سورة يونس الآية 81-109

فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، أي: الّذي جئتم به هو السّحر، لا ما سمّاه فرعون وقومه سحرا.

و قرأ  أبو عمرو: «السّحر» على أنّ «ما» استفهاميّة مرفوعة بالابتداء، «و جئتم به» خبرها، و«السّحر» بدل منه. أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهو السّحر. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: آلسّحر هو.

و يجوز أن ينتصب «ما» بفعل يفسّره ما بعده، تقديره: أيّ شي‏ء أتيتم.

إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ : لا يثبته ولا يقوّيه.

قيل : وفيه دليل على أنّ السّحر إفساد وتمويه لا حقيقة له.

وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ: ويثبته.

بِكَلِماتِهِ: بأوامره وقضاياه.

و قرئ: «بكلمته».

وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ : ذلك.

فَما آمَنَ لِمُوسى: في مبدأ أمره.

إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ: إلّا أولاد من أولاد قومه، بني إسرائيل، دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون، إلّا طائفة من شبّانهم.

و قيل : الضّمير لفرعون، و«الذّرّيّة» طائفة من شبّانهم آمنوا به. أو مؤمن آل فرعون وامرأته، آسية، وخازنة، وزوجته، وماشطته  ومشّاطته.

عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ: أي: مع خوف منهم.

و الضّمير لفرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء. أو على أنّ المراد بفرعون: آله، كما يقال: ربيعة ومضر. أو للذّرّيّة. أو للقوم.

أَنْ يَفْتِنَهُمْ: أن يعذّبهم فرعون. وهو بدل منه، أو مفعول «خوف». وإفراده بالضّمير، للدّلالة على أنّ الخوف من الملأ كان بسببه.وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ: لغالب فيها.

وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ : في الكبر والعتوّ، حتّى ادّعى الرّبوبيّة واسترقّ أسباط الأنبياء.

وَ قالَ مُوسى: لمّا رأى تخوّف المؤمنين به.

يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا: فثقوا به واعتمدوا عليه.

إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ : مستسلمين لقضاء اللَّه، مخلصين له.

و ليس هذا من تعلّق الحكم بشرطين. فإنّ المعلّق بالإيمان وجوب التّوكّل. فإنّه المقتضي له. والمشروط بالإسلام حصوله، فإنّه لا يوجد مع التّخليط. ونظيره: إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت.

فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: لأنّهم كانوا مؤمنين مخلصين، ولذلك أجيب دعوتهم.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً: موضع فتنة.

لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ : أي: لا تسلّطهم علينا، فيفتنونا عن ديننا أو يعذّبونا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: قوم موسى استعبدهم آل فرعون، وقالوا: لو كان لهؤلاء على اللَّه كرامة، كما يقولون ما سلّطنا عليهم. فقال موسى لقومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.

و في تفسير العيّاشي : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم في قوله: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

قال: لا تسلّطهم علينا، فتفتنهم بنا.

و في تهذيب الأحكام ، في دعاء مرويّ عنهم- عليهم السّلام-: ودعاك المؤمنون فقالوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ : من كيدهم وشؤم مشاهدتهم.

و في تقديم التّوكّل على الدّعاء، تنبيه على أنّ الدّاعي ينبغي أن يتوكّل أوّلا لتجاب دعوته.وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا: أن اتّخذا مباءة، أي: مرجعا.

لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً: يسكنون فيها، أو يرجعون إليها للعبادة.

وَ اجْعَلُوا: أنتما وقومكما.

بُيُوتَكُمْ: تلك البيوت.

قِبْلَةً: مصلّى.

و قيل : مساجد متوجّهة نحو القبلة، يعني: الكعبة. وكان موسى يصلّي إليها.

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ: فيها. أمروا بذلك أوّل أمرهم، لئلّا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الكاظم- عليه السّلام-: لمّا خافت بنو إسرائيل جبابرتها، أوحى اللَّه إلى موسى وهارون: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً.

قال: أمروا أن يصلّوا في بيوتهم.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ : بالنّصرة في الدّنيا، والجنّة في العقبى.

و إنّما ثنّى بالضّمير أوّلا، لأنّ التّبوّء للقوم واتّخاذ المعابد ممّا يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور. ثمّ جمع، لأنّ جعل البيوت مساجد والصّلاة فيها ممّا ينبغي أن يفعله كلّ أحد.

ثمّ وحّد، لأنّ البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشّريعة.

و في عيون الأخبار ، في باب ذكر مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع المأمون في الفرق بين العترة والأمّة حديث طويل. وفيه قالت العلماء: فأخبرنا، هل فسّر اللَّه- تعالى- الاصطفاء في الكتاب؟

فقال الرّضا- عليه السّلام-: فسّر الاصطفاء في الظّاهر سوى الباطن في اثني عشر موطنا، أو موضعا. فأوّل ذلك قوله- عزّ وجلّ-.

إلى أن قال- عليه السّلام-: وأمّا الرّابعة، فإخراجه- صلّى اللَّه عليه وآله- النّاس من المسجد ما خلا العترة، حتّى تكلّم النّاس في ذلك.

و تكلّم العبّاس، فقال: يا رسول اللَّه، تركت عليّا وأخرجتنا؟فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: ما تركته وأخرجتكم، ولكنّ اللَّه- عزّ وجلّ- تركه وأخرجكم.

و في هذا بيان قوله- صلّى اللَّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام-: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

قالت العلماء: وأين هذا من القرآن؟

قال أبو الحسن- عليه السّلام-: أوجدكم في ذلك قرآنا وأقرأه عليكم؟

قالوا: هات.

قال: قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً. ففي هذه الآية منزله هارون من موسى. وفيها- أيضا- منزلة عليّ من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- [و هذا دليل ظاهر في قول رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- حين قال: ألا إنّ هذا المسجد لا يحلّ لجنب إلّا لمحمّد وآله- صلّى اللَّه عليه وآله-] .

قالت العلماء: يا أبا الحسن، هذا الشّرح وهذا البيان لا يوجد إلّا عندكم، معشر أهل بيت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.

قال: ومن ينكر لنا ذلك، ورسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها. فمن أراد المدينة، فليأتها من بابها. ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشّرف والتّقدمة والاصطفاء والطّهارة ما لا ينكره معاند، وللّه- تعالى- الحمد على ذلك، فهذه الرّابعة.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي رافع قال: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- خطب النّاس، فقال: يا أيّها النّاس إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- أمر موسى وهارون أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً. وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه  النّساء، إلّا هارون وذرّيّته. إنّ عليّا منّي بمنزلة هارون من موسى، فلا يحلّ لأحد أن يقرّب النّساء في مسجدي ولا يبيّت فيه جنب إلّا عليّ وذرّيّته. فمن ساءه  ذلك، فهاهنا. وضرب بيده‏نحو الشّام.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا بن محمّد بن مالك، عن عباد بن يعقوب، [عن محمّد بن يعقوب‏] ، عن [أبي‏]  جعفر الأحول، عن منصور، عن أبي إبراهيم- عليه السّلام- قال: لمّا خافت بنو إسرائيل جبابرتها أوحى اللَّه- تعالى- إلى موسى وهارون- عليهما السّلام-: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً.

قال: أمروا أن يصلّوا في بيوتهم.

حدّثني  أبي، عن الحسن  بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: فقلت: كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه؟

قال: نعم.

إلى قوله: قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟

قال كان الوحي ينزل على موسى، وموسى يوحيه إلى هارون.

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً: ما يتزيّن به من اللّباس والمراكب ونحوهما.

وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: وأنواعا من المال.

رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.

قيل : دعا عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنّه لا يكون غيره، كقولك: لعن اللَّه إبليس.

و قيل : «اللّام» للعاقبة وهي متعلّقة «بآتيت».

و جوّز  البعض أن تكون للعلّة، لأنّ إيتاء النّعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضّلال، ولأنّهم لمّا جعلوها سببا للضّلال فكأنّهم أوتوها ليضلّو. فيكون «ربّنا» تكريرا للأوّل، تأكيدا وتنبيها على أنّ المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، أي: يفتنوا النّاس بالأموال، ليعبدوه ولا يعبدوك.

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ: أهلكها.

و «الطّمس» المحق.

و قرئ : «و اطمس» بالضّمّ.

وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، أي: وأقسها واطبع عليها، حتّى لا تنشرح للإيمان.

فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ : جواب للدّعاء. أو دعاء بلفظ النّهي. أو عطف على «ليضلّوا»، وما بينهما دعاء معترض.

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما: يعني: موسى وهارون، لأنّه كان يؤمّن.

فَاسْتَقِيما: فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة وإلزام الحجّة ولا تستعجلا، فإنّ ما طلبتما كائن ولكن في وقته.

و في كتاب الخصال : عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أملى اللَّه- تعالى- لفرعون ما بين الكلمتين [قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى  وقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ]  أربعين سنة، ثمّ أخذه اللَّه نكال الآخرة والأولى. وكان بين أن قال اللَّه- عزّ وجلّ- لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وبين أن عرّفه اللَّه تعالى الإجابة أربعون  سنة .

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن النّوفليّ، عن السّكونيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: دعا موسى- عليه السّلام- وأمّن هارون- عليه السّلام- وأمّنت الملائكة- عليهم السّلام-. فقال اللَّه- تعالى-: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما. ومن غزا في سبيل اللَّه أستجيب له، كما استجبت لكما  يوم القيامة.و في الكافي ، وفي تفسير العيّاشي : عن الصّادق- عليه السّلام-: كان بين قول اللَّه- تعالى-: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وبين أخذ فرعون أربعون سنة.

وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ : طريق الجهلة في الاستعجال، أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد اللَّه.

و عن ابن عامر  «و لا تتّبعان» بالنّون الخفيفة وكسرها، لالتقاء السّاكنين.

 «و لا تتبعان» من تبع. «و لا تتبعانّ» أيضا.

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، أي: عبّرناهم في البحر حتّى بلغوا الشّطّ حافظين لهم.

و قرئ : «جوّزنا». وهو من فعل المرادف لفاعل، كضعف، وضاعف.

فَأَتْبَعَهُمْ: فأدركهم.

يقال: تبعته، حتّى أتبعته.

فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً: باغين وعادين. أو للبغي والعدو.

 «و قرى . «و عدوّاً».

و في تفسير العيّاشي : روينا لمّا صار موسى في البحر أتبعه فرعون وجنوده.

قال: فتهيّب فرس فرعون أن يدخل البحر، فمثل له جبرئيل على رمكة . فلمّا رأى فرس فرعون الرّمكة، أتبعها فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا .

حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: لحقه.

قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ: أي: بأنّه.

لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .

و قرأ  حمزة والكسّائي: «إنّه» بالكسر، على إضمار القول أو الاستئناف، بدلا وتفسيرا «لآمنت». فنكب عن الإيمان أوان القبول، وبالغ فيه ولا يقبل.و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى ابن أبي عمير: عن موسى بن جعفر- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: أمّا قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فإنّما قال ليكون أحرص لموسى على الذّهاب، وقد علم اللَّه- عزّ وجلّ- أنّ فرعون لا يتذكّر ولا يخشى إلّا عند رؤية البأس. ألّا تسمع اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فلم يقبل اللَّه إيمانه. وقال: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

و في عيون الأخبار : عن الرّضا- عليه السّلام- أنّه سئل: لأي علّة غرّق اللَّه- تعالى- فرعون، وقد آمن به وقد أقرّ بتوحيده؟

قال: لأنّه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، وذلك حكم اللَّه- تعالى ذكره- [في السّلف والخلف. قال اللَّه- تعالى-: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ‏]  إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.

و قال- عزّ وجلّ-: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً. وهكذا فرعون لمّا أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.

و قد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبسه على بدنه. فلمّا غرق، ألقاه اللَّه- تعالى- على نجوة  من الأرض [ببدنه‏]  ليكون لمن بعده علامة. فيرونه مع تثقله بالحديد على مرتفع من الأرض، وسبيل الثّقل أن يرسب ولا يرتفع، فكان ذلك آية وعلامة. ولعلّة أخرى أغرقه اللَّه- عزّ وجلّ- وهي أنّه استغاث بموسى لمّا أدركه الغرق، ولم يستغث باللّه. فأوحى اللَّه إليه: يا موسى، لم تغث  فرعون لإنّك لم تخلقه. ولو استغاث مجيب  بي، لأغثته.

آلْآنَ: أ تؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار.و في مجمع البيان : آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ (الآية).

و روي عن أبي جعفر- عليه السّلام-: «الآن» بإلقاء حركة الهمزة على اللّام، وحذف الهمزة.

وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ: قبل ذلك مدّة عمرك.

وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ : الضّالّين، المضلّين عن الإيمان.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن الصّادق- عليه السّلام-: ما أتى جبرئيل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إلّا كئيبا حزينا، ولم يزل كذلك منذ أهلك اللَّه فرعون. فلمّا أمره اللَّه بنزول هذه الآية آلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، نزل عليه وهو ضاحك مستبشر.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: ما أتيتني، يا جبرئيل، إلا وتبيّنت الحزن في وجهك حتّى السّاعة.

قال: نعم، يا محمّد. لمّا غرّق اللَّه فرعون، قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فأخذت حمأة  فوضعتها في فيه، ثمّ قلت: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وعملت ذلك من غير أمر اللَّه، ثمّ خفت أن تلحقه الرّحمة من اللَّه- عزّ وجلّ- ويعذبني اللَّه على ما فعلت. فلمّا كان الآن وأمرني اللَّه أن أؤدّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت وعلمت أنّ ذلك كان للّه- تعالى- رضى  فيه.

و في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: أنّ بني إسرائيل قالوا:

يا موسى، ادع اللَّه- تعالى- أن يجعل لنا ممّا نحن فيه فرجا.

 [فدعا]  فأوحى اللَّه إليه: أن سر بهم.

قال: يا رب، البحر أمامهم.

قال: امض فإني آمره أن يطيعك وينفرج» لك.

فخرج موسى ببني إسرائيل، وأتبعهم فرعون. حتّى إذا كاد أن يلحقهم ونظروا إليه قد أظلّهم، قال موسى للبحر: انفرج لي.قال: ما كنت لأفعل.

و قال بنو إسرائيل لموسى: غررتنا وأهلكتنا، فليتك تركتنا يستعبدنا آل فرعون ولم نخرج الآن نقتل قتلة.

قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ واشتدّ على موسى ما كان يصنع به عامّة قومه وقالوا يا موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ زعمت أنّ البحر ينفرج لنا حتّى نمضي ونذهب، وقد رهقنا  فرعون وقومه وهم هؤلاء تراهم قد دنوا منّا.

فدعا موسى ربّه، فأوحى اللَّه إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه، فانفلق البحر. فمضى موسى وأصحابه حتّى قطعوا البحر.

و أدركهم آل فرعون. فلمّا نظروا إلى البحر قالوا لفرعون. ما تعجب ممّا ترى؟

قال: أنا فعلت هذا. فمرّوا وامضوا فيه.

فلمّا توسّط فرعون ومن معه، أمر اللَّه البحر فأطبق  فغرّقهم أجمعين. فلمّا أدرك فرعون الغرق قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ- إلى قوله- وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. يقول اللَّه- عزّ وجلّ- آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يقول: كنت من العاصين فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ.

قال: إنّ قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر فلم ير منهم أحد، هووا في البحر إلى النّار. فأمّا فرعون فنبذه اللَّه- عزّ وجلّ- وحده فألقاه  بالسّاحل، لينظروا إليه وليعرفوه ليكون لمن خلفه آية، ولئلّا يشكّ أحد في هلاكه. إنّهم كانوا اتّخذوه ربّا، فأراهم  اللَّه- عزّ وجلّ- إيّاه جيفة ملقاة في السّاحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة. يقول اللَّه: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ: ننقذك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا. أو نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع، ليراك بنو إسرائيل.

و قرأ  يعقوب: «ننجيك». من أنجى.

و قرئ : «ننجيك» بالحاء، أي: نلقيك بناحية السّاحل.بِبَدَنِكَ: في موضع الحال، أي: ببدنك عاريا عن الرّوح. أو كاملا سويّا.

أو عريانا من غير لباس. أو بدرعك، وكانت له درع من ذهب يعرف بها.

و قرئ : «بأبدانك»، أي: بأجزاء البدن كلّها، كقولهم: هوى بأجرامه. أو بدروعك، كأنّه كان تظاهرا بينها.

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً: لمن وراءك علامة، وهم بنو إسرائيل، إذ كان في نفوسهم من عظمته ما يخيّل إليهم أنّه لا يهلك حتّى كذّبوا موسى- عليه السّلام- حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينه مطروحا على ممرّهم من السّاحل.

أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممّن شاهدك، عبرة ونكالا عن الطّغيان، أو حجّة تدلّهم على أنّ الإنسان على ما كان عليه من عظم الشّأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظانّ الرّبوبيّة.

و قرئ : «لمن خلقك»، أي لخالقك آية، كسائر الآيات. فإنّ إفراده إيّاك بالإلقاء إلى السّاحل دليل على أنّه تعمّد منه، لكشف تزويرك وإماطة الشّبهة في أمرك، وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته. وهذا الوجه- أيضا- محتمل على القراءة المشهورة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّ موسى- على نبيّنا وآله وعليه السّلام- أخبر بني إسرائيل انّ اللَّه قد أغرق فرعون، يصدّقوه. فأمر اللَّه- عزّ وجلّ- البحر، فلفظ به على ساحل البحر حتّى رأوه ميّتا. ويأتي تمام الكلام فيه.

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ : لا يتفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها.

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا: أنزلنا.

بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ: منزلا صالحا مرضيا، وهو الشّام ومصر.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ردّهم إلى مصر، وغرّق فرعون.

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ: من اللّذائذ.

فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ: فما اختلفوا في أمر دينهم، إلّا من بعدما قرأوا التّوراة وعلموا أحكامها. أو في أمر محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته.

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : فيميز المحقّ عن المبطل بالإنجاء والإهلاك.

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ: من القصص، على سبيل الفرض والتّقدير.

فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ: فإنّه محقّق عندهم، ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك. والمراد تحقيق ذلك، والاستشهاد بما في الكتب المتقدّمة وأنّ القرآن مصدّق لما فيها. أو وصف أهل الكتاب بالرّسوخ في العلم بصحّة ما أنزل اللَّه.

أو تهييج الرّسول وزيادة تثبّته لا إمكان وقوع الشّكّ له.

و قيل : الخطاب للنّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- والمراد أمّته، أو لكلّ من يسمع، أي: إن كنت أيّها السّامع في شك ممّا نزّلنا على لسان نبيّنا عليك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحا. لأنّه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة.

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ : بالتزّلزل عمّا أنت عليه من الجزم واليقين.

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ : أيضا من باب التّهييج والتّثبيت وقطع الأطماع عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ.

و في كتاب علل الشّرائع : حدّثنا [المظفر بن‏]  جعفر بن المظفّر العلويّ [حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسعود، عن أبيه قال: حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه عن بكر بن صالح عن أبي الخير عن محمد]  بن حسّان، عن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن إسماعيل الدّارميّ، عن محمّد بن سعيد الإذخريّ، وكان ممّن يصحب موسى بن محمّد بن الرضا، أن موسى أخبره أنّ يحيى بن أكتم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها: وأخبرني عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ من المخاطب بالآية. فإن كان المخاطب بها النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أ ليس قد شكّ فيما أنزل اللَّه- عزّ وجلّ- إليه. وإن كان المخاطب به غيره، فعلى غيره إذن انزل‏الكتاب؟

قال موسى: فسألت أخي، عليّ بن محمّد- عليهما السّلام- عن ذلك.

قال: أمّا قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنّ المخاطب بذلك رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-. ولم يكن في شكّ ممّا أنزل اللَّه- عزّ وجلّ-. ولكن قالت الجهلة: كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة إنّه لم يفرّق  بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق. فأوحى اللَّه- عزّ وجلّ- إلى نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ بمحضر من الجهلة، هل بعث اللَّه رسولا قبلك إلّا وهو يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة.

و إنّما قال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ولم يكن، ولكن ليتبعهم، كما قال له- عليه السّلام-: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة اللَّه عليكم، لم يكونوا يجيبون للمباهلة. وقد عرف أنّ نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله- مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه.

و بإسناده  إلى إبراهيم بن أبي  عمير، رفعه إلى أحدهما- عليهما السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ- إلى قوله- مِنْ قَبْلِكَ.

قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: لا أشكّ ولا أسأل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن عمرو بن سعيد الرّاشديّ، عن ابن مسكان، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا اسري برسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إلى السّماء وأوحى إليه في عليّ ما أوحى إليه من شرفه ومن عظمته عند اللَّه وردّ إلى البيت المعمور وجمع له النّبيّين وصلّوا خلفه، عرض في نفس رسول اللَّه من عظم ما أوحى إليه في عليّ. فأنزل اللَّه فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ‏

 ، يعني: الأنبياء، فقد أنزلنا إليهم في كتبهم من فضله ما أنزلنا في كتابك. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ- إلى قوله- فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.

فقال الصّادق- عليه السّلام: فو اللَّه، ما شكّ وما سأل.

و في تفسير العيّاشي : عن عبد الصّمد بن بشير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ.

قال: لمّا أسري بالنّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- ففرغ من مناجاة ربّه، ردّ إلى البيت المعمور، وهو بيت في السّماء الرّابعة بحذاء الكعبة. فجمع اللَّه له النّبييّن والمرسلين والملائكة، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن وأقام الصّلاة ، وتقدّم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فصلّى بهم. فلمّا فرغ التفت إليهم، فقال له اللَّه فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ. فسألهم يومئذ النّبيّ، ثمّ نزل.

و في الخرائج والجرائح : في روايات الخاصّة أنّ أبا جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- قال: لمّا اسري بي نزل جبرئيل بالبراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عيناه في حوافره، خطاه مدّ البّصر، وله جناحان يجريان به من خلفه، عليه سرج من ياقوت فيه من كلّ لون، أهدب العرف  الأيمن. فوقفه  على باب خديجة ودخل إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-، فمرح  البراق.

فخرج إليه جبرئيل وقال: اسكن، فإنّما يركبك أحبّ خلق اللَّه إليه.

فسكن. فخرج رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فركب ليلا، فتوجّه نحو بيت المقدس، فاستقبله شيخ.

فقال جبرئيل: هذا أبوك إبراهيم- عليه السّلام-.

 [فثنى رجله‏]  وهمّ بالنّزول.فقال له جبرئيل: كما أنت.

فجمع ما شاء اللَّه من الأنبياء في بيت المقدس. فأذّن جبرئيل، وتقدّم رسول اللَّه فصلّى بهم.

ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ: هؤلاء الأنبياء الّذين جمعوا. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ قال: فلم يشكّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ولم يسأل.

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ: ثبت عليهم.

كَلِمَتُ رَبِّكَ، أي: إخباره بأنّهم يموتون على الكفر، أو يخلّدون في العذاب.

لا يُؤْمِنُونَ : إذ لا يكذّب كلامه ولا ينتقض قضاؤه، لأنّه لا يخبر إلّا عن علم بأنّهم لا يؤمنون.

وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ : وحينئذ لا ينفعهم، كما لم ينفع فرعون.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ.

قال: الّذين جحدوا أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه.

و قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.

قال: عرضت عليهم الولاية وقد فرض اللَّه- تعالى- عليهم الإيمان بها، فلم يؤمنوا بها.

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ: فهلّا كانت قرية من القرى الّتي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخّر إليها، كما اخّر فرعون.

فَنَفَعَها إِيمانُها: بأن يقبله اللَّه منها، ويكشف العذاب عنها.

إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ: لكنّ قوم يونس.

لَمَّا آمَنُوا: أوّل ما رأوا أمارة العذاب، ولم يؤخّروه إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

و يجوز أن تكون الجملة في معنى النّفي، لتضمّن حرف التّحضيض معناه فيكون‏

الاستثناء متّصلا. لأنّ المراد من القرى: أهاليها، كأنّه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم، إلّا قوم يونس. ويؤيّده قراءة الرّفع، على البدل.

وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ : إلى آجالهم.

و في الجوامع : وكان قد بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذّبوه، فذهب عنهم مغاضبا: فلمّا فقدره، خافوا نزول العذاب. فلبسوا المسوح وعجّوا وبكوا، فصرف اللَّه عنهم العذاب وكان قد نزل وقرب منهم.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي عبيدة الحذّاء، عن الباقر- عليه السّلام- قال:

كتب أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: حدّثني رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّ جبرئيل حدّثه، أنّ يونس بن متّي- عليه السّلام- بعثه اللَّه إلى قومه، وهو ابن ثلاثين سنة. وكان رجلا تعتريه الحدّة . وكان قليل الصّبر على قومه والمداراة لهم، عاجزا عمّا حمل من ثقل حمل أوقار النّبوّة وأعلامها. وأنه تفسّخ تحتها، كا يتفسّخ الجذع تحت حمله. وأنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان باللّه والتّصديق به واتّباعه ثلاثا وثلاثين سنة، فلم يؤمن به ولم يتّبعه من قومه إلّا رجلان، اسم أحدهما روبيل، واسم الآخر تنوخا.

و كان روبيل من أهل بيت العلم والنّبوّة والحكمة، وكان قديم الصّحبة ليونس بن متّي من قبل أن يبعثه اللَّه بالنّبوّة. وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمّكا في العبادة، وليس له علم ولا حكم. وكان روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوّت منها.

و كان تنوخا رجلا حطّابا يحتطب على رأسه ويأكل من كسبه. وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا، لعلم روبيل وحكمته وقديم صحبته.

فلمّا رأى يونس أنّ قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون، ضجر وعرف من نفسه قلّة الصّبر فشكى ذلك إلى ربّه. وكان فيما شكا أن قال: يا ربّ، إنّك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة. فلبثت فيهم أدعوهم إلى الإيمان بك والتّصديق برسالتي وأخوّفهم عذابك ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة، فكذّبوني ولم يؤمنوا بي وجحدوا نبوّتي واستخفّوا برسالتي.

و قد توعّدوني ، وخفت أن يقتلوني. فانزل عليهم عذابك، فإنّهم قوم لا يؤمنون.

قال: فأوحى اللَّه إلى يونس: أنّ فيهم الحمل والجنين والطّفل والشّيخ الكبيرو المرأة الضّعيفة والمستضعف المهين، وأنا الحكم العدل، سبقت رحمتي غضبي لا أعذّب الصّغار بذنوب الكبار من قومك. وهم، يا يونس، عبادي وخلقي وبريّتي في بلادي وفي عيلتي أحبّ أن أتأنّاهم  وأرفق بهم وأنتظر توبتهم. وإنّما بعثتك إلى قومك لتكون حيطا  عليهم، تعطف عليهم بسجال الرّحمة  الماسّة منهم، وتأنّاهم برأفة النّبوّة. وتصبر معهم بأحلام الرّسالة، وتكون لهم، كهيئة الطّبيب المداوي العالم بمداواة الدّواء. فخرقت»

 بهم، ولم تستعمل قلوبهم بالرّفق، ولم تسسهم بسياسة المرسلين. ثمّ سألتني، مع سوء نظرك، العذاب لهم عند قلّة الصّبر منك. وعبدي نوح كان أصبر منك على قومه، وأحسن صحبة، وأشدّ تأنّيا في الصّبر عندي، وأبلغ في العذر فغضبت له حين غضب لي، وأجبته حين دعاني.

فقال يونس: يا ربّ، إنّما غضبت عليهم فيك، وإنّما دعوت عليهم حين عصوك. فو عزّتك، لا أتعطّف عليهم برأفة أبدا، ولا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إيّاي وجحدهم نبوّتي، فأنزل عليهم عذابك فإنّهم لا يؤمنون أبدا.

فقال اللَّه: يا يونس، إنّهم مائة ألف أو يزيدون من خلقي، يعمرون بلادي، ويلدون عبادي. ومحبّتي أن أتأنّاهم للّذي سبق من علمي فيهم وفيك، وتقديري وتدبيري غير علمك وتقديرك. وأنت المرسل، وأنا الرّبّ الحكيم. وعلمي فيهم، يا يونس، باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه، وعلمك فيهم ظاهر لا باطن له. يا يونس، قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم. وما ذلك، يا يونس، بأوفر لحظّك عندي، ولا أحمد  لشأنك. وسيأتيهم عذابي في شوّال، يوم الأربعاء، وسط الشّهر، بعد طلوع الشّمس، فأعلمهم ذلك.

قال: فسرّ ذلك يونس ولو يسؤه، ولم يدر ما عاقبته. فانطلق يونس إلى تنوخا العابد، فأخبره بما أوحى اللَّه إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم.

و قال له: انطلق حتّى أعلمهم بما أوحى اللَّه إليّ من نزول العذاب.

فقال: تنوخا: فدعهم في غمرتهم ومعصيتهم حتّى يعذّبهم اللَّه.فقال له يونس: بل نلقي روبيل فنشاوره، فإنّه رجل عالم حكيم من أهل بيت النّبوّة.

فانطلقا إلى روبيل، فأخبره يونس بما أوحى اللَّه إليه من نزول العذاب على قومه في شوّال يوم الأربعاء في وسط الشّهر بعد طلوع الشّمس.

فقال له: ما ترى؟ انطلق بنا حتّى أعلمهم ذلك.

فقال له روبيل: ارجع إلى ربّك رجعة نبيّ حكيم ورسول كريم، واسأله أن يصرف عنهم العذاب. فإنّه غنيّ عن عذابهم، وهو يحبّ الرّفق بعباده، وما ذلك بأضر لك عنده ولا أسوء لمنزلتك لديه. ولعلّ قومك بعد ما سمعت ورأيت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما، فصابرهم وتأنّاهم.

فقال له تنوخا: ويحك، يا روبيل، ما أشرت على يونس وأمرته به بعد كفرهم باللّه وجحدهم لنبيّه  وتكذيبهم إيّاه وإخراجهم إيّاه من مساكنه وما همّوا به من رجمه.

فقال روبيل لتنوخا: اسكت، فإنّك رجل عابد لا علم لك.

ثمّ أقبل على يونس، فقال: أ رأيت، يا يونس، إذا أنزل اللَّه العذاب على قومك فيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا ويبقي بعضا.

فقال له يونس: بل يهلكهم جميعا، وكذلك سألته. ما دخلتني لهم رحمة  تعطّف، فأراجع  اللَّه فيهم وأسأله أن يصرف عنهم.

فقال له روبيل: أ تدري، يا يونس، لعلّ اللَّه إذا أنزل عليهم العذاب فأحسّوا به أن يتوبوا إليه أو يستغفروه. فيرحمهم فإنّه أرحم الرّاحمين، ويكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن اللَّه- تعالى- أنّه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء، فتكون بذلك عندهم كذّابا.

فقال له تنوخا: ويحك، يا روبيل، لقد قلت عظيما. يخبرك النّبيّ المرسل أنّ اللَّه أوحى إليه أنّ العذاب ينزل عليهم، فتردّ قول اللَّه وتشكّ فيه وفي قول رسوله. اذهب، فقد حبط عملك.

فقال روبيل لتنوخا: لقد فسد  رأيك.ثمّ أقبل على يونس، فقال: أنزل الوحي والأمر من اللَّه فيهم على ما أنزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم، وقوله الحقّ. أ رأيت إذا كان ذلك فهلك قومك كلّهم وخربت قريتهم، أليس يمحو اللَّه اسمك من النّبوّة وتبطل رسالتك وتكون، كبعض ضعفاء النّاس ويهلك على يديك مائة ألف [أو يزيدون‏]  من النّاس.

فأبى يونس أن يقبل وصيّته فانطلق ومعه تنوخا  إلى قومه، فأخبرهم أنّ اللَّه أوحى إليه أنّه منزل العذاب عليهم يوم الأربعاء في شوّال في وسط الشّهر بعد طلوع الشّمس. فردّوا عليه قوله وكذّبوه، وأخرجوه من قريتهم إخراجا عنيفا. فخرج يونس ومعه تنوخا من القرية وتنحيّا عنهم غير بعيد وأقاما ينتظران العذاب.

و أقام روبيل مع قومه في قريتهم. حتّى إذا دخل عليهم شوّال، صرخ  روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم: أنا روبيل الشّفيق عليكم الرّحيم بكم إلى ربّه، قد أنكرتم  عذاب اللَّه. هذا شوّال قد دخل عليكم، وقد أخبركم يونس، نبيّكم ورسول ربّكم، أنّ اللَّه أوحى إليه أنّ العذاب عليكم في شوّال في وسط الشّهر يوم الأربعاء بعد طلوع الشّمس. ولن يخلف اللَّه وعده رسله، فانظروا ما ذا أنتم صانعون؟

فأفزعهم كلامه، فوقع في قلوبهم تحقّق نزول العذاب. فأجفلوا  نحو روبيل، وقالوا له: ما ذا أنت مشير به علينا، يا روبيل؟ فإنك رجل عالم حكيم، لم نزل نعرفك بالرّأفة  علينا والرّحمة لنا، وقد بلغنا ما أشرت به على يونس، فمرنا بأمرك وأشر علينا برأيك.

فقال لهم روبيل: فإنّي أرى لكم وأشير عليكم أن تنظروا وتعمدوا إذا طلع الفجر يوم الأربعاء في وسط الشّهر، أن تعزلوا الأطفال عن الأمّهات في أسفل الجبل في طريق الأودية، وتقفوا النّساء في سفح الجبل، ويكون هذا كلّه قبل طلوع الشّمس.

فعجّوا عجيج الكبير منكم والصّغير بالصّراخ والبكاء والتّضرّع إلى اللَّه والتّوبة إليه والاستغفار له، وارفعوا رؤوسكم إلى السّماء وقولوا: ربّنا، ظلمنا وكذّبنا نبيّك وتبنا إليك‏من ذنوبنا. وإن لا تغفر لنا وترحمنا، لنكوننّ من الخاسرين المعذّبين. فاقبل توبتنا وارحمنا، يا أرحم الرّاحمين. ثمّ لا تملّوا من البكاء والصّراخ والتّضرّع إلى اللَّه والتّوبة إليه حتّى توارى الشّمس بالحجاب، أو يكشف اللَّه عنكم العذاب قبل ذلك.

فأجمع رأي القوم على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل. فلمّا كان يوم الأربعاء الّذي توقّعوا فيه العذاب، تنحّى روبيل عن القرية حيث يسمع صراخهم ويرى العذاب إذا نزل. فلمّا طلع الفجر يوم الأربعاء، فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل به. فلمّا بزغت الشّمس، أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف [و هدير] . فلمّا رأوها عجّوا جميعا بالصّراخ والبكاء والتّضرّع إلى اللَّه وتابوا إليه واستغفروه، وصرخت الأطفال بأصواتها تطلب أمّهاتها، وعجّت سخال البهائم تطلب الثّدي، وعجّت  الأنعام تطلب الرعاء. فلم يزالوا بذلك ويونس وتنوخا يسمعان صيحتهم  وصراخهم، ويدعون اللَّه عليهم بتغليظ العذاب عليهم. وروبيل في موضعه يسمع صراخهم وعجّتهم  ويرى ما نزل، وهو يدعو اللَّه بكشف العذاب عنهم.

فلمّا أن زالت الشّمس وفتحت أبواب السّماء وسكن غضب الرّبّ- تعالى- رحمهم الرّحمن، فاستجاب دعاءهم وقبل توبتهم وأقالهم عثرتهم.

و أوحى إلى إسرافيل: أن اهبط إلى قوم يونس. فإنّهم قد عجّوا إليّ بالبكاء والتّضرّع وتابوا إليّ واستغفروني، فرحمتهم وتبت عليهم. وأنا اللَّه التّوّاب الرّحيم، أسرع إلى قبول توبة عبدي التّائب من الذنب . وقد كان عبدي، يونس، ورسولي سألني نزول العذاب على قومه، وقد أنزلته عليهم. وأنا اللَّه أحقّ من وفى بعهده وقد أنزلته عليهم، ولم يكن اشترط يونس حين سألني أن أنزل عليهم العذاب أن أهلكهم فاهبط إليهم فاصرف عنهم ما قد نزل بهم من عذابي.

فقال إسرافيل: يا ربّ، إنّ عذابك قد بلغ أكتافهم، وكاد أن يهلكهم، وما أراه إلّا وقد نزل بساحتهم، فإلى أين أصرفه؟

فقال اللَّه: كلّا، إنّي قد أمرت ملائكتي أن يصرفوه ولا ينزلوه عليهم حتّى يأتيهم‏أمري فيهم وعزيمتي. فاهبط، يا إسرافيل، عليهم واصرفه عنهم. واصرف به إلى الجبال وبناحية مفاوض  العيون ومجاري السّيول في الجبال العاتية العادية المستطيلة على الجبال، فأذلّها به وليّنها حتّى تصير ملتئمة  حديدا جامدا.

فهبط إسرافيل عليهم، فنشر أجنحته، فاستاق بها ذلك العذاب حتّى ضرب بها تلك الجبال الّتي أوحى اللَّه إليه أن يصرفه إليها.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: وهي الجبل الّتي بناحية الموصل اليوم، فصارت حديدا إلى يوم القيامة.

فلمّا رأى قوم يونس أنّ العذاب قد صرف عنهم، هبطوا إلى منازلهم من رؤوس الجبال وضمّوا إليهم نساءهم وأولادهم وأموالهم، وحمدوا اللَّه على ما صرف عنهم.

و أصبح يونس وتنوخا يوم الخميس، في موضعهما الّذي كانا فيه، لا يشكّان أنّ العذاب قد نزل بهم وأهلكهم جميعا لمّا خفيت أصواتهم عنهما. فأقبلا ناحية القرية يوم الخميس، مع طلوع الشّمس، ينظران إلى ما صار إليه القوم.

فلمّا دنوا واستقبلهم  الحطّابون والحمّارة والرّعاة بأعناقهم ونظروا إلى أهل القرية مطمئنّين، قال يونس لتنوخا: يا تنوخا، كذّبني الوحي وكذبت وعدي لقومي. لا وعزّة ربّي، لا يرون لي وجها أبدا بعد ما كذبني  الوحي.

فانطلق يونس هاربا على وجهه، مغاضبا لربّه ناحية بحر أيلة، مستنكرا فرارا من أن يراه أحد من قومه، فيقول له: يا كذّاب. فلذلك قال اللَّه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (الآية).

و رجع تنوخا إلى القرية فتلقى روبيل، فقال له: يا تنوخا، أيّ الرّأيين كان أصوب وأحقّ [أن يتّبع‏]  أ رأيي أو رأيك؟

فقال تنوخا: بل رأيك كان أصوب، ولقد كنت أشرت برأي العلماء والحكماء.

و قال له تنوخا: أما إنّي لم أزل أرى أنّي أفضل منك لزهدي وفضل عبادتي، حتّى استبان فضلك بفضل علمك. وما أعطاك اللَّه، ربّك من الحكمة مع التّقوى أفضل‏من الزّهد والعبادة بلا علم.

فاصطحبا، فلم يزالا مقيمين مع قومهما. ومضى يونس على وجهه مغاضبا لربّه، فكان من قصّته ما أخبر اللَّه به في كتابه. فآمنوا فمتّعناهم إلى حين.

قال أبو عبيدة: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: كم كان غاب يونس عن قومه حتّى رجع إليه بالنّبوّة والرّسالة، فآمنوا به وصدّقوه؟

قال: أربعة أسابيع: سبعا منها في ذهابه إلى البحر، [و سبعا في بطن الحوت، وسبعا تحت الشّجرة بالعراء] ، وسبعا منها في رجوعه إلى قومه. فقلت له: وما هذه الأسابيع، شهور أو أيّام أو ساعات؟

فقال: يا أبا عبيدة، إنّ العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النّصف من شوّال وصرف عنهم من يومهم ذلك. فانطلق يونس مغاضبا، فمضى يوم الخميس سبعة أيّام في مسيره إلى البحر وسبعة أيّام في بطن الحوت وسبعة أيّام تحت الشّجرة بالعراء وسبعة أيّام في رجوعه إلى قومه. فكان ذهابه ورجوعه ثمانية وعشرون يوما. ثمّ أتاهم، فآمنوا به وصدّقوه واتّبعوه. فلذلك قال: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ.

عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا أظلّ قوم يونس العذاب، دعوا اللَّه فصرفه عنهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: كان في العلم أنّه يصرفه عنهم.

عن الثّماليّ ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ يونس لمّا آذاه قومه، دعا اللَّه عليهم. فأصبحوا أوّل يوم ووجوههم صفر ، وأصبحوا اليوم الثّاني ووجوههم سود.

قال: وكان اللَّه واعدهم أن يأتيهم العذاب، حتّى نالوه برماحهم . ففرّقوا بين النّساء وأولادهنّ والبقر وأولادها، ولبسوا المسوح والصّوف، ووضعوا الحبال في أعناقهم والرّماد على رؤوسهم، وضجّوا ضجّة واحدة إلى ربّهم، وقالوا: آمنا بإله يونس.قال: فصرف اللَّه عنهم العذاب إلى جبال أمد .

قال: وأصبح يونس وهو يظنّ أنّهم هلكوا، فوجدهم في عافية.

عن معمّر  قال: قال أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام-: إنّ يونس لمّا أمره اللَّه [بما أمره‏]  فأعلم قومه فأظلّهم العذاب، فرقوا بينهم وبين أولادهم وبين البهائم وأولادها، ثمّ عجّوا وضجّوا فكشف  اللَّه عنهم العذاب.

و هذان الحديثان طويلان أخذت منهما موضع الحاجة.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى عليّ بن سالم: عن أبي بصير قال:

قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: لأيّ علّة صرف اللَّه العذاب عن قوم يونس وقد أظلّهم، ولم يفعل كذلك بغيرهم من الأمم؟

قال: لأنّه كان في علم اللَّه أنّه سيصرفه عنهم لتوبتهم. وإنّما ترك إخبار يونس بذلك، لأنّه- عزّ وجلّ- أراد أن يفرّغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته.

و بإسناده» إلى سماعة، أنّه سمعه- عليه السّلام- وهو يقول: ما ردّ اللَّه العذاب عن قوم قد أظلّهم إلّا قوم يونس.

فقلت: أ كان قد أظلّهم؟

فقال: نعم، حتّى نالوه بأكفّهم.

قلت: فكيف كان ذلك؟

قال: كان في العلم المثبت عند اللَّه- عزّ وجلّ- الّذي لم يطّلع عليه أحد أنّه سيصرفه عنهم.

و في الكافي ، بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه: إنّ جبرئيل استثنى في هلاك قوم يونس، ولم يسمعه يونس.و في تهذيب الأحكام : عليّ بن الحسين ، عن محمّد بن عبد اللَّه بن زرارة، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان الأحمر، عن كثير النّوا، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال، وقد ذكر يوم عاشوراء: وهذا اليوم الّذي تاب اللَّه فيه على قوم يونس- عليه السّلام-.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال:

 

قال لي أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ما ردّ اللَّه- عزّ وجلّ- العذاب إلّا عن قوم يونس. وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام، فيأبوا ذلك، فهمّ أن يدعو عليهم. وكان فيهم رجلان، عابد وعالم. وكان اسم أحدهما مليخا ، والآخر اسمه روبيل. وكان العابد يشير على يونس بالدّعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول: لا تدع  عليهم، فإنّ اللَّه يستجيب لك ولا يحبّ هلاك عباده.

فقبل قول العابد، ولم يقبل قول العالم، فدعا عليهم.

فأوحى اللَّه إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا.

فلمّا قرب الوقت، خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم. فلمّا كان ذلك اليوم، نزل العذاب.

فقال العالم لهم: يا قوم، افزعوا إلى اللَّه- عزّ وجلّ- فلعلّه يرحمكم فيردّ العذاب عنكم.

فقالوا: كيف نصنع؟

قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النّساء والأولاد وبين الإبل وأولادها وبين البقر وأولادها وبين الغنم وأولادها، ثمّ ابكوا وادعوا.

فذهبوا وفعلوا ذلك وضجّوا وبكوا، فرحمهم اللَّه وصرف عنهم العذاب. وفرّق العذاب على الجبال، وقد كان نزل وقرب منهم. فأقبل يونس لينظر كيف أهلكهم اللَّه، فرأى الزّارعين يزرعون في أرضهم.قال لهم: ما فعل قوم يونس؟

فقالوا له، ولم يعرفوه: إنّ يونس دعا عليهم، فاستجاب اللَّه- عزّ وجلّ- له ونزل العذاب عليهم. فاجتمعوا وبكوا ودعوا، فرحمهم اللَّه وصرف ذلك عنهم وفرّق العذاب على الجبال. فهم إذن يطلبون يونس، ليؤمنوا به.

فغضب يونس ومرّ على وجهه مغاضبا للّه، كما حكى اللَّه- تعالى-.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام، ونادى في الظّلمات، ظلمة بطن الحوت وظلمة اللّيل وظلمة البحر:

أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فاستجاب اللَّه له، فأخرجه الحوت إلى السّاحل، ثمّ قذفه فألقاه بالسّاحل. وأنبت اللَّه عليه شجرة من يقطين: وهو القرع.

فكان يمصّه ويستظلّ به وبورقه. وكان تساقط شعره ورقّ جلده. وكان يونس يسبّح اللَّه ويذكره باللّيل والنّهار.

فلمّا أن قوي واشتدّ، بعث اللَّه دودة فأكلت أسفل القرع فذبلت القرعة ثمّ يبست. فشقّ ذلك على يونس، فظلّ حزينا.

فأوحى اللَّه إليه: ما لك حزينا، يا يونس؟

قال: يا ربّ، هذه الشّجرة الّتي كانت تنفعني فسلّطت عليها دودة فيبست.

قال: يا يونس، أحزنت لشجرة لم تزرعها ولم تسقها ولم تعن  بها إن يبست حين استغنيت عنها، ولم تحزن لأهل نينوى أكثر من مائة ألف أردت أن ينزل عليهم العذاب. إنّ أهل نينوى آمنوا واتّقوا، فارجع إليهم.

فانطلق يونس إلى قومه. فلمّا دنا يونس من نينوى، استحيى أن يدخل.

فقال لراع لقيه: ائت أهل نينوى وقل لهم: إنّ هذا يونس قد جاء.

قال له الرّاعي: أ تكذب، أما تستحيي ويونس قد غرق في البحر وذهب؟

قال له يونس: اللّهم، إنّ هذه الشّاة تشهد لك أنّي يونس.

فنطقت الشّاة بأنّه يونس. فلمّا أتى الرّاعي قومه وأخبرهم، أخذوه وهمّوا بضربه.

فقال: إنّ لي بيّنة بما أقول.

قالوا: من يشهد لك؟

قال: هذه الشّاة تشهد.

فشهدت بأنّه صادق، وأنّ يونس قد ردّه اللَّه إليهم. فخرجوا يطلبونه، فجاءوا به وآمنوا وحسن إيمانهم. فمتّعهم اللَّه إلى حين: وهو الموت، وأجارهم من ذلك العذاب.

و عن عليّ - عليه السّلام- حديث طويل. يقول في آخره: وأنبت اللَّه عليه شجرة من يقطين: وهي الدّبا، فأظلّته من الشّمس فسكن . ثمّ أمر الشّجرة، فتنحّت عنه ووقع الشّمس عليه، فجزع.

فأوحى اللَّه إليه: يا يونس، لم لم ترحم مائة ألف أو يزيدون، وأنت تجزع من ألم ساعة؟

فقال: ربّ، عفوك عفوك.

فردّ اللَّه عليه بدنه، ورجع إلى قومه وآمنوا به. وهو قوله: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ.

و في روضة الكافي : عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عبد اللَّه بن سنان، عن معروف بن خربوذ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ للَّه- عزّ وجلّ- رياح رحمة ورياح عذاب. فإن شاء أن يجعل الرّياح من العذاب رحمة، فعل.

قال: ولن يجعل الرّحمة من الرّيح عذابا.

قال: وذلك أنّه لم يرحم قوما قطّ أطاعوه فكانت طاعتهم إياه وبالا عليهم، إلّا بعد تحولّهم عن طاعته. قال: وكذلك فعل بقوم يونس لمّا آمنوا، رحمهم اللَّه بعد ما كان قدّر عليهم العذاب وقضاه. ثمّ تداركهم برحمته، فجعل العذاب المقدّر عليهم رحمة، فصرفه عنهم وقد أنزله عليهم وغشيهم. وذلك لما آمنوا به وتضرّعوا إليه.

و في من لا يحضره الفقيه : وفي العلل الّتي ذكرها الفضل بن شاذان- رحمه اللَّه- عن الرّضا- عليه السّلام- قال: إنّما جعل للكسوف صلاة، لأنّه من آيات اللَّه- عزّ وجلّ-لا يدرى أ لرحمة ظهرت أم لعذاب. فأحبّ النّبيّ أن تفزع أمّته إلى خالقها وراحمها عند ذلك، ليصرف عنهم شرّها ويقيهم  مكروهها، كما صرف عن قوم يونس حين تضرّعوا إلى اللَّه- عزّ وجلّ-.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ: إيمان كلّ من في الأرض مشيئة حتم.

لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ: بحيث لا يشذّ منهم أحد.

جَمِيعاً: مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه. ولكن- حينئذ- يفوتهم استحقاق الثّواب، وينافي فائدة التّكليف.

أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ .

و ترتيب الإكراه على المشيئة «بالفاء» وإيلاؤها حرف الاستفهام، للإنكار.

و تقديم الضّمير على الفعل، للدّلالة على أنّ شأن النّبيّ- أيضا- التّبليغ لا الإكراه للجمع على الإيمان، فإنّه لا يمكنه.

و في كتاب التّوحيد : أبي قال: حدّثنا عبد اللَّه بن جعفر الحميريّ، عن أحمد بن محمّد بن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: اجعلوا أمركم للّه، ولا تجعلوه للنّاس. فإنّه ما كان للّه، فهو للّه- عزّ وجلّ-. وما كان للنّاس، فلا يصعد إلى اللَّه. لا تخاصموا النّاس لدينكم، فإنّ المخاصمة ممرضة للقلب. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- قال لنبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وقال: أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. ذروا النّاس، فإنّ النّاس أخذوا عن النّاس، وأنّكم أخذتم عن رسول اللَّه. وأنّي سمعت أبي يقول: إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطّير إلى وكره.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: إلّا بإرادته وألطافه وتوفيقه. فلا تجهد نفسك في هداها، فإنّه إلى اللَّه.

وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ: العذاب. أو الخذلان، فإنّه سببه.

و قرئ ، بالزّاء.

و قرأ  ابو بكر: «و نجعل» بالنّون.عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ : لا يستعملون عقولهم بالنّظر في الحجج والآيات. أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطّبع.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا من الأخبار في التّوحيد: حدّثنا [تميم بن‏]  عبد اللَّه بن تميم القرشي قال: حدّثنا أبي، عن أحمد بن عليّ الأنصاريّ، عن أبي الصّلت، عبد السّلام بن صالح الهروي قال: سأل المأمون أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عن قول اللَّه- جلّ ثناؤه-: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ- إلى قوله- إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.

فقال الرّضا- عليه السّلام-: حدّثني أبي، موسى بن جعفر، عن أبيه، جعفر بن محمّد، عن أبيه، محمّد بن عليّ، عن أبيه، عليّ بن الحسين، عن أبيه، الحسين بن عليّ، عن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- قال: إنّ المسلمين قالوا لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: لو أكرهت، يا رسول اللَّه، من قدرت عليه من النّاس على الإسلام لكثر عددنا وقوّتنا على عدوّنا.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: ما كنت لألقى اللَّه- تعالى- ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا وما أنا من المتكلّفين.

فأنزل اللَّه- تبارك وتعالى- عليه: يا محمّد وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدّنيا، كما يؤمنون  عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة. ولو فعلت ذلك بهم، لم يستحقّوا منّي ثوابا ولا مدحا. ولكنّي أريد منكم أن تؤمنوا مختارين غير مضطرّين، لتستحقوا منّي الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنّة الخلد. أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.

و أمّا قوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى: أنّها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن اللَّه. و«إذنه» أمره لها بالإيمان ما كانت مكلّفة متعبّدة، وإلجاؤه إيّاها إلى الإيمان عند زوال [التكليف‏]  التّعبّد عنها.

فقال المأمون: فرّجت عنّي، [يا أبا الحسن‏]  فرّج اللَّه عنك.قُلِ انْظُرُوا: أي: تفكّروا.

ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: من عجائب صنعه، ليدلّكم على وحدته وكمال قدرته.

و «ما ذا» إن جعلت استفهاميّة علّقت «انظروا» عن العمل.

وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ : في علم اللَّه وحكمه.

و «ما» نافية. أو استفهاميّة في موضع النّصب.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن أحمد بن محمّد بن عبد اللَّه، عن أحمد بن هلال، عن أميّة بن عليّ، عن داود الرّقيّ قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه- تبارك وتعالى-: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.

قال: «الآيات» هم الأئمّة. و«النّذر» هم الأنبياء- عليهم السّلام-.

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عبد اللَّه بن يحيى الكاهليّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-:

وَ ما تُغْنِي- إلى قوله- لا يُؤْمِنُونَ.

قال: لمّا اسري برسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-، أتاه جبرئيل بالبراق. فركبها فأتى بيت المقدس، فلقي من لقي من إخوانه من الأنبياء- صلوات اللَّه عليهم أجمعين-. ثمّ رجع فحدّث أصحابه: إنّي أتيت بيت المقدس ورجعت من اللّيلة، وقد جاءني جبرئيل بالبراق فركبتها. وآية ذلك أنّي مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان، وقد أضلّوا جملا لهم أحمر، وقد همّ القوم في طلبه.

فقال بعضهم لبعض: إنّما جاء الشّام وهو راكب سريع، ولكنّكم قد أتيتم الشّام وعرفتموها، فسلوه عن أسواقها وأبوابها وتجّارها.

فقالوا: يا رسول اللَّه، كيف الشّام وكيف أسواقها؟

قال: وكان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إذا سئل عن الشّي‏ء لا يعرفه، شقّ عليه حتّى يرى ذلك في وجهه.

قال: فبينما هو كذلك إذ أتاه جبرئيل- عليه السّلام- فقال: يا رسول اللَّه، هذه‏الشّام قد رفعت لك.

فالتفت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فإذا هو بالشّام بأبوابها وأسواقها وتجّارها.

قال: أين السّائل عن الشّام؟

فقالوا له: فلان وفلان.

فأجابهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- في كلّ ما سألوه عنه، فلم يؤمن منهم إلّا قليل. وهو قول اللَّه- تبارك وتعالى-: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.

ثمّ قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: نعوذ باللّه أن لا نؤمن باللّه ورسوله، آمنا باللّه ورسوله.

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، مثل وقائعهم، ونزول بأس اللَّه بهم إذ لا يستحقّون غيره. من قولهم: أيّام العرب لوقائعها.

قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ : لذلك. أو فانتظروا هلاكي إنّي معكم من المنتظرين هلاككم.

و في تفسير العيّاشي : عن محمّد بن الفضل ، عن أبي الحسن، الرّضا- عليه السّلام- قال: سألته عن شي‏ء في الفرج.

فقال: أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج؟ إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول:

فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا: عطف على محذوف دلّ عليه إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا، كأنّه قيل: نهلك الأمم ثمّ ننجّي رسلنا ومن آمن بهم. على حكاية الحال الماضية.

كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ : كذلك الإنجاء. أو إنجاء كذلك ننجّي محمّدا وصحبه حين نهلك المشركين.

و حَقًّا عَلَيْنا قيل: اعتراض. ونصبه بفعل مقدّر، أي: حقّ ذلك علينا حقّا.

و قيل : بدل من «كذلك».و في تفسير العيّاشي : عن مصقلة الطحّال، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:

ما يمنعكم أن تشهدوا على من مات منكم على هذا الأمر أنّه من أهل الجنّة؟ إنّ اللَّه يقول: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قيل : خطاب لأهل مكّة.

إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي: وصحّته.

فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ: فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا. فاعرضوها على العقل الصّرف وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا صحّتها. وهو أنّي لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الّذي هو يوجدكم ويتوفّاكم.

و إنّما خصّ التّوفّي بالذّكر، للتّهديد.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : بما دلّ عليه العقل ونطق به الوحي.

و حذف الجار من «أن» يجوز أن يكون من المطّرد مع «أن». وأن يكون من غيره، كقوله:

         أمرتك بالخير فافعل ما أمرت به‏

 

 وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ: عطف على «أن أكون»، غير أنّ صلة «أن» محكيّة بصيغة الأمر. ولا فرق بينهما في الغرض، لأنّ المقصود وصلها بما يتضمّن معنى المصدر لتدلّ معه عليه. وصيغ الأفعال كلّها كذلك، سواء الخبر منها والطّلب.

و المعنى: وأمرت بالاستقامة في الدّين والاشتداد فيها بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو في الصّلاة باستقبال القبلة.

حَنِيفاً: حال من «الدّين» أو «الوجه».

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ: بنفسه إن دعوته أو خذلته.

فَإِنْ فَعَلْتَ: فإن دعوته.

فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ : جزاء للشّرط، وجواب لسؤال مقدّر عن تبعةالدّعاء.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ: وإن يصبك به.

فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ: إلّا اللَّه.

وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ: فلا دافع.

لِفَضْلِهِ: الّذي أرادك به.

و لعلّه ذكر الإرادة مع الخير والمسّ مع الضّرّ، مع تلازم الأمرين، للتّنبيه على أنّ الخير مراد بالذّات وأنّ الضّرّ إنّما مسّهم لا بالقصد الأوّل.

و وضع الفضل موضع الضّمير، للدّلالة على أنّه متفضّل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه. ولم يستثن، لأنّ مراد اللَّه لا يمكن ردّه.

يُصِيبُ بِهِ: بالخير.

مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ : فتعرّضوا لرحمة بالطّاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ: رسوله أو القرآن، ولم يبق لكم عذر.

فَمَنِ اهْتَدى: بالإيمان والمتابعة.

فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ: لانّ نفعه لها.

وَ مَنْ ضَلَّ: بالكفر بهما.

فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها: لأنّ وبال الضّلال عليها.

وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ : بحفيظ موكول إليّ أمركم، وإنّما أنا بشير ونذير.

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ: بالامتثال والتّبليغ.

وَ اصْبِرْ: على دعوتهم وتحمّل أذيّتهم.

حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ: بالنّصرة، أو بالأمر بالقتال.

وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ : إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطّلاعه على السّرائر اطّلاعه على الظّواهر.