سورة الأعراف الآية 61-80

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ: بالغ في النّفي، كما بالغوا في الإثبات، وعرّض لهم به. 

وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ : استدرك باعتبار ما يلزمه وهو كونه على هدى، كأنّه قال: ولكنّي على هدى في الغاية، لأنّي رسول من اللّه.

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ :

صفات لرسول، أو استئناف. ومساقها على الوجهين، لبيان كونه رسولا.

و قرأ  أبو عمرو: «أبلغكم» بالتّخفيف.

و جمع «الرّسالات» لاختلاف أوقاتها، أو لتنوّع معانيها، كالعقائد والمواعظ والأحكام. أو لأنّ المراد بها ما أوحى إليه وإلى الأنبياء قبله، كصحف شيث وإدريس.

و زيادة «اللّام» للدّلالة على إمحاض النّصح لهم.

و في أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ تقرير لما أوعدهم به. فإنّ معناه: أعلم من قدرته وشدّة بطشه، أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها.

أَ وَعَجِبْتُمْ «الهمزة» للإنكار. و«الواو» للعطف على محذوف، أي: أ كذّبتم وعجبتم.

أَنْ جاءَكُمْ: من أن جاءكم.ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ: رسالة، أو موعظة.

عَلى رَجُلٍ: على لسان رجل.

مِنْكُمْ: من جملتكم، أو من جنسكم. فإنّهم كانوا يتعجّبون من إرسال البشر، ويقولون: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.

لِيُنْذِرَكُمْ: ليحذّركم عاقبة الكفر والمعاصي.

وَ لِتَتَّقُوا: منهما، بسبب إنذاره.

وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ : بالتّقوى.

و في إيراد حرف التّرجّي، تنبيه على أنّ التّقوى غير موجب، وأن المتّقي لا ينبغي أن يعتمد على تقواه ولا يأمن سوء العاقبة.

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ: وهم من آمن به.

قيل : كانوا أربعين رجلا، وأربعين امرأة.

و قيل : تسعة، بنو سام وحام ويافث، وستّة ممّن آمن به.

فِي الْفُلْكِ: متعلّق «بمعه»، أو «بأنجينا». أو حال من الموصول، أو الضّمير في «معه».

وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا: بالطّوفان.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ : عمي القلب، غير مستبصرين. وأصله «عميين»، فخفّف.

و قرئ: «عامين». والأوّل أبلغ، لدلالته على الثّبات. ويأتي تمام قصّة نوح- على نبيّنا وعليه السّلام- في سورة هود إن شاء اللّه- تعالى-.

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ: عطف على «نوحا إلى قومه».

هُوداً: عطف بيان «لأخاهم». والمراد به الواحد منهم، كقولهم: يا أخا العرب. وإنّما جعل منهم، لأنّهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه .

و في تفسير العيّاشي : عن يحيى بن المساور  الهمدانيّ، عن أبيه: جاء رجل من‏أهل الشّام [إلى عليّ بن الحسين‏]  فقال: أنت عليّ بن الحسين؟

قال: نعم.

قال: جدّك الّذي قتل المؤمنين؟

فبكى عليّ بن الحسين- عليه السّلام- ثمّ مسح عينه، فقال: ويلك، كيف قطعت على جدّي أنّه قتل المؤمنين؟

قال: إخواننا قد بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم.

فقال: ويلك، أما تقرأ القرآن؟

قال: بلى.

قال: فقد قال اللّه: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً . وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً.

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. فكانوا إخوانهم في دينهم، أو إخوانهم في عشيرتهم؟

فقال الرّجل: لا بل في عشيرتهم.

قال: فهؤلاء إخوانهم في عشيرتهم، وليسوا إخوانهم في دينهم.

قال: فرّجت عنّي، فرّج اللّه عنك.

و في رواية أخرى  قال: فأهلك اللّه عادا، وأنجى هودا. وأهلك ثمودا، وأنجى صالحا.

و في كتاب الاحتجاج ، عن عليّ بن الحسين- عليه السّلام- حديث طويل.

 

و فيه: لقد علمت صاحبة الحرب  والمستحفظون من آل محمّد، أنّ أصحاب الجمل وأصحاب صفّين وأصحاب النّهروان لعنوا على لسان النّبيّ الأمّيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.

و قد خاب من افترى.

فقال شيخ من أهل الكوفة: يا عليّ بن الحسين، إنّ جدّك كان يقول: لإخواننا بغوا علينا.

فقال علي بن الحسين- عليه السّلام-: أما تقرأ كتاب اللّه‏وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً. أنّهم مثله نجّى اللّه - عزّ وجلّ- هودا والّذين معه، وأهلك عادا بالرّيح العقيم.

قيل : إنّه هود بن عبد اللّه بن رياح  بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام [بن نوح‏] .

و قيل : هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

 [و قيل : هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام‏]  بن عمّ أبي عاد.

و في روضة الكافي : عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول: وبشّر نوح ساما بهود. فكان فيما بين نوح وهود أنبياء. وقال نوح: إنّ اللّه باعث نبيّا يقال له: هود. وإنّه يدعو قومه إلى اللّه- عزّ وجلّ- فيكذّبونه. وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- يهلكهم بالرّيح. فمن أدركه منكم، فليؤمن به وليتّبعه. فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- ينجيه من عذاب الرّيح.

و أمر نوح- عليه السّلام- ابنه ساما أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة، فيكون حينئذ عيدا لهم. فيتعاهدون فيه ما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر ومواريث العلم و[آثار]  علم النّبوّة. فوجدوا هودا نبيّا- عليه السّلام- قد بشرّ به إبراهيم و نوح- عليه السّلام-. فآمنوا به واتّبعوه وصدّقوه، فنجوا من عذاب الرّيح. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً. وقوله- عزّ وجلّ-: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ .

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى عليّ بن سالم: عن أبيه قال: قال الصّادق جعفر بن محمّد- عليهما السّلام-: لمّا حضرت نوحا  الوفاة، دعا الشّيعة. فقال لهم: اعلموا أنّه سيكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطّواغيت. وأنّ اللّه‏- عزّ وجلّ- سيفرّج عنكم بالقائم من ولدي اسمه هود، له سمت وسكينة ووقار، يشبهني في خلقي وخلقي.

و بإسناده  إلى عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن الصّادق أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد- عليهما السّلام-: أنّ هودا لمّا بعثه اللّه- عزّ وجلّ- سلّم له العقب من ولد سام. وأمّا الآخرون فقالوا: من أشدّ منّا قوّة، فأهلكوا بالرّيح العقيم. وأوصاهم هود وبشّرهم بصالح.

 

و فيه ، بإسناده إلى محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثّمالي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليه السّلام- حديث طويل. فيه: أنّ الأنبياء  بعثوا خاصّة وعامّة.

أمّا هود، فإنّه أرسل إلى عاد بنبوّة خاصّة.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ: استأنف به ولم يعطف، كما في قصّة نوح. كأنّه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ وكذلك جوابهم في القصّتين.

أَ فَلا تَتَّقُونَ : عذاب اللّه.

و وصف الملأ في قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إذ كان من أشرافهم من آمن به، كمرثد بن سعد. على ما نقل.

إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ: متمكّنا في خفّة عقل راسخا فيها، حيث فارقت دين قومك.

وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ : فيما تقوله.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ .

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ: فيما أدعوكم من توحيد اللّه وطاعته.

أَمِينٌ : ثقة مأمون في تأدية الرّسالة، فلا أكذب ولا أغيّر.

و في تفسير العيّاشي : وقال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: ما يجوز  أن يزكّي الرّجل نفسه؟

قال: نعم، إذا اضطر إليه. أما سمعت قول يوسف:اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ . وقول العبد الصّالح: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ.

أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ: مرّ تفسيره.

و في إجابة الأنبياء- عليهم السّلام- الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقابلتهم بمثلها، مع علمهم بأنّهم أضلّ الخلق وأسفههم، أدب حسن.

و حكاية اللّه ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السّفهاء ويدارونهم. وفي قوله وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ، تنبيه على أنّهم عرفوه بالأمرين.

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.

قيل : أي: في مساكنهم [من رمل عالج إلى شجر عمّان‏] . أو في الأرض، بأن جعلكم ملوكا. فإنّ شدّاد بن عاد ممّن ملك معمورة الأرض .

و قيل : أو خلّفتموهم في الأرض بعد هلاكهم بالعصيان.

خوّفهم من عقاب اللّه، ثمّ ذكّرهم بإنعامه.

وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً: قامة وقوّة.

و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: كانوا كالنّخل الطّوال. وكان الرّجل منهم ينحو الجبل بيده، فيهدم منه قطعة.

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : لكي يفضي ذكر النّعم إلى الشّكر، المؤدّي إلى الفلاح.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن جمهور، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن، عن الهيثم بن واقد، عن أبي يوسف  البزّاز قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية: أو تدري ما «آلاء اللَّه»؟

قلت: لا.قال: هي أعظم نعم اللّه على خلقه، وهي ولايتنا.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا: استبعدوا اختصاص اللّه بالعبادة والإعراض عمّا أشرك آباؤهم، انهماكا في التّقليد وحبّا لما ألفوه.

و معنى «المجي‏ء» في «أ جئتنا»: إمّا المجي‏ء من مكان اعتزل به عن قومه، أو من السّماء. على التّهكّم، أو القصد على المجاز، كقولهم: ذهب يسبّني.

فَأْتِنا بِما تَعِدُنا: من العذاب، المدلول عليه بقوله: «أفلا تتّقون».

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ : فيه.

قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ: وجب وحقّ عليكم، أو نزل عليكم. على أنّ المتوقّع، كالواقع.

مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ: عذاب. من الارتجاس: وهو الاضطراب.

وَ غَضَبٌ: إرادة انتقام.

أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، أي: في أشياء سمّيتموها آلهة، وليس فيها معنى الإلهيّة. لأنّ المستحقّ للعبادة بالذّات، هو الموجد للكلّ. وأنّها لو استحقّت، كان استحقاقها بجعله- تعالى- إمّا بإنزال آية، أو نصب حجّة.

ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ: من آية ونصب حجّة.

و منتهى حجّتهم وسندهم، أنّ الأصنام تسمّى آلهة من غير دليل يدلّ على تحقّق المسمّى، وإسناد الإطلاق إلى من يؤبه بقوله. واستدلّ به على أنّ الاسم عين المسمّى، إذ المجادلة في المسمّيات لا في الأسماء. وأنّ اللّغات توقيفيّة، إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجّه الذّمّ والإبطال بأنّها أسماء مخترعة لم ينزل بها سلطان. وهو ضعيف، إذ الذّمّ للمجادلة في المسمّيات ولإطلاق أسماء الآله والمعبود عليها واتّباع معاني تلك الأسماء فيها، لا لمجرد المجادلة في الأسماء وإطلاقها عليها.

فَانْتَظِرُوا: لمّا وضح الحقّ، وأنتم مصرّون على العناد نزول العذاب.

إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

في تفسير العيّاشيّ : عن أحمد بن محمّد، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: ما أحسن الصّبر وانتظار الفرج. أما سمعت قول العبد الصّالح:إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.

فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ: في الدّين.

بِرَحْمَةٍ مِنَّا: عليهم.

وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا: استأصلناهم.

وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ : تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أنّ الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان.

نقل : أنّهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث اللّه إليهم هودا فكذّبوه وازدادوا عتوّا. فأمسك اللّه القطر عنهم ثلاث سنين، حتّى جهدهم. وكان النّاس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء، توجّهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من اللّه الفرج. فجهّزوا إليه قيل بن عثر  ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم. وكان إذ ذاك بمكّة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام، وسيّدهم معاوية بن بكر.

فلمّا قدموا عليه، وهو بظاهر مكّة، أنزلهم وأكرمهم. وكانوا أخواله وأصهاره.

فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان  فيبشان  له. فلمّا رأى ذهولهم باللّهو عمّا بعثوا له، أهمّه ذلك. واستحيا أن يكلّمهم فيه، مخافة أن يظنّوا به ثقل مقامهم. فعلّم المغنّيتين :

         ألا يا قيل ويحك قم فهينم             لعلّ اللّه يسقينا الغماما

 

         فيسقي أرض عاد إنّ عادا             قد أمسوا ما يبينون الكلاما

 [و في تفسير المغنيّ بعد هذا الكلام:

         من العطش الشّديد ليس يرجو             به الشّيخ الكبير ولا الغلاما

          وأنّ الوحش تأتيهم جهارا             فلا تخشى لعاديّ سهاما

 

         وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم             نهاركم وليلكم تماما

 

         فقبّح وفدكم من وفد قوم             ولالقوا التّحيّة والسّلاما]

 حتّى غنّتا به. فأزعجهم ذلك.

فقال مرثد: واللّه، لا تسقون بدعائكم. ولكن إن أطعتم نبيّكم وتبتم إلى اللّه، سقيتم.

فقالوا لمعاوية: أحبسه عنّا، لا يقدمنّ معنا مكّة. فإنّه قد تبع  دين هود، وترك ديننا.

ثمّ دخلوا مكّة.

فقال قيل: اللّهمّ، اسق عادا ما كنت تسقيهم.

فأنشا اللّه- سبحانه- سحابات ثلاثا، بيضاء وحمراء وسوداء. ثمّ نادى مناد من السّماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك.

فاخترت السّوداء، فإنّها أكثرهنّ ماء.

فخرجت السّحابة على عاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم. ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكّة وعبدوا اللّه فيها حتّى ماتوا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: الرّيح العقيم تخرج من تحت الأرضين السّبع. وما [خرجت منها ريح على قوم  قطّ، إلّا على قوم عاد حين غضب اللّه عليهم. فأمر الخزّان أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم، فقست على الخزّان

 

فخرج منها على مقدار منخر الثّور تغيّظا منها على قوم عاد. فضجّ الخزنة  إلى اللّه- تعالى- من ذلك.

فقالوا: يا ربّنا، إنّها قد عتت عن أمرنا. ونحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك وعمّار بلادك.

فبعث اللّه إليها جبرئيل، فردّها بجناحه. وقال لها: اخرجي على ما أمرت به.

فخرجت على ما أمرت به، وأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم.

و في مجمع البيان : وروى أبو حمزة الثّماليّ، عن سالم، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: أنّ للّه- تبارك وتعالى- بيت ريح مقفّل عليه. لو فتح، لأذرت  ما بين السّماء والأرض. ما أرسل على قوم عاد، إلّا قدر الخاتم.

قال: وكان هود وصالح وشعيب وإسماعيل ونبيّنا- عليهم السّلام- يتكلّمون بالعربيّة.

وَ إِلى ثَمُودَ: قبيلة أخرى من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم  بن سام.

و قيل: سمّوا به، لقلّة مائهم. من الثّمد: وهو الماء القليل.

و قرئ ، مصروفا، بتأويل الحيّ. أو باعتبار الأصل.

قيل : كانت مساكنهم الحجر، بين الشّام والحجاز إلى وادي القرى.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضل : عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليه السّلام- حديث طويل: أمّا صالح، فإنّه أرسل إلى ثمود. وهي قرية واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر  صغيرة.

أَخاهُمْ صالِحاً: صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ:

معجزة ظاهرة الدّلالة على صحّة نبوّتي.

هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ: استئناف لبيان البيّنة.

آيَةً: نصب على الحال، والعامل فيها معنى الإشارة. و«لكم» بيان لمن هي له آية.

و يجوز أن تكون «ناقة اللّه» أن يكون  بدلا، أو عطف بيان. و«لكم» خبرا عاملا في «آية».

و إضافة النّاقة إلى اللّه، لتعظيمها، ولأنّها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة. ولذلك كانت آية.

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ: العشب.

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ: نهي عن المسّ، الّذي هو مقدّمة الإصابة بالسّوء الجامع لأنواع الأذى، مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر.

فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : جواب للنّهي.

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً: تبنون في سهولها. أو من سهولة الأرض بما تعملون منها، كاللّبن والآجر.

وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً.

و قرئ : «تنحتون» بالفتح. و«تنحاتون» بالإشباع.

و انتصاب «بيوتا» على الحال المقدّرة، أو المفعول. على أنّ التّقدير: بيوتا من الجبال. أو «تنحتون»، بمعنى: تتّخذون.

و في مجمع البيان : يروى أنّهم لطول أعمارهم، كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا في الجبال بيوتا، لأنّ السّقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم.

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، أي: ولا تبالغوا في الفساد.قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، أي: عن الإيمان.

لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: للّذين استضعفوهم واستذلّوهم.

لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: بدل من «للّذين استضعفوا» بدل الكلّ، إن كان الضّمير «لقومه». وبدل البعض، إن كان «للّذين».

أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ: قالوه على الاستهزاء.

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ : عدلوا به عن الجواب السّويّ، الّذي هو «نعم»، تنبيها على أنّ إرساله أظهر من أن يشكّ فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي.

و إنّما الكلام فيمن آمن به ومن كفر. فلذلك قال: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ : على المبالغة. ووضعوا «آمنتم به» موضع «أرسل به» ردّا لما جعلوه معلوما مسلّما.

في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى زيد الشّحّام: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ صالحا- عليه السّلام- غاب عن قومه زمانا. وكان يوم غاب عنهم كهلا، مبدّح البطن ، حسن الجسم، وافر اللّحية، خميص البطن، خفيف العارضين، مجتمعا ربعة  من الرّجال. فلمّا رجع إلى قومه، لم يعرفوه بصورته. فرجع إليهم وهم على ثلاث طبقات: طبقة جاحدة لا ترجع أبدا، وأخرى شاكّة فيه، وأخرى على يقين.

فبدأ- عليه السّلام- حين رجع بالطّبقة الشّاكّة فقال لهم: أنا صالح. فكذّبوه وشتموه وزجروه، وقالوا: بري‏ء  اللّه منك، إنّ صالحا كان في غير صورتك.

قال: فأتى الجحّاد، فلم يسمعوا منه القول ونفروا منه أشدّ النّفور.

ثمّ انطلق إلى الطّبقة الثّالثة، وهم أهل اليقين. فقال لهم: أنا صالح.

فقالوا: أخبرتنا خبرا لا نشكّ فيه معك أنّك صالح. فإنّا لا نمتري. فإنّ اللّه- تبارك وتعالى- ينقل ويحوّل في أيّ صورة شاء. وقد أخبرنا وتدارسنا فيما بيننا بعلامات القائم إذا جاء. وإنّما يصحّ عندنا إذا أتى الخبر من السّماء.فقال لهم: أنا صالح، الّذي أتيتكم بالنّاقة.

فقالوا: صدقت، وهي الّتي نتدارس، فما علامتها؟

فقال: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.

قالوا: آمنا باللّه وبما جئتنا به.

فعند ذلك قال- تبارك وتعالى-: أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ.

فقال أهل اليقين: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الشّكّاك [و الجحّاد]  إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.

قلت: هل كان فيهم ذلك اليوم عالم به؟

فإنّ اللّه أعدل من أن يترك الأرض بلا عالم يدلّ على اللّه- عزّ وجلّ-. ولقد مكث القوم بعد خروج صالح- عليه السّلام- سبعة أيّام على فترة لا يعرفون إماما، غير أنّهم على ما في أيديهم من دين اللّه- عزّ وجلّ- كلمتهم واحدة. فلمّا ظهر صالح- عليه السّلام- اجتمعوا عليه. وإنّما مثل القائم- عليه السّلام- مثل صالح.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ .

يقول: مصدّق ومكذّب. قال الكافرون منهم: أ تشهدون أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ. قال المؤمنون: إنا بالذي أرسل به مؤمنون. قال الكافرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسي- رحمه اللّه- روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليه السّلام- قال: إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا صالح أخرج اللّه له ناقة جعلها لقومه عبرة.

قال عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أعطي ما هو أفضل من ذلك. إنّ ناقة صالح لم تكلّم صالحا ولم تناطقه ولم تشهد له بالنّبوّة،و محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- بينا نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ثمّ رغا، فأنطقه اللّه- عزّ وجلّ-. ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّ فلانا استعملني حتّى كبرت ويريد نحري، فأنا أستعيذ بك منه. فأرسل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى صاحبه، فاستوهبه منه، فوهبه له وخلّاه.

و لقد كنّا معه، فإذا نحن بأعرابيّ معه ناقة يسوقها، وقد استسلم للقطع لما زوّر عليه من الشّهود، فنطقت النّاقة فقالت: يا رسول اللّه، إنّ فلانا منّي بري‏ء، وإنّ الشّهود يشهدون عليه بالزّور، وإنّ سارقي فلان اليهوديّ.

و في كتاب الخصال : عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: خرج  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذات يوم وهو آخذ بيد عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-. وهو يقول:

يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطّلب، أنا محمّد رسول اللّه. ألا إنّي خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعليّ وحمزة وجعفر.

فقال قائل: يا رسول اللّه، هؤلاء معك ركبان يوم القيامة؟

فقال: ثكلتك أمّك، إنّه لن يركب يومئذ إلّا أربعة: أنا وعليّ وفاطمة وصالح، نبيّ اللّه. فأمّا أنا، فعلى البراق. وأمّا فاطمة ابنتي، فعلى ناقتي العضباء. وأمّا صالح، فعلى ناقة اللّه الّتي عقرت. وأمّا عليّ، فعلى ناقة من نور  زمامها من ياقوت عليه حلّتان خضراوان.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن عمر بن أذينة، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس الهلاليّ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: بني الكفر على أربع دعائم- إلى أن قال-:

و من عتا عن أمر اللّه، شكّ. ومن شكّ، تعالى اللّه عليه فأذلّه بسلطانه وصغره بجلاله، كما اغترّ بربّه الكريم وفرط في أمره.

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ: فنحروها. أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة، أو لأنّه كان برضاهم.

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ: واستكبروا عن امتثاله. وهو ما بلّغهم صالح بقوله: «فذروها».

وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ: الزّلزلة.

و في سورة هود وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ .

و في الحجر فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ . ولعلّها كانت من مبادئها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فبعث اللّه عليهم صيحة وزلزلة، فهلكوا.

فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ : خامدين ميّتين، لا يتحرّكون.

يقال: النّاس جثم، أي: قعود لا حراك بهم.

و أصل الجثوم: اللّزوم في المكان.

في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- سأل جبرئيل- عليه السّلام-: كيف كان مهلك قوم صالح- عليه السّلام-؟

فقال: يا محمّد، إنّ صالحا بعث إلى قومه وهو ابن ستّ عشرة سنة. فلبث فيهم حتّى بلغ عشرين ومائة سنة، لا يجيبونه إلى خير.

قال: وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون اللّه.

فلمّا رأى ذلك منهم قال: يا قوم بعثت إليكم وأنا ابن ستّ عشرة سنة، وقد بلغت عشرين ومائة سنة. وأنا أعرض عليكم أمرين: إن شئتم فاسألوني، حتّى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني السّاعة. وإن شئتم سألت آلهتكم، فإن أجابتني بالّذي أسألها خرجت عنكم فقد سأمتكم وسأمتموني.

فقالوا: قد أنصفت، يا صالح.

فاتّعدوا ليوم يخرجون فيه.

فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم، ثمّ قرّبوا طعامهم وشرابهم فأكلوا وشربوا. فلمّا أن فرغوا، دعوه.

فقالوا: يا صالح، سل.فقال لكبيرهم: ما اسم هذا؟

قالوا: فلان.

فقال له صالح: يا فلان، أجب.

فلم يجبه.

فقال صالح: ما له لا يجيب؟

قالوا: ادع غيره.

قال: فدعاها كلّها بأسمائها، فلم يجبه منها شي‏ء.

فاقبلوا على أصنامهم، فقالوا لها: ما لك لا تجيبين صالحا؟

فلم تجب.

فقالوا: تنحّ عنّا، ودعنا وآلهتنا ساعة.

ثمّ نحّوا بسطهم وفرشهم، ونحّوا ثيابهم، وتمرّغوا على التّراب، وطرحوا التّراب على رؤوسهم وقالوا لأصنامهم: لئن لم تجبن صالحا اليوم لتفضحنّ  قال: ثمّ دعوه.

فقالوا: يا صالح، ادعها.

فدعاها، فلم تجبه.

فقال لهم: يا قوم، قد ذهب صدر النّهار ولا أرى آلهتكم تجيبني، فاسألوني حتّى ادعوا إلهي يجيبكم السّاعة.

فانتدب له منهم سبعون رجلا من كبرائهم والمنظور إليهم منهم، فقالوا:

يا صالح، نحن نسألك. فإن أجابك ربّك، اتّبعناك وأجبناك ويبايعك جميع أهل قريتنا.

فقال لهم صالح: سلوني ما شئتم.

فقالوا: تقدّم بنا إلى هذا الجبل.

و كان الجبل قريبا منهم. فانطلق معهم صالح. فلمّا انتهوا إلى الجبل، قالوا:

يا صالح، ادع لنا ربّك يخرج لنا من هذا الجبل السّاعة ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء، بين جبينها ميل.

فقال لهم صالح: لقد سألتموني شيئا يعظم عليّ ويهون على ربّي- تعالى-.

قال: فسأل اللّه- تعالى- صالح ذلك، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه‏عقولهم لمّا سمعوا ذلك. ثمّ اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا، كالمرأة إذا أخذها المخاض. ثمّ لم يفجأهم إلّا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصّدع، فما استتمّت رقبتها حتّى اجترّت. ثمّ خرج سائر جسدها. ثمّ استوت قائمة على الأرض.

فلمّا رأوا ذلك، قالوا: يا صالح، ما أسرع ما أجابك ربّك! ادع لنا [ربّك‏]  يخرج لنا فصيلها.

فسأل اللّه- تعالى- ذلك، فرمت به، فدبّ حولها.

فقال لهم: يا قوم، أ بقي شي‏ء؟

قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا ويؤمنون بك.

قال: فرجعوا. فلم يبلغ السّبعون إليهم حتّى ارتدّ منهم أربعة وستّون رجلا، وقالوا: سحر وكذب.

قال: فانتهوا إلى الجميع، فقال السّتّة: حقّ. وقال الجميع: سحر وكذب.

قال: فانصرفوا على ذلك. ثمّ ارتاب من السّتّة واحد، فكان فيمن عقرها.

قال ابن محبوب: فحدّثت بهذا الحديث رجلا من أصحابنا يقال له: سعيد بن يزيد.

فأخبرني، أنّه رأى الجبل الّذي منه خرجت بالشّام. قال: فرأيت جنبها قد حكّ الجبل، فأثّر جنبها فيه. وجبل آخر بينه وبين هذا ميل.

و عن الصّادق - عليه السّلام- في قوله- تعالى-: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. هذا فيما كذّبوا صالحا . وما أهلك اللّه- تعالى- قطّ قوما، حتّى يبعث إليهم قبل ذلك الرّسل فيحتجّوا عليهم. فبعث اللّه إليهم صالحا. فدعاهم إلى اللّه، فلم يجيبوا وعتوا عليه وقالوا:

لن نؤمن لك حتّى تخرج لنا من هذه الصّخرة ناقة عشراء. وكانت الصّخرة يعظّمونها ويعبدونها، ويذبحون عندها في رأس كلّ سنة ويجتمعون عندها.

فقالوا له: إن كنت كما تزعم نبيّا رسولا، فادع لنا إلهك حتّى يخرج لنا من هذه الصّخرة الصّمّاء ناقة عشراء.

فأخرجها اللّه، كما طلبوا منه.ثمّ أوحى اللّه- تعالى- إليه أن يا صالح، قل لهم: إنّ اللّه قد جعل لهذه النّاقة من الماء شرب يوم ولكم شرب يوم.

فكانت النّاقة إذا كان يوم شربها، شربت ذلك اليوم الماء. فيحلبونها، فلا يبقى صغير ولا كبير إلّا شرب من لبنها يومهم ذلك. فإذا كان اللّيل وأصبحوا، غدوا  إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب النّاقة ذلك اليوم.

فمكثوا بذلك ما شاء اللّه. ثمّ أنّهم عتوا على اللّه، ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اعقروا هذه النّاقة واستريحوا منها. لا نرضى أن يكون لها شرب يوم، ولنا شرب يوم.

ثمّ قالوا: من الّذي يلي قتلها، ونجعل له جعلا ما أحبّ؟

فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق [ولد زنا] ، لا يعرف له أب. يقال له: قدار.

شقيّ من الأشقياء مشؤوم عليهم. فجعلوا له جعلا.

فلمّا توجّهت النّاقة إلى الماء الّذي كانت ترده، تركها حتّى شربت ذلك الماء وأقبلت راجعة. فقعد لها في طريقها. فضربها بالسّيف ضربة، فلم تعمل شيئا. فضربها ضربة أخرى، فقتلها وخرّت  إلى الأرض على جنبها. وهرب فصيلها حتّى صعد إلى الجبل، فرغا ثلاث مرّات إلى السّماء. وأقبل قوم صالح، فلم يبق أحد منهم إلّا شركه في ضربته. واقتسموا لحمها فيما بينهم، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها.

فلمّا رأى ذلك صالح، أقبل إليهم فقال: يا قوم، ما دعاكم إلى ما صنعتم، أعصيتم ربّكم؟

فأوحى اللّه- تعالى- إلى صالح- عليه السّلام-: إنّ قومك قد طغوا وبغوا، وقتلوا ناقة بعثتها إليهم حجّة عليهم، ولم يكن عليهم منها ضرر، وكان لهم فيها أعظم المنفعة.

فقل لهم: إنّي مرسل إليكم  عذابي إلى ثلاثة أيّام. فإن هم تابوا ورجعوا، قبلت توبتهم وصددت عنهم. وإن هم لم يتوبوا فيها ولم يرجعوا، بعثت عليهم عذابي في اليوم الثّالث.فأتاهم صالح- عليه السّلام-. فقال لهم: يا قوم، إنّي رسول ربّكم إليكم. وهو يقول لكم: إن أنتم تبتم ورجعتم واستغفرتم، غفرت لكم وتبت عليكم.

فلمّا قال لهم ذلك، كانوا أعتا ما كانوا وأخبث. وقالوا: يا صالح، ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين.

قال: يا قوم، إنّكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرّة، واليوم الثّاني وجوهكم محمرّة، واليوم الثّالث وجوهكم مسودّة.

فلمّا أن كانوا  أوّل يوم، أصبحوا ووجوههم مصفرّة. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال لكم صالح.

فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله، وإن كان عظيما.

فلمّا كان اليوم الثّاني، أصبحت وجوههم محمرّة. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم، قد جاءكم ما قال لكم صالح.

فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا، ما سمعنا قول صالح، ولا تركنا آلهتنا الّتي كان آباؤنا يعبدونها. ولم يتوبوا ولم يرجعوا.

فلمّا كان اليوم الثّالث، أصبحوا ووجوههم مسودّة. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم، قد أتاكم ما قال لكم صالح.

فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح.

فلمّا كان نصف اللّيل، أتاهم جبرئيل، فصرخ بهم صرخة، خرقت تلك الصّرخة أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم. وقد كانوا في تلك الثّلاثة الأيّام قد تحنّطوا وتكفّنوا، وعلموا أنّ العذاب نازل بهم. فماتوا أجمعون في طرفة عين، صغيرهم وكبيرهم. فلم يبق لهم ثاغية  ولا راغية  ولا شي‏ء إلّا أهلكه اللّه، فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى أجمعين. ثمّ أرسل اللّه عليهم مع الصّيحة النّار من السّماء فأحرقتهم أجمعين وكانت هذه قصّتهم‏

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، ما يقرب من بعض ما في الحديثين في سورة هود.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا

تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ : ظاهره أنّ تولّيه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين. ولعلّه خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أهل قليب بدر.

و قال: إنّا وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. أو ذكر ذلك على سبيل التّحسّر عليهم.

وَ لُوطاً، أي: وأرسلنا لوطا.

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: وقت قوله لهم. أو اذكر لوطا. و«إذ» بدل منه‏

في الكافي  عن الصّادق- عليه السّلام-: إنّ  أمّ إبراهيم- عليه السّلام- وأمّ لوط- عليه السّلام- كانتا  أختين. وهما ابنتان للاحج. وكان اللّاحج نبيّا منذرا، ولم يكن رسولا.

و في علل الشّرائع ، وفي تفسير العيّاشي ، عن الباقر- عليه السّلام-: وكان لوطا ابن خالة إبراهيم وكانت سارة امرأة إبراهيم [اخت لوط. وكان لوط وابراهيم نبيين مرسلين منذرين.]

 

 [و في الكافي ، عن الصّادق- عليه السّلام- إنّ إبراهيم‏]  خرج من بلاد نمرود ومعه لوط لا يفارقه وجاءت  سارة. إلى أن نزل بأعلى الشّامات، وخلّف لوطا بأدنى الشّامات.

أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ: توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح.

ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ : ما فعلها أحد قبلكم قطّ.

و «الباء» للتّعدية. و«من» الأولى لتأكيد النّفي والاستغراق، والثّانية للتّبعيض. والجملة استئناف مقرّرة للإنكار، كأنّه وبّخهم أولا بإتيان الفاحشة، ثمّ باختراعها فإنّه أسوء.و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي حمزة ، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قوم لوط: أنّ إبليس أتاهم في صورة حسنة، فيها تأنيث، عليه ثياب حسنة. فجاء إلى شبّان منهم، فأمرهم أن يقعوا به. ولو طلب إليهم أن يقع بهم، لأبوا عليه ولكن طلب إليهم أن يقعوا به. فلمّا وقعوا به، التذّوه. ثمّ ذهب عنهم وتركهم، وأحال بعضهم على بعض.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قوم لوط: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ. وذكر كما في علل الشّرائع سواء.

و في تفسير العيّاشي : عن بريد بن ثابت  قال: سأل رجل أمير المؤمنين- عليه السّلام-: أن يؤتى النّساء في أدبارهنّ؟

فقال: سفلت سفل اللّه بك. أما سمعت اللّه يقول: أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ.

و في عيون الأخبار ، عن الرّضا- عليه السّلام- من خبر الشّاميّ وما سأل عنه أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جامع الكوفة، حديث طويل. وفيه: وسأله عن أوّل من عمل عمل قوم لوط.

قال: إبليس، فإنّه  أمكن من نفسه.