سورة مريم‏ الآية 61-80

جَنَّاتِ عَدْنٍ: بدل من الجنّة بدل البعض، لاشتمالها عليها. أو منصوب على المدح.

و قرئ  بالرّفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف. و«عدن» إمّا علم لجنّة من الجنّان، مشتملة على جنّات. أو علم للعدن بمعنى الإقامة كبيرة. ولذلك صحّ وصف ما أضيف‏

إليه بقوله: الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، أي: وعدها إيّاهم، وهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. أو: وعدهم بإيمانهم بالغيب.

إِنَّهُ: إنّ اللّه كانَ وَعْدُهُ الّذي هو الجنّة مَأْتِيًّا : يأتيها أهلها الموعود لهم.

و قيل : المفعول هاهنا بمعنى الفاعل. لأنّ ما أتيته، فقد أتاك، وما أتاك، فقد أتيته.

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً: فضول الكلام.

إِلَّا سَلاماً: لكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب. أو: إلّا تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع، أو على أنّ التّسليم إن كان لغوا، فلا يسمعون لغوا سواه. كقوله:

         ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم             بهنّ فلول من قراع الكتائب‏

 أو على أنّ معناه الدّعاء بالسّلامة، وأهلها أغنياء عنه، فهو من باب اللّغو ظاهرا، وإنّما فائدته الإكرام.

وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، على عادة المتنعّمين والتّوسّط بين الزّهادة والرّغابة.

و قيل : المراد دوام الرّزق ودروره.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: ذلك في جنّات الدّنيا قبل القيامة. والدّليل على ذلك قوله- تعالى-: بُكْرَةً وَعَشِيًّا. فالبكرة والعشيّ لا يكون في الآخرة في جنّات الخلد، وإنّما يكون الغدوّ والعشيّ في جنّات الدّنيا الّتي تنتقل إليها أرواح المؤمنين، وتطلع فيها الشّمس والقمر.

و في مجمع البيان : المراد: انّهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداءو العشاء .

 [و قيل : كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء (و العشاء)  أعجب به. وكانت تكره الوجبة، وهي الأكلة الواحدة في اليوم. فأخبر اللّه- تعالى- أنّ لهم في الجنّة [رزقهم‏]  بكرة وعشيّا وعلى قدر ذلك الوقت. وليس ثمّ ليل، وإنّما هو ضوء ونور. عن قتادة].

و قيل : إنّهم يعرفون مقدار اللّيل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ومقدار النّهار برفع الحجب وفتح الأبواب.

و في محاسن البرقيّ : عنه، عن النّضر بن سويد، عن عليّ [بن صامت‏]  عن ابن أخي  شهاب بن عبد ربّه قال: شكوت إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- ما ألقى من  الأوجاع والتّخم. فقال: تغدّ وتعشّ، ولا تأكل بينهما شيئا. فإنّ فيه فساد البدن. أما سمعت اللّه- عزّ وجلّ- يقول: لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا!؟

و في كتاب طبّ الأئمّة - عليه السّلام-: محمّد بن عبد اللّه العسقلانيّ- إلى آخر السّند- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله.

 

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ، أي: نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، كما يبقى على الوارث مال مورثه.

و الوراثة أقوى لفظ استعمل في التّمليك والاستحقاق، من حيث إنّها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع، ولا تبطل بردّ وإسقاط.

و قيل : يورث المتّقون من الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النّار- لو أطاعوا- زيادة في كرامتهم.

و قرئ : «نورّث- بالتّشديد.و في تهذيب الأحكام  في أدعية نوافل شهر رمضان: سبحان من خلق الجنّة لمحمّد وآل محمّد. سبحان من يورثها محمّدا وآل محمّد وشيعتهم.

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ:

حكاية قول جبرئيل.

قيل : حين استبطأه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا سئل عن قصّة أصحاب الكهف وذي القرنين والرّوح، ولم يدر ما يجيب رجاء أن يوحى إليه فيه. فأبطأ عليه خمسة عشر يوما- وقيل: أربعين- حتّى قال المشركون: ودّعه ربّه [و قلاه‏] . ثمّ نزل بيان ذلك. والتنزّل: النّزول على مهل. لأنّه مطاوع [نزل. وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا.

كما يطلق نزل بمعنى أنزل. والمعنى: وما ننزّل وقتا غبّ وقت إلّا بأمر اللّه‏]  على ما تقتضيه حكمته.

و قرئ : «و ما يتنزّل»- بالياء. والضّمير للوحي.

لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين. ولا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا نتنزّل في زمان دون زمان، إلّا بأمره ومشيئته.

وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا : تاركا لك. أي: ما كان عدم النّزول، إلّا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك اللّه لك وتوديعه إيّاك- كما زعمت الكفرة - وإنّما كان لحكمة رآها فيه.

و قيل : أوّل الآية حكاية قول المتّقين، حين يدخلون الجنّة. والمعنى: وما نتنزّل  الجنّة إلّا بأمر اللّه ولطفه، وهو مالك الأمور كلّها، السّالفة، والمترقّبة، والحاضرة. فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله. وقوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من اللّه لقولهم.

أي: وما كان ربك  ناسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثّواب عليها.في عيون الأخبار  عن الرّضا- عليه السّلام- حديث، وفيه يقول- عليه السّلام-: إنّ اللّه- تعالى- لا يسهو ولا ينسى [و إنّما ينسى‏]  ويسهو المخلوق والمحدّث.

ألا تسمعه- عزّ وجلّ- يقول: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا!؟

و في كتاب التّوحيد  عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه لرجل سأله عمّا اشتبه عليه من آيات الكتاب: وأمّا قوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، فإنّ ربّنا- تبارك وتعالى علوّا كبيرا- ليس بالّذي ينسى، ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم.

رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما:

بيان لامتناع النّسيان عليه. وهو خبر مبتدأ محذوف. أو بدل من «ربّك».

فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ:

خطاب للرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- مرتّب عليه. أي: لمّا عرفت ربّك بأنّه لا ينبغي له أن ينساك، أو أعمال العباد، فأقبل على عبادته، واصطبر عليها. ولا تتشوّش بإبطاء الوحي ومعاندة هذه الكفرة. وإنّما عدّي باللّام، لتضمّنه معنى الثّبات للعبادة فيما يرد عليه من الشّدائد والمشاقّ. كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك.

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا : مثلا يستحقّ أن يسمّى إلها. أو: أحدا يسمّى اللّه.

فإنّ المشركين، وإن سمّوا الصّنم إلها، لم يسمّوه اللّه قطّ. وذلك لظهور أحديّته وتعالي ذاته عن المماثلة، بحيث لم يقبل اللّبس والمكابرة.

و هو تقرير للأمر في «فاعبده». أي: إذا صحّ أن لا أحد مثله، ولا يستحقّ العبادة غيره، لم يكن بدّ  من التّسليم لأمره، والاشتغال بعبادته، والاصطبار على مشاقّها.

و في كتاب التّوحيد  عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في الحديث السّابق، يقول فيه- عليه السّلام- للسّائل أيضا: وأمّا قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، فإنّ تأويله: هل تعلم أحدا اسمه اللّه غير اللّه- تبارك وتعالى!؟فإيّاك أن تفسّر القرآن برأيك حتّى تفقهه  عن العلماء! فإنّه ربّ تنزيل يشبه كلام  البشر، وهو كلام اللّه وتأويله لا يشبه كلام البشر. كما ليس شي‏ء  من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله- تبارك وتعالى- شيئا من أفعال البشر. ولا يشبه شي‏ء من كلامه كلام  البشر. فكلام اللّه- تبارك وتعالى- صفته، وكلام البشر أفعالهم. فلا تشبّه كلام اللّه بكلام البشر، فتهلك وتضلّ.

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ:

المراد به الجنس بأسره. فإنّ المقول مقول فيما بينهم، وإن لم يقله كلّهم. كقولك: «بنو فلان قتلوا زيدا» وإن قتله واحد منهم، أو بعضهم المعهود. وهم الكفرة، أو أبيّ بن خلف، فإنّه أخذ عظاما بالية، ففتّها وقال: يزعم إنّا نبعث بعد ما نموت!!؟

أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا  من الأرض، أو من حال الموت.

و تقديم الظّرف وإيلاؤه حرف الإنكار، لأنّ المنكر ما بعد الموت وقت الحياة.

و انتصابه بفعل دلّ عليه «أخرج» لا به. لأنّ ما بعد اللّام لا يعمل فيما قبلها، وهي هاهنا مخلصة للتّوكيد، مجرّدة عن معنى الحال. فلا ينافي اقترانها بحرف الاستقبال.

و قرئ : «إذا ما متّ»- بهمزة واحدة مكسورة- على الخبر.

أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ:

عطف على «يقول». وتوسيط همزة الإنكار بينه وبين العاطف- مع أنّ الأصل أن تتقدّمهما- للدّلالة على أنّ المنكر بالذّات هو المعطوف، وأنّ المعطوف عليه إنّما نشأ منه.

فإنّه لو تذكّر وتأمّل أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً  بل كان عدما صرفا، لم يقل ذلك. فإنّه أعجب من جمع  الموادّ بعد التّفريق وإيجاد مثل ما كان من الأعراض.

و قرئ : «يذّكّر» من الذّكر الّذي يراد به التّفكّر. و«يتذكّر» على الأصل.في أصول الكافي : أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ، عن عليّ بن أسباط، عن خلف بن حمّاد، عن ابن مسكان، عن مالك الجهنيّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً. قال: فقال: لا مقدّرا ولا مكونا.

و في محاسن البرقيّ»: عنه، عن أبيه، عن إسماعيل بن إبراهيم، ومحمّد بن أبي عمير، عن عبد اللّه بن بكير، عن زرارة، عن حمران قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قوله: أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً. قال: لم يكن شيئا في كتاب ولا علم.

فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ:

إقسام باسمه مضافا إلى نبيّه، تحقيقا للأمر، وتفخيما لشأن الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله.

وَ الشَّياطِينَ:

عطف أو مفعول معه، لما روي  أنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشّياطين الّذين أغووهم، كلّ مع شيطانه في سلسلة.

ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ليرى السّعداء ما نجّاهم اللّه منه، فيزدادوا غبطة وسرورا، وينال الأشقياء ما ادّخروا لمعادهم عدة، فيزدادوا غيطا من رجوع السّعداء عنهم إلى دار الثّواب وشماتتهم عليهم.

جِثِيًّا : على ركبهم، بما يدهمهم من هول المحشر. أو لأنّه من توابع التّواقف للحساب قبل التّواصل إلى الثّواب والعقاب، وأهل الموقف جاثون، لقوله - تعالى-:

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً على المعتاد في مواقف التّقاول.

أو المراد أنّ الكفرة يساقون جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنّم إهانة بهم، لعجزهم عن القيام، لما عراهم من الشّدّة.

و قرئ  بكسر الجيم.ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ: من كلّ أمّة شاعت دينا أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا : من كان أعصى وأعتى منهم فنطرحهم  فيها.

و «أيّهم» مبنيّ على الضّمّ عند سيبويه- لأنّ حقّه أن يبنى كسائر الموصولات- لكنّه أعرب حملا على كلّ وبعض للزوم الإضافة. فإذا حذفت صدر صلته، زاد نقصه، فعاد إلى حقّه منصوب المحلّ ب «ننزعنّ». ولذلك قرئ  منصوبا.

مرفوع عند غيره. إمّا بالابتداء. على أنّه استفهاميّ خبره «أشدّ» والجملة محكيّة.

و تقدير الكلام: لننزعنّ من كلّ شيعة الّذين يقال فيهم: «أيّهم أشدّ». أو معلّق عنها «لننزعنّ» لتضمّنه معنى التّمييز اللّازم للعلم. أو مستأنفة والفعل واقع على «من كلّ شيعة» على زيادة «من».

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ، أي: لنحن أعلم بالّذين هم أولى بالصّليّ، [أو صليّهم‏]  أولى بالنّار. والصّليّ: مصدر صلي يصلى صليا، مثل كفى يكفى كفيا، ومضى يمضى مضيا. وهم المتنزعون. ويجوز أن يراد بهم وب «أشدّهم عتيّا» رؤساء الشّيع، فإنّ عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.

و قرأ  حمزة والكسائي وحفص: «صليّا»- بكسر الصّاد.

وَ إِنْ مِنْكُمْ: وما منكم.

التفات إلى «الإنسان». ويؤيّده أنّه قرئ : «و إن منهم».

إِلَّا وارِدُها:

قيل : إلّا وأصلها وحاضر دونها. يمرّ بها المؤمنون، وهي خامدة. وتنهار بغيرهم.

و روي  عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم:

قد وردتموها وهي خامدة. وأمّا قوله - تعالى-: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، فالمراد: عن‏عذابها.

و قيل : ورودها الجواز على الصّراط، فإنّه ممدود عليها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: أما تسمع الرّجل يقول: «وردنا ماء بني فلان»!؟ فهو الورود، ولم يدخله.

و في مجمع البيان : قال السّدّيّ: سألت مرّة الهمدانيّ عن هذا الآية. فحدّثني أنّ عبد اللّه بن مسعود حدّثهم عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: يرد النّاس النّار.

ثمّ يصدرون  بأعمالهم. فأوّلهم كلمع البرق. ثمّ كمرّ الرّيح. [ثمّ كحضر الفرس.]  ثمّ كالرّاكب. ثمّ كشدّ الرّجل. ثمّ كمشيه.

و روى  أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد، عن أبي سميّة  قال: اختلفنا  في الورود. فقال قوم: لا يدخلها مؤمن. وقال آخرون: يدخلونها جمعيا، ثمّ ينجّي الّذين اتّقوا. فلقيت جابر بن عبد اللّه، فسألته. فأومأ بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمّتا، إن لم أكن سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: الورود الدّخول. لا يبقى برّ ولا فاجر، إلّا يدخلها. فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم، حتّى أنّ للنّار- أو قال: لجهنّم- ضجيجا من بردها. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا .

و روي  مرفوعا، عن يعلى  بن أميّة ، عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: تقول النّار للمؤمن يوم لقيامة: جزيا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي!

و روي

 أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه سئل عن معنى الآية ، فقال: إنّ‏اللّه- تعالى- يجعل النّار كالسّمن الجامد، ويجمع عليها الخلق. ثمّ ينادي المنادي أن:

خذي أصحابك! وذري أصحابي! فو الّذي نفسي بيده، لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

و في مجمع البيان : قيل: إنّ الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار أنّ اللّه تعالى لا يدخل أحدا الجنّة، حتّى يطلعه على النّار وما فيها من العذاب، ليعلم تمام فضل اللّه عليه، وكمال لطفه وإحسانه إليه، فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنّة ونعيمها.

و لا يدخل أحدا  النّار، حتّى يطلعه على الجنّة وما فيها من أنواع النّعيم والثّواب، ليكون ذلك زيادة عقوبة له، و حسرة على ما فاته من الجنّة ونعيمها. وقد ورد في الخبر أنّ الحمّى من فيح جهنّم.

و روي  أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عاد مريضا، فقال: أبشر! إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: هي ناري، أسلّطها على عبدي المؤمن في الدّنيا، لتكون حظّه من النّار.

و في الكافي : محمّد عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل، عن سعدان، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: الحمّى رائد الموت. وهي  سجن المؤمن في الأرض. وهي  حظّ المؤمن من النّار.

محمّد بن يحيى  عن موسى بن الحسن، عن الهيثم  بن أبي مسروق، عن شيخ من أصحابنا مكنّى بأبي عبد اللّه، [عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-]  قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: الحمّى رائد الموت، وسجن اللّه- تعالى- في أرضه. وفورها من جهنّم. وهي حظّ كلّ مؤمن من النّار.

و في اعتقادات الإماميّة  للصّدوق- رحمة اللّه-: وروي أنّه لا يصيب أحدا من‏أهل التّوحيد ألم في النّار إذا دخلوها. وإنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها. فتكون تلك الألم  جزاء بما كسبت أيديهم . وما اللّه بظلّام للعبيد.

و لا يخفى أنّه لا اختلاف بين الأخبار عند التّأمّل.

كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا : كان ورودهم واجبا أوجبه اللّه على نفسه، وقضى بأن وعد به وعدا لا يمكن خلفه.

و قيل : أقسم عليه.

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا فيساقون  [إلى الجنّة] .

و قرئ : «ننجي» - بالتّخفيف- و«ثمّ»- بفتح الثّاء- أي: هنالك.

وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا : منهارة بهم كما كانوا.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ: مرتّلات  الألفاظ، مبيّنات المعاني، أو واضحات الإعجاز، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لأجلهم أو معهم.

أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ: المؤمنين أو الكافرين. خَيْرٌ مَقاماً: موضع قيام، أو مكانا.

و قرئ  بالضّمّ. أي: موضع إقامة ومنزل.

وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا : مجلسا ومجتمعا.

و المعنى: انّهم لمّا سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها والدّخل عليها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدّنيا، والاستدلال على أنّ زيادة حظّهم فيها، تدلّ على فضلهم وحسن حالهم عند اللّه، لقصور نظرهم على الحال، وعلمهم بظاهر من الحياة. فردّ عليهم ذلك أيضا مع التّهديد نقضا بقوله:

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً :

و «كم» مفعول «أهلكنا». و«من قرن» بيانه. وإنّما سمّي أهل كلّ عصر قرنا،

لأنّه يتقدّم من بعده. و«هم أحسن» صفة ل «كم». و«أثاثا» تمييز عن النّسبة، وهو متاع البيت. وقيل: هو ما جدّ  منه والخرثيّ ما رثّ. والرّئي: المنظر، فعل من الرّؤية- كالطّحن.

و قرأ  نافع وابن عامر: «ريّا» على قلب الهمزة وإدغامها. أو على أنّه من الرّيّ الّذي هو النّعمة، وأبو بكر: «رييا» على القلب.

و قرئ : «ريا»- بحذف الهمزة- و«زيّا» من الزّيّ، وهو الجمع، فإنّه محاسن مجموعة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عنى به الثّياب والأكل والشّرب.

و في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: الأثاث المتاع. وأمّا «رئيا» فالجمال  والمنظر الحسن.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن سلمة  بن الخطّاب، عن الحسن بن عبد الرّحمن، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِذا تُتْلى (الآية). قال: كان رسول [اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- دعا قريشا إلى ولايتنا. فنفروا، وأنكروا. فقال الّذين كفروا من قريش للّذين آمنوا الّذين أقرّوا لأمير]  المؤمنين ولنا أهل البيت: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، تعييرا منهم. فقال اللّه ردّا عليهم: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ من الأمم السّالفة (الآية).

قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فيمدّه ويمهله بطول العمر والتّمتع به.

و إنّما أخرجه على لفظ الأمر، إيذانا بأنّ إمهاله ممّا ينبغي أن يفعل استدراجا وقطعالمعاذيره، كقوله : إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. وكقوله : أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ.

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ:

قيل : غاية المدّ.

و قيل : غاية قول الّذين كفروا للّذين آمنوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ [خَيْرٌ]  حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ.

إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ:

تفصيل للموعود، فإنّه إمّا العذاب في الدّنيا- وهو غلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إيّاهم قتلا وأسرا- وإمّا يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنّكال.

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه، وعاد ما متّعوا به خذلانا ووبالا عليهم.

و هو جواب الشّرط، والجملة محكيّة بعد «حتّى».

وَ أَضْعَفُ جُنْداً ، أي: فئة وأنصارا.

قابل به أَحْسَنُ نَدِيًّا من حيث أنّ حسن النّادي باجتماع وجوه القوم وأعيانه وظهور شوكتهم واستظهارهم.

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً: عطف على الشّرطيّة المحكيّة بعد القول. كأنّه لمّا بيّن أنّ إمهال الكافر وتمتّعه بالحياة الدّنيا، ليس لفضله، أراد أن يبيّن أنّ قصور خطّ المؤمن منها، ليس لنقصه، بل لأنّ اللّه أراد به ما هو خير له وعوضه منه.

و قيل : عطف على «فليمدد»، لأنّه في معنى الخبر. كأنّه قيل: من كان في الضّلالة، [يزيد اللّه في ضلاله‏] ، ويزيد المقابل له هداية.

و في أصول الكافي  في الحديث السّابق قال: قلت: قوله: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. قال: كلّهم كانوا في الضّلالة، لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين‏- عليه السّلام- ولا بولايتنا. فكانوا ضالّين مضلّين. فيمدّ  لهم في ضلالتهم وطغيانهم، حتّى يموتوا فيصيّرهم اللّه شرّا مكانا وأضعف جندا.

قلت : قوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً. قال: أمّا قوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فهو خروج القائم- عليه السّلام- وهو السّاعة. فسيعلمون ذلك اليوم وما نزل بهم من اللّه على يدي قائمه.

فذلك قوله: مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً يعني عند القائم- عليه السّلام- وَأَضْعَفُ جُنْداً.

قلت: قوله: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً. قال: ليزيدهم ذلك اليوم هدى على هدى، باتّباعهم القائم- عليه السّلام- حيث لا يجحدونه ولا ينكرونه.

وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ: الطّاعات الّتي تبقي عائدتها أبد الآباد خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً: عائدة ممّا متّع به الكفرة من النّعم المخدجة  الفانية الّتي يفتخرون بها. سيّما ومآلها النّعيم المقيم، ومآل  هذه الحسرة والعذاب الدّائم. كما أشار إليه بقوله:

وَ خَيْرٌ مَرَدًّا : مرجعا  وعاقبة.

و الخير هاهنا إمّا لمجرّد الزّيادة، أو على طريقة قولهم: الصّيف أحرّ من الشّتاء، أي:

أبلغ في حرّه منه في برده.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هو قول المؤمن: سبحان اللّه.

و الحمد للّه. ولا إله إلّا اللّه. واللّه أكبر.

و حدّثني  أبي، عن محمّد بن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: لمّا أسري بي إلى السّماء، دخلت الجنّة.

فرأيتها قيعانا يققا . ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة ذهب ولبنة فضّة. وربّما أمسكوا.

فقلت لهم: مالكم ربّما بينتم، وربّما أمسكتم؟ فقالوا: حتّى تجيئنا النّفقة. فقلت لهم، وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن في الدّنيا: «سبحان اللّه. والحمد للّه. ولا إله إلّا اللّه. واللّه‏أكبر». فإذا قال، بنينا. وإذا أمسك، أمسكنا.

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً  :

في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: انّ العاص بن وائل بن هشام القرشيّ ثمّ السّهميّ أحد  المستهزئين. وكان لخبّاب بن الأرت عليه حقّ. فأتاه يتقاضاه. فقال له العاص: ألستم تزعمون أنّ في الجنّة الذّهب والفضّة والحرير!؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني وبينك الجنّة! فو اللّه لأوتينّ فيها خيرا ممّا أوتيت في الدّنيا!

و لمّا كان الرّؤية أقوى سند الإخبار، استعمل «أ رأيت» بمعنى الإخبار. والفاء على أصلها. والمعنى: أخبر بقصّة هذا الكافر عقيب حديث أولئك.

و قرئ : «ولدا» جمع ولد- كأسد في أسد- أو لغة- كالعرب [و العرب‏] .

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ: قد بلغ من عظم شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الّذي توحّد به الواحد القهّار، حتّى ادّعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا، وتألّى  عليه!؟

أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً : أو اتّخذ من عالم الغيب عهدا بذلك، فإنّه لا يتوصّل إلى العلم به إلّا بأحد هذين الطّريقين!؟

و قيل : العهد كلمة الشّهادة والعمل الصّالح. فإنّ وعد اللّه بالثّواب عليهما، كالعهد عليه.

كَلَّا:

ردع وتنبيه على أنّه مخطئ فيما تصوّره لنفسه.

سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ: سنظهر له أنّا كتبنا قوله، كقوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة.أي: تبيّن أن لم تلدني لئيمة.

أو: سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدوّ، وحفظها عليه. ويجوز أن يكون حرف التسويف لمجرّد التّأكيد. فإنّ نفس الكتب لا تتأخّر عن القول، لقوله : ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا : ونطول له من العذاب ما يستأهله. أو:

نزيد عذابه ونضاعف له، لكفره وافترائه واستهزائه على اللّه. ولذلك أكدّه بالمصدر، دلالة على فرط غضبه عليه.

وَ نَرِثُهُ بموته ما يَقُولُ، يعني: المال والولد ممّا عنده منهما. وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً  لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدّنيا، فضلا أن يؤتى ثمّة زائدا.

و قيل : فردا رافضا لهذا القول، منفردا عنه.