سورة يوسف الآية 61-80

قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ: سنجتهد في طلبه من أبيه.

وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ  ذلك، لا نتوانى فيه.

وَ قالَ لِفِتْيانِهِ: لغلمانه الكيّالين. جمع فتى.و قرأ  حمزة والكسّائي وحفص: «لفتيانه»- على جمع الكثرة- ليوافق قوله:

اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ:

فإنّه وكّل بكلّ رجل واحدا يعبّئ بضاعتهم الّتي شروا بها الطّعام. وكانت نعالا وأدما. وإنّما فعل ذلك، توسيعا وتفضّلا عليهم، وترفّعا من أن يأخذ ثمن الطّعام، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به.

فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها: لعلّهم يعرفون حقّ ردّها. أو: لكي يعرفوها، إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ، وفتحوا أوعيتهم.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ : لعلّ معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرّجوع.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ:

حكم بمنعه بعد هذا الرّجوع، إن لم نذهب ببنيامين.

فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ: فأرسل نرفع المانع من الكيل، ونكتل ما نحتاج إليه.

و قرأ  حمزة والكسائيّ بالياء، على إسناده إلى الأخ. أي: يكتل لنفسه، فينضمّ اكتياله إلى اكتيالنا.

وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ  من أن يناله مكروه.

قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، وقد قلتم في يوسف: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.

فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، فأتوكّل عليه، وأفوّض إليه أمري. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين.

و انتصاب «حفظا» على التّمييز. و«حافظا»- على قراءة  حمزة والكسائي وحفص- يحتمله والحال، كقولهم: للّه درّه فارسا.

و قرئ : «خير حافظ»، و«خير الحافظين».

و في مجمع البيان : ورد في الخبر أنّ اللَّه- سبحانه- قال: فبعزّتي، لأردّنّهما إليك،بعد ما توكّلت عليّ.

وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ:

و قرئ : «ردّت» بنقل كسرة الدّال المدغمة إلى الرّاء، نقلها في بيع وقيل.

قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي: ما ذا نطلب!؟ هل من مزيد على ذلك، أكرمنا، وأحسن مثوانا، وباع منّا، وردّ علينا متاعنا!؟ أو: لا نطلب وراء ذلك إحسانا. أو: لا نبغي في القول، ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه. أو: ما نريد منك بضاعة أخرى.

و قرئ : «ما تبغي»- على الخطاب- أي: أيّ شي‏ء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الدّليل على صدقنا!؟

هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا:

استئناف موضّح لقوله: ما نَبْغِي.

وَ نَمِيرُ أَهْلَنا:

معطوف على محذوف. أي: ردّت إلينا فنستظهر بها، ونمير أهلنا بالرّجوع إلى الملك.

وَ نَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا.

وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ: وسق بعير، باستصحاب أخينا. هذا إذا كانت «ما» استفهاميّة. فأمّا إذا كانت نافية، احتمل ذلك، واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على ما نَبْغِي. أي: لا نبغي فيما نقول، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا.

ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ، أي: مكيل قليل لا يكفينا.

استقلّوا ما كيل لهم، فأرادوا أن يضاعفوه بالرّجوع إلى الملك، ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم.

و يجوز أن تكون الإشارة إلى كَيْلَ بَعِيرٍ. أي: ذلك شي‏ء قليل لا يضايقنا فيه الملك، ولا يتعاظمه.

و قيل : إنّه من كلام يعقوب. ومعناه: انّ حمل بعير شي‏ء يسير، لا يخاطر لمثله بالولد.و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى يعقوب بن سويد، عن أبي  جعفر- عليه السّلام- قال: قلت له: جعلت فداك، لم سمّي أميرُ المؤمنين أميرَ المؤمنين؟ قال: لأنّه يميرهم العلم. أما سمعت كتاب اللَّه- عزّ وجلّ-: وَنَمِيرُ أَهْلَنا!؟

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى يعقوب بن سويد بن بريد الحارثيّ، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر- عليه السّلام- مثله سواء.

 

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام-: لم سمّي أمير المؤمنين؟

قال: لأنّه يميرهم العلم. أما سمعت في كتاب اللَّه: وَنَمِيرُ أَهْلَنا!؟

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ: إذ رأيت منكم ما رأيت، حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ: حتّى تعطوني ما أتوثّق به من عند اللَّه، أي: عهدا مؤكّدا بذكر اللَّه- تعالى-.

لَتَأْتُنَّنِي بِهِ:

جواب القسم، إذ المعنى: حتّى تحلفوا باللّه لتأتنّني به.

إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ: إلّا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك. أو: إلّا أن تهلكوا جميعا.

و هو استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال. والتّقدير: لتأتنّني به على كلّ حال، إلّا حال الإحاطة بكم. أو من أعمّ العلل، على أنّ قوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ في تأويل النّفي.

أي: لا تمتنعون من الإتيان به، إلّا للإحاطة بكم. كقولهم: أقسمت باللّه إلّا فعلت، أي: ما أطلب منك إلّا فعلك به.

فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ: عهدهم، قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ: من طلب الموثق وإتيانه وَكِيلٌ : رقيب مطّلع، إن خلفتم، انتصف لي منكم.

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ:

لأنهم كانوا ذوي جمال وأبّهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا. ولعلّه لم يوصهم بذلك في الكرّة الأولى، لأنّهم كانوا مجهولين حينئذ. أو كان الدّاعي إليها خوفه على بنيامين. وللنّفس آثار، منها العين.و في مجمع البيان : وأنكر الجبّائي العين، وذكر أنّه لم تثبت بحجّة. وجوّزه كثير من المحقّقين. ورووا فيه الخبر

عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّ العين حقّ والعين ستنزل [الحالق.

و]  الحالق المكان المرتفع من الجبل وغيره. فجعل- عليه السّلام- العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل، من قوّة أخذها وشدّة بطشها.

و روي  في الخبر أنّه- عليه السّلام- كان يعوّذ الحسن والحسين- عليهما السّلام- بأن يقول: أعيذكما بكلمات اللَّه التّامّة، من كلّ شيطان وهامّة، من كلّ عين لامّة .

و روي  أنّ إبراهيم- عليه السّلام- عوّذ ابنيه. وأنّ موسى عوّذ ابني هارون بهذه العوذة.

و روي  أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا . فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول اللَّه، إنّ العين إليهم سريعة. أ فأسترقي لهم من العين؟ فقال- صلّى اللَّه عليه وآله-: نعم.

و روي  أنّ جبرئيل- عليه السّلام- أتى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وعلّمه  الرّقية. [و هي:]  بسم اللَّه. أرقيك من كلّ عين حاسد. اللَّه يشفيك.

و روي  عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّه قال: لو كان شي‏ء يسبق القدر، لسبقته العين.

و قد روي  عنه- عليه السّلام- ما يدلّ على أنّ الشّي‏ء إذا عظم في صدور العباد، وضع اللَّه قدره وصغّره .

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، [عن أبيه‏] ، عن بعض أصحابنا، عن القدّاح، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- : عوّذ  النّبيّ- صلّى‏اللَّه عليه وآله- حسنا وحسينا فقال: أعيذكما بكلمات اللَّه التّامّة ، وأسمائه الحسنى كلّها عامّة، من شرّ السّامّة والهامّة، ومن شر كلّ عين لامّة، ومن شر حاسد إذا حسد. ثمّ التفت النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- إلينا، فقال: هكذا [كان‏]  يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق- عليهم السّلام-.

وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ: ممّا قضى عليكم بما أشرت به إليكم، فإنّ الحذر لا يمنع القدر.

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ: يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم بسوء، ولا ينفعكم ذلك.

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ :

جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة. كأنّ الواو للعطف، والفاء لإفادة التّسبّب. فإنّ فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، أي: من أبواب متفرّقة في البلد، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ رأي يعقوب واتّباعهم له مِنْ شَيْ‏ءٍ: ممّا قضاه اللَّه عليهم، كما قال يعقوب. فسرقوا، وأخذ بنيامين بوجدان الصّواع في رحله، وتضاعف المصيبة على يعقوب.

إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ:

استثناء منقطع. أي: ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا.

قَضاها: أظهرها ووصّى بها.

وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بالوحي ونصب الحجج. ولذلك قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ولم يغترّ بتدبيره.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  سرّ القدر، وأنّه لا يغني عنه الحذر.

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ: ضمّ إليه بنيامين على الطّعام.

قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فلا تعلمهم بما أعلمتك.فَلا تَبْتَئِسْ: فلا تحزن- افتعال من البؤس- بِما كانُوا يَعْمَلُونَ  في حقّنا. فإنّ اللَّه قد أحسن إلينا، وجمعنا.

و في تفسير العيّاشيّ : عن عليّ بن مهزيار، عن بعض أصحابنا، [عن أبيه‏] ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:

و قد كان هيّأ لهم طعاما. فلمّا دخلوا عليه ، قال: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة. قال: فجلسوا. وبقي بنيامين  قائما.

فقال له يوسف: ما لك لا تجلس؟ قال له: إنّك قلت: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة. وليس لي فيهم ابن أمّ.

فقال يوسف: أما  كان لك ابن أمّ؟ قال له: بنيامين : بلى.

قال يوسف: فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أنّ الذّئب أكله.

قال: فما بلغ من حزنك عليه. قال: ولد لي أحد عشر ابنا كلّهم اشتققت له اسما من اسمه.

فقال له يوسف: أراك قد عانقت النّساء وشممت الولد من بعده. قال له بنيامين : إنّ لي أبا صالحا، وإنّه قال: تزوّج، لعلّ اللَّه أن يخرج منك ذرّيّة تثقل الأرض بالتّسبيح.

فقال له: تعال فاجلس معي على مائدتي.

فقال إخوة يوسف: لقد فضّل اللَّه يوسف وأخاه، حتّى أنّ الملك قد أجلسه معه على مائدته.

عن أبان الأحمر ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا دخل إخوة يوسف عليه، وقد جاؤوا بأخيهم معهم، وضع لهم الموائد. ثمّ قال: يمتاز كلّ واحد منكم مع أخيه لأمّه على الخوان. فجلسوا، وبقي أخوه قائما. فقال له: ما لك لا تجلس مع إخوتك؟

قال: ليس لي  فيهم أخ من أمّي. قال: فلك أخ من أمّك، زعم هؤلاء أنّ الذّئب أكله؟

قال: نعم قال: فاقعد، وكل معي.

قال: فترك إخوته الأكل وقالوا: إنّا نريد أمرا، ويأبى اللَّه إلّا أن يرفع ولد يامين علينا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فخرجوا وخرج معهم بنيامين. وكان لا يؤكلهم، ولا يجالسهم، ولا يكلّمهم. فلمّا وافوا مصر، دخلوا على يوسف وسلّموا. فنظر يوسف إلى أخيه، فعرفه. فجلس منهم بالبعيد.

فقال يوسف: أنت أخوهم؟ قال: نعم. قال: فلم لا تجلس معهم؟ قال: لأنّهم أخرجوا أخي من أمّي وأبي، ثمّ رجعوا ولم يردّوه، وزعموا أنّ الذّئب أكله. فآليت على نفسي أن لا أجتمع [معهم‏]  على أمر، ما دمت حيّا.

قال: فهل تزوّجت؟ قال: بلى.

قال: كم ولد لك؟ قال: ثلاثة  بنين. قال: فما سمّيتهم؟ قال: سمّيت واحدا منهم الذّئب. وواحدا القميص. وواحدا الدّم. قال: وكيف اخترت هذه الأسماء؟ قال لئلّا أنسى أخي. كلّما دعوت واحدا من ولدي، ذكرت أخي.

قال لهم يوسف: اخرجوا. وحبس بنيامين. فلمّا خرجوا من عنده، قال يوسف لأخيه: أنا أخوك يوسف. فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثمّ قال له: أنا أحبّ أن تكون عندي. فقال: لا يدعني  إخوتي. فإنّ أبي قد أخذ عليهم عهدا للّه وميثاقه أن يردّوني إليه. قال: أنا أحتال بحيلة. فلا تنكر إذا رأيت شيئا، ولا تخبرهم. فقال: لا.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ: المشربة فِي رَحْلِ أَخِيهِ:

قيل : كانت مشربة جعلت صاعا يكال به.

و قيل : كانت يسقى به الدّوّاب، ويكال فيها. وكانت من فضّة. وقيل: من ذهب.

و قرئ : «و جعل» على حذف جواب «فلمّا». تقديره: أمهلهم حتّى انطلقوا.ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: [نادى مناد] .

أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ :

و العير: القافلة. وهي: الإبل الّتي عليها الأحمال، لأنّها تعير، أي: تتردّد. فقيل لأصحابها.

كقوله- عليه السّلام-: يا خيل اللَّه: اركبي.

و قيل : جمع عير. وأصلها فعل، كسقف. فعل به ما فعل ببيض. تجوز به لقافلة الحمير. ثمّ استعير لكلّ قافلة.

قيل : لعلّه لم يقله بأمر يوسف. أو كان تعبئة السّقاية، والنّداء عليها، برضا  بنيامين.

و قيل : معناه: انّكم لسارقون يوسف من أبيه. أو: أ إنّكم لسارقون؟

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: التّقيّة من دين اللَّه [قلت: من دين اللَّه!؟]  قال: إي واللَّه، من دين اللَّه. ولقد قال يوسف:

أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. واللَّه ما كانوا سرقوا شيئا. ولقد قال إبراهيم : إِنِّي سَقِيمٌ. واللَّه ما كان سقيما.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن [أبي‏]  نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن الحسن الصّيقل  قال:

قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام- إنّا قد روينا عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. فقال: واللَّه ما سرقوا، وما كذب. وقال إبراهيم : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. [فقال: واللَّه ما فعلوا،]  وما كذب.قال: فقال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ما عندكم فيها، يا صيقل ؟ قلت: ما عندنا فيها إلّا التّسليم.

فقال: إنّ اللَّه أحبّ اثنين، وابغض اثنين. أحبّ الخطر  فيما بين الصّفين، وأحب الكذب في الإصلاح. وأبغض الخطر في الطّرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إنّ إبراهيم- عليه السّلام- إنّما قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا إرادة الإصلاح، ودلالة على أنّهم لا يفعلون. وقال يوسف إرادة الإصلاح.

أبو علي الأشعريّ ، عن محمّد بن عبد الجبّار عن الحجّال عن ثعلبة عن معمّر بن عمر، عن عطا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-:

 «لا كذب على مصلح». ثمّ تلا: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. ثمّ قال: واللَّه ما سرقوا وما كذب. ثمّ تلا: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. ثمّ قال: واللَّه ما فعلوه، وما كذب.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطيّ، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين النّاس.

و في روضة الكافي : الحسين بن محمّد الأشعريّ، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي منصور، عن أبي بصير، قال: قيل لأبي جعفر- عليه السّلام- وأنا عنده: إنّ سالم بن أبي حفصة وأصحابه  يروون عنك أنّك تكلّم على سبعين وجها لك  منها المخرج. فقال: ما يريد سالم منّي!؟ أ يريد أن أجي‏ء بالملائكة!؟ واللَّه ما جاء  بهذا النّبيّون. ولقد قال يوسف- عليه السّلام-: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. واللَّه ما كانوا سارقين، وما كذب.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر- عليه‏

 السّلام- يقول: لا خير فيمن لا تقيّة له. ولقد قال يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وما سرقوا.

و بإسناده  إلى هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول يوسف:

أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قال: ما سرقوا، وما كذب.

و بإسناده  إلى صالح بن سعيد، عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللَّه- عزّ وجلّ- في يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ.

قال: إنّهم سرقوا يوسف من أبيه. ألا ترى أنّه قال لهم حين قالوا : ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ. ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك. إنّما عنى: انّكم سرقتم يوسف من أبيه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الصّادق- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-:

أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قال: ما سرقوا وما كذب يوسف وإنّما عنى سرقتم يوسف من أبيه.

قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ : وأيّ شي‏ء ضاع منكم؟

و الفقد: غيبة الشّي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه.

و قرئ : «تفقدون». من: أفقدته: إذا وجدته فقيدا.

قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ:

و قرئ : «صاع» و«صوع» بالفتح والضّمّ والعين والغين. و«صواغ» من الصّياغة.

و في تفسير العيّاشيّ : [عن أبي حمزة الثمالي‏] ، عن الباقر- عليه السّلام- قال:

صواع الملك الطّاس  الّذي يشرب فيه.

و عن الصّادق- عليه السّلام-  قال: كان قدحا من ذهب. و[قال:]  كان صواع يوسف إذا كيل  كيل به، [قال: «لعن اللَّه الخوّان. لا تخونوا به». بصوت‏حسن‏] .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وكان الصّاع الّذي يكيلون به من ذهب. فجعلوه في رحله من حيث لم يقف عليه إخوته .

وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ: من الطّعام، جعلا له.

وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ : كفيل أؤدّيه إلى من ردّه.

قالُوا تَاللَّهِ:

قسم فيه معنى التّعجب. والتّاء بدل من الباء، مختصّة باسم اللَّه.

لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ :

قيل : استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك، ممّا يدلّ على فرط أمانتهم، كردّ البضاعة الّتي جعلت في رحالهم، وكعم  الدّوابّ كيلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد.

قالُوا فَما جَزاؤُهُ: فما جزاء السّارق، أو السّرق، أو الصّواع، بمعنى سرقته، على حذف المضاف.

إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ : في ادّعائكم البراءة.

قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، أي: جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه.

هكذا كان شرع يعقوب. وقوله: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم وإلزام له. أو خبر «من» والفاء لتضمّنها معنى الشّرط. أو جواب لها على أنّها شرطيّة. والجملة كما هي خبر «جزاؤه» على إقامة الظّاهر فيها مقام الضّمير. كأنّه قيل: جزاؤه من وجد في رحله، فأحبسه.

و في تفسير العيّاشي ، عن الصّادق- عليه السّلام-: يعنون السّنّة الّتي كانت‏تجري فيهم أن يحبسه.

كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ : بالسّرقة.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ: فبدأ المؤذّن.

و قيل : يوسف، لأنّهم ردّوا إلى مصر.

قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ: بنيامين، نفيا للتّهمة.

ثُمَّ اسْتَخْرَجَها، أي: السّقاية. أو: الصّواع- لأنّه يذكّر ويؤنّث- مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ.

و قرئ  بضمّ الواو، وبقلبها همزة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فتشبّثوا بأخيه، فحبسوه.

كَذلِكَ: مثل ذلك الكيد. كِدْنا لِيُوسُفَ، بأن علّمناه إيّاه، وأوحينا به إليه.

ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ: ملك مصر. لأنّ دينه الضّرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. وهو بيان للكيد.

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: إلّا أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك.

فالاستثناء من أعمّ الأحوال. ويجوز أن يكون منقطعا. أي: لكن أخذه بمشيئة اللَّه وإذنه.

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ: بالعلم، كما رفعنا درجته.

وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ : أرفع درجة منه.

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ بنيامين، فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ: يعنون يوسف.

في الخرائج والجرائح : وروى سعد بن عبد اللَّه، عن محمّد بن الحسن بن ميمون، عن داود بن قاسم الجعفريّ قال: سئل أبو محمّد- عليه السّلام- عن قوله- تعالى-: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ- والسّائل رجل من قمّ- وأنا حاضر. فقال- عليه السّلام-:

ما سرق يوسف. إنّما كان ليعقوب منطقة ورثها من إبراهيم- عليه السّلام-.

و كانت تلك المنطقة لا يسرقها أحد إلّا استعبد. فكانت  إذا سرقها إنسان، نزل جبرئيل‏- عليه السّلام- فأخبره بذلك. فأخذت منه، وصار  عبدا.

و إنّ المنطقة كانت عند سارة بنت إسحاق بن إبراهيم، وكانت سمّية أمّه. وإنّ سارة أحبّت يوسف، وأرادت أن تتّخذه ولدا لها . وإنّها أخذت المنطقة، فربطتها في وسطه. ثمّ سدلت عليه سرباله وقالت ليعقوب: إنّ المنطقة سرقت. وأتاه جبرئيل فقال:

يا يعقوب، إنّ المنطقة مع يوسف. ولم يخبره بخبر ما صنعت سارة، لما أراد اللَّه.

فقام يعقوب إلى يوسف، ففتّشه- وهو يومئذ غلام يافع- واستخرج المنطقة.

فقالت سارة بنت إسحاق: منّي سرقها يوسف، فأنا أحقّ به. فقال لها يعقوب: فإنّه عبدك أن لا تبيعيه ، ولا تهبيه. قالت: فأنا أقبله على أن لا تأخذه منّي، وأعتقه السّاعة.

فأعطاها إيّاه، فأعتقته. ولذلك قال إخوة يوسف: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.

قال أبو هاشم: فجعلت اجيّل  هذا في نفسي، أفكّر وأتعجّب من هذا الأمر، مع قرب يوسف من يعقوب وحزن يعقوب عليه، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، والمسافة قريبة! فأقبل عليّ أبو محمّد- عليه السّلام- فقال: يا أبا هاشم! تعوّذ باللّه ممّا جرى في نفسك من ذلك. فإنّ اللَّه لو شاء أن يرفع السّتائر  [من الأعلى ما]  بين يعقوب ويوسف حتّى كانا يتراءيان ، لفعل. ولكن له أجل هو بالغه، ومعلوم ينتهي إليه ما كان من ذلك.

فالخيار من اللَّه لأوليائه.

و في تفسير العيّاشيّ : عن إسماعيل بن همام، قال: قال الرّضا- عليه السّلام- [في قول اللَّه: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قال:]  كانت لإسحاق النّبيّ منطقة يتوارثها الأنبياء والأكابر، وكانت عند عمّة يوسف. وكان يوسف عندها، وكانت تحبّه. فبعث إليها أبوه أن ابعثيه إليّ، وأردّه إليك. فبعثت إليه أن دعه عندي اللّيلة  أشمّه، ثمّ أرسله إليك غدوة. فلمّا أصبحت،أخذت المنطقة، فربطتها في حقوه . وألبسته قميصا، وبعثت به إليه. وقالت: سرقت المنطقة، فوجدت عليه، وكان إذا سرق أحد في ذلك الزّمان، دفع إلى صاحب السّرقة.

فأخذته، فكان عندها.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى إسماعيل بن همّام، عن الرّضا- عليه السّلام- نحوه.

 

حدّثنا المظفّر بن جعفر بن المظفّر العلويّ - رضي اللَّه عنه- قال: حدّثنا جعفر بن مسعود، عن أبيه، عن عبد اللَّه  بن محمّد بن خالد قال: حدّثني الحسن بن عليّ الوشّاء قال: سمعت عليّ بن موسى الرّضا يقول: كانت الحكومة في بني إسرائيل إذا سرق أحد شيئا، استرقّ به. وكان يوسف عند عمّته، وهو صغير. وكانت تحبّه. وكانت لإسحاق- عليه السّلام- منطقة ألبسها إيّاه يعقوب- عليه السّلام- فكانت عند ابنته.

و إنّ يعقوب طلب يوسف  من عمّته. فاغتمّت لذلك، وقالت: دعه حتّى أرسله إليك. فأرسلته. وأخذت المنطقة فشدّتها  في وسطه تحت الثّياب.

فلمّا أتى يوسف [أباه، جاءت، فقالت: سرقت المنطقة. ففتّشته، فوجدتها في وسطه. فلذلك قال إخوة يوسف،]  حيث جعل الصّاع في وعاء أخيه ، فقال لهم يوسف: ما جزاء من وجد في رحله؟ قالوا: هو جزاؤه، كما جرت السّنّة الّتي تجري فيهم.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ. ولذلك قال إخوة يوسف:

إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. يعنون المنطقة. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ.

و في تفاسير العامّة : كان لأبي أمّه صنم. فسرقه وكسّره، وألقاه في الجيف.و في بعضها : كان في البيت عناق أو دجاجة سرقه وأعطى السّائل.

فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ: أكنّها ولم يظهرها لهم.

و الضّمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السّرقة إليه.

و قيل : إنّها كناية بشريطة التّفسير، يفسّرها قوله: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً.

فإنّه بدل من «أسَرّها». والمعنى: قال في نفسه: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، أي: منزلة في السّرقة- لسرقتكم أخاكم- أو في سوء الصّنيع بما كنتم عليه. وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة.

و فيه نظر، إذ المفسّر بالجملة، لا يكون إلّا ضمير الشّأن.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ  وهو يعلم أنّ الأمر ليس كما تصفون، وأنّه لم يسرق.

قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السّنّ، أو القدر.

ذكروا له حاله، استعطافا له عليه.

فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ: بدله. فإنّ أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به.

إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ  إلينا، فأتمم إحسانك. أو: من المتعوّدين الإحسان، فلا تغيّر عادتك.

و في تفسير العيّاشيّ ، عن الباقر- عليه السّلام-: نراك من المحسنين إن فعلت.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ: نعوذ باللّه معاذا.

أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ: فإنّ أخذ غيره ظلم على فتواكم، فلو أخذنا أحدكم مكانه إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ : في مذهبكم.

هذا وأنّ مراده: أنّ اللَّه أذن في أخذ من وجدنا الصّاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : [قال أي يوسف‏]  وكانوا يجادلونه في حبسه، وكانوا ولد يعقوب إذا غضبوا خرج من ثيابهم شعر وتقطر من رؤوسها دم أصفر.

و في تفسير العيّاشيّ : عن الحسين  بن أبي العلا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-

 

قال: ذكر بني يعقوب قال: كانوا إذا غضبوا اشتدّ غضبهم حتّى تقطر جلودهم دما أصفر، وهم يقولون: خذ أحدنا مكانه، يعني: جزاؤه . فأخذ الّذي وجد الصّاع عنده.

و في كتاب علل الشّرائع : أبي- رحمه اللَّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللَّه، عن محمّد بن أحمد عن أحمد بن محمّد اليساري ، قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللَّه بن مهران الكوفيّ قال: حدّثني حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي إسحاق اللّيثيّ قال: قلت لأبي جعفر، محمّد بن عليّ الباقر- عليه السّلام-: يا ابن رسول اللَّه، إنّي لأجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطّريق، ويخيف السّبيل، ويزني، ويلوط، ويأكل الرّبا، ويرتكب الفواحش، ويتهاون بالصلاة والصّيام والزّكاة، ويقطع الرّحم، ويأتي الكبائر، فكيف هذا ولم ذلك؟

فقال: يا إبراهيم، هل يختلج في صدرك شي‏ء غير هذا؟

قلت: [نعم‏]  يا ابن رسول اللَّه، أخرى أعظم من ذلك.

فقال: وما هو، يا أبا إسحاق؟

قال: فقلت: يا ابن رسول اللَّه، وأجد من أعدائكم ومن ناصبكم من يكثر من الصلاة والصّيام، ويخرج  الزّكاة، ويتابع بين الحجّ والعمرة، ويحضّ  على الجهاد، ويأثر على البرّ وعلى صلة الرّحم، ويقضي حقوق إخوانه ويواسيهم  من ماله، ويجتنب شرب الخمر والزّنا واللّواط وسائر الفواحش، فممّ ذلك ولم ذاك؟ فسّره لي، يا ابن رسول اللَّه، وبرهنه وبيّنه، فقد واللَّه كثر فكري واسهر ليلي وضاق ذرعي.

قال: فتبسّم [الباقر] - صلوات اللَّه عليه- ثمّ قال: يا إبراهيم، خذ إليك بيانا شافيا فيما سألت وعلما  مكنونا  من خزائن علم اللَّه وسرّه. أخبرني، يا إبراهيم، كيف تجد اعتقادهما؟قلت: يا ابن رسول اللَّه، أجد محبّيكم وشيعتكم على ما هم فيه، ممّا وصفته من أفعالهم، لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضّة أن يزول عن ولايتكم و محبّتكم إلى موالاة غيركم وإلى محبّتهم ما زال، ولو ضربت خياشيمه  بالسّيوف فيكم، ولو قتل فيكم ما ارتدع ولا رجع عن محبّتكم وولايتكم. وأرى النّاصب على ما هو عليه، ممّا وصفته من أفعالهم، لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضّة أن يزول عن محبّة الطّواغيت  وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال، ولو ضربت خياشيمه بالسّيوف فيهم ولو قتل [فيهم‏]  ما ارتدع ولا رجع، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلا اشمأزّ من ذلك وتغيّر لونه، ورأى  كراهية ذلك في وجهه بغضا لكم ومحبّة لهم .

 [قال‏]  فتبسّم الباقر- عليه السّلام- ثمّ قال: يا إبراهيم، ها هنا هلكت العاملة النّاصبة تَصْلى ناراً حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ومن ذلك قال اللَّه- عزّ وجلّ-:

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً . ويحك، يا إبراهيم، أ تدري ما السّبب والقصّة في ذلك، وما الّذي قد خفي على النّاس منه؟

قلت: يا ابن رسول اللَّه، فبيّنه لي واشرحه وبرهنه.

قال: يا إبراهيم، إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- لم يزل عالما  قديما خلق الأشياء لا من شي‏ء، ومن زعم أنّ اللَّه- عزّ وجلّ- خلق الأشياء من شي‏ء فقد كفر، لأنّه لو كان ذلك الشّي‏ء الّذي خلق منه الأشياء قديما [معه‏]  في أزليّته وهويّته كان ذلك الشّي‏ء أزليّا، بل خلق- عزّ وجلّ- الأشياء كلّها لا من شي‏ء فكان ممّا خلق اللَّه تعالى  أرضا طيّبة ثمّ فجّر منها ماء عذبا زلالا، فعرض عليها ولايتنا، أهل البيت، فقبلتها فأجرى ذلك الماء عليهاسبعة أيّام حتّى  طبقها وعمّها، ثمّ نضب  ذلك الماء عنها، فأخذ من صفوة ذلك الطّين طينا فجعله طين الأئمّة- عليهم السّلام- ثمّ أخذ ثفل  ذلك الطّين فخلق منه شيعتنا، ولو ترك طينتكم، يا إبراهيم، كما ترك طينتنا، لكنتم ونحن شيئا واحدا.

قلت: يا ابن رسول اللَّه، فما فعل بطينتنا؟

قال: أخبرك يا إبراهيم، خلق اللَّه- عزّ وجلّ- بعد ذلك أرضا سبخة خبيثة منتنة ، ثمّ فجّر  منها ماء أجاجا [آسنا]  مالحا، فعرض عليها ولايتنا، أهل البيت، فلم تقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيّام حتّى طبقها وعمّها، ثمّ نضب ذلك الماء عنها، ثمّ أخذ من ذلك الطّين فخلق منه الطّغاة وأئمتهم ، ثمّ مزجه بثفل طينتكم، ولو ترك طينتهم على حالها ولم يمزج بطينتكم لم يشهدوا الشّهادتين، ولا صلوا ولا صاموا ولا زكّوا ولا حجّوا، ولا أدّوا أمانة، ولا أشبهوكم في الصّور، وليس شي‏ء [أكبر]  على المؤمن أن يرى صورة عدوّه مثل صورته.

قلت: يا ابن رسول اللَّه، فما صنع بالطّينتين؟

قال: مزج بينهما بالماء الأوّل والماء الثّاني، ثمّ عركهما عرك الأديم ، ثمّ أخذ من ذلك قبضة فقال: هذه إلى الجنّة ولا أبالي، وأخذ قبضة أخرى وقال: هذه إلى النّار ولا أبالي. ثمّ خلط بينهما فوقع من شبح  المؤمن وطينته على شبح  الكافر وطينته، ووقع من شبح  الكافر وطينته على شبح المؤمن وطينته. فما رأيته من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر، فهو من طينة النّاصب وعنصره الّذي قد مزج فيه، لأنّ من شبح  النّاصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر. وما رأيت من النّاصب من مواظبته على الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد وأبواب البرّ، فهو من طينة المؤمن وشبحه  الّذي قد مزج فيه، لأنّ من‏شبح  المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم. فإذا عرضت هذه الأعمال كلّها على اللَّه- عزّ وجلّ- قال: أنا اللَّه  عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وحكم لا أحيف  ولا أميل ولا أشطط ، ألحقوا الأعمال السّيّئة الّتي اجترحها المؤمن بشبح  النّاصب وطينته، وألحقوا الأعمال الحسنة الّتي اكتسبها النّاصب بشبح  المؤمن وطينته ردّوها كلّها إلى أصلها، فإنّي أنا اللَّه  لا إله إلّا أنا عالم السّرّ وأخفى، وأنا المطّلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم [أحدا]  إلّا ما عرفته منه قبل أن أخلقه.

ثمّ قال الباقر- عليه السّلام-: أقرأ [يا إبراهيم‏]  هذه الآية.

قلت: يا ابن رسول اللَّه، أيّة آية؟

قال: قوله- تعالى-: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ هو في الظّاهر ما تفقهونه ، هو واللَّه في الباطن هذا بعينه، يا إبراهيم. إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا، ومحكما ومتشابها، وناسخا ومنسوخا.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ: يئسوا من يوسف وإجابته إيّاهم. وزيادة السّين والتّاء، للمبالغة.

و عن البزّيّ : «استيَاس» بالألف وفتح الياء من غير همزة، وإذا وقف [حمزة ألقى‏]  حركة الهمزة على الياء على أصله.

خَلَصُوا: انفردوا واعتزلوا.

نَجِيًّا: متناجين.

و إنّما وحّده لأنّه مصدر، أو بزنته، كما قيل: هم صديق. وجمعه أنجية، كندى‏و أندية.

قالَ كَبِيرُهُمْ:

قيل : في السّن، وهو روبيل. أو في الرّأي، وهو شمعون.

و في تفسير العيّاشيّ : عن الصّادق- عليه السّلام-: قال لهم يهوذا، وكان أكبرهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال لهم لاوي.

أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ: عهدا وثيقا. وإنّما جعل حلفهم باللّه موثقا منه، لأنّه بإذن منه وتأكيد من جهته.

وَ مِنْ قَبْلُ: هذا.

ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ: قصّرتم في شأنه.

و «ما» مزيدة.

و يجوز أن تكون مصدريّة في موضع النّصب بالعطف على مفعول «تعلموا» ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظّرف، أو على اسم «أنّ» وخبره «في يوسف» أو «من قبل». أو الرّفع بالابتداء والخبر «من قبل» وفيه نظر، لأنّ «قبل» إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتّى لا ينقص.

و أن تكون موصولة، أي: ما فرّطتموه، بمعنى: ما قدّمتموه في حقّه من الخيانة، ومحلّه ما تقدّم.

فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ: فلن أفارق أرض مصر.

حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي: في الرّجوع إليه.

أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، أي: يقضي لي بالخروج منها، أو بخلاص أخي منهم، أو بالمقاتلة معهم لتخليصه.

وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ : لأنّ حكمه لا يكون إلّا بالحقّ.

و في تفسير العيّاشيّ : عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:

لمّا استيأس . إخوة يوسف من أخيهم قال لهم يهودا، وكان أكبرهم:فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ (الآية).

قال: ورجع إلى يوسف يكلّمه في أخيه، [فكلمه‏]  حتّى ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب يهودا، وكان إذا غضب يهودا قامت شعرة في كتفه وخرج منها الدّم [حتّى يمسّه بعض ولد يعقوب‏] .

قال: وكان بين يدي يوسف ابن له صغير، معه رمّانة من ذهب، وكان الصّبيّ يلعب بها، فأخذها يوسف من الصّبيّ فدحرجها نحو يهودا.

قال: وحبا  الصّبي نحو يهودا  ليأخذها فمسّ يهودا، فسكن يهودا. ثمّ عاد إلى يوسف فكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب يهودا وقامت الشّعرة وسال منها الدّم، فأخذ يوسف الرّمانة من الصّبيّ فدحرجها نحو يهودا، وحبا الصّبي نحو يهودا فسكن يهودا.

فقال يهودا: إنّ في البيت معنا لبعض ولد يعقوب.

قال: فعند ذلك قال لهم يوسف: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.

و في رواية هشام بن سالم ، عنه- عليه السّلام- قال: لمّا أخذ يوسف أخاه اجتمع عليه إخوته، فقالوا له: خذ أحدنا مكانه، وجلودهم تقطر دما أصفر وهم يقولون: خذ أحدنا مكانه.

قال: فلمّا أن أبى عليهم وأخرجوا من عنده قال لهم يهودا: قد علمتم ما فعلتم بيوسف فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.

قال: فرجعوا إلى أبيهم، وتخلّف يهودا.

قال: فدخل على يوسف يكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينه وبينه وغضب، وكان على كتفه شعرة إذا غضب قامت الشّعرة فلا تزال تقذف بالدّم حتّى يمسه بعض ولد يعقوب.قال: فكان بين يدي يوسف ابن له صغير في يده رمّانة من ذهب يلعب بها، فلمّا رآه يوسف قد غضب وقامت الشّعرة تقذف بالدّم أخذ الرّمانة من يد الصّبي ثمّ دحرجها نحو يهودا، واتّبعها الصّبيّ ليأخذها فوقعت يده على يهودا، [قال: فذهب غضبه، قال:

فارتاب يهودا، ورجع الصّبيّ بالرّمانة إلى يوسف. ثمّ ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب وقامت الشّعرة فجعلت تقذف بالدّم، فلمّا رأى يوسف دحرج الرّمانة نحو يهودا، واتّبعها الصّبيّ ليأخذها فوقعت يده على يهوذا]  فسكن غضبه.

قال: فقال يهودا: إنّ في البيت لمن ولد يعقوب، حتّى صنع ذلك ثلاث مرّات.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم وتخلّف يهودا، فدخل على يوسف فكلّمه حتّى ارتفع الكلام بينه وبينه. وذكر مثل ما نقلناه عن تفسير العيّاشيّ- إلى قوله-: ثلاث مرّات.

و بإسناده  إلى عليّ بن محمّد الهادي- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه: فنزل جبرئيل- عليه السّلام- فقال له: يا يوسف، أخرج يدك. فأخرجها، فخرج من بين أصابعه نور.

فقال يوسف: ما هذا، يا جبرئيل؟

فقال: هذه النّبوّة أخرجها اللَّه من صلبك، لأنّك لم تقم لأبيك.

فحطّ اللَّه نوره ومحى النّبوّة من صلبه وجعلها في ولد لاوي، أخي يوسف، وذلك لأنّهم لمّا أرادوا قتل يوسف قال: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ فشكره اللَّه على ذلك. ولمّا أرادوا أن يرجعوا إلى أبيهم من مصر، وقد حبس يوسف أخاه، قال:

فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فشكر اللَّه له ذلك، فكان أنبياء بني إسرائيل من ولد لاوي، وكان موسى من ولده، وهو موسى بن عمران بن يهصر بن واهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و ستقف على الحديث بتمامه- إن شاء اللَّه- عن قريب.