سورة الشّعراء الآية 121-140

إِنَّ فِي ذلِكَ: فيما ذكر من قصّة إبراهيم.

لَآيَةً: لحجّة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنّها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير يتفطّن المتأمّل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدّينيّة والتّنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالقته  معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصوير الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا لهم‏ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول.

وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ: أكثر قومه مُؤْمِنِينَ : به.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ: القادر على تعجيل الانتقام.

الرَّحِيمُ : بالإمهال، لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذرّيّتهم.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ :

 «القوم» مؤنّثة، ولذلك تصغّر على قويمة. وقد مرّ الكلام في تكذيبهم الرّسل.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضل: عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر، محمّد بن عليّ- عليهما السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: فمكث نوح- عليه السّلام- [في قومه‏]  ألف سنة إلّا خمسين عاما لم يشاركه في نبوّته أحد، ولكنّه قدم على قوم مكذّبين للأنبياء الّذين كانوا بينه وبين آدم، وذلك قوله- عزّ وجلّ-: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، يعني: من كان بينه وبين آدم- عليه السّلام- إلى أن انتهى  إلى قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

و قال  فيه - أيضا-: فكان بين آدم وبين نوح- عليهما السّلام- عشرة آباء  كلّهم أنبياء [اللّه‏] .

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضل ، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- مثله.

 

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ لأنّه كان منهم أَ لا تَتَّقُونَ  اللّه، فتتركوا عبادة غيره.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ : مشهور بالأمانة فيكم.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ  فيما آمركم به من التوّحيد والطّاعة [للّه-

سبحانه‏] .

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: على ما أنا عليه من الدّعاء والنّصح مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ  كرّره للتّأكيد والتّنبيه على دلالة كلّ واحد من أمانته وحسم طمعه لوجوب طاعته فيما يدعوهم إليه، فكيف إذا اجتمعا.

قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ : الأقلّون جاها ومالا، جمع الأرذل، على الصّحّة.

و قرأ  يعقوب: «و أتباعك» وهو جمع تابع، كشاهد وأشهاد، أو تبع، كبطل وأبطال.

و هذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدّنيويّة حتّى جعلوا اتّباع المقلّين فيها مانعا عن اتّباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلا على بطلانه، وأشاروا بذلك إلى أنّ اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنّما هو لتوقّع مال ورفعة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله- عزّ وجلّ-: وقالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ يا نوح وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قال الفقراء.

قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ : أنّهم عملوه إخلاصا أو طمعا في طعمة، وم عليّ إلّا اعتبار الظّاهر.

إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي: ما حسابهم على بواطنهم إلّا على اللّه- تعالى- فإنّه المطّلع عليها لَوْ تَشْعُرُونَ  لعلمتم ذلك، ولكنّكم تجهلون فتقولون مالا تعلمون.

وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ : جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم، وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتّباعهم المانع عنه، وقوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ  كالعلّة له، أي: ما أنا إلّا رجل مبعوث لإنذار المكلّفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزّاء أو أذلّاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء. أو ما عليّ إلّا إنذاركم إنذارا بيّنا بالبرهان الواضح، فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عمّا تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ :من المشتومين، أو المضروبين بالحجارة.

قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ : إظهارا لما يدعو عليهم لأجله، وهو تكذيب الحقّ، لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.

فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً [فاحكم بيني وبينهم،]  من الفتاحة .

وَ نَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : من قصدهم، أو شؤم عملهم.

فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ : المملوء.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في  قوله: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المشحون المجهّز الّذي قد فرغ منه ولم يبق إلّا دفعه .

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ إنجائه الْباقِينَ : من قومه.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: دلالة واضحة على توحيد اللّه.

وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في إهلاك قوم نوح.

الرَّحِيمُ  في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك.

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ .

أنثه باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبيهم.

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ  إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ  تصدير القصص بها دلالة على أنّ البعثة مقصورة على الدّعاء إلى معرفة الحقّ والطّاعة فيما يقرّب المدعو إلى ثوابه ويبعّده  عن عقابه، وكان الأنبياء متّفقين على ذلك، وإن اختلفوا في بعض التّفاريع، مبرّئين عن المطامع  الدّنيئة والأغراض»

 الدّنيويّة.و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضل : عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر، محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: وقال نوح: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- باعث نبيّا يقال له: هود، وإنّه يدعو قومه إلى اللّه- عزّ وجلّ- فيكذّبونه، وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- يهلكهم  بالرّيح، فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه، فإنّ اللّه- تبارك وتعالى- ينجّيه من عذاب الرّيح. وأمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة، ويكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود وزمانه الّذي يخرج فيه، فلمّا بعث اللّه- تبارك وتعالى- هودا نظروا فيما عندهم من العلم والإيمان وميراث العلم والاسم الأكبر وآثار علم النّبوة فوجدوا هودا نبيّا، وقد بشّرهم أبوهم، نوح به، [فآمنوا به‏]  وصدّقوه واتّبعوه فنجوا من عذاب الرّيح، وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً. وقوله: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمّد بن الفضل ، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- مثله.

 

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ: مكان مرتفع. ومنه: ريع الأرض، لارتفاعها.

آيَةً: علما للمارّة تَعْبَثُونَ : ببنائها، إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها. أو بروج الحمام. أو بنيانا يجتمعون إليه للعبث بمن يمرّ عليهم. أو قصورا يفتخرون بها.

و في مجمع البيان : آيَةً تَعْبَثُونَ، أي: بناء لا تحتاجون إليه لسكناكم وإنّما تريدون العبث بذلك واللّعب واللّهو، كأنّه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا منهم ... عن ابن عبّاس في رواية عطاء.

و يؤيّده‏

الخبر المأثور ، عن أنس بن مالك، أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- خرج فرأى قبّة فقال: ما هذه؟قال  له أصحابه، هذا لرجل  من الأنصار.

فمكث حتّى إذا جاء صاحبها فسلّم على النّاس أعرض عنه، وصنع ذلك به مرارا حتّى عرف الرّجل الغضب به  والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه وقال: واللّه، إنّي لأنكر نظر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما أدري ما حدث فيّ وما صنعته ؟! قالوا: خرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله وسلم- فرأى قبّتك، فقال: لمن هذه؟

فأخبرناه.

فرجع إلى قبّته فسوّاها بالأرض، فخرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذات يوم فلم ير القبّة، فقال: ما فعلت القبّة الّتي كانت هاهنا؟

قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها.

فقال: إنّ كلّ  يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا ما لا بدّ منه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وأمّا قوله: بِكُلِّ رِيعٍ قال الإمام أبو جعفر- عليه السّلام- يعني: بكلّ طريق آية، والآية عليّ- عليه السّلام-.

وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ: مآخذ الماء.

و قيل : قصورا مشيّدة وحصونا.

لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ : فتحكمون بنيانها.

وَ إِذا بَطَشْتُمْ بسوط أو سيف.

بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ : متسلّطين غاشمين بلا رأفة، ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

فَاتَّقُوا اللَّهَ: بترك هذه الأشياء.

وَ أَطِيعُونِ : فيما أدعوكم إليه، فإنّه أنفع لكم.وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ  كرّره مرتّبا عليه إمداد اللّه- تعالى- إيّاهم بما يعرفونه من أنواع النّعم، تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع.

ثمّ فصّل بعض تلك النّعم، كما فصّل بعض مساوئهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في أَ لا تَتَّقُونَ مبالغة في الإيقاظ والحثّ على التّقوى فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ  وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ  ثمّ أوعدهم فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ : في الدّنيا والآخرة، فإنّه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام.

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ : فإنّا لا نرعوي  عمّا نحن عليه.

و تغيير شقّ النّفي  عمّا تقتضيه المقابلة، للمبالغة في قلّة اعتدادهم بوعظه.

إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ : ما هذا الّذي جئتنا به الّا كذب الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلّا خلقهم نحيا ونموت مثلهم، ولا بعث ولا حساب.

و قرأ  نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «خلق» بضمّتين، أي: ما هذا الّذي جئت به إلّا عادة الأوّلين كانوا يلفّقون  مثله. أو ما هذا الّذي نحن عليه من [الدّين إلّا خلق الأوّلين وعادتهم، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الّذي نحن عليه من‏]  الحياة والموت إلّا عادة قديمة لم يزل النّاس عليها.

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ : على ما نحن عليه.

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ: بسبب التّكذيب بريح صرصر.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ،