سورة يوسف الآية 21-40

وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ: 

قيل : هو العزيز الّذي كان على خزائن مصر. وكان اسمه «قطفير» أو «إطفير». وكان الملك يومئذ ريّان بن الوليد العمليقيّ. وقد آمن بيوسف، ومات في حياته.

و قيل  كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله : وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ. والمشهور أنّه من أولاد فرعون يوسف، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.

نقل  أنّه اشتراه العزيز، وهو ابن سبع عشرة سنة. ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة. واستوزره الرّيّان، وهو ابن ثلاثين سنة. أعطاه اللَّه العلم والحكمة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وتوفيّ، وهو ابن مائة وعشرين.

و اختلف فيما اشتراه به من جعل شرائه غير الأوّل. فقيل : عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل : ملؤه فضّة. وقيل : ذهبا.

مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ- وكان اسمها  زليخا. كما يأتي في الخبر-: أَكْرِمِي مَثْواهُ: اجعلي مقامه عندنا كريما، أي: حسنا. والمعنى: أحسني تعهّده.

عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا وأموالنا، ونستظهر به في مصالحنا.

أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً: نتبنّاه- وكان عقيما- لما تفرّس فيه من الرّشد.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ولم يكن له ولد. فأكرموه وربّوه. فلمّا بلغ أشدّه، هوته امرأة العزيز. وكانت لا تنظر إلى يوسف امرأة إلّا هوته، ولا رجل إلّا أحبّه. وكان وجهه مثل القمر ليلة البدر.

وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ: وكما مكّنّا محبّته في قلب العزيز، أو كمامكّنّاه في منزله، أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، مكّنّا له فيها.

وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ:

عطف على مضمر. تقديره: ليتصرّف فيها بالعدل، ولنعلّمه. أي: كان القصد في إنجائه وتمكّنه إلى أن يقيم العدل، ويدبّر أمور النّاس، ويعلم معاني كتب اللَّه وأحكامه، فينفّذها. أو: تعبير المنامات المنبّئة عن الحوادث الكائنة، ليستعدّ لها، ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحلّ.

 

وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، لا يردّه شي‏ء، ولا ينازعه فيما يشاء. أو: على أمر يوسف. أراد به إخوة يوسف شيئا، وأراد اللَّه غيره. فلم يكن إلّا ما أراده.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  أنّ الأمر كلّه بيده. أو: لطائف صنعه، وخفايا لطفه.

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ: منتهى اشتداده في جسمه وقوّته. وهو سنّ الوقوف ما بين الثّلاثين والأربعين.

و قيل : سنّ الشّباب. ومبدؤه بلوغ الحلم.

آتَيْناهُ حُكْماً: حكمة. وهو العلم المؤيّد بالعمل. أو: حكما بين النّاس.

وَ عِلْماً، يعني: على تأويل الأحاديث.

وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ :

تنبيه على أنّه- تعالى- إنّما آتاه ذلك، جزاء على إحسانه في عمله، واتّقائه  في عنفوان أمره.

وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ: طلبت وتمحّلت أن يواقعها. من: راد يرود: إذا جاء وذهب لطلب شي‏ء. ومنه: الرّائد.

وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ:

قيل : كانت سبعة. والتّشديد للتّكثير، أو للمبالغة في الإيثاق.

وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ، أي: أقبل وبادر. أو: تهيّأت لك. والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح، كأين. واللّام للتّبيين، كالّتي في: سقيا لك.و قرأ  ابن كثير بالضّمّ، تشبيها له بحيث. ونافع وأبو عامر بالفتح وكسر الهاء- كحيط- وهو لغة فيه.

و قرأ  هشام كذلك إلّا أنّه يهمز. وقد روي عنه ضمّ التّاء.

و قرئ : «هيت»- كجير- و«هئت»- كجئت- من: هاء يهي‏ء: إذا تهيّأ. وعلى هذا فالّلام من صلته.

و في مجمع البيان : وروي عن عليّ- عليه السّلام-: «هئت لك» بالهمزة وضمّ التّاء.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ: أعوذ باللّه معاذا.

إِنَّهُ: إنّ الشّأن رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ: سيّدي «قطفير» أحسن تعهّدي، إذ قال لك: «أكرمي مثواه». فما جزاؤه أن أخونه في أهله.

و قيل : الضّمير للّه. أي: إنّه خالقي، وأحسن منزلتي، بأن عطف على قلبه، فلا أعصيه.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ : المجازون الحسن بالسّيّئ.

و قيل : الزّناة. فإنّ الزّنا ظلم على الزّاني والمزنيّ بأهله.

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها:

قيل : قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها. والهمّ بالشّي‏ء: قصده والعزم عليه.

و منه: الهمام، وهو: الّذي إذا همّ بشي‏ء، أمضاه.

و قيل : المراد بهمّه، ميل الطّبع ومنازعة الشّهوة، لا القصد الاختياريّ. وذلك ممّا لا يدخل تحت التّكليف. بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من اللَّه، من يكفّ عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، أو مشارفة الهمّ، كقولك: لو لم أخف اللَّه.

لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ:قيل : أي: في قبح الزّنا وسوء مغبّته، لخالطها، لشبق الغلمة وكثرة المبالغة.

و الجواب محذوف، يدلّ عليه المذكور سابقا، عند من لم يجوّز تقديم الجزاء عليها. ومن جوّزه، فلا حاجة إليه.

و قيل : رأى جبرئيل.

و قيل : تمثّل له يعقوب عاضّا على أنامله.

و قيل : «قطفير».

و قيل : نودي: يا يوسف! أنت مكتوب في الأنبياء، وتعمل عمل السّفهاء!؟

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللَّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام- مجيبا لبعض الزّنادقة- وقد قال: وأجده وقد شهر هفوات الأنبياء. يقول: في يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ-:

و أمّا هفوات الأنبياء- عليهم السّلام- وما بيّنه اللَّه في كتابه [و وقوع الكناية من أسماء من اجترم أعظم ممّا اجترمته الأنبياء، ممّن شهد الكتاب بظلمهم‏] ، فإنّ ذلك من أدلّ الدّلائل على حكمة اللَّه الباهرة، وقدرته القاهرة، وعزّته الظّاهرة. لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء- عليهم السّلام- تكبر في صدور أممهم، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلها، كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم. فذكرها، دلالة على تخلّفهم  عن الكمال الّذي انفرد  به- عزّ وجلّ-.

و في مجمع البيان ، عن الصّادق- عليه السّلام-: «البرهان» النّبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش، والحكمة الصّارفة عن القبائح .

كَذلِكَ، أي: مثل ذلك التّثبيت ثبّتناه. أو: الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ: خيانة السّيّد وَالْفَحْشاءَ: الزّنا.

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى خلف بن حمّاد، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال اللَّه- عزّ وجلّ-:كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، يعني: أن يدخل في الزّنا.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ : الّذين أخلصهم اللَّه لطاعته.

و قرأ  ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كلّ القرآن، أي:

الّذين أخلصوا دينهم للّه.

و في عيون الأخبار ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- عند المأمون، مع أهل الملل والمقالات، وما أجاب به عليّ بن الجهم في عصمة الأنبياء- صلوات اللَّه عليهم- حديث طويل. وفيه يقول:- عليه السّلام-: وأما قوله في يوسف- عليه السّلام-: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها، فإنّها همّت بالمعصية، وهمّ يوسف بقتلها، إن أجبرته، لعظم ما تداخله. فصرف اللَّه عنه قتلها والفاحشة. هو قوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، يعني: القتل والزّنا.

و في مجلس آخر» للرّضا- عليه السّلام- عند المأمون في عصمة الأنبياء، بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال:

حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا- عليه السّلام-. فقال له المأمون: يا ابن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال:

فما معنى قول اللَّه عزّ وجلّ- إلى أن قال:- فأخبرني عن قول اللَّه- تعالى-: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.

فقال الرّضا- عليه السّلام-: لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ولو لا أن رأى برهان ربّه، لهمّ بها، كما همّت به. لكنّه كان معصوما، والمعصوم لا يهمّ بذنب، ولا يأتيه. ولقد حدّثني أبي، عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال: همّت بأن تفعل، وهمّ بأن لا يفعل.

فقال المأمون: للّه درّك يا أبا الحسن!

و في باب آخر ، فيما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المجموعة، قال:

 

و بهذا الإسناد، عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- أنّه قال في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قال:

قامت امرأة العزيز إلى الصّنم، فألقت عليه ثوبا. فقال لها يوسف: ما هذا؟فقالت: أستحيي من الصّنم أن يرانا. فقال لها يوسف: أ تستحيين ممّن لا يسمع ولا يبصر [و لا يفقه‏] ، ولا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا ممّن خلق الإنسان وعلّمه!؟ فذلك قوله- تعالى-: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.

و في أمالي الصّدوق ، بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال لعلقمة: إنّ رضا النّاس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط. وكيف تسلمون ممّا لم تسلم منه أنبياء اللَّه ورسله وحجج اللَّه- عليهم السّلام-!؟ ألم ينسبوا يوسف- عليه السّلام- إلى أنّه همّ بالزّنا!؟

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير العيّاشيّ : عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:

لمّا همّت به وهمّ بها، قالت: كما أنت. قال: ولم؟ قالت: أغطّي وجه الصّنم لا يرانا.

فذكر اللَّه عند ذلك، وقد علم أنّ اللَّه يراه. ففرّ منها .

و أمّا

ما رواه عن محمّد بن قيس ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: إنّ يوسف لمّا حلّ سراويله، رأى مثال يعقوب [قائما]  عاضّا على أصبعه، وهو يقول له: يا يوسف! قال: فهرب. ثمّ قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: لكنّي- واللَّه- ما رأيت عورة أبي قطّ. ولا رأى أبي عورة جدّي قطّ. ولا رأى جدّي عورة أبيه قطّ. قال وهو عاضّ على إصبعه. فوثب. فخرج الماء من إبهام رجله.

فموافق لمذهب العامّة، ومحمول على التّقيّة.

يدلّ على

ما رواه عن بعض أصحابنا ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أيّ شي‏ء يقول النّاس في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ؟ قلت: يقولون:

رأى يعقوب عاضّا على أصبعه. فقال: لا ليس كما يقولون.

فقلت: فأي شي‏ء رأى؟ قال: لمّا همّت به وهمّ بها، قامت إلى صنم معها في البيت، فألقت عليه ثوبا. فقال لها يوسف: ما صنعت؟ قالت : طرحت عليه ثوبا.أستحيي أن يرانا. قال: فقال يوسف: فأنت تستحين من صنمك- وهو لا يسمع ولا يبصر- ولا أستحيي أنا من ربّي!؟

إسحاق بن يسار ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أنّ اللَّه بعث إلى يوسف- وهو في السّجن-: يا ابن يعقوب! ما أسكنك مع الخطّائين؟ قال: جرمي . فاعترف  بمجلسه منها مجلس الرّجل من أهله.

و اعلم أنّ العامّة- خذلهم اللَّه- نسبوا إلى يوسف- عليه السّلام- في هذا المقام أمورا، [و رووا بها روايات مختلقة لا يليق للمؤمنين نقلها، فكيف باعتقادها!] .

و نعم ما قيل : إنّ الّذين لهم تعلّق بهذه الواقعة هم: يوسف- عليه السّلام- والمرأة، وزوجها، والنّسوة، والشّهود، وربّ العالمين، وإبليس. وكلّهم قالوا ببراءة يوسف عن الذّنب. فلم يبق لمسلم توقّف في هذا الباب:

أمّا يوسف، فقوله : هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. وقوله : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.

و أمّا المرأة، فلقولها : وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. وقالت : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.

و أمّا زوجها، فلقوله : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.

و أمّا النّسوة، فلقولهنّ : امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وقولهنّ : حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ.

و أمّا الشّهود، فقوله - تعالى-: شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها (الآية).و أمّا شهادة اللَّه بذلك، فقوله- عزّ من قائل-: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وأمّا إقرار  إبليس بذلك  فقوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. فقد أقرّ إبليس بأنّه لم يغوه.

و عند هذا نقول لهؤلاء الجهّال الّذين نسبوا إلى يوسف- عليه السّلام- الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين اللَّه، فليقبلوا شهادة اللَّه بطهارته. وإن كانوا من أتباع إبليس، وجنوده فليقبلوا إقرار إبليس بطهارته.

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ:

أي: تسابقا إلى الباب.

و حذف الجارّ. أو ضمّن الفعل معنى الابتدار. وذلك أنّ يوسف- عليه السّلام- فرّ عنها ليخرج. وأسرعت وراءه، لتمنعه الخروج.

وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ: اجتذبته من ورائه، فقدّ قميصه.

و القدّ: الشّق طولا. والقطّ: الشّقّ عرضا.

وَ أَلْفَيا سَيِّدَها: وصادفا زوجها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ :

بادرت إلى هذا القول، إيهاما بأنّها فرّت منه، تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاما منه.

و «ما» نافية. أو استفهاميّة، بمعنى: أي شي‏ء جزاؤه إلّا السّجن!؟

قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي: طالبتني بالمؤاتاة.

و إنّما قال ذلك، دفعا لما عرّضته له من السّجن أو العذاب الأليم. ولو لم تكذب، لما قاله.

وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها:

قيل : ابن عمّها.

و قيل : ابن خالها صبيّا في المهد.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن بعض رجاله، رفعه قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ألهم اللَّه- عزّ وجلّ- يوسف أن قال للملك: سل هذا الصّبي في المهد، فإنّه سيشهد أنّها راودتني عن نفسي. فقال العزيز للصّبيّ. فأنطق اللَّه الصّبي في المهد ليوسف فقال:

إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ،

لأنّه يدلّ على أنّها قدّت قميصه من قدّامه بالدّفع عن نفسها، أو أنّه أسرع خلفها، فتعثّر بذيله، فانقدّ جيبه.

وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، لأنّه يدلّ على أنّها تبعته، فاجتذبت ثوبه، فقدّته.

و الشّرطيّة محكيّة على إرادة القول، أو على أنّ فعل الشّهادة من القول ونحوه.

و نظيره قولك: إن أحسنت إليّ، فقد أحسنت إليك. فإنّ معناه: أن تمنن عليّ بإحسانك، أمنن عليك بإحساني السّابق.

و قرئ : «من قبل» و«من دبر» بالضّمّ- لأنّهما قطعا عن الإضافة، كقبل وبعد- وبالفتح، كأنّهما جعلا علمين للجهتين، فمنعا من الصّرف، وبسكون العين.

و في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان في قميص يوسف ثلاث آيات في قوله- تعالى-: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وقوله- تعالى-: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ (الآية). وقوله- تعالى-: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا (الآية).

فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ: إنّ قولك: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً. أو: إنّ السّوء. أو: إنّ هذا الأمر مِنْ كَيْدِكُنَّ: من حيلتكنّ.

و الخطاب لها ولأمثالها. أو لسائر النّساء.

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ :

فإنّ كيد النّساء ألطف وأعلق بالقلب، وأشدّ تأثيرا في النّفس. ولأنهن يواجهن به الرّجال، والشّيطان يوسوس به مسارقة.

يُوسُفُ:حذف منه حرف النّداء، لقربه ومفاطنته للحديث.

أَعْرِضْ عَنْ هذا: اكتمه ولا تذكره.

وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يا زليخا.

إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ : من القوم المذنبين. من خطئ: إذا أذنب.

وَ قالَ نِسْوَةٌ:

هو اسم لجمع امرأة. وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقيّ. ولذلك جرّد فعله. وضمّ النّون لغة فيها.

فِي الْمَدِينَةِ:

ظرف ل «قال». أي: أشعن الحكاية في مصر. أو صفة نسوة.

قيل : وكنّ خمسا: زوجة الحاجب، والسّاقي، والخبّاز، والسّجّان، وصاحب الدّوابّ.

امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ: تطلب مواقعة غلامها إيّاها.

و العزيز بلسان العرب: الملك. وأصل فتا: فتى، لقولهم: فتيان. والفتوّة شاذّة.

قَدْ شَغَفَها حُبًّا: قد شقّ شغاف قلبها- وهو حجابه- حتّى وصل إلى فؤادها، حبّا.

و نصبه على التّمييز، لصرف الفعل عنه.

و قرئ : «شعفها». من: شعف البعير: إذا هنأه بالقطران، فأحرقه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: قَدْ شَغَفَها حُبًّا يقول: قد حجبها حبّه عن النّاس، فلا تعقل غيره. والحجاب هو الشّغاف. والشّغاف هو حجاب للقلب.

و في مجمع البيان  والجوامع ، نسب القراءة بالعين المهملة إلى أهل البيت- عليهم السّلام-.

إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ : في ضلال عن الرّشد، وبعد عن‏الصّواب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وشاع الخبر بمصر، وجعلت  النّساء يتحدّثن بحديثها، ويعذلنها  ويذكرنها.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ: [باغتيابهنّ.

و إنّما سمّاه مكرا، لأنهنّ أخفينه، كما يخفي الماكر مكره. أو قلن ذلك لتريهنّ يوسف. أو لأنّها استكتمتهنّ سرّها، فأفشين عليها.]

أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهنّ.

قيل : دعت أربعين امرأة فيهنّ الخمس.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فبعثت إلى كلّ امرأة رئيسة، فجمعن في منزلها.

و هيّأت لهنّ مجلسا. ودفعت إلى كلّ امرأة أترجّة  وسكّينا، فقالت اقطعن. ثمّ قالت ليوسف: اخرج عليهنّ. وكان في بيت. فخرج يوسف عليهنّ. فلمّا أن  نظرن إليه، أقبلن يقطعنّ أيديهنّ، وقلن كما حكى اللَّه- عزّ وجلّ-.

وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً:

قيل : ما يتّكئن عليه من الوسائد.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : «متكا»، أي: أترجّة.

كأنّه قرأه بإسكان التّاء وحذف الهمزة. أو طعاما ومجلس طعام، كما يأتي عن السّجاد- عليه السّلام-. فإنّهم كانوا يتّكئون للطّعام والشّراب تترّفا. فنهي عنه لذلك.

وَ آتَتْ: أعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، حتّى يتّكئن والسّكاكين بأيديهنّ. فإذا خرج عليهنّ يبهتن ويشغلن عن أنفسهنّ، فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، فيبكتن بالحجّة. أو يهاب يوسف من مكرها، إذا خرج على أربعين امرأة في‏أيديهنّ الخناجر.

وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ: عظّمنه، وهبن حسنه الفائق.

و قيل : كان يرى  تلألؤ وجهه على الجدران.

و قيل : «أكبرن» بمعنى: حضن. من أكبرت المرأة: إذا حاضت. والهاء ضمير للمصدر، أو ليوسف، على حذف اللّام. أي: حضن له من شدّة الشّبق.

و في مجمع البيان ، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: رأيت في السّماء الثّانية رجلا صورته صورة القمر ليلة البدر. فقلت لجبرئيل: من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف.

يعني حين أسري به.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن الصّادق- عليه السّلام- ما يقرب منه.

وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ: جرحنها بالسّكاكين من فرط الدّهشة.

وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ، تنزيها له من صفات العجز، وتعجّبا من قدرته على خلق مثله.

و أصله: حاشا. كما قرأ أبو عمرو  في الدّرج. فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا. وهو حرف يفيد معنى التّنزيه في باب الاستثناء. فوضع موضع التّنزيه. واللّام للبيان، كما في قولك: سقيا لك.

و قرئ : «حاش اللَّه»- بغير لام- بمعنى: براءة اللَّه. و«حاشا للّه»- بالتّنوين- على تنزيله منزلة المصدر.

و قيل : «حاشا» فاعل من الحشا الّذي هو النّاحية. وفاعله ضمير يوسف.

أي: صار في ناحية للّه ممّا يتوهّم فيه.

ما هذا بَشَراً:

لأنّ هذا الجمال غير معهود للبشر. وهي على لغة أهل الحجاز في إعمال «ما»عمل «ليس» لمشاركتها في نفي الحال.

و قرئ : «بشر»- بالرّفع- على لغة تميم. و«بشرى»، أي: بعبد مشترى لئيم.

إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ :

فإنّ الجمع بين الجمال الرّائق والكمال الفائق والعصمة البالغة، من خواصّ الملائكة. أو: لأنّ جماله فوق جمال البر، لا يفوقه فيه إلّا الملك.

و في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن مروان، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّ يوسف خطب امرأة جميلة كانت في زمانه. فردّت، وقالت: عبد الملك إيّاي تطلب!؟ قال: فطلبها إلى أبيها. فقال له أبوها: إنّ الأمر أمرها.

قال: فطلبها إلى ربّه وبكى. فأوحى اللَّه إليه: إنّي قد زوّجتكها. ثمّ أرسل إليها أنّي أريد أن أزوركم. فأرسلت إليه أن تعال . فلمّا دخل عليها، أضاء البيت لنوره. فقالت: «ما هذا إلّا ملك كريم». فاستسقى. فقامت إلى الطّاس لتسقيه. فجعل يتناول [الطّاس‏]  من يدها. فتناوله فاها. فجعل يقول لها: انتظري، ولا تعجلي. قال:

فتزوّجها.

قالَتْ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنّني في الافتنان به، قبل ان تتصوّرنه حقّ تصوّره. فلو تصورتنّه بما عاينتنّ، لعذرتنني. أو:

فهذا هو الّذي لمتنني فيه. فوضع «ذلك» موضع «هذا» رفعا لمنزلة المشار إليه.

وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ: فامتنع طلبا للعصمة. أقرّت لهنّ حين عرفت [أنّهنّ يعذرنها كي يعاونّها على إلانة عريكته.

وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ، أي: ما آمر به. فحذف الجارّ. أو: أمري إيّاه، بمعنى:]  موجب أمري. فيكون الضّمير ليوسف.

لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ : الأذلّاء.

و هو من: صغر- بالكسر- يصغر، صغرا وصغارا. والصّغير من: صغر- بالضّمّ- صغرا.و قرئ : «ليكونن». وهو يخالف خطّ المصحف. لأنّ النّون كتبت فيه بالألف ك «لنسفعا» على حكم الوقف. وذلك في الخفيفة لشبهها بالتّنوين.

قالَ رَبِّ السِّجْنُ:

و قرأ  يعقوب بالفتح، على المصدر.

أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، أي: آثر عندي من مؤاتاتها زنا، نظرا إلى العاقبة.

و إسناد الدّعوة إليهنّ جميعا، لأنّهنّ خوّفنه عن مخالفتها وزيّنّ له مطاوعتها، أو دعونه إلى أنفسهنّ.

و قيل : إنّما ابتلي بالسّجن لقوله هذا. وإنّما كان الأولى به أن يسأل اللَّه العافية.

و لذلك ردّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- على من كان يسأل الصّبر على البلاء.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى ابن مسعود قال: احتجّوا في مسجد الكوفة فقالوا: ما بال أمير المؤمنين- عليه السّلام- لم ينازع الثّلاثة، كما نازع طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية!؟ فبلغ عليّا- عليه السّلام-. فأمر أن ينادى بالصّلاة جامعة. فلمّا اجتمعوا صعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه.

ثمّ قال: يا معشر النّاس! إنّه قد بلغني عنكم كذا وكذا. قالوا: صدق أمير المؤمنين- عليه السّلام- قد قلنا ذلك.

قال: فإنّ لي بسنّة الأنبياء أسوة فيما فعلت. قال اللَّه- تعالى- في محكم كتابه :

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. قالوا: ومن هم، يا أمير المؤمنين؟

قال: أوّلهم إبراهيم- عليه السّلام إلى أن قال:- ولي بيوسف أسوة إذ قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فإن قلتم: إنّ يوسف دعا ربّه وسأله السّجن ليسخط  ربّه، فقد كفرتم. وإن قلتم: إنّه أراد بذلك لئلّا يسخط ربّه عليه، فاختار السّجن، فالوصيّ أعذر.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن العبّاس بن هلال، عن أبي الحسن‏

 الرّضا- عليه السّلام-:

قال السّجّان ليوسف: إنّي لأحبّك. فقال يوسف- عليه السّلام-: ما أصابني إلّا من الحبّ. إن كانت خالتي  أحبّتني، فسرقتني. وإن كان أبي أحبّني، فحسدوني إخوتي.

و إن كانت امرأة العزيز أحبّتني، فحبستني.

قال: وشكا [يوسف‏]  في السّجن إلى اللَّه، فقال: يا ربّ، بما  استحققت السّجن؟ فأوحى اللَّه إليه: أنت اخترته حين قلت: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. هلّا قلت: العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه!؟

و فيه : فما أمسى يوسف في ذلك البيت، حتّى بعثت إليه كلّ امرأة رأته تدعوه إلى نفسها. فضجر يوسف- عليه السّلام- [في ذلك البيت‏]  فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ (الآية).

وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي: وإن لم تصرف عنّي كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه عندي، بالتّثبيت على العصمة، أَصْبُ إِلَيْهِنَّ: أمل إلى إجابتهنّ، أو إلى أنفسهنّ بطبعي ومقتضى شهوتي.

و الصّبوة: الميل إلى الهوى. ومنه: الصّبا، لأن النّفوس تستطيبها، وتميل إليها.

و قرئ : «أصب». من الصّبابة، وهي: الشّوق.

وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ : من السّفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإنّ الحكيم لا يفعل القبيح. أو: من الّذين لا يعملون بما يعلمون، فإنّهم والجهّال سواء.

فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ: فأجابه اللَّه دعاءه الّذي تضمنّه قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ.

فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ: فثبّته بالعصمة، حتّى وطّن نفسه على مشقّة السّجن، وآثرها على اللّذّة المتضمّنة للعصيان .

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه الْعَلِيمُ  بأحوالهم وما يصلحهم.و في علل الشّرائع ، عن السّجّاد- عليه السّلام-: وكان يوسف من أجمل أهل زمانه. فلمّا راهق يوسف، راودته امرأة الملك عن نفسه. فقال: لها: معاذ اللَّه أنا من أهل بيت لا يزنون. فغلّقت الأبواب عليها وعليه، [و قالت: لا تخف. وألقت نفسها عليه.]

 

فأفلت منها هاربا إلى الباب، ففتحه. فلحقته، فجذبت قميصه من خلفه، فأخرجته منه.

فأفلت يوسف منها في ثيابه. وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

قال: فهمّ الملك بيوسف ليعذّبه. فقال له يوسف: وإله يعقوب، ما أردت بأهلك سوءا، بل هي راودتني عن نفسي. فاسأل هذا الصّبي أيّنا راود صاحبه عن نفسه.

قال: وكان عندها من أهلها صبيّ  زائر لها. فأنطق اللَّه الصّبيّ لفصل القضاء، فقال: أيّها الملك انظر إلى قميص يوسف. فإن كان مقدودا من قدّامه، فهو الّذي راودها. وإن كان مقدودا من خلفه، فهي الّتي راودته. فلمّا سمع الملك كلام الصّبيّ وما اقتصّ، أفزعه ذلك فزعا شديدا. فجي‏ء بالقميص، فنظر إليه. فلمّا رآه مقدودا من خلفه، قال لها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. وقال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ولا يسمعه أحد منك وأكتمه.

 [قال:]  فلم يكتمه يوسف وأذاعه في المدينة، حتّى قلنّ نسوة منهنّ: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ. فبلغها ذلك. فأرسلت إليهنّ، وهيّأت لهنّ طعاما ومجلسا.

ثمّ أتتهنّ بأترجّ، وأتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا. ثمّ قالت ليوسف: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وقلن ما قلن. فقالت لهنّ: هذا الّذي لمتنّني فيه. يعني في حبّه. وخرجت  النّسوة من عندها.

فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صاحبتها  تسأله الزّيارة. فأبى عليهنّ وقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فصرف اللَّه عنه كيدهنّ.ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ: ثمّ ظهر للعزيز وأهله، من بعد ما رأوا الشّواهد الدّالة على براءة يوسف، كشهادة الصّبيّ، وقدّ القميص، وقطع النّساء أيديهنّ، واستعصامه عنهنّ.

و فاعل «بدا» مضمر يفسّره لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ .

و ذلك أنّها خدعت زوجها، وحملته على سجنه زمانا، حتّى تبصر ما يكون منه، أو يحسب النّاس أنّه المجرم. فلبث في السّجن سبع سنين.

و قرئ  بالتّاء، على أنّ بعضهم خاطب به العزيز- على التّعظيم- أو العزيز ومن يليه. و«عتى» بلغة هذيل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: والآيات شهادة الصّبيّ، والقميص المخرق من دبر، واستباقهما الباب حتّى سمع  مجاذبتها إيّاه على الباب. فلمّا عصاها، لم تزل ملحّة  بزوجها، حتّى حبسه.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من خبر الشّاميّ وما سأل عنه أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جامع الكوفة، حديث طويل. وفيه: فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن يوم الأربعاء والتّطيّر  منه وثقله. وأيّ أربعاء هو؟

فقال- عليه السّلام-: آخر أربعاء في الشّهر. وهو المحاق. وفيه قتل قابيل هابيل أخاه- إلى أن قال:- ويوم الأربعاء ادخل يوسف- عليه السّلام- في  السّجن.

و في كتاب الخصال ، عن محمّد بن سهل البحرانيّ يرفعه إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: البكّاؤون خمسة- إلى أن قال:

و أمّا يوسف، فبكى على يعقوب، حتّى تأذّى به أهل السّجن فقالوا له: إمّا أن تبكي اللّيل وتسكت النّهار، وإمّا أن تبكي النّهار وتسكت اللّيل! فصالحهم على واحد منهما.و في تفسير العيّاشيّ : عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: ما بكى أحد بكاء ثلاثة- إلى قوله:- وأمّا يوسف، فإنّه كان يبكي على أبيه يعقوب وهو في السّجن فتأذّى به أهل السّجن فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما.

و في أصول الكافي : عليّ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن سيف بن عميرة قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: جاء جبرئيل- عليه السّلام- إلى يوسف وهو في السّجن. فقال: يا يوسف، قل في دبر كلّ صلاة: «اللّهمّ اجعل لي فرجا ومخرجا. وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب».

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ، أي: ادخل مع يوسف عبدان آخران من عبيد الملك.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عبدان للملك، أحدهما خبّاز 2، والآخر صاحب الشّراب.

قالَ أَحَدُهُما، يعني: صاحب الشّراب:

إِنِّي أَرانِي، أي: أرى في المنام. وهي حكاية الحال ماضية.

أَعْصِرُ خَمْراً: أي: عنبا. سمّاه بما يؤول إليه.

وَ قالَ الْآخَرُ، أي: الخبّاز .

إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ: تنهش منه.

و في تفسير العيّاشيّ : عن طربال، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا أمر الملك بحبس يوسف في السّجن، ألهمه اللَّه علم تأويل الرّؤيا. فكان يعبّر لأهل السّجن رؤياهم. وإنّ فتيين ادخلا معه في  السّجن يوم حبسه. فلمّا باتا، أصبحا فقالا له: إنّا رأينا رؤيا، فعبّرها لنا. فقال: وما رأيتما؟ فقال أحدهما: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ. وقال الآخر: [إنّي‏]  رأيت [أن‏]  أسقي الملك خمرا. ففسّر  لهما

رؤياهما على ما في الكتاب.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً. قال: أحمل فوق رأسي جفنة  فيها خبز تأكل الطّير منها.

نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ : إلى أهل السّجن. فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا، إن كنت تعرفه.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال: كان يقوم على المريض، ويلتمس للمحتاج، ويوسع على المحبوس.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال: كان يوسع المحبس، ويستقرض للمحتاج، ويعين الضّعيف.

و في مجمع البيان  وقيل: «من المحسنين»، أي: ممّن يحسن تأويل الرّؤيا.

قال: وهذا دليل على أنّ أمر الرّؤيا صحيح، وأنّها لم تزل في الأمم السّابقة.

و

في الحديث أنّ الرّؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوة.

و تأويله أنّ الأنبياء يخبرون بما سيكون، والرّؤيا تدلّ على ما سيكون. فيكون معنى الآية: انا نعلمك ونظنّك ممّن يعرف [تعبير]  الرّؤيا. ومن ذلك‏

قول أمير المؤمنين- عليه السّلام- قيمة كلّ امرئ ما يحسنه.

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، أي:

بتأويل ما قصصتما عليّ. أو: بتأويل الطّعام وكيفيّته. فإنّه يشبه تفسير المشكل.

كأنّه أراد أن يدعوهما إلى التّوحيد، ويرشدهما الطّريق القويم، قبل أن يسعف ما سألا منه، كما هو طريقة الأنبياء والأوصياء في الهداية والإرشاد. فقدّم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب، ليدلّهما على صدقه في الدّعوة والتّعبير.

ذلِكُما، أي: ذلك التّأويل مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام والوحي، وليس من‏قبيل التّكهّن والتّنجيم.

إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ :

تعليل لما قبله. أي: علّمني ذلك، لأنّي تركت ملّة أولئك وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. أو كلام مبتدأ لتمهيد الدّعوة وإظهار أنّه من بيت النّبوّة، ليقوّي رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق عليه. ولذلك جوّز للخامل  أن يصف نفسه، حتّى يعرف فيقتبس منه.

و تكرير الضّمير للدّلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة.

و في أمالي شيخ الطّائفة - قدّس سرّه- بإسناده إلى الحسن بن عليّ- عليهما السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام-: من لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-. ثمّ تلا هذه فقال يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ- إلى قوله:- يَعْقُوبَ.

ما كانَ لَنا ما صحّ لنا معشر الأنبياء. أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ، أيّ شي‏ء كان.

ذلِكَ أي التّوحيد.

مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَعَلَى النَّاسِ: وعلى سائر النّاس، ببعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث  إليهم. لا يَشْكُرُونَ :

هذا الفضل، فيعرضون عنه ولا يتنبّهون. أو: من فضل اللَّه علينا وعليهم، بنصب الدّلائل وإنزال الآيات، ولكنّ أكثرهم لا ينظرون إليها، ولا يستدلّون بها فيلغونها، كمن يكفر النّعمة ولا يشكرها.