سورة المؤمنون‏ الآية 41-60

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ: صيحة جبرئيل. صاح عليهم صيحة هائلة تصدّعت منها قلوبهم، فماتوا.

و استدلّ به على أنّ القرن قوم صالح.

بِالْحَقِّ: بالوجه الثّابت الّذي لا دافع له. أو: بالعدل من اللّه- كقولك: فلان يقضي بالحقّ. أو: بالوعد الصّدق.

فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً:

شبّههم في دمارهم بغثاء السّيل  وهو حميله، كقول العرب: سال  به الوادي لمن هلك.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً: الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.

فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ :

يحتمل الإخبار والدّعاء. و«بعدا» مصدر بعد: إذا هلك. وهو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها. واللّام لبيان من دعي عليه بالبعد. ووضع الظّاهر موضع ضميرهم للتّعليل.

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ :يعني: قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها: الوقت الّذي حدّ لهلاكها.

و «من» مزيدة للاستغراق.

وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ  الأجل.

ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا: متواترين واحدا بعد واحد. من الوتر وهو الفرد.

و التّاء بدل من الواو، كتولّج ويتقوّر . والألف للتّأنيث، لأنّ الرّسل جماعة.

و قرأ  أبو عمرو بالتّنوين، على أنّه مصدر- بمعنى المواترة- وقع حالا.

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ:

إضافة الرّسول مع الإرسال إلى المرسل، ومع المجي‏ء إلى المرسل إليهم، لأنّ الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه والمجي‏ء الّذي هو منتهاه إليهم.فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك.

وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لم نبق منهم إلّا حكايات يسمر بها. وهو اسم  جمع للحديث. أو جمع أحدوثة، وهي ما يتحدّث به تلهّيا.

فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ :

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا: بالآيات التّسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ : وحجّة واضحة ملزمة للخصم.

و يجوز أن يراد به العصى. وإفرادها لأنّها أولى المعجزات وأمّها تعلّقت بها معجزات شتّى، كانقلابها حيّة، وتلقّفها [ما أفكته‏]  السّحرة، وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وحراستها، ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلوا. وأن يراد به المعجزات، وبالآيات الحجج. وأن يراد بهما المعجزات، فإنّها آيات للنّبوّة وحجّة بيّنة على ما يدّعيه النّبيّ.

إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان والمتابعة.

وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ : متكبّرين.

فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا:

ثّنى البشر، لأنّه يطلق للواحد- كقوله : بَشَراً سَوِيًّا

- كما يطلق للجمع، كقوله : فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً. ولم يثنّ المثل، لأنّه في حكم المصدر.

و هذه القصص- كما ترى- تشهد بأنّ قصارى شبه المنكرين للنّبوّة قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة. وفساده يظهر للمستبصر بأذنى تأمّل. فإنّ النّفوس البشريّة، وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك، لكنّها متباينة الإقدام فيهما. وكما ترى في جانب النّقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادّة، يمكن أن يكون في طرف الزّيادة أغنياء عن التّعلّم والتّفكّر في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال.

فيدركون ما لا يدرك غيرهم. ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم. وإليه أشار بقوله - تعالى-: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.وَ قَوْمُهُما- يعني: بني إسرائيل- لَنا عابِدُونَ : خادمون منقادون كالعباد.

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ  بالغرق في بحر قلزم.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: التّوراة.

لَعَلَّهُمْ: لعلّ بني إسرائيل.

قيل : ولا يجوز عود الضّمير إلى فرعون وقومه، لأنّ التّوراة نزلت بعد إغراقهم.

يَهْتَدُونَ  إلى المعارف والأحكام.

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً بولادتها إيّاه من غير مسيس. فالآية أمر واحد مضاف إليهما. أو: جعلنا ابن مريم آية بأن تكلّم في المهد، وظهرت منه معجزات أخر، وأمّه آية بأن ولدت من غير مسيس. فحذفت الأولى لدلالة الثّانية عليها.

وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ:

قيل : أرض بيت  المقدس، فإنّها مرتفعة. أو دمشق. أو رملة فلسطين. أو مصر ، فإنّ قراها على الرّبى.

و قرأ  ابن عامر وعاصم بفتح الرّاء.

و قرئ : «رباوة» بالضّمّ والكسر.

ذاتِ قَرارٍ: مستقرّ من أرض منبسطة.

و قيل : ذات ثمار وزروع، فإنّ ساكنيها يستقرّون فيها لأجلها.

وَ مَعِينٍ : وماء معين ظاهر جار. فعيل من: معن الماء: إذا جرى. وأصله:

الإبعاد في الشّي‏ء. أو من الماعون، وهو: المنفعة. لأنّه نفّاع. أو مفعول من عانه: إذا أدركه بعينه. لأنّه لظهوره مدرك بالعيون. وصف مأواهما بذلك، لأنّه الجامع لأسباب التّنزّه وطيب المكان.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللّه- قوله‏- عزّ وجلّ-: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً- إلى قوله- وَمَعِينٍ. قال: الرّبوة الحيرة. وذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ الكوفة.

و في مجمع البيان : وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ. قيل:

حيرة الكوفة وسوادها. والقرار مسجد الكوفة. والمعين الفرات. عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه- عليهما السّلام.

و في جوامع الجامع  مثله.

 

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ:

قيل : نداء وخطاب لجميع الأنبياء، لا على أنّهم خوطبوا بذلك دفعة- لأنّهم أرسلوا في أزمنة مختلفة- بل على معنى أنّ كلّا منهم خوطب به في زمانه. فيدخل تحته عيسى دخولا أوّليّا. ويكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أنّ تهيئة أسباب التّنعّم لم تكن له خاصّة، وأنّ إباحة الطّيّبات للأنبياء شرع قديم، واحتجاجا على الرّهبانيّة في رفض الطّيّبات. أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمّة عند إيوائهما إلى الرّبوة ليقتديا بالرّسل في تناول ما رزقا .

و قيل : النّداء له. ولفظ الجمع للتّعظيم.

و الطّيّبات: ما يستلذّ من المباحات.

و قيل : الحلال الصّافي القوام. فالحلال ما لا يعصى اللّه فيه. والصّافي ما لا ينسى اللّه فيه. والقوام ما يمسك النّفس ويحفظ العقل.

و في مجمع البيان : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ. و

روي عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: انّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا. وإنّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ. وقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ.

وَ اعْمَلُوا صالِحاً، فإنّه المقصود منكم والنّافع عند ربّكم.

إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ  فأجازيكم  عليه.

وَ إِنَّ هذِهِ، ولأنّ هذه. والمعلّل به فَاتَّقُونِ. أو: واعلموا أنّ هذه.

و قيل : إنّه معطوف على بِما تَعْمَلُونَ.

و قرأ  ابن عامر بالتّخفيف. والكوفيّون بالكسر، على الاستئناف.

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً:

قيل : ملّتكم ملّة واحدة. أي: متّحدة في العقائد وأصول الشّرائع. أو جماعتكم جماعة واحدة متّفقة على الإيمان والتّوحيد في العبادة ونصب «أمّة» علي الحال.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم: أُمَّةً واحِدَةً قال: على مذهب واحد.

وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ  في شقّ العصا ومخالفة الكلمة.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا أحمد بن محمّد، عن أحمد بن الحسين، عن أبيه، عن الحسين  بن مخارق، عن أبي الورد وأبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قال: آل محمّد- عليهم السّلام.

فعلى هذا يكون الخطاب بقوله: «أمّتكم» لآل محمّد- صلّى اللّه عليهم. وقوله:

أُمَّةً واحِدَةً أي: غير متفرّقة في الأقوال والأفعال ، بل على طريقة واحدة [لا تفترق ولا تختلف أبدا. ولو كان المعنيّ بها أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله جميعها، لما قال:

 «واحدة»] . لأنّ‏

النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: ستفرق أمّتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة. فرقة منها ناجية. والباقي في النّار. والفرقة النّاجية هي الأمّة الواحدة وهم آل محمّد وشيعتهم.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ: تقطّعوا أمر دينهم، وجعلوه أديانا مختلفة. أو:

فتفرّقوا وتحزّبوا.و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض، أو التمييز. والضّمير إلى ما دلّ عليه الأمّة من أربابها أو لها.

زُبُراً: قطعا. جمع زبور الّذي بمعنى الفرقة.

و يؤيّده القراءة بفتح الباء»

. فإنّه جمع  زبرة. وهو حال من «أمرهم» أو من الواو.

أو مفعول ثان ل فَتَقَطَّعُوا. فإنّه متضمّن معنى جعل.

و قيل : كتبا. من: زبرت الكتاب. فيكون مفعولا ثانيا، أو حالا من «أمرهم» على تقدير مثل كتب.

و قرئ  بتخفيف الباء، كرسل في رسل.

كُلُّ حِزْبٍ من المتحزّبين بِما لَدَيْهِمْ من الدّين فَرِحُونَ : معجبون  معتقدون أنّهم على الحقّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

قال: كلّ من أختار لنفسه دينا، فهو فرح به.

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ: في جهالتهم.

شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة، لأنّهم مغمورون فيها، أو لاعبون بها.

و قرئ : «في غمراتهم».

حَتَّى حِينٍ : إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ: أنّما نعطيهم ونجعله مددا لهم.

مِنْ مالٍ وَبَنِينَ :

بيان ل «ما» وليس خبرا له. فإنّه غير معاب عليه. وإنّما المعاب عليه اعتقادهم أنّ ذلك خير لهم.

فخبره: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، والرّاجع محذوف. والمعنى: أ يحسبون أنّ الّذي نمدّهم به، نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم!؟بَلْ لا يَشْعُرُونَ : بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور، ليتأمّلوا فيعلموا أنّ ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير.

و قرئ : «يمدّهم» على الغيبة. وكذلك «يسارع» و«يسرع». ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممدّ به. و«يسارع» مبنيّا للمفعول.

و في نهج البلاغة : فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد، لرخّص لأنبيائه ورسله . ولكنّه- سبحانه- كره لهم التّكابر، ورضي لهم التّواضع. فالصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التّراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين. فكانوا قوما مستضعفين قد اختبرهم اللّه بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف ، ومحّصهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرّضا والسّخط  بالمال والولد، جهلا بمواقع الفتنة والاختبار، في موضع الغنا والاقتدار . فقد قال- سبحانه-: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ. فإنّ اللّه- سبحانه- يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم.

و في مجمع البيان : أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ. و

روى السّكونيّ، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن آبائه- عليهم السّلام- قال:

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ اللّه- تعالى- يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا قتّرت عليه شيئا من الدّنيا، وذلك أقرب له منّي. ويفرح إذا بسطت له الدّنيا، وذلك أبعد له منّي. ثم تلا هذه الآية إلى قوله: بَلْ لا يَشْعُرُونَ. ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم.

 

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ: من خوف عذابه مُشْفِقُونَ :

حذرون.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة يُؤْمِنُونَ  بتصديق مدلولها.وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ  شركا جليّا ولا خفيّا.

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا: يعطون ما أعطوا من الصّدقات.

و قرئ : «يأتون ما أتوا»، أي: يفعلون ما فعلوا من الطّاعات.

وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ: خائفة أن لا يقبل منهم، وأن لا يقع على الوجه اللّائق، فيؤاخذ به.

أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ : لأنّ مرجعهم إليه. أو: من أنّ مرجعهم إليه، وهو يعلم ما يخفى عليهم.