثمّ قرأ- صلّى اللّه عليه وآله وسلم- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخرها. وقال: فيّ نزلت، وفيهم نزلت، ولهم عمّت، وإيّاهم خصّت، أولئك «أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .» ألا إن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ . ألا إنّ أعداء عليّ هم أهل الشّقاق [و النّفاق والحادون، وهم‏]  العادون وإخوان الشّياطين الّذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .

ألا إنّ أولياءهم المؤمنون، الّذين ذكرهم اللّه في كتابه فقال- عزّ وجلّ- : لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (إلى آخر الآية.) ألا إنّ أولياءهم الّذين وصفهم اللّه- عزّ وجلّ- فقال : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. ألا إنّ [الّذين وصفهم اللّه- عزّ وجلّ- فقال :]  الّذين يدخلون‏الجنّة آمنين «و تتلقّاهم الملائكة بالتّسليم أن طبتم فادخلوها خالدين » ألا إنّ أولياءهم الّذين قال [لهم‏] - عزّ وجلّ- : يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [يُرْزَقُونَ فِيها]  بِغَيْرِ حِسابٍ ألا إنّ أعداءهم الّذين يصلون سعيرا . ألا إنّ أعداءهم الّذين يسمعون «لجهنم شهيقا وهي تفور » «و لها زفير»  [ألا إن أعداءهم الذين قال الله فيهم :]  كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها (الآية) ألا إنّ أعداءهم الّذين قال اللّه- عزّ وجلّ- . كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ  (الآية) إنّ أولياءهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ..

معاشر النّاس شتّان ما بين السّعير والجنّة. عدوّنا من ذمّه اللّه ولعنه، ووليّنا من أحبّه اللّه ومدحه.

معاشر النّاس، ألا «و إنّي منذر، وعليّ هاد ».

معاشر النّاس، إنّي نبيّ وعليّ وصيّي. ألا أنّ خاتم الأئمّة منّا القائم المهديّ [صلوات اللّه عليه.]  ألا إنّه الظّاهر على الدّين. ألا إنّه المنتقم من الظّالمين. ألا إنّه فاتح الحصون وهادمها. ألا إنّه قاتل كلّ قبيلة من أهل الشّرك. ألا أنّه مدرك بكلّ ثأر لأولياء اللّه- عزّ وجلّ-. ألا إنّه ناصر دين اللّه- عزّ وجلّ- . ألا إنّه الغرّاف في بحر عميق.

ألا إنّه يسم كلّ ذي فضل بفضله، وكلّ ذي جهل بجهله. ألا إنّه خيرة اللّه ومختاره. ألاإنّه وارث كلّ علم، والمحيط به. ألا إنّه المخبر عن ربّه- عزّ وجلّ- المنبّه بأمر إيمانه. ألا إنّه الرّشيد السّديد. ألا إنّه المفوّض إليه. ألا إنّه قد بشّر به من سلف بين يديه. ألا إنّه الباقي حجّة ولا حجّة بعده، ولا حقّ إلّا معه، ولا نور إلّا عنده. ألا إنّه لا غالب له، ولا منصور عليه. ألا إنّه وليّ اللّه في أرضه، وحكمه في خلقه، وأمينه في سرّه وعلانيته.

معاشر النّاس، قد بيّنت لكم وأفهمتكم، وهذا عليّ يفهمكم بعدي. ألا وإنّي عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافحتي على بيعته والإقرار به، ثمّ مصافحته من بعدي. ألا وإنّي قد بايعت اللّه، وعليّ قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن اللّه- عزّ وجلّ- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ  (الآية).

معاشر النّاس إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ  مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ  (الآية).

معاشر النّاس، حجوا البيت، فما ورده أهل بيت  إلّا استغنوا، ولا تخلّفوا عنه إلّا افتقروا.

معاشر النّاس، ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر اللّه له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك، فإذا انقضت حجّته استؤنف عمله.

معاشر النّاس، الحجّاج معانون ونفقاتهم مختلفة، واللّه لا يضيع أجر المحسنين.

معاشر النّاس، حجّوا البيت بكمال الدّين والتّفقّه، ولا تنصرفوا عن المشاهد إلّا بتوبة وإقلاع.

معاشر النّاس، أقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة كما أمركم اللّه- عزّ وجلّ- لئن طال عليكم الأمد فقصّرتم أو نسيتم، فعليّ وليّكم ومبيّن لكم. الّذي نصّبه اللّه- عزّ وجلّ- بعدي، ومن خلّفه اللّه منّي وأنا منه، يخبركم بما تسألون منه ويبيّن لكم ما لا تعلمون. ألا إنّ الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما أو أعرّفهما، فآمر بالحلال وأنهى‏عن الحرام في مقام واحد. فأمرت أن آخذ البيعة منكم  والصّفقة لكم بقبول ما جئت به عن اللّه- عزّ وجلّ- في علي أمير المؤمنين والأئمّة من بعده، الّذين هم منّي. ومنه أئمّة قائمة منهم المهديّ إلى يوم القيامة، الّذي يقضي بالحقّ.

معاشر النّاس، وكلّ حلال دللتكم عليه وكلّ  حرام نهيتكم عنه، فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدّل. ألا فاذكروا ذلك، واحفظوه، وتواصوا به، ولا تبدّلوه ولا تغيّروه. ألا وإنّي أجدّد القول، ألا فأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألا وإنّ رأس الأمر بالمعروف [و النّهي عن المنكر،]  أن تنتهوا إلى قولي وتبلّغوه من لم يحضره وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته، فإنّه أمر من اللّه- عزّ وجلّ- ومنّي. ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر. إلّا مع إمام معصوم.

معاشر النّاس، القرآن يعرّفكم أنّ الأئمّة من بعده ولده، وعرّفتكم أنّهم  منّي ومنه. حيث يقول اللّه- عزّ وجلّ- [في كتابه :]  وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ.

 

و قلت: لن تضلّوا ما إن تمسكتم بهما.

معاشر النّاس، التّقوى. التّقوى. احذروا السّاعة كما قال اللّه- تعالى- :

إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ. اذكروا الممات والحساب، والموازين والمحاسبة بين يدي ربّ العالمين، والثّواب والعقاب. فمن جاء بالحسنة أثيب، ومن جاء بالسّيّئة فليس له في الجنان نصيب.

معاشر النّاس، إنّكم أكثر من أن تصافقوني بكفّ واحدة، وقد أمرني اللّه- عزّ وجلّ- أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعليّ من إمرة المؤمنين ومن جاء بعده من الأئمّة منّي ومنه، على ما أعلمتكم أنّ ذرّيّتي من صلبه. فقولوا بأجمعكم: إنّا سامعون مطيعون، راضون منقادون لما  بلّغت عن ربّنا وربّك في أمر عليّ- صلوات اللّه عليه-و أمر ولده من صلبه من الأئمّة، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا، على ذلك نحيى ونموت ونبعث، ولا نغيّر ولا نبدّل ولا نشكّ ولا نرتاب، ولا نرجع عن عهد، ولا ننقض الميثاق، ونطيع اللّه ونطيعك وعليا أمير المؤمنين وولده الأئمّة الّذين ذكرتهم من ذرّيّتك من صلبه بعد الحسن والحسين، اللّذين قد عرّفتكم مكانهما منّي ومحلّهما عندي ومنزلتهما من ربّي- عزّ وجلّ- فقد أدّيت ذلك إليكم، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، وأنّهما الإمامان بعد أبيهما عليّ، وأنا أبوهما قبله. وقولوا: أطعنا اللّه بذلك وإيّاك وعليّا والحسن والحسين والأئمّة الّذين ذكرت عهدا وميثاقا، مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما بيده وأقرّ بهما بلسانه ولا نبتغي بذلك بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا. أشهدنا اللّه وكفى باللّه شهيدا، وأنت علينا به شهيد، وكلّ من أطاع ممّن ظهر واستتر، وملائكة اللّه وجنوده وعبيده، واللّه أكبر من كلّ شهيد.

معاشر النّاس، ما تقولون؟ فإنّ اللّه يعلم كلّ صوت، وخافية كلّ نفس فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها  «و من بايع فإنّما يبايع اللّه- عزّ وجلّ- يد اللّه فوق أيديهم .».

معاشر النّاس، فاتّقوا اللّه وبايعوا عليّا أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمّة، كلمة [طيّبة]  باقية. يهلك اللّه من غدر، ويرحم اللّه من وفي فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.  (الآية).

معاشر النّاس، قولوا الّذي قلت لكم، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين وقولوا:

سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ  وقولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ. .

 [معاشر النّاس، إنّ فضائل عليّ بن أبي طالب عند اللّه- عزّ وجلّ- وقد أنزلها

في القرآن أكثر من أن أحصيها في مكان واحد، فمن أبناكم بها وعرّفها فصدّقوه.] .

معاشر النّاس، «من يطع اللّه ورسوله وعليّا والأئمّة الّذين ذكرتهم فقد فاز فوزا عظيما » .

معاشر النّاس، السّابقون  إلى مبايعته وموالاته والتّسليم عليه بإمرة المؤمنين «أولئك هم الفائزون في جنّات النّعيم ».

معاشر النّاس، قولوا ما يرضى اللّه به عنكم من القول «فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضرّوا اللّه شيئا.»  اللّهمّ اغفر للمؤمنين [و المؤمنات‏]  واغضب على الكافرين [و الكافرات‏]  والحمد للّه ربّ العالمين.

فناداه القوم: نعم ، سمعنا وأطعنا على أمر اللّه وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا. وتداكّوا على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعلى عليّ فصافقوا بأيديهم. فكان أوّل من صافق رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الأوّل والثّاني والثّالث والرّابع والخامس، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي النّاس على طبقاتهم وقدر منازلهم إلى أن صلّيت المغرب  والعتمة في وقت واحد. وواصلوا  البيعة والمصافقة ثلاثا، ورسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول كلّما بايع قوم: الحمد اللّه الّذي فضّلنا على جميع العالمين. وصارت المصافقة سنّة ورسما. وربّما يستعملها من ليس له حقّ فيها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: نزلت هذه الآية في منصرف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من حجّة الوداع. وحجّ رسول اللّه حجّة الوداع لتمام عشر حجج من‏مقدمه المدينة. وكان من قوله [في خطبته‏]  بمنى، أن حمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، اسمعوا قولي واعقلوه عنّي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا.

ثمّ قال: هل تعلمون أيّ يوم أعظم حرمة؟

قال النّاس: هذا اليوم.

قال: فأيّ شهر؟

قال النّاس: هذا الشّهر .

قال: وأيّ بلد أعظم حرمة؟

قالوا: بلدنا هذا.

قال: فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا إلى يوم تلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلّغت أيّها النّاس؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ أشهد. ثمّ قال: ألا وكلّ مأثرة أو بدعة  كانت في الجاهليّة أو دم أو مال، فهو تحت قدمي هاتين. ليس أحدكم أكرم من أحد إلّا بالتّقوى. ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد. ثمّ قال: ألا وكلّ ربا كان في الجاهليّة فهو موضوع، وأوّل موضوع منه ربا العبّاس بن عبد المطلب. ألا وكلّ دم كان في الجاهليّة فهو موضوع، وأول موضوع منه دم ربيعة. ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد. ثمّ قال: ألا وإنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنّه راض بما تحتقرون من أعمالكم. ألا وإنّه إذا أطيع فقد عبد. ألا أيّها النّاس، إنّ المسلم أخ المسلم حقّا، ولا يحلّ لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلّا ما أعطاه بطيبة نفس منه. وإنّي أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه. فإذا قالوها فقدعصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها، وحسابهم على اللّه ألا هل بلّغت أيّها النّاس؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ أشهد. ثمّ قال: أيّها النّاس، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافقهوه  تنتعشوا. لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسّيف على الدّنيا، فإن أنتم  فعلتم ذلك- ولتفعلنّ- لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسّيف. ثمّ التفت عن يمينه وسكت ساعة. ثمّ قال: إن شاء اللّه، أو عليّ بن أبي طالب.

ثمّ قال: ألا وإنّي قد تركت فيكم أمرين. إن أخذتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي. فإنّه نبّأني اللّطيف الخبير، أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللّهمّ اشهد. ثمّ قال: ألا وإنّه سيرد عليّ الحوض منكم رجال فيعرفون  فيدفعون عنّي، فأقول: يا ربّ أصحابي. فيقال: يا محمّد، إنّهم قد أحدثوا بعدك وغيّروا سنّتك. فأقول: سحقا سحقا.

فلمّا كان آخر يوم من أيّام التّشريق، أنزل اللّه- تعالى-: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: نعيت إليّ نفسي. ثمّ نادى الصّلاة جامعة في مسجد الخيف، فاجتمع النّاس. فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: نصر اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من  لم يسمعها. فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للّه، والنّصيحة لأئمّة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإنّ دعوته محيطة من ورائهم. المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

أيّها النّاس، إنّي تارك فيكم الثّقلين.قالوا: يا رسول اللّه، وما الثّقلان؟

فقال: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي. فإنّه قد نبّأني اللّطيف الخبير، أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كاصبعيّ هاتين- وجمع بين سبّابتيه- ولا أقول: كهاتين- وجمع بين سبّابته والوسطى- فيتفضّل هذه على هذه.

فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمّد أن يجل الإمامة في أهل بيته. فخرج منهم أربعة نفر إلى مكّة، ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا، وكتبوا فيما بينهم كتابا:

إن أمات اللّه محمّدا أو قتله ، أن لا يردّوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا. فأنزل اللّه على نبيّه في ذلك : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. فخرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من مكّة يريد المدينة، حتّى نزل منزلا يقال له: غدير خمّ. وقد علّم النّاس مناسكهم وأو عز إليهم وصيّته، إذ أنزل اللّه عليه هذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية) فقام رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: تهديد ووعيد. فحمد اللّه  وأثنى عليه، ثمّ قال:

أيّها النّاس، هل تعلمون من وليّكم؟

قالوا: نعم واللّه ورسوله.

قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: بلى.

قال: اللّهمّ أشهد. فأعاد ذلك عليهم ثلاثا. كلّ ذلك يقول مثل قوله الأوّل، ويقول النّاس كذلك، ويقول: اللّهمّ اشهد.

ثمّ أخذ بيد أمير المؤمنين- عليه السّلام- فرفعه حتّى بدا للنّاس بياض إبطيه. ثمّ قال: ألا من كنت مولاه [فهذا عليّ مولاه.]  اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحبّ من أحبّه. ثمّ [رفع رأسه إلى السّماء]

 فقال: اللّهمّ أشهد عليهم، وأنا من الشاهدين.

فاستفهمه عمر من بين أصحابه ، فقال: يا رسول اللّه، هذا من اللّه أو  من رسوله؟

فقال رسول اللّه: نعم، من اللّه ومن رسوله. إنّه أمير المؤمنين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، يقعده اللّه يوم القيامة على الصّراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النّار.

فقال أصحابه الّذين ارتدّوا بعده: قد قال محمّد في مسجد الخيف ما قال وقال هاهنا ما قال. وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له. فاجتمع أربعة عشر نفرا وتآمروا على قتل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقعدوا له في العقبة- وهي عقبة حرشي  بين الجحفة والأبواء- فقعدوا، سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها، لينفّروا ناقة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فلما جنّ اللّيل تقدّم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في تلك اللّيلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته، فلمّا دنا من العقبة ناداه جبرئيل: يا محمّد، إنّ فلانا وفلانا وفلانا  قد قعدوا لك. فنظر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: من هذا خلفي؟

فقال حذيفة بن اليمان: أنا حذيفة بن اليمان، يا رسول اللّه.

قال: سمعت ما سمعت؟

قال: بلى.

قال: فاكتم. ثمّ دنا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- منهم فناداهم بأسمائهم، فلمّا سمعوا نداء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فرّوا ودخلوا في غمار النّاس، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها، ولحق النّاس برسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وطلبوهم، وانتهى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى رواحلهم‏فعرفهم . فلمّا نزل قال: ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة «إن أمات اللّه محمّدا  أو قتله  أن لا يردّوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا.».

فجاءوا إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فحلفوا، أنّهم لم يقولوا من ذلك شيئا ولم يريدوه ولم يهمّوا بشي‏ء في رسول اللّه . فأنزل اللّه : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا أن لا يردّوا هذا الأمر في أهل بيت رسول اللّه وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا  من قتل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. .

فرجع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى المدينة، وبقي فيها المحرّم  والنّصف من صفر لا يشتكي شيئا: ثمّ ابتدأ به الوجع الّذي توفّي فيه- صلّى اللّه عليه وآله-.

 [فحدثني أبي ، عن مسلم بن خالد، عن محمّد بن جابر، عن ابن مسعود قال:

 

قال لي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا رجع من حجّة الوداع: يا ابن مسعود، قد قرب الأجل ونعيت إليّ نفسي، فمن لذلك بعدي؟ فأقبلت أعدّ عليه رجلا رجلا، فبكى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثمّ قال: ثكلتك الثّواكل، فأين أنت [عن‏]  عليّ بن أبي طالب، لم [لا]  تقدمه على الخلق أجمعين؟ يا ابن مسعود، إنّه إذا كان يوم القيامة رفعت لهذه الأمّة أعلام، فأوّل الأعلام لوائي الأعظم مع عليّ ابن أبي طالب والنّاس جميعا تحت لوائي، ينادي مناد، هذا الفضل يا ابن أبي طالب.

حدّثني أبي  عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه‏

 - عليه السّلام- قال: لمّا أمر اللّه نبيّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن ينصّب أمير المؤمنين- عليه السّلام- للنّاس في قوله: «يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك في عليّ.»

بغدير خمّ، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثّوا التّراب على رؤوسهم.

فقال [لهم‏]  إبليس: ما لكم؟ فقالوا: إنّ هذا الرّجل [قد]  عقد اليوم عقدة لا يحلّها شي‏ء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا، إنّ الّذين حوله قد وعدوني فيه عدة لن يخلفوني. فأنزل اللّه على نبيّه : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ (الآية).

و في عيون الأخبار : حدّثنا الحاكم أبو عليّ الحسين بن أحمد البيهقيّ قال:

 

حدّثني محمّد بن يحيى الصّوليّ قال: حدّثني سهل بن القاسم النّوشجانيّ قال: قال رجل للرّضا- عليه السّلام-: يا ابن رسول اللّه، إنّه يروى عن عروة بن الزّبير أنّه قال: توفّي النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وهو في تقيّة.

فقال: أمّا بعد قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فإنّه أزال كلّ تقيّة بضمان اللّه- عزّ وجلّ- وبيّن أمر اللّه، ولكنّ قريش فعلت ما اشتهت بعده. وأمّا قبل نزول هذه الآية، فلعلّه.

و في تهذيب الأحكام ، في الدّعاء بعد صلاة الغدير، المسند إلى الصّادق- عليه السّلام-: ربّنا، إنّنا سمعنا بالنّداء ، وصدّقنا المنادي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [إذ]  نادى بنداء عنك بالّذي أمرته به، أن يبلّغ ما أنزلت إليه من ولاية وليّ أمرك، فحذّرته وأنذرته إن لم يبلّغ أن تسخط عليه، وإنّه إن بلّغ رسالاتك عصمته من النّاس. فنادى مبلّغا وحيك ورسالاتك: ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه، ومن كنت وليّه فعليّ وليّه، ومن كنت نبيّه فعليّ أميره.و في أمالي الصّدوق ، بإسناده إلي النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل، يقول فيه لعليّ- عليه السّلام-: ولقد أنزل اللّه- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، يعني: في ولايتك يا عليّ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ولو لم أبلّغ ما أمرت به من ولايتك لحبط عملي.

و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي» قال: حدّثنا الحسين بن الحكم معنعنا، عن عبد اللّه بن عطا قال: كنت جالسا عند أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أوحى اللّه إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قل للنّاس: من كنت مولاه فعليّ مولاه. فأبلغ بذلك وخاف النّاس، فأوحى اللّه إليه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فأخذ يد عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- يوم الغدير وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه.

و في شرح الآيات الباهرة : روى الشّيخ الصّدوق محمّد بن بابويه القمّي- رحمه اللّه- في أماليه حديثا صحيحا لطيفا يتضمّن قصّة الغدير مختصرة  قال: حدّثني أبي- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن عبد اللّه البرقيّ، عن أبيه، عن خلف بن حمّاد ، عن أبي الحسن العبديّ، عن سليمان الأعمش، عن عباءة بن ربعي ، عن عبد اللّه بن عبّاس [قال:]  إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا اسري به إلى السّماء انتهى به [جبرئيل إلى نهر يقال له: النّور. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. فلمّا انتهى به‏]  إلى ذلك النّهر فقال له جبرئيل: يا محمّد، أعبر على بركة اللّه- عزّ وجلّ- فقد نوّر اللّه لك بصرك، ومدّ لك‏أمامك. فإنّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل، غير أنّ لي في كلّ [يوم‏]  اغتماسة فيه فأخرج  منه فأنفض أجنحتي، فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق اللّه- تبارك وتعالى- منها ملكا مقرّبا، له عشرون ألف وجه وأربعون ألف لسان، كلّ لسان بلفظ ولغة لا يفقهها اللّسان الآخر. فعبر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى انتهى إلى الحجب. والحجب خمسمائة حجاب. من الحجاب إلى الحجاب سيرة خمسمائة عام. ثمّ قال له جبرئيل: تقدّم يا محمّد.

فقال له: يا جبرئيل، ولم لا تكون معي؟

قال: ليس لي أن أجوز [هذا]  المكان. فتقدّم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما شاء اللّه أن يتقدّم، حتّى سمع ما قال الرّب- تبارك وتعالى- أنا المحمود، وأنت محمّد. شققت أسمك من اسمي. فمن وصلك وصلته. ومن قطعك بتتّه. انزل إلى عبادي، فأخبرهم بكرامتي إيّاك. وإنّي لم ابعث نبيّا إلّا جعلت له وزيرا. وإنّك رسولي، وإنّ عليّا وزيرك.

فهبط رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فكره أن يحدّث النّاس بشي‏ء كراهة أن يتهموه. لأنّهم كانوا حديثي عهد بالجاهليّة. حتّى مضى لذلك ستّة أيّام، فأنزل اللّه- تبارك وتعالى -: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. فاحتمل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذلك حتّى كان اليوم الثامن، فأنزل اللّه- تبارك وتعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: تهديد بعد وعيد، لأمضينّ  أمر ربّي.

فإنّ يتّهموني ويكذّبوني، أهون عليّ من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدّنيا والآخرة.قال: وسلّم جبرئيل على عليّ- عليه السّلام- بإمرة المؤمنين.

فقال عليّ- عليه السّلام-: يا رسول اللّه، أسمع الكلام ولا أحسّ الرّؤية.

فقال: يا عليّ، هذا جبرئيل أتاني من قبل ربّي بتصديق ما وعدني. ثمّ أمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- رجلا فرجلا من أصحابه، أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ثمّ قال: يا بلال، ناد في النّاس أن لا يبقى أحد إلّا عليل إلّا خرج إلى غدير خمّ.

فلمّا كان من الغد، خرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بجماعة من أصحابه. فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أرسلني إليكم برسالة. وإنّي ضقت بها ذرعا، مخافة أن تتّهموني وتكذّبوني . فأنزل اللّه- تعالى- وعيدا بعد وعيد. فكان تكذيبكم إيّاي، أيسر عليّ من عقوبة اللّه إيّاي. إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أسرى بي وأسمعني، وقال: يا محمّد، أنا المحمود، وأنت محمّد.

شققت اسمك من اسمي. فمن وصلك وصلته. ومن قطعك بتتّه. انزل إلى عبادي، فأخبرهم بكرامتي إيّاك. وإنّي لم أبعث نبيّا إلّا جعلت له وزيرا. وإنّك رسولي، وإنّ عليّا وزيرك.

ثمّ أخذ- عليه السّلام- بيد عليّ- عليه السّلام- فرفعها حتّى نظر النّاس بياض إبطيهما، ولم ير قبل ذلك. ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ اللّه- تبارك وتعالى- مولاي وأنا مولى المؤمنين. من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.

فقال الشّكّاك والمنافقون الّذين في قلوبهم مرض: نبرأ إلى اللّه من مقاله ليس بحتم ، ولا نرضى أن يكون عليّ وزيره، وهذه منه عصبيّة.

فقال سلمان والمقداد وأبو ذرّ وعمّار بن ياسر: واللّه ما برحنا العرصة حتّى نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. فكرّر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثلاثا، ثمّ قال: إنّ كمال الدّين وتمام‏

النّعمة ورضى الرّبّ برسالتي إليكم، وبالولاية بعدي لعليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليهما وعلى ذرّيّتهما- ما دامت المشارق والمغارب وهبت الجنوب [و الشّمال‏]  وثارت السّحاب.] .

و في مجمع البيان : روي أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا نزلت هذه الآية قال لحرّاس من أصحابه يحرسونه: الحقوا بملاحقكم، فإنّ اللّه- تعالى- عصمني من النّاس.

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ‏ءٍ، أي دين يعتدّ به، ويصحّ أن يسمّى شيئا، لبطلانه وفساده.

حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ: ومن إقامتهما الإيمان. بمحمّد، الإذعان لحكمه. والمراد، إقامة أصولها، وما لم ينسخ من فروعها.

في مجمع البيان : قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقالوا: أ لست  تقول التّوراة من عند اللّه؟ قال: بلى. قالوا: نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها. فنزلت الآية.

و في تفسير العيّاشي : عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:

هو ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ : فلا تحزن عليهم، لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلّغه إليهم.

فإنّ ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطّاهم، وفي المؤمنين مندوحة عنهم.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى: سبق تفسيره في سورة البقرة.

 «و الصّائبون» رفع على الابتداء، وخبره محذوف. والنّيّة به، التّأخير عمّا في حيّز «إنّ». والتّقدير: إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى حكمهم كذا، والصّابئون كذلك، كقوله:

         فإنّي وقيا ربها لغريب‏

 

 وقوله:

         وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم             بغاة ما بقينا في شقاق‏

 وهو كاعتراض، دلّ به على أنّه لمّا كان الصّابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلّها يتاب عليهم- إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصّالح- كان غيرهم أولى بذلك. ويجوز أن يكون «و النّصارى» معطوفا عليه، و«من آمن» خبرهما وخبر «إنّ» مقدّر، دلّ عليه ما بعده. كقوله:

         نحن بما عندنا وأنت بما             عندك راض والرّأي مختلف‏

 ولا يجوز عطفه على محلّ «إنّ» واسمها، فإنّه مشروط بالفراغ من الخبر. إذ لو عطف عليه قبله، كان الخبر خبر المبتدأ وخبر «إنّ» معا، فيجتمع عليه عاملان. ولا على الضّمير في «هادوا» لعدم التّأكيد والفصل. ولا يوجب كون الصّابئين هودا.

و قيل : «إن»، بمعنى: نعم. وما بعد ما في موضع الرّفع، بالابتداء. وقيل:

 «و الصّابئون» منصوب بالفتحة. وذلك كما جوّز بالياء، جوّز بالواو.

مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً: في محلّ الرّفع، بالابتداء.

و خبره.

فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ :

و الجملة، خبر «إنّ». أو خبر المبتدأ، كما مرّ. والرّاجع محذوف، أي: من آمن منهم. أو النّصب على البدل من اسم «إنّ» وما عطف عليه.و قرئ: «و الصّابئين». وهو الظّاهر. «و الصّابيون» بقلب الهمزة ياء.

 «و الصّابون» بحذفها. من صبأ، بإبدال الهمزة ألفا. أو من صبوت، لأنّهم صبوا إلى اتّباع الشّهوات ولم يتّبعوا شرعا ولا عقلا .

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا: ليذكّروهم، وليبيّنوا لهم أمر دينهم.

كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ: بما يخالف هواهم من الشّرائع، وميثاق التّكاليف.

فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ : جواب الشّرط. والجملة صفة «رسلا». والرّاجع محذوف، أي: رسول منهم.

و قيل : الجواب محذوف، دلّ عليه ذلك. وهو استئناف. وإنّما جي‏ء «بيقتلون» موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية، استحضارا لها، واستفظاعا للقتل، وتنبيها على أنّ ذلك من ديدنهم ماضيا ومستقبلا، ومحافظة على رؤوس الآي.

وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ، أي: وحسب بنو إسرائيل، أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم.

و قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ ويعقوب: «لا تكون» بالرّفع، على أنّ «أن» هي المخفّفة من الثّقيلة. وأصله: أنّه لا تكون فتنة. وإدخال فعل الحسبان عليها وهي للتّحقيق، تنزيل له منزلة العلم لتمكّنه في قلوبهم. أو «أن» بما في حيّزها، سادّ مسدّ مفعولية .

فَعَمُوا: عن الدّين، والدّلائل، والهدى.

وَ صَمُّوا: عن استماع الحقّ. كما فعلوا حين عبدوا العجل.

ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أي: ثمّ تابوا فتاب اللّه عليهم.

ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا: كرّة أخرى.و قرئ، بالضّمّ فيهما، على أنّ اللّه أعماهم وصمّهم، أي: رماهم بالعمى والصّمّ. وهو قليل. واللّغة الفاشية: أعمى وأصمّ.

كَثِيرٌ مِنْهُمْ: بدل من الضّمير. أو فاعل، والواو علامة الجمع، كقولهم:

أكلوني البراغيث. أو خبر مبتدأ محذوف، أي: العمى والصّمّ كثير منهم.

و قيل : مبتدأ، والجملة قبله خبره. وهو ضعيف. لأنّ تقديم الخبر في مثله ممتنع.

وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ : فيجازيهم وفق أعمالهم.

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن الحصين، عن خالد بن يزيد القمّي، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال:

حيث كان النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- بين أظهرهم، فعموا وصمّوا حيث قبض رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثمّ تاب اللّه عليهم حيث قام أمير المؤمنين- عليه السّلام- ثمّ عموا  وصمّوا إلى السّاعة.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، أي: إنّي عبد مربوب مثلكم، فاعبدوا خالقي وخالقكم.

إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ: في عبادته. أو فيما يختصّ به من الصّفات والأفعال.

فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ: يمنع دخولها، كما يمنع المحرّم عليه من المحرّم. فإنّها دار الموحّدين.

و في تفسير العيّاشي : عن زرارة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مع بعض أصحابنا فيما يروي النّاس عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: أنّه من أشرك باللّه‏فقد وجبت له النّار. وأنّ من لم يشرك باللّه فقد وجبت له الجنّة.

أمّا من أشرك باللّه، فهذا الشّرك البيّن. وهو قول اللّه: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وأمّا قوله: «من لم يشرك باللّه فقد وجبت له الجنّة» قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: هاهنا النّظر، هو من لم يعص اللّه.

وَ مَأْواهُ النَّارُ: فإنّها المعدّة للمشركين.

وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ، أي: وما لهم أحد ينصرهم من النّار.

فوضع الظّاهر موضع المضمر، تسجيلا على أنّهم ظلموا بالإشراك. وعدلوا عن طريق الحقّ. وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى، وأن يكون من كلام اللّه. نبّه على أنّهم قالوا ذلك، تعظيما لعيسى وتقرّبا إليه. وهو معاديهم بذلك ومخاصمهم فيه، فما ظنّك بغيره.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ: قيل : القائلون بذلك  جمهور النّصارى [، من الماكانيّة واليعقوبيّة والنّسطوريّة. لأنّهم‏]  يقولون: ثلاثة أقانيم جوهر واحد. أب، وابن، وروح القدس إله واحد. ولا يقولون: ثلاثة آلهة. ويمنعون من هذه العبارة. وإن كان يلزمهم [أن يقولوا: ثلاثة آلهة، فصحّ أن يحكى عنهم بالعبارة الّلازمة. وإنّما قلنا: إنّه يلزمهم‏]  ذلك. لأنّهم يقولون: الابن إله، والأب إله، وروح القدس إله، والابن ليس هو الأب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم»: وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في حديث: أمّا المسيح فعصوه وعظّموه في أنفسهم، حتّى زعموا أنّه إله وأنّه ابن اللّه. وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة. وطائفة منهم قالوا: هو اللّه.

وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ: وما في الوجود ذات واجب مستحقّ للعبادة- من حيث أنّه مبدأ جميع الموجودات- إلّا إله واحد. موصوف بالوحدانيّة، متعال عن قبول‏

الشّركة. و«من» مزيدة، للاستغراق.

وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ: ولم يوحّدوا.

لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، أي: ليمسّنّ الّذين بقوا منهم على الكفر. أو ليمسّنّ الّذين كفروا من النّصارى. وضعه موضع «ليمسّنّهم» تكريرا للشّهادة على كفرهم، وتنبيها على أنّ العذاب على من أدام على الكفر ولم ينقلع عنه. ولذلك عقّبه بقوله:

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، أي: ألا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزّائغة، ويستغفرون بالتّوحيد والتّنزيه عن الاتّحاد والحلول بعد هذا التّقرير والتّهديد.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ : يغفر لهم، ويمنحهم من فضله إن تابوا. وفي هذا الاستفهام، تعجّب من إصرارهم.

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أي: ما هو إلّا رسول كالرّسل قبله. خصّه اللّه بآيات كما خصّهم بها. فإن أحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حيّة تسعى على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأمّ. وهو أغرب.

وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: كسائر النّساء، الّلاتي يلازمن الصّدق.

كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ: ويفتقران إليه افتقار الحيوانات.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: يعني: كانا يحدثان، فكنّى عن الحدث.

و كلّ من أكل الطّعام يحدث.

و في كتاب الاحتجاج : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جواب الزّنديق الّذي قال له: لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتّناقض لدخلت في دينكم. ثمّ ذكر من ذلك، أنّ اللّه شهر هفوات أنبيائه، وكنّى عن أسماء أعدائه.

قال- عليه السّلام-: وأمّا هفوات الأنبياء- عليهم السّلام- وما بيّنه اللّه في‏كتابه، فإنّ ذلك، من أدلّ الدّلائل على حكمة اللّه- عزّ وجلّ- الباهرة وقدرته القاهرة وعزّته الظّاهرة. لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء- عليه السّلام- تكبر في صدور أممهم، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلها كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم. فذكرها، دلالة على تخلّفهم عن الكمال الّذي تفرّد  به- عزّ وجلّ- ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى، حيث قال فيه وفي أمّه: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ، يعني: من أكل الطّعام كان له ثقل. ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا ادعته النّصارى لابن مريم.

و اعلم، أنّه- تعالى- بيّن أوّلا أقصى ما لهما من كمال. ودلّ على أنّه لا يوجب لهما الألوهيّة، لأنّ كثيرا من النّاس يشاركهما في مثله. ثمّ نبّه على نقصهما، وذكر ما ينافي الرّبوبيّة ويقتضي أن يكونا من عداد المركّبات الكائنة الفاسدة. ثمّ عجب ممّن يدّعي الرّبوبيّة لهما مع أمثال هذه الأدلّة الظّاهرة، فقال:

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ : كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتأمّله.

و «ثم» لتفاوت ما بين العجبين، أي: إنّ بياننا للآيات عجب. وإعراضهم عنها أعجب.

 «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً، يعني: عيسى.

و هو وإن ملك ذلك بتمليك اللّه إيّاه، لا يملكه من ذاته. ولا يملك مثل ما يضر اللّه به من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصّحّة والسّعة.

و إنّما قال: «ما» نظرا إلى ما هو عليه في ذاته، توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنّه من هذا الجنس. ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة، فبمعزل عن الألوهيّة.

و إنّما قدّم الضّرّ، لأنّ التّحرّز عنه أهمّ من تحرّي النّفع.

وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ.قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، أي: غلوّا باطلا.

فترفعوا عيسى إلى أن تدعوا له الألوهيّة، أو تضعوه وتزعموا أنّه لغير رشده. وقيل :

الخطاب للنّصارى خاصّة.

وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، يعني: أسلافهم وأئمّتهم، الّذين ضلّوا قبل مبعث محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- في شريعتهم.

وَ أَضَلُّوا كَثِيراً: ممّن شايعهم على بدعهم وضلالهم.

وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ : عن قصد السّبيل- الّذي هو الإسلام- بعد مبعثه إلى أن كذّبوه وبغوا عليه.

و قيل : الأوّل، إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل. والثّاني، إشارة إلى ضلالهم عمّا جاء به الشّرع.

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ:

في روضة الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.

 

 

قال: الخنازير، على لسان داود. والقردة، على لسان عيسى بن مريم- عليه السّلام-.

و رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره  بطريق آخر عن الصّادق- عليه السّلام-.

 

في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: أمّا داود، فإنّه لعن أهل أيلة لمّا اعتدوا في سبتهم. وكان اعتداؤهم في زمانه. فقال: اللّهمّ، ألبسهم اللّعنة مثل الرّداء، ومثل المنطقة على الحقوين. فمسخهم اللّه قردة. وأمّا عيسى، فإنّه لعن الّذين أنزلت عليهم المائدة، ثمّ كفروا بعد ذلك.و رواه في الجوامع  مقطوعا وزاد: فقال عيسى- عليه السّلام-: اللّهمّ، عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السّبت. فصاروا خنازير. وكانوا خمسة آلاف رجل.

ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ، أي: ذلك اللّعن الشّنيع المقتضي للمسخ، بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرّم عليهم.

كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ: هذا بيان عصيانهم واعتدائهم، يعني: أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه. أو عن مثل منكر فعلوه. أو عن منكر أرادوا فعله. وتهيّؤوا له. أو لا ينتهون عنه، من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه:

إذا امتنع.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور ويأتون النّساء أيّام حيضهنّ.

و في ثواب الأعمال : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: لمّا وقع التّقصير في بني إسرائيل، جعل الرّجل منهم يرى أخاه على الذّنب  فينهاه، فلا ينتهي. فلا يمنعه ذلك من  أن يكون أكيله وجليسه وشريبه، حتّى ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض. ونزل فيهم القرآن، حيث يقول- جلّ وعزّ-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (الآية).

و [في تفسير]  العيّاشي : [عن محمد بن الهيثم التّميميّ،]  عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أما أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم [ضحكوا في وجوههم و]  آنسوا بهم.

لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ : تعجيب من سوء فعلهم، مؤكّد بالقسم.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ: من أهل الكتاب.يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: يوالون المشركين، بغضا لرسول اللّه والمؤمنين.

و في تفسير علي بن إبراهيم : حدّثني [أبي قال: حدّثني‏]  [هارون‏]  ابن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قوم من الشّيعة يدخلون في أعمال السّلطان ويعملون لهم ويحبّونهم  ويوالونهم؟

قال: ليس هم من الشّيعة، لكنّهم من أولئك. ثمّ قرأ- عليه السّلام-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏]  (الآية).

و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: يتولّون الملوك الجبّارين ويزيّنون لهم أهواءهم، ليصيبوا من دنياهم.

لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، أي: لبئس شيئا قدّموه، ليردوا عليه يوم القيامة.

أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ : هو المخصوص بالذّمّ، والمعنى: موجب سخط اللّه والخلود في العذاب. أو علّة الذّمّ والمخصوص محذوف، أي: لبئس شيئا ذلك، لأنّه كسبهم السّخط والخلود.