سورة الحجّ‏ الآية 1-20

قيل : مكّيّة، إلّا ستّ آيات من هذانِ خَصْمانِ الى صِراطِ  الْحَمِيدِ .

و قيل : مدنيّة. وهي ثمان وسبعون آية.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال  بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام، لم تخرج سنته حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام. وإن مات في سفره، دخل الجنّة.

قلت: فإن كان مخالفا؟ قال: يخفّف عنه بعض ما هو فيه.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب قال: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: من قرأ سورة الحجّ، أعطي من الأجر كحجّة حجّها وعمرة اعتمرها، بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيها بقي .

و فيه : قال عمران بن الحصين وأبو سعيد الخدريّ: نزلت الآيتان من أوّل السّورة ليلا، وفي غزاة بني المصطلق- وهم حيّ من خزاعة- والنّاس يسيرون. فنادى رسول اللّه‏- صلّى اللّه عليه وآله. فحثّوا المطيّ، حتّى كانوا حول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقرأها عليهم. فلم ير أكثر باكيا من تلك اللّيلة.

فلمّا أصبحوا، لم يحطّوا السّرج عن الدّوابّ، ولم يضربوا الخيام، والنّاس بين باك أو  جالس حزين. متفكّر. فقال لهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أ تدرون أيّ يوم ذاك؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: ذاك يوم يقول اللّه- تعالى- لآدم: ابعث بعث النّار من ولدك. فيقول آدم: من كم وكم؟ فيقول [اللّه‏] - عزّ وجلّ-: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار، وواحد إلى الجنّة.

فكبر ذلك على المسلمين، وبكوا. فقالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله؟ فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أبشروا! فإنّ معكم خليقتين : يأجوج، ومأجوج، ما كانتا في شي‏ء إلّا كثّرتاه. ما أنتم في النّاس إلّا كشعرة بيضاء في الثّور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر، أو كشامة في جنب البعير.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا [ربع أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا]  ثلثي أهل الجنّة، وهم مائة وعشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي. ثمّ قال: ويدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب.

و في بعض الرّوايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول اللّه! سبعون ألفا!؟ قال:

نعم، ومع كلّ واحد سبعون ألفا. فقام عكاشة [بن محصن فقال: يا رسول اللّه! ادع اللّه أن يجعلني منهم. فقال: اللّهمّ اجعله منهم. فقام رجل من الأنصار فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم. فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: سبقك بها عكاشة] . قال ابن عبّاس: كان الأنصاريّ منافقا. فلذلك لم يدع له.

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ:

قيل : تحريكها للأشياء علي الإسناد المجازيّ. أو تحريك الأشياء فيها، فأضيفت إليها إضافة معنويّة- بتقدير في- أو إضافة المصدر إلى الظّرف، على إجرائه مجرى المفعول‏به.

و قيل : هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشّمس من مغربها. وإضافتها إلى «السّاعة» لأنّها من أشراطها.

شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ : هائل.

علّل أمرهم بالتّقوى بفظاعة السّاعة، ليتصوّروها بعقولهم، ويعلموا أنّه لا يؤمنهم منها سوى التدرّع بلباس التّقوى، فيبقوا على أنفسهم، ويتّقوها بملازمة التّقوى.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل. وفيه: معاشر النّاس! التّقوى! التّقوى! احذروا السّاعة! كما قال اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ.

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏

:

تصوير لهولها. والضّمير للزّلزلة. و«يوم» منتصب ب «تذهل».

 [و قرئ : «تذهل»]  [و «تذهل»]  مجهولا ومعروفا. أي: تذهلها الزّلزلة.

و الذّهول: الذّهاب عن الأمر بدهشة. والمقصود الدّلالة على أنّ هولها بحيث إذا دهشت الّتي ألقمت الرّضيع ثديها، نزعته عن فيه، وذهلت عنه. و«ما» موصولة، أو مصدريّة.

وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها

: جنينها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: كلّ امرأة تموت حاملة عند زلزلة السّاعة، تضع  حملها يوم القيامة.

و في كتاب التّوحيد  بإسناده إلى عبد اللّه بن سلام مولى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-]  حديث طويل. وفيه يقول- صلّى اللّه عليه وآله-:

 فيأمر اللّه- عزّ وجلّ- نارا يقال لها «الفلق» أشدّ شي‏ء في جهنّم عذابا. فتخرج من مكانها سوداء مظلمة بالسّلاسل والأغلال. فيأمرها اللّه- عزّ وجلّ- أن تنفخ في وجوه الخلائق نفخة. [فتنفخ‏] . فمن شدّة نفختها تنقطع السّماء، وتنطمس النّجوم، وتجمد البحار، وتزول الجبال، وتظلم الأبصار، وتضع الحوامل حملها، ويشيب الولدان من هولها يوم القيامة.

وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏

: كأنّهم سكارى وَما هُمْ بِسُكارى‏

 على الحقيقة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: يعني ذاهبة  عقولهم من الحزن والفزع متحيّرين.

وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

  فأرهقهم هوله، بحيث تطير عقولهم وأذهب تميّزهم.

و قرئ : «ترى» بالبناء للمفعول [من: أريتك قائما، أو رأيتك قائما]  بنصب «النّاس»  ورفعه، على أنّه ناب مناب الفاعل، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه. لأنّ الزّلزلة يراها الجميع، وأثر السّكر إنّما يراه كلّ أحد على غيره.

و قرئ : «سكرى»- كعطشى- إجراء للسّكر مجرى العلل.

و في طبّ الأئمّة - عليهم السّلام- بإسناده إلى سليم بن قيس الهلاليّ، عن أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- قال: إنّي لأعرف آيتين من كتاب اللّه المنزل، تكتبان للمرأة إذا عسر عليها [ولدها] . تكتبان في رقّ ظبي، وتعلّقه عليها في حقويها: بسم اللّه وباللّه. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً - سبع مرّات يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا (إلى آخره) مرّة واحدة.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ:

قيل : نزلت في النّضر بن الحارث. وكان جدلا يقول: الملائكة بنات اللّه. والقرآن‏أساطير الأوّلين. ولا بعث بعد الموت. وهي تعمّه وأضرابه.

وَ يَتَّبِعُ في المجادلة، أو في عامّة أحواله.

كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ : متجرّد للفساد. وأصله: العريّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: المريد الخبيث.

كُتِبَ عَلَيْهِ: على الشّيطان.

أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ: تبعه. والضّمير للشّأن.

فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ:

خبر ل «من». أو جواب له. والمعنى: كتب عليه إضلال من يتولّاه، لأنّه جبل عليه.

و قرئ  بالفتح، على تقدير: فشأنه أن يضلّه، لا على العطف، فإنّه يكون بعد تمام الكلام.

و قرئ  بالكسر في الموضعين، على حكاية المكتوب، أو على إضمار القول، أو تضمين الكتب معناه.

وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ  بالحمل على ما يؤدّي إليه.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ: من إمكانه وكونه مقدورا.

و قرئ : «من البعث»- بالتّحريك- كالجلب.

فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ، أي: فانظروا في بدء خلقكم، فإنّه يزيح ريبكم، فإنّا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق آدم منه. أو: من الأغذية الّتي يتكوّن منها المنيّ.

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، أي: منيّ. من النّطف، وهو الصّبّ.

ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ: قطعة من الدّم جامدة.

ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ: قطعة من اللّحم. وهو في الأصل قدر ما يمضغ.

و في الكافي  عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام- قال: النّطفة تكون بيضاء مثل النّخامة الغليظة. فتمكث في الرّحم إذا صارت فيه أربعين يوما. ثمّ تصير إلى علقة. وهي‏علقة كعلقة دم المحجمة الجامدة [في الرّحم‏]  بعد تحويلها عن النّطفة أربعين يوما. ثمّ تصير مضغة. قال: وهي مضغة لحمة حمراء، وفيها عروق خضر مشتبكة. ثمّ تصير إلى عظم وشقّ له السّمع والبصر، ورتّبت جوارحه.

مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: مسّواة لا نقص فيها ولا عيب، وغير مسوّاة. أو: تامّة وساقطة. أو: مصوّرة وغير مصوّرة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: المخلّقة إذا صارت دما. وغير مخلّقة السّقط.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن النّعمان، عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. قال: المخلّقة هم الذّرّ  الّذين خلقهم اللّه في صلب آدم، أخذ عليهم الميثاق. وأمّا قوله: وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فهم كلّ نسمة لم يخلقهم اللّه- عزّ وجلّ- في صلب آدم حين خلق الذّرّ، وأخذ عليهم الميثاق. وهم النّطف من العزل والسّقط، قبل أن ينفخ فيه الرّوح والحياة والبقاء.

و في قرب الإسناد  للحميريّ [عن أحمد بن محمّد، عن‏]  أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: سألته أن يدعو اللّه- عزّ وجلّ- لامرأة  من أهلنا بها حمل. فقال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: الدّعاء ما لم تمض أربعة أشهر.

فقلت له: إنّما لها أقلّ من هذا. فدعا لها. ثمّ قال:

إنّ النّطفة تكون في الرّحم ثلاثين يوما. وتكون علقة ثلاثين يوما. وتكون مضغة ثلاثين يوما. وتكون مخلّقة وغير مخلّقة ثلاثين يوما. فإذا تمّت الأربعة أشهر، بعث اللّه- تبارك وتعالى- إليها ملكين خلّاقين، يصوّرانه، ويكتبان رزقه وأجله، وشقيّا أو سعيدا.

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التّدريج قدرتنا وحكمتنا. وأنّ ما قبل التّغيّر والفساد والتّكوّن، قبلها مرّة أخرى. وأنّ من قدر على تغييره وتصويره أوّلا، قدر على ذلك ثانيا.و حذف المفعول إيماء إلى أنّ أفعاله هذه يتبّين بها من قدرته وحكته ما لا يحيط به الذّكر.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر- عليه السّلام-: لنبيّن  لكم أنّكم  كنتم كذلك في الأرحام.

وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ فلا يخرج سقطا.

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى:

هو وقت الوضع. وأدنا ستّة أشهر. وأقصا تسعة أشهر. والعامّة يقولون: أقصاه آخر أربع سنين.

و في الكافي  عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: لا تلد المرأة لأقلّ من ستّة أشهر.

و عن أبي جعفر الباقر - عليه السّلام- سئل أنّ غاية الحمل بالولد في بطن أمّه كم هو، فإنّ النّاس  يقولون ربّما بقي في بطنها سنين. فقال: كذبا! أقصى حدّ الحمل تسعة أشهر، لا يزيد لحظة. لو زاد ساعة، لقتل أمّه قبل أن يخرج.

و عن أبي عبد اللّه الصّادق وأبي الحسن موسى- عليهما السّلام-: إذا جاءت به لأكثر من سنة لم تصدّق، ولو ساعة واحدة.

و قرئ : «و نقرّ» بالنصب. وكذا قوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا: عطفا على «نبيّن». كأنّ خلقهم مدرجا لغرضين: تبيين القدرة، وتقريرهم في الأرحام، حتّى يولدوا وينشئوا ويبلغوا حدّ التّكليف.

و قرئا  بالياء رفعا ونصبا. و«يقرّ» بالياء ، و«نقرّ» من: قدرت الماء: إذا صببته ، و«طفلا» حال أجريت على تأويل كلّ واحد، أو للدّلالة على الجنس، أو لأنّه في الأصل مصدر.ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: كما لكم في العقل والقوّة. جمع شدّة، كأنعم ونعمة.

كأنّها شدّة في الأمور.

و في الكافي  عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام، وهو أشدّه .

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عند بلوغ الأشدّ أو قبله.

و قرئ : «يتوفّى»، أي: يتوفّاه اللّه.

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ: الهرم والخرف.

و قرئ  بسكون الميم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا محمّد بن أحمد، عن أبي العبّاس ، عن ابن أبي نجران، عن محمّد بن أبي القاسم، عن عليّ بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه- صلوات اللّه عليهما- قال: إذا بلغ العبد مائة سنة، فذلك أرذل العمر.

و في مجمع البيان  عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- «خمس وسبعون» كما سبق في سورة النّحل.

و يمكن الجمع بين الاختلاف بحمله على الاختلاف بسبب الأمزجة والطّبائع واختلاف البلدان ومحالّ القطّان.

لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً: ليعود كهيئته في أوان الطّفوليّة من سخافة العقل وقلّة الفهم، فينسى ما  عمله، وينكر ما  عرفه.

و الآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه، من الأمور المختلفة والأحوال المتضادّة. فإنّ من قدر على ذلك، قدر على نظائره.

وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً: ميّتة يابسة. من: همدت النّار: إذا صارت رمادا.

فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ: تحرّكت بالنّبات.وَ رَبَتْ وانتفخت.

و قرئ : «ربأت »، أي: ارتفعت.

وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ: من كلّ صنف بَهِيجٍ : حسن رائق.

و هذه دلالة ثالثة كرّرها اللّه لظهورها وكونها مشاهدة.

ذلِكَ: ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، وتحويله على أوال متضادّة ، وإحياء الأرض بعد موتها.

و هو مبتدأ خبره:

بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، أي: بسبب أنّه الثّابت في نفسه الّذي به تتحقّق الأشياء.

وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى: وأنّه يقدر على إحيائها، وإلّا لما أحيا النّطفة والأرض الميّتة.

وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ :

لأنّ قدرته لذاته الّذي نسبته إلى الكلّ على سواء. فلمّا دلّت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره على إحياء كلّها.

وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها:

فإنّ التّغيّر من مقدّمات الانصرام وطلائعه.

وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ  بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.

و في قرب الإسناد  للحميريّ بإسناده إلى صفوان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

 

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لجبرئيل: يا جبرئيل، أرني كيف يبعث اللّه- تبارك وتعالى- العباد يوم القيامة. قال: نعم. فخرج إلى مقبرة بني ساعدة. فأنى قبرا، فقال له: اخرج بإذن اللّه. فخرج رجل  ينفض رأسه من التّراب، وهو يقول:

وا لهفاه!- واللّهف هو الثّبور. ثمّ قال: ادخل. فدخل.

ثمّ قصد به إلى قبر آخر، فقال: اخرج بإذن اللّه. فخرج شابّ ينفض رأسه من‏التّراب، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. وأشهد أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها. وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. ثمّ قال:

هكذا يبعثون يوم القيامة يا محمّد!

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا أراد اللّه أن يبعث الخلق، أمطر السّماء على الأرض أربعين صباحا. فاجتمعت الأوصال، ونبتت اللّحوم.

و في أمالي الصّدوق - رحمه اللّه- مثله سواء.

 

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ:

قيل : تكرير للتّأكيد ولما نيط به من الدّلالة بقوله:

وَ لا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ :

على أنّه لا سند له من استدلال، أو وحي. أو الأوّل في المقلّدين، وهذا في المقلّدين.

و المراد بالعلم العلم الفطريّ، ليصحّ عطف  الهدى والكتاب عليه.

ثانِيَ عِطْفِهِ، أي: متكبّرا. وثني العطف كناية عن التّكبّر، كليّ الجيد. أو:

معرضا عن الحقّ، استخفافا.

و قرئ  بالفتح. أي: مانع تعطّفه.

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ:

علّة للجدال.

و قرئ  بفتح الياء، على أنّ إعراضه عن الهدى المتّمكّن  منه بالإقبال على الجدال الباطل، خروج من الهدى إلى الضّلال. وأنّه من حيث إنّه مؤدّاه كالغرض له.

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ:

قيل : وهو ما أصابه يوم بدر.

وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ، أي: المحرق. وهو النّار.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: نزلت هذه الآية في أبي جهل. ثانِيَ عِطْفِهِ.

قال: تولّى عن الحقّ. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. قال: عن طريق اللّه- عزّ وجلّ- والإيمان.

و في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام-: ومن خاصم الخلق في غير ما يؤمر به، فقد نازع الخالقيّة والرّبوبيّة. قال اللّه- تعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وليس أحد أشدّ عقابا ممّن لبس قميص النّسك بالدّعوى  بلا حقيقة ولا معنى.

و في شرح الآيات الباهرة : جاء في [باطن‏]  تفسير اهل البيت- صلوات اللّه عليهم- عن حمّاد بن عيسى قال: حدّثني بعض أصحابنا حديثا يرفعه إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو الأوّل ثانِيَ عِطْفِهِ إلى  الثّاني. وذلك لمّا أقام  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الإمام [أمير المؤمنين- عليه السّلام-]  علما للنّاس، وقالا: واللّه لا نفي  له بهذا أبدا!

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ:

على الالتفات أو إرادة القول. أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتّعذيب بسبب ما اقترفته  من الكفر والمعاصي.

وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ . وإنّما هو مجاز لهم على أعمالهم.

قيل : والمبالغة لكثرة العبيد.

و أقول: للإشعار بأنّه لا يتّصف بالظّلم، لأنّه نقص. ولو فرض كونه كمالا واتّصف به، يجب أن يتّصف بما هو أكمل أفراده. لأنّ كلّ ما هو كمال يجب أن يكون فيه على‏الكمال.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ: على طرف من الّدين، لا ثبات له فيه. كالّذي يكون على طرف الجيش، فإن أحسّ بظفر، قرّ، وإلّا، فرّ.

فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ:

قيل : روي أنّها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة. فكان أحدهم إذا صحّ بدنه، ونتجت فرسه مهرا سريّا، وولدت امرأته غلاما سويّا، وكثر ماله وماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيرا. واطمأنّ. وإن كان الأمر بخلافه، قال: ما أصبت إلّا شرّا! وانقلب.

و عن أبي سعيد

 أنّ يهوديّا أسلم فأصابته مصائب. فتشاءم بالإسلام. فأتى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وقال: أقلني. فقال: إنّ الإسلام لا يقال. فنزلت.

خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد.

و قرئ : «خاسرا» بالنّصب- على الحال- والرّفع، على الفاعليّة. ووضع الظّاهر موضع الضّمير، تنصيصا على خسرانه. أو على أنّه خبر محذوف.

ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ، إذ لا خسران مثله.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن ابن بكير، عن ضريس، عن أبى عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قال: إنّ الآية تنزل في الرّجل ثمّ تكون في أتباعه.

ثمّ قلت: كل من نصب دونكم شيئا، فهو ممّن عبد  اللّه على حرف؟ فقال: نعم.

و قد يكون محضا.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن الفضيل وزرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ- إلى قوله:- خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.

قال زرارة: سألت عنها أبا جعفر- عليه السّلام- فقال: هؤلاء قوم عبدوا اللّه،و خلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه، وشكّوا في محمّد وما جاء به. فتكلّموا بالإسلام، وشهدوا أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه وأقرّوا بالقرآن، وهم في ذلك شاكّون في محمّد وما جاء به، [و ليسوا شكّاكا في اللّه. قال اللّه- عزّ وجلّ-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، يعني: على شكّ في محمّد وما جاء به‏]  فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ، يعني: عافية في نفسه وماله وولده، اطْمَأَنَّ بِهِ ورضي به. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ: بلاء في جسده أو ماله، تطيّر وكره المقام على الإقرار بالنّبيّ. فرجع  إلى الوقف والشّكّ، فنصب العداوة للّه ولرسوله والجحود بالنّبيّ وما جاء به.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ. قال:

هم قوم وحّدوا اللّه، وخلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه. فخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أنّ محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله وسلّم- رسول اللّه. فهم يعبدون اللّه على شكّ في محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وما جاء به. فأتوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقالوا: ننطر . فإن كثرت أموالنا، وعوفينا في أنفسنا وأولادنا، علمنا أنّه صادق، وأنّه رسول اللّه. وإن كان غير ذلك، نظرنا .

قال اللّه- عزّ وجلّ-: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، يعني: عافية في الدّنيا. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ، يعني: بلاء في نفسه [و ماله‏]  انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ: انقلب على شكّه إلى الشّرك. خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: فإنّ في النّاس من خسر الدّنيا والآخرة بترك الدّنيا للدّنيا، ويرى أنّ لذّة الرّئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنّعم المباحة المحلّلة.

فيترك ذلك أجمع، طلبا للرّئاسة الباطلة.يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ: يعبد جمادا لا يضرّ بنفسه ولا ينفع.

قال أبو جعفر- عليه السّلام- في الحديث السّابق المنقول عن الكافي»: ينقلب مشركا يدعو غير اللّه ويعبد غيره. فمنهم من يعرف فيدخل  الإيمان قلبه، فيؤمن ويصدّق، ويزول عن منزلة من الشّكّ إلى الإيمان. ومنهم من يثبت على شكّه. ومنهم من ينقلب الى الشّرك.

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن زرارة، مثله.

 

ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ  عن المقصد.

مستعار من ضلال من أبعد في التّيه ضالّا.

يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ بكونه معبودا- لأنّه يوجب القتل في الدّنيا والعذاب في الآخرة- أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الّذي يتوقّع بعبادته. وهو الشّفاعة والتّوسّل بها إلى اللّه.

و اللّام متعلّقة ب «يدعو»  من حيث إنّه بمعنى يزعم، والزّعم قول مع اعتقاد. أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى يقول. أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره به. أو مستأنفة، على أنّ «يدعو» تكرير للأول، و«من» مبتدأ خبره.

لَبِئْسَ الْمَوْلى: النّاصر.

وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ : الصّاحب.

و في مصباح الشّريعة  قال الصّادق- عليه السّلام- في كلام طويل: وأمّا السّائر في مفاوز الاعتداء، والخائض في مراتع الغيّ وترك الحياء، باستحباب السّمعة والرّياء والشّهرة، والتّصنّع  إلى الخلق، المتزيّي بزيّ الصّالحين، المظهر بكلامه عمارة باطنه، وهو في الحقيقة خال عنها، قد غمرتها وحشة  حبّ المحمدة، وغشيتها ظلمة الطّمع فيما افتتنه‏لهواه ، وأضل النّاس بمقالته، قال اللّه- عزّ وجلّ-: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ  من إثابة الموحّد الصّالح وعقاب المشرك. لا دافع له، ولا مانع.

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ:

قيل : كلام فيه اختصار. والمعنى: انّ اللّه ناصر رسوله في الدّنيا والآخرة. فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقّعه من غيظه.

و قيل : المراد بالنّصر الرّزق والضّمير ل «من».

فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [ثُمَّ لْيَقْطَعْ ]: فليستقصّ في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غضبا، أو المبالغ جزعا، حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته فيختنق. من قطع: إذا اختنق. فإنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. أو: فليمدد حبلا إلى سماء الدّنيا. ثمّ ليقطع به المسافة، حتّى يبلغ عنانه، فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه.

و قرئ : «ليقطع» بكسر اللّام.

فَلْيَنْظُرْ: فليصوّره في نفسه هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ: فعله.

قيل : سّماه على الأوّل كيدا، لأنّه منتهى ما يقدر عليه.

ما يَغِيظُ : غيظه، أو الّذي يغيظ من نصر اللّه.

و قيل : نزلت في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر اللّه، لاستعجالهم وشدّة غيظهم على المشركين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : إنّ الظّنّ في كتاب اللّه- عزّ وجلّ- على وجهين: ظنّ يقين، وظنّ شكّ. فهذا ظنّ شكّ. قال: من شكّ أنّ اللّه- عزّ وجلّ- لن يثيبه  في الدّنياو الآخرة، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ، أي: يجعل بينه وبين اللّه دليلا. والدّليل على أنّ السّبب هو الدّليل، قول اللّه - عزّ وجلّ- في سورة الكهف: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً، أي: دليلا.

و قال: ثُمَّ لْيَقْطَعْ، أي: يميّز. والدّليل على أنّ القطع هو التّميز قوله - تعالى-: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً، أي: ميّزناهم. فقوله- عزّ وجلّ-:

ثُمَّ لْيَقْطَعْ، أي: يميّز. فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ، أي: حيلته. والدّليل على أنّ الكيد هو الحيلة، قوله - تعالى-: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، أي: احتلنا  له حتّى حبس أخاه. وقوله - تعالى- يحكي قول فرعون: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، أي: حيلتكم.

قال: فإذا وضع لنفسه سببا وميّز، دلّه على الحقّ. فأمّا العامّة، فإنّهم رووا في ذلك أنّه من لم يصدّق بما قال اللّه- عزّ وجلّ- فليلق  حبلا إلى سقف البيت، ثمّ ليختنق.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا محمّد بن همّام، عن محمّد بن إسماعيل العلويّ، عن عيسى بن داود النّجّار قال: قال الإمام موسى بن جعفر: حدّثني أبي، عن أبيه أبي جعفر- صلوات اللّه عليهم-: أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إنّ ربّي وعدني نصرته، وأن يمدّني بملائكته، وأنّه ناصرني بهم وبعليّ [أخي‏]  خاصّة من بين أهل بيتي. فاشتدّ ذلك على القوم أن خصّ عليّا- عليه السّلام- بالنّصرة، وأغاظهم ذلك. فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: من كان يظن أن لن ينصر  الله محمدا بعلي في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ. قال: ليضع حبلا في عنقه إلى سماء بيته يمدّه حتّى يختنق فيموت، فلينظر هل يذهبنّ كيده غيظه .

وَ كَذلِكَ: ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ: أنزلنا القرآن كلّه آياتٍ بَيِّناتٍ: واضحات.وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي:

قيل : ولأنّ اللّه يهدي به، أو يثبّت على الهدى.

مَنْ يُرِيدُ  هدايته، أو ثباته. أنزله كذلك مبيّنا.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالحكومة بينهم، وإظهار المحقّ منهم عن المبطل، أو الجزاء، فيجازي كلّا منهم ما يليق به، ويدخله المحلّ المعدّ له.

و إنّما أدخلت «إنّ» على كلّ واحد من طرفي الجملة، لمزيد التّأكيد.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ : عالم به، مراقب لأحواله.

و في كتاب التّوحيد  بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه قال- عليه السّلام-: سلوني قبل أن تفقدوني.

فقام إليه الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف تؤخذ من المجوس الجزية، ولم ينزل إليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ؟

قال: بلى يا أشعث، قد أنزل اللّه عليهم كتابا، وبعث إليهم رسولا. حتّى كان لهم ملك، سكر ذات ليلة. فدعا بابنته إلى فراشه، فارتكبها. فلمّا أصبح، تسامع به قومه.

فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيّها الملك! دنّست علينا ديننا، وأهلكته! فاخرج، نطهّرك ونقم  عليك الحدّ. فقال لهم: اجتمعوا، واسمعوا قولي، فإن يكن  لي مخرج ممّا  ارتكبت، وإلّا فشأنكم.

فاجتمعوا. فقال لهم: هل علمتم أنّ اللّه لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وأمّنا حوّاء؟ قالوا: صدقت أيّها الملك. قال: أو ليس قد زوّج بنيه من بناته [و بناته‏]  من بنيه؟

قالوا: صدقت. هذا هو الدّين. فتعاقدوا على ذلك. فمحا اللّه ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب. فهم الكفرة يدخلون النّار بلا حساب. والمنافقون أشدّ حالا منهم.

قال الأشعث: واللّه، ما سمعت بمثل هذا الجواب. واللّه، لا عدت إلى مثلها أبدا.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ: يتسخّرلقدرته، ولا يتأبّى عن تدبيره. أو: يدلّ بذلّه على عظمة مدبّره. و«من» يجوز أن يعمّ أولي العقل وغيرهم، على التّغليب. فيكون قوله:

وَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ إفرادا لها  بالذّكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها.

و قرئ : «و الدّواب» بالتّخفيف، كراهة التّضعيف، أو الجمع بين السّاكنين.

وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ:

عطف عليها، إن جوّز إعمال اللّفظ الواحد في كلّ واحد من مفهوميه. وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر. فإنّ تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم. أو مبتدأ خبره محذوف، دلّ عليه خبر قسيمه نحو: حقّ له الثّواب، أو فاعل فعل مضمر. أي: يسجد له كثير من النّاس سجود طاعة.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الصّباح الكنانيّ، عن الأصبغ بن نباتة، قال:

 

قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ للشّمس ثلاثمائة وستّين برجا. كلّ برج منها مثل جزيرة من جزائر العرب. وتنزل كلّ يوم على برج منها. فإذا غابت، انتهت إلى حدّ بطنان العرش. فلم تزل ساجدة إلى الغد. ثمّ تردّ إلى موضع مطلعها، ومعها ملكان يهتفان معها.

و إنّ وجهها لأهل السّماء، وقفاها لأهل الأرض. ولو كان وجهها لأهل الأرض، لاحترقت الأرض ومن عليها، من شدّة حرّها. ومعنى سجودها ما قال- سبحانه وتعالى-: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ [وَ الشَّجَرُ وَالدَّوَابُ‏]  وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ: بكفره وإبائه عن الطّاعة.

و يجوز أن يجعل «و كثير» تكريرا للأوّل مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب، وأن يعطف به على السّاجدين بالمعنى العامّ موصوفا بما بعده.و قرئ : «حقّ» بالضّمّ، و«حقّا» بإضمار فعله.

وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ بالشّقاوة، فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسّعادة.

و قرئ  بالفتح بمعنى الإكرام.

إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ  من الإكرام والإهانة.

و في كتاب التّوحيد  بإسناده إلى عبد اللّه بن ميمون القّداح، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه- عليهما السّلام- قال: قيل لعليّ- عليه السّلام-: إنّ رجلا يتكلّم في المشيئة فقال: ادعه لي. قال: فدعاه له.

فقال له: يا عبد اللّه، خلقك اللّه لما شاء، أو لما شئت؟ قال: لما شاء.

قال: فيمرضك إذا شاء، أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء.

قال: فيشفيك إذا شاء، أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء.

قال: فيدخلك حيث شاء ، أو حيث شئت؟ قال: حيث شاء .

قال: فقال له عليّ- عليه السّلام-: لو قلت غير هذا، لضربت الّذي فيه عيناك.

و بإسناده  إلى سليمان بن جعفر الجعفريّ قال: قال الرّضا- عليه السّلام-: المشيئة [و الإرادة]  من صفات الأفعال. فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد.

هذانِ خَصْمانِ، أي: فوجان مختصمان. ولذلك قال: اخْتَصَمُوا حملا على المعنى. ولو عكس جاز. والمراد بهما المؤمنون والكافرون.

فِي رَبِّهِمْ: في دينه، أو في ذاته وصفاته.

و قيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون. فقال اليهود: نحن أحقّ باللّه، وأقدم منكم كتابا. ونبيّنا قبل نبيّكم. وقال المؤمنون: نحن أحقّ باللّه. آمنّا بمحمّد ونبيّكم، وبما أنزل اللّه من كتاب. وأنتم تعرفون كتابنا ونبيّنا ، ثمّ كفرتم به حسدا. فنزلت.فَالَّذِينَ كَفَرُوا:

فصل لخصومتهم. وهو المعنيّ بقوله : إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.

قُطِّعَتْ لَهُمْ: قدّرت على مقادير جثثهم.

و قرئ  بالتّخفيف.

ثِيابٌ مِنْ نارٍ نيران تحيط بهم إحاطة الثّياب.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أحمد بن محمّد البرقيّ، عن أبيه، عن محمّد بن الفضيل، عن ابن  أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- تعالى-:

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا بولاية عليّ- عليه السّلام- قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ.

و في كتاب الخصال  عن النّضر بن مالك قال: قلت للحسين [بن عليّ بن أبي طالب‏] - عليه السّلام-: يا أبا عبد اللّه، حدّثني عن قوله- تعالى-: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فقال: نحن وبنو أميّة اختصمنا في اللّه- تعالى-. قلنا: صدق اللّه.

و قالوا: كذب [اللّه‏] . فنحن [و ايّاهم‏]  الخصمان يوم القيامة.

و في مجمع البيان : قيل: نزلت الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في ستّة نفر من المؤمنين والكفّار تبارزوا يوم بدر. وهم: حمزة بن عبد المطّلب، قتل عتبة بن ربيعة، وعلي بن أبي طالب، قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، قتل شيبة بن ربيعة.

عن أبي ذرّ الغفاريّ وعطاء. وكان أبو ذرّ يقسم باللّه- تعالى- أنّها نزلت فيهم. ورواه البخاريّ في الصّحيح.

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ : حال من الضّمير في «لهم». أو خبر ثان. والحميم: الماء [الحارّ] .

يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، أي: يؤثّر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فتذاب به أحشاؤهم، كما يذاب به جلودهم.

و الجملة حال من «الحميم»، أو من ضمير «هم».

و قرئ  بالتّشديد للتّكثير.