سورة القصص الآية 1-20

سورة القصص مكّيّة.

و قيل : إلّا قوله: إلا الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله [: لا نبتغي‏]  الجاهلين.

و هي ثمان وثمانون آية.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده  عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة الطوّاسين الثّلاثة في ليلة الجمعة»

، كان من أولياء اللَّه وفي جواره  وكنفه. ولم يصبه في الدّنيا بؤس أبدا وأعطي في الآخرة  حتّى يرضى وفوق رضاه. وزوّجه اللَّه مائة زوجة من الحور العين.

 [و في مجمع البيان : وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قرأ الطّواسين الثّلاث- وذكر مثله، وزاد في آخره- وأسكنه اللَّه في جنّة]  عدن وسط الجنّة، مع النّبيّين والمرسلين والوصيّين والرّاشدين.أبيّ بن كعب، عن النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله-  قال: ومن قرأ طسم القصص، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به. ولم يبق ملك في السّموات والأرض، إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا. إنّ كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه.

و عن ابن عبّاس  قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: وأعطيت طه والطوّاسين من ألواح موسى.

طسم : قد مرّ بعض تفاسيره.

و في كتاب معاني الأخبار  بإسناده إلى سفيان بن سعيد الثّوريّ، عن أبي عبد اللَّه الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل يقول- عليه السّلام-: وأمّا طسم، فمعناه: أنا الطّالب السّميع، المبدئ المعيد.

تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ  نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ:

بعض نبئهما. مفعول «نتلو».

بِالْحَقِّ: محقّين صادقين.

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : لأنّهم المنتفعون به .

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ: استئناف مبيّن لذلك البعض. والأرض، أرض مصر. يقال: علا علوّا: إذا تجبّر. ومنه: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ .

وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً: فرقا يشيعونه فيما يريد. أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته.

أو أصنافا في استخدامه، استعمل كلّ صنف في عمل. أو أحزابا، بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتّفقوا عليه.

يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ: وهم بني إسرائيل. والجملة حال من فاعل «جعل». أو صفة «شيعا». أو استئناف. وقوله: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ: بدل منها.

و كان ذلك، لأنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده.و قال السّديّ: رأى فرعون في منامه، أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل. فسأل علماء قومه، فقالوا:

يخرج من هذه البلدة رجل يكون هلاك مصر على يده. وذلك كان من غاية حمقه فإنّه لو صدّق لم يندفع بالقتل، وإن كذّب فما وجهه.

إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ : فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيّل فاسد.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه- : ثمّ خاطب اللَّه- عزّ وجلّ- نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فقال: نَتْلُوا عَلَيْكَ يا محمّد. إلى قوله: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فأخبر اللَّه- عزّ وجلّ- نبيّه بما لقي موسى- عليه السّلام- وأصحابه من فرعون من القتل والظّلم، ليكون تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته- صلوات اللَّه عليهم- من أمّته.

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ: أن نتفضّل عليهم بإنقاذهم من بأسه.

 «و نريد» حكاية حال ماضية معطوفة على إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا. من حيث أنّهما واقعان تفسيرا للنّبأ. أو حال من «يستضعف» ولا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف، مقارنة المراد له لجواز أن يكون تعلّق الإرادة به حينئذ، تعلّقا استقباليّا. مع أنّ منّة اللَّه بخلاصهم لمّا كانت قريبة الوقوع منه، جاز أن يجري مجرى المقارن.

وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً: مقدّمين في أمر الدّين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، متّصلا بقوله: من أمّته. ثمّ بشّره بعد تعزيته، أنّه يتفضّل عليهم ويجعلهم خلفاء في الأرض وأئمّة على أمّته، ويردّهم إلى الدّنيا مع أعدائهم حتى ينتصفوا منهم. فقال- جلّ ذكره-: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما وهم الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم. وقوله: «منهم»، أي: من آل محمّد. ما كانُوا يَحْذَرُونَ، أي: من القتل والعذاب. ولو كانت هذه نزلت في موسى- عليه السّلام- وفرعون لقال: ونري فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون، أي: من موسى- عليه السّلام- ولم يقل:

منهم. فلمّا تقدّم قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.]  علمنا أنّ المخاطبة للنّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وما وعد اللَّه به رسوله. فإنّما يكون بعده والأئمّة يكونون من ولده. وإنّما ضرب اللَّه هذا المثل لهم في موسى وبني إسرائيل، وفي أعدائهم بفرعون وهامان وجنودهما فقال: إنّ فرعون قتل بني إسرائيل، فظفر  اللَّه موسى بفرعون وأصحابه حتّى أهلكهم اللَّه. وكذلك أهل بيت رسول اللَّه أصابهم من أعدائهم القتل والغصب، ثمّ يردّهم اللَّه ويردّ أعداءهم إلى الدّنيا حتّى يقتلوهم.

و في الكافي ، بإسناده إلى حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- يا حفص، إنّ من صبر، صبر قليلا. وإنّ من جزع قليلا، إلى أن قال- عليه السّلام-: ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصّبر، فقال- جلّ ثناؤه -: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. فعند ذلك قال- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: الصّبر من الإيمان، كالرّأس من الجسد. فشكر اللَّه- عزّ وجلّ- ذلك له، فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ -:

وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ [وَ قَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ. فقال- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: إنّه بشرى وانتقام.]

 

 [أقول: يجوز أن يكون المراد من ظاهر الآية، موسى وفرعون‏]  ومن باطنه، أهل البيت وأعدائهم وقد مرّ أنّ للقرآن ظهرا وبطنا. ويدلّ عليه- أيضا- ما

رواه في أصول الكافي  في كتاب فضل القرآن مسندا: عن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وقد ذكر القرآن: وله ظهر وبطن. فظاهره حكم وباطنه علم. ظاهره أنيق وباطنه عميق.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، متّصلا بقوله: حتّى يقتلوهم. وقد ضرب أمير المؤمنين- عليه السّلام- [في أعدائه‏]  مثلا، مثل ما ضربه اللَّه لهم في أعدائهم بفرعون وهامان. فقال: يا أيّها النّاس، إنّ أوّل من بغى على اللَّه- عزّ وجلّ- على وجه الأرض عناق بنت آدم- عليه السّلام- خلق اللَّه لها عشرين إصبعا. لكلّ إصبع منها ظفران طويلان‏كالمنجلين العظيمين. وكان مجلسها في الأرض موضع جريب. فلمّا بغت بعث اللَّه- عزّ وجلّ- لها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا كالحمار- وكان ذلك في الخلق الأوّل- فسلّطهم اللَّه- عزّ وجلّ- عليها، فقتلوها. ألا وقد قتل اللَّه- عزّ وجلّ- فرعون وهامان. وخسف اللَّه- تعالى- بقارون. وإنّما هذا المثل لأعدائه الّذين غصبوا حقّه، فأهلكهم اللَّه.

ثمّ قال عليّ- صلوات اللَّه عليه- على أثر هذا المثل الّذي ضربه: وقد كان لي حقّ حازه دوني من لم يكن له، ولم أكن أشركه فيه. ولا توبة له إلّا بكتاب منزل، أو برسول مرسل. وأنّى له بالرّسالة بعد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ولا نبيّ بعد محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- [فأنّى يتوب‏]  [و هو في برزخ يوم القيامة، غرّته الأماني وغرّه باللَّه الغرور. وقد أشفى  على جرف هار، فانهار به [في نار]  جهنم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.]  وكذلك مثل القائم- عليه السّلام- في غيبته وهربه واستتاره، مثل موسى- عليه السّلام- خائفا مستترا إلى أن يأذن اللَّه في خروجه وطلب حقّه وقتل أعدائه في قوله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.

و قد ضرب بالحسين بن عليّ- عليه السّلام-  مثلا في بني إسرائيل بذلّتهم من أعدائهم.

حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لقى المنهال بن عمرو عليّ بن الحسين- عليه السّلام- فقال له:

كيف أصبحت يا ابن رسول اللَّه؟ قال:

ويحك، أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت؟ أصبحنا  في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبّحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. وأصبح خير البريّة بعد محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- يلعن على المنابر. وأصبح عدوّنا يعطى المال والشّرف. وأصبح من يحبّنا محقودا منقوصا حقّه، وكذلك لم يزل المؤمنون. وأصبحت العجم تعرف للعرب حقّها  بأنّ محمّداكان منها : وأصبحت العرب تعرف القريش حقّها  بأن محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله- كان منها [و أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمّدا كان منها]  [و أصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله- كان منها]  وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حقّ. فهكذا أصبحنا، يا منهال.

و في مجمع البيان : وقال سيّد العابدين عليّ بن الحسين- عليه السّلام-: والّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا ونذيرا، إنّ الأبرار منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته.

و إنّ عدوّنا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه.

وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ : لما كان في ملك فرعون وقومه.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها. وتلا عقيب ذلك: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.

 

و في كتاب الغيبة  لشيخ الطّائفة- رحمه اللَّه- بإسناده إلى محمّد بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ- عليهم السّلام- في قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. قال: هم آل محمّد يبعث  اللَّه مهديّهم بعد جهدهم، فيعزّهم ويذلّ أعداءهم.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصّباح الكنانيّ قال: نظر أبو جعفر- عليه السّلام- إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- يمشي فقال: ترى هذا؟ هذا من الّذين قال اللَّه- عزّ وجلّ-: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.

 

و في أمالي الصّدوق  1 بإسناده إلى عليّ- عليه السّلام- قال: هي لنا، أو فينا هذه‏الآية: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.

و في كتاب معاني الأخبار،  بإسناده إلى محمّد بن سنان، عن مفضّل بن عمر قال:

 

سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- نظر إلى عليّ والحسن والحسين- عليهم السّلام- فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدي.

قال المفضّل: فقلت  له: ما معنى ذلك يا ابن رسول اللَّه؟

قال: معناه: أنّكم الأئمّة من بعدي. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- عن عليّ بن عبد اللَّه بن أسد ، عن إبراهيم بن محمّد، عن يوسف بن كليب  المسعوديّ، عن عمر بن عبد الغفّار بإسناده، عن ربيعة بن ناجد قال: سمعت عليّا- عليه السّلام- يقول في هذه الآية، وقرأها قوله- عزّ وجلّ-: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وقال: لتعطفنّ هذه الدّنيا على أهل البيت كما تعطف الضّروس على ولدها.

و قال- أيضا-  حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه، عن إبراهيم بن محمّد، عن يحيى بن صالح الجزيريّ  بإسناده، عن أبي صالح، عن عليّ- عليه السّلام- كذا قال في قوله- عزّ وجلّ-:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لتعطفنّ علينا هذه الدّنيا كما تعطف الضّروس على ولدها.

و الضّروس: النّاقة يموت ولدها، أو يذبح. فيحشى جلده، فتدنو منه  وتعطف عليه.

وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ: أرض مصر والشّام. وأصل التّمكين، أن تجعل للشّي‏ء مكانا يتمكّن فيه. استعير للتّسليط وإطلاق الأمر.

وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ: من بني إسرائيل.

ما كانُوا يَحْذَرُونَ : من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم.و قرئ: «يرى» بالياء وفرعون وهامان، بالرّفع.

و في كتاب إكمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى حكيمة قالت: فلمّا كان اليوم السّابع [من مولد القائم- عليه السّلام-]  جئت إلى أبي محمّد- عليه السّلام- فسلّمت عليه وجلست: فقال: هلمّي إليّ ابني فجئت بسيّدي- عليه السّلام- وهو في الخرقة، ففعل به كفعلته الأولى.  ثمّ أدلى لسانه في فيه كأنّما  يغذّيه لبنا أو عسلا. ثمّ قال:

تكلّم يا بنيّ.

فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه. وثنّى بالصّلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمّة الطّاهرين- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- حتّى وقف على أبيه- عليه السّلام- ثمّ تلا هذه الآية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ.

 

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب الغيبة  لشيخ الطّائفة- نوّر اللَّه مرقده- بإسناده إلى حكيمة، حديث طويل يذكر فيه مولد القائم- عليه السّلام- يقول فيه وقد ذكرت أمر القائم- عليه السّلام- وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة. فقبضت على كفّي وغمزته  غمزة شديدة.

ثمّ أنّت أنّه وتشهّدت. ونظرت تحتها، فإذا أنا بوليّ اللَّه- صلوات اللَّه عليه- متلقّيا  الأرض بمساجده. فأخذت بكتفيه  وأجلسته في حجري، وإذا هو نظيف مفروغ منه. فناداني أبو محمّد- عليه السّلام- يا عمّة: هلمّي فآتيني بابني. فأتيته به، فتناوله. وأخرج لسانه فمسحه على عينيه ففتحهما، ثمّ أدخله في فيه فحنّكه، ثمّ أدخله في أذنيه. وأجلسه في راحته اليسرى، فاستوى وليّ اللَّه جالسا. فمسح يده على رأسه، وقال: يا بنّي، انطق بقدرة اللَّه. فاستعاذ وليّ اللَّه من الشّيطان الرّجيم واستفتح: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

 وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ. وصلّى على رسول اللَّه وأمير المؤمنين والأئمّة- عليهم السّلام- واحدا واحدا حتى انتهى إلى أبيه. فناولنيه أبو محمّد- عليه السّلام- وقال: يا عمّة، ردّيه إلى أمّه حتّى تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

 

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى: بإلهام أو رؤيا.

أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ: بأن يحسّ به.

فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ: يريد النّيل.

وَ لا تَخافِي: عليه ضيعة ولا شدّة.

وَ لا تَحْزَنِي: لفراقه.

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ: عن قريب بحيث تأمنين عليه.

وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ : قيل : روي أنّها لمّا ضربها الطّلق، دعت قابلة من الموكّلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها. فلمّا وقع موسى- عليه السّلام- على الأرض، هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبّه في قلبها بحيث منعها من السّعاية. فأرضعته ثلاثة أشهر. ثمّ ألحّ فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحّصها.

فأخذت له تابوتا، فقذفته في النّيل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه- : حدّثني أبي، عن الحسن بن محبوب ، عن العلا بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ موسى لمّا حملت به أمّه، لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له. وكان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ. وذلك، أنّه كان لمّا بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران، يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده: فقال فرعون عند ذلك:

لأقتلنّ ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون. وفرّق بين الرّجال والنّساء، وحبس الرّجال في المحابس. فلمّا وضعت أمّ موسى بموسى- عليه السّلام- نظرت إليه وحزنت عليه واغتمّت وبكت وقالت: يذبح السّاعة. فعطف اللَّه- عزّ وجلّ- قلب  الموكّلة بها عليه، فقالت لأمّ‏موسى- عليه السّلام-: ما لك قد اصفرّ لونك؟

فقالت: أخاف أن يذبح ولدي.

فقال: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه. وهو قول اللَّه- تعالى- :

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها. وأنزل اللَّه على أمّ  موسى التّابوت، ونوديت أمّه ضعيه في التّابوت فاقذفيه في اليمّ، وهو البحر وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فوضعته في التّابوت، وأطبقته عليه، وألقته في النّيل.

و في روضة الواعظين  للمفيد- رحمه اللَّه-: عن النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله- حديث طويل يقول- صلّى اللَّه عليه وآله- مخاطبا لجمع من الصّحابة: وعلمتم أنّ موسى بن عمران- عليه السّلام- كان فرعون في طلبه، يشقّ بطون الحوامل  ويذبح الأطفال ليقتل موسى. فلمّا ولدته أمّه، أمرت أن تأخذه من تحتها وتقذفه في التّابوت وتلقي التّابوت  في اليّم .

فقالت وهي ذعرة من كلامه: يا بنيّ إنّي أخاف عليك الغرق.

فقال لها: لا تحزني، إنّ اللَّه رادّني إليك. فبقيت حيرانة حتّى كلّمها موسى- عليه السّلام- فقال لها: يا أمّ اقذفيني في التّابوت، وألقي التّابوت في اليّم. ففعلت ما أمرت به. فبقي في التّابوت في اليّم إلى أن قذفه  في السّاحل وردّه إلى أمّه برمّته، لا يطعم طعاما ولا يشرب شرابا معصوما.

و روي أنّ المدّة كانت سبعين يوما. وروي: بسبعة أشهر.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى سدير الصّيرفيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: أمّا مولد موسى- عليه السّلام- فإنّ فرعون لمّا وقف على أنّ زوال ملكه على يده، أمر بإحضار

الكهنة. فدلّوه على نسبه، وأنّه يكون من بني إسرائيل. ولم يزل يأمر أصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل، حتّى قتل في طلبه نيفا وعشرين ألف مولود. وتعذّر عليه الوصول إلى قتل موسى- عليه السّلام- بحفظ اللَّه- تبارك وتعالى- إيّاه.

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً: تعليل لالتقاطهم إيّاه بما هو عاقبته ومؤدّاه، تشبيها له بالغرض الحامل عليه. وقراءة حمزة والكسائيّ: حزنا.

  إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ : في كلّ شي‏ء. فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون. أو قتلوا مذنبين، فعاقبهم اللَّه بأن ربّى عدوّهم على أيديهم. فالجملة اعتراض، لتأكيد خطئهم. أو لبيان الموجب، لما ابتلوا به.

و قرئ: خاطين. على التّخفيف، أي: خاطين الصّواب إلى الخطاء. .

وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: أي: لفرعون. حين أخرجته من التّابوت.

قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ: هو قرّة عين لنا. لأنّهما لمّا رأياه وأخرج من التّابوت أحبّاه.

قيل: أو لأنّه كانت له ابنة برصاء، وعالجها الأطباء بريق حيوان بحريّ يشبه الإنسان. فلطخت برصعا بريقه، فبرئت.

لا تَقْتُلُوهُ: خطاب بلفظ الجمع، للتّعظيم.

و في مجمع البيان : قال ابن عبّاس: إنّ أصحاب فرعون لمّا علموا بموسى، جاءوا ليقتلوه. فمنعتهم وقالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [قال فرعون: قرّة عين لك، وأمّا لي فلا قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-]  والّذي يحلف به، لو أقرّ فرعون بأن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته لهداه اللَّه به كما هداها. ولكنّه أبى للشّقاء الّذي كتبه اللَّه عليه.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّ يوسف بن يعقوب- عليه السّلام- حين حضرته الوفاة جمع آل‏يعقوب، وهم ثمانون رجلا فقال: إنّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وإنّما ينجيكم اللَّه من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب، اسمه موسى بن عمران- عليه السّلام- غلام طوال جعد أدم. فجعل الرّجل من بني إسرائيل يسمّي ابنه عمران ويسمّي عمران ابنه موسى.

فذكر أبان بن عثمان ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال: ما خرج موسى حتّى خرج قبله خمسون كذّابا من بني إسرائيل، كلّهم يدّعي أنّه موسى بن عمران فبلغ فرعون أنّهم يرجفون به ويطلبون هذا الغلام. فقال له كهنته وسحرته: إنّ هلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام، الّذي يولد العام من بني إسرائيل. فوضع القوابل على النّساء وقال: لا يولد العام غلام  إلّا ذبح. ووضع على أمّ موسى قابلة. فلمّا رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا: إذا ذبح الغلمان واستحيى النّساء هلكنا فلم نبق، فتعالوا لا نقرب النّساء.

فقال عمران أبو موسى- عليه السّلام-: بل ائتوهنّ ، فإنّ أمر اللَّه واقع ولو كره المشركون. اللّهمّ من حرّمه، فإنّي لا أحرّمه. ومن تركه، فإنّي لا أتركه. ووقع على أمّ موسى فحملت به. فوضع على أمّ موسى قابلة تحرسها، إذا قامت قامت، وإذا قعدت قعدت. فلمّا حملته أمّه وقعت عليها المحبّة، وكذلك حجج اللَّه على خلقه.

فقالت لها القابلة: ما لك يا بنيّة تصفرّين وتذوبين؟

قالت: لا تلوميني، فإنّي إذا ولدت أخذ ولدي فيذبح .

قالت: لا تحزني، فإنّي سوف أكتم عليك. فلم تصدّقها. فلمّا أن ولدت التفتت إليها وهي مقبلة، فقالت: ما شاء اللَّه. فقالت لها: ألم أقل: إنّي سوف أكتم عليك. ثمّ حملته فأدخلته المخدع وأصلحت أمره. ثمّ خرجت إلى الحرس فقالت: انصرفوا- وكانوا على الباب- فإنّما خرج دم مقطّع . فانصرفوا فأرضعته. فلمّا خافت عليه الصّوت، أوحى اللَّه إليها: أن اعملي التّابوت، ثمّ اجعليه فيه، ثمّ أخرجيه ليلا فاطرحيه في نيل مصر. فوضعته في التّابوت، ثمّ دفعته في اليمّ. فجعل يرجع إليها، وجعلت تدفعه في الغمر، وأنّ الرّيح ضربته فانطلقت‏به. فلمّا رأته قد ذهب به الماء، همّت أن تصيح، فربط اللَّه على قلبها.

قال: وكانت المرأة الصّالحة امرأة فرعون من بني إسرائيل. قالت لفرعون: إنّها أيّام الرّبيع، فأخرجني واضرب لي قبّة على شطّ النّيل حتّى أتنزه هذه الأيّام. فضربت لها قبّة على شطّ النّيل، إذ أقبل التّابوت يريدها. فقالت: هل ترون ما أرى على الماء؟

قالوا: إي واللَّه يا سيّدتنا، إنّا لنرى شيئا.

فلمّا دنا منها سادت  إلى الماء فتناولته بيدها. وكان الماء يغمرها، حتّى تصايحوا عليها فجذبته  وأخرجته من الماء. فأخذته فوضعته في حجرها، فإذا هو غلام أجمل النّاس وأسرّهم.  فوقعت عليها منه محبّة. فوضعته في حجرها وقالت: هذا ابني.

فقالوا: إي واللَّه يا سيّدتنا، واللَّه مالك ولد ولا للملك فاتّخذي هذا ولدا.

فقامت إلى فرعون وقالت: إنّي أصبت غلاما طيّبا حلوا نتّخذه ولدا، فيكون قرّة عين لي ولك، فلا تقتله.

فقال: ومن أين هذا الغلام؟

فقالت: واللَّه، ما أدري إلّا أنّ الماء قد جاء به. فلم تزل به حتّى رضي. فلمّا سمع النّاس أنّ الملك قد تبنّى ابنا، لم يبق أحد من رؤوس من كان مع فرعون إلّا بعث إليه امرأته لتكون له ظئرا  وتحضنه. فأبي أن يأخذ من امرأة منهنّ ثديا.

فقالت امرأة فرعون: اطلبوا لابني ظئرا، ولا تحقّروا  أحدا. فجعل لا يقبل من امرأة منهنّ.

فقالت أمّ موسى لأخته: قصّيه انظري أ ترين له أثرا.

فانطلقت حتّى أتت باب الملك، فقالت: قد بلغني أنّكم تطلبون ظئرا، وهاهنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم وتكفله لكم.

فقالت: ادخلوها. فلمّا دخلت قالت لها امرأة فرعون: ممّن أنت؟

قالت: امرأة من بني إسرائيل.قالت: اذهبي يا بنيّة، فليس لنا فيك حاجة.

فقالت  لها النّساء: انظري- عافاك اللَّه- يقبل أم لا.

فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل، هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل والمرأة من بني إسرائيل، تعني  الظّئر. فلا يرضى.

قلن: فانظري يقبل أو لا .

قالت امرأة فرعون: فاذهبي فادعيها.

فجاءت إلى أمّها وقالت: إنّ امرأة الملك تدعوك. فدخلت عليها. فدفع إليها موسى، فوضعته في حجرها، ثمّ ألقمته  ثديها، فازدحم اللّبن في حلقه. فلمّا رأت امرأة فرعون أنّ ابنها قد قبل، قامت إلى فرعون فقالت: إنّي قد أصبت لابني ظئرا وقد قبل منها.

فقال: ممّن هي؟

قالت: من بني إسرائيل.

قال فرعون: هذا ممّا لا يكون أبدا، الغلام من بني إسرائيل والظّئر من بني إسرائيل. فلم تزل تكلّمه فيه وتقول: لا تخف  من هذا الغلام، إنّما هو ابنك ينشأ في حجرك. حتّى قلبته عن رأيه ورضي.

عَسى أَنْ يَنْفَعَنا: فإنّ فيه فحايل اليمن ودلائل النّفع.

قيل : وذلك لما رأت من نور بين عينيه، وارتضاعه إبهامه لبنا، وبرء البرصاء بريقه.

أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً: أو نتبنّاه. فإنّه أهل له.

وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ : حال، من الملتقطين. أو من القائلة والمقول له «و هم لا يشعرون» أنّهم على الخطأ في التقاطه. أو في طمع النّفع منه والتّبنّي له. أو من مفعول «ينفعنا». أو فاعل «نتّخذه».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  متّصلا بقوله: وألقته في النّيل- الخبر الّذي نقلنا عنه أوّلا- وكان لفرعون قصر على شط النّيل منتزها  فنظر من قصره ومعه آسية امرأته إلى سواد في‏النّيل، ترفعه الأمواج والرّياح تضربه حتّى جاءت به إلى باب قصر فرعون. فأمر فرعون بأخذه. فأخذ التّابوت، ورفع إليه. فلمّا فتحه، وجد فيه صبيّا فقال: هذا إسرائيليّ. فألقى اللَّه في قلب فرعون لموسى محبّة شديدة، وكذلك في قلب آسية- رحمة اللَّه عليها- وأراد فرعون أن يقتله. فقالت آسية: لا تقتله عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّه موسى.

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً: صفرا من العقل. لما دهمها من الخوف والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، كقوله : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ، أي: خلاء، لا عقول فيها.

و يؤيّده أنّه قرئ: «فرغا» من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ، أي هدر. أو من الهمّ والغمّ، لفرط وثوقها بوعد اللَّه. أو لسماعها أنّ فرعون عطف عليه وتبّناه. وقرئ: «موسى» إجراء للضّمّة جار الواو مجرى ضمّتها في استدعاء همزة  إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ: إنّها كادت لتظهر بموسى، أي: بأمره وقصّته. من فرط الضّجر، أو الفرح بتبنّيه.

لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها: بالصّبر والثّبات.

لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : من المصدّقين بوعد اللَّه. أو من الواثقين بحفظه لا لتبنّي فرعون وتعطّفه. وهو علّة الرّبط. وجواب «لولا» محذوف، دلّ عليه ما قبله.

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ: مريم.

قُصِّيهِ: اتّبعي أثره، وتتبّعي خبره.

فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ: عن بعد.

و قرئ: «عن جانب، وعن جنب»، وهو بمعناه.

وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ : أنّها تقصّ. أو أنّها أخته.

وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ: ومنعناه أن يرتضع من المرضعات. جمع، مرضع.

و هو الرّضاع. أو موضعه، يعني: الثّدي.

مِنْ قَبْلُ: من قبل قصّها أثره.

فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ: لأجلكم.وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ : لا يقصّرون إرضاعه وتربيته.

نقل: أنّ هامان لمّا سمعها قال: إنّها لتعرفه وأهله، خذوها تخبر بحاله. فقالت: إنّما أردت، وهم للملك ناصحون. فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله. فأتت بأمّها، وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلّله. فلمّا وجد ريحها، استانس والتقم ثديها.

فقال لها: من أنت منه، فقد أبى كلّ ثدي إلّا ثديك؟

فقالت: امرأة طيّبة الرّيح طيّبة اللّبن، لا أؤتى بصبيّ إلّا قبلني. فدفعه إليها، وأجرى عليها. فرجعت به إلى بيتها من يومها، وهو قوله: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بولدها.

 [و في جوامع الجامع : وروي أنّها لمّا قالت: وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنّها لتعرفه وتعرف أهله. فقالت: إنّما أردت، وهم للملك ناصحون‏]  ولا تحزن بفراقه.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة،  بإسناده إلى حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عمّة أبي محمّد الحسن- عليهما السّلام- أنّها قالت: كنت عند أبي محمّد- عليه السّلام- فقال: بيتي اللّيلة عندنا. فإنّه سيولد اللّيلة المولود الكريم على اللَّه- عزّ وجلّ- يحيي به اللَّه- عزّ وجلّ- الأرض بعد موتها.

فقلت: ممّن يا سيّدي، ولست أرى بنرجس شيئا من أثر الحبل؟

فقال: من نرجس لا من غيرها.

قالت: فوثبت إليها فقلّبتها ظهرا لبطن، فلم أر بها أثر الحبل. فعدت إليه- عليه السّلام- فأخبرته بما فعلت. فتبسّم، ثمّ قال لي: إذا كان وقت الفجر، يظهر لك بها الحبل لأنّ مثلها مثل أمّ موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم لها أحد إلى وقت ولادتها. لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى، وهذا نظير موسى- عليه السّلام.

و قالت حكيمة في أواخر هذا الحديث: لمّا ولد القائم- عليه السّلام- صاح  بي أبو محمّد- عليه السّلام- فقال: يا عمّتاه  هاتيه. فتناولته وأتيت به نحوه. فلمّا مثلته بين يدي‏أبيه وهو على يدي سلّم على أبيه. فتناوله الحسن- عليه السّلام- منّي والطّير ترفرف على رأسه . فصاح بطير منها فقال: أحمله وأحفظه، وردّه إلينا في كلّ أربعين يوما. فتناوله الطّير وطار به في جوّ السّماء، واتّبعه سائر الطّير. فسمعت أبا محمّد- عليه السّلام- يقول: أستودعك  الّذي أودعته أمّ موسى . فبكت نرجس. فقال: اسكتي، فإنّ الرّضاع محرّم عليه إلّا من ثديك. وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمّه. وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.

فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها: بولدها.

وَ لا تَحْزَنَ: بفراقه.

وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ: علم المشاهدة.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ : أنّ وعده حقّ، فيرتابون فيه. أو أنّ الغرض الأصليّ من الرّدّ، علمها بذلك. وما سواه تبع. وفيه تعريض بما فرط منها، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم،  متّصلا بقوله: [إنّه موسى‏]  ولم يكن لفرعون ولد.

فقال: اطلبوا له  ظئرا تربّيه. فجاءوا بعدّة نساء قد قتل أولادهنّ، فلم يشرب لبن أحد من النّساء وهو قول اللَّه- تعالى-: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ وبلغ أمّه أنّ فرعون قد أخذه، فحزنت وبكت كما قال اللَّه- تعالى-: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قال‏] : يعني:  كادت أن تخبر بخبره. أو تموت، ثمّ حفظت  نفسها كما قال اللَّه- تعالى-: لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ثمّ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ، أي: اتّبعيه. فجاءت أخته إليه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، أي: عن بعد. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فلمّا لم يقبل موسى بأخذ  ثدي أحد من النّساء، اغتمّ فرعون غمّا شديدا.فقالت أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ. فقال: نعم.

فجاءت بأمّه. فلمّا أخذته في حجرها وألقمته ثديها، التقمه وشرب. ففرح فرعون وأهله، وأكرموا أمّه. فقالوا لها: ربّيه لنا، ولك عن الكرامة ما تختارين  وذلك قول اللَّه- تعالى-:

فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

و فيه قال الرّاوي: فقلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: فكم مكث موسى غائبا عن أمّه، حتّى ردّه اللَّه عليها؟

قال: ثلاثة أيّام.

و فيه متّصلا بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قريب آخر ما نقلناه عنه قريبا:

و كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلّما يلدون، ويربّي موسى ويكرمه. وهو لا يعلم أنّ هلاكه على يده. فلمّا درج موسى، كان يوما عند فرعون. فعطس موسى فقال: الحمد للَّه ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك  عليه، ولطمه وقال: ما هذا الّذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته- وكان طويل اللّحية- فهلبها، أي: قلعها. فألمه ألما شديدا.  فهمّ فرعون بقتله.

فقالت له امرأته: هذا غلام حدث لا يدري ما يقول [و قد لطمته بلطمتك إيّاه‏]  فقال فرعون: بلى يدري.

فقالت امرأته : ضع بين يديه تمرا وجمرا. فإن ميّز بينهما ، فهو الّذي تقول.

فوضع بين يديه تمرا وجمرا، وقال له: كل. فمدّ يد إلى التّمر. فجاء جبرائيل- عليه السّلام- فصرفها إلى الجمر. فأخذ الجمر في فيه، فاحترق لسانه وصاح وبكى.

فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك: إنّه لم يعقل ؟ فعفا عنه.

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ: مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه. وذلك، من ثلاثين إلى أربعين سنة. فإنّ العقل يكمل حينئذ.و

روي: أنّه لم يبعث نبيّ، إلّا على رأس الأربعين .

وَ اسْتَوى: قدّه أو عقله.

و في مجمع البيان : لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، أي: ثلاثا وثلاثين سنة. «و استوى»، أي:

بلغ أربعين سنة. عن مجاهد وقتادة وابن عبّاس.

و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا أبي- رضي اللَّه عنه- قال: حدّثنا محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن أحمد بن هلال، عن محمّد بن سنان، عن محمّد بن عبد اللَّه بن رباط، عن محمّد بن النّعمان الأحوال، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى  قال: «أشدّه» ثماني عشرة سنة. «و استوى» التحى.

آتَيْناهُ حُكْماً: نبوّة.

وَ عِلْماً.

قيل : علما بالدّين. أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه. وهو أوفق لنظم القصّة، لأنّ الاستنباء  بعدا الهجرة في المراجعة.

وَ كَذلِكَ: ومثل ذلك، الّذي فعلنا بموسى وأمّه.

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ : على إحسانهم.

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قيل : دخل مصر آتيا من قصر فرعون.

و قيل : مدينة  منف [من أرض مصر] . أو حائين . أو عين الشّمس من نواحيها.

عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها: في وقت لا يعتاد دخولها، ولا يتوقّعونه فيه.

قيل : كان وقت القيلولة. وقيل: بين العشاءين وقيل : كان يوم عيد لهم، وقداشتغلوا بلعبهم.

و في مجمع البيان : واختلفوا في سبب دخوله المدينة في هذا الوقت على أقوال:

أحدها: أنّه كان موسى حين كبر يركب في مراكب  فرعون. فلمّا جاء ذات يوم قيل له: إنّ فرعون قد ركب. فركب في أثره. فلمّا كان وقت القائلة، دخل المدينة ليقيل. عن السّديّ.

و الثّاني: أنّ بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى ويسمعون كلامه. ولمّا بلغ أشدّه، خالف قوم فرعون. فاشتهر ذلك منه، فأخافوه. فكان لا يدخل مصر، إلّا قائلين .

فدخلها على حين غفلة. عن ابن إسحاق.

و الثّالث: أنّ فرعون أمر بإخراجه من البلد، فلم يدخله إلّا الآن. عن ابن زيد.

فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ: أحدهما ممّن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل. والآخر من مخالفيه، وهم القبط. قيل : يسخرّ القبطيّ الإسرائيليّ ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون.

و الإشارة على الحكاية.

فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ: فسأله أن يغيثه بالإعانة. ولذلك عدّي ب «على» وقرئ: استعانه.

فَوَكَزَهُ مُوسى: فضرب القبطيّ. بجميع كفّه.

و قرئ: فلكزه، أي: فضرب به صدره .

و قيل : ضربه بعصاه.

فَقَضى عَلَيْهِ: فقتله. وأصله: أنهى حياته. من قوله : وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال فلم يزل موسى- عليه السّلام- عند فرعون في أكرم كرامة، حتّى بلغ مبلغ الرّجال. وكان ينكر عليه ما يتكلّم به موسى- عليه السّلام- من التّوحيد، حتّى همّ به. فخرج موسى من عنده ودخل المدينة، فإذا رجلان يقتتلان. أحدهما يقول بقول موسى، والآخر يقول بقول فرعون. فاستغاثه الّذي من شيعته. فجاء موسى، فوكز صاحب فرعون، فقضى عليه وتوارى في المدينة.

و في مجمع البيان : وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال: ليهنكم الاسم. قال: قلت: وما الاسم؟

قال: الشّيعة. أما سمعت- سبحانه- يقول: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ.

قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ: أي: بسببه. حتّى هيّج  غضبي، فضربته.

و سمّاه ظلما. واستغفر عنه على عادتهم في استعظام محقّرات فرطت منهم.

و قيل : إنّ الأمر الّذي وقع القتل بسببه من عمل الشّيطان، أي: حصل بوسوسة الشّيطان .

و ذكر السّيّد المرتضى- قدّس روحه- فيه وجهين آخرين :

أحدهما: أنّه أراد أن تزيّن الشّيطان قتلي له، وتركي لما ندبت إليه من تأخّره وتفويته  ما أستحقّه عليه من الثّواب «من عمل الشّيطان».

و الآخر: أنّه يريد أنّ عمل المقتول «من عمل الشّيطان» يبيّن أنّه مخالف للَّه- تعالى- مستحقّ [للقتل.

و هاهنا سؤال وهو: إنّ هذا القتل لا يخلو من أن يكون مستحقّا، أو غير مستحقّ.]

فإن كان غير مستحقّ، فالأنبياء لا يجوز عليهم ذلك عندكم لا قبل النّبوّة ولا بعدها. وإن كان مستحقّا، فلا معنى لندمه عليه واستغفاره منه.و الجواب: إنّ القتل إنّما وقع على سبيل تخليص المؤمن من يد من أراد ظلمه، والبغي عليه، ودفع مكروهه عنه. ولم يكن مقصودا في نفسه. وكلّ ألم وقع على هذا الوجه، فهو حسن غير قبيح. سواء كان القاتل مدافعا عن نفسه، أو عن غيره. والوجه في ندمه واستغفاره  ما ذكر.

إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ : ظاهر العداوة.

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي: بقتله. فإنّهم لو علموا ذلك، لقتلوني.

و قال المرتضى- رحمه اللَّه- : إنّما قال على سبيل الانقطاع والرّجوع إلى اللَّه- تعالى- والاعتراف بالتّقصير عن حقوق نعمه [و إن لم يكن هناك ذنب.]  أو من حيث حرم نفسه الثّواب  المستحق بفعل النّدب.

فَاغْفِرْ لِي: معناه، معنى قول آدم- عليه السّلام-: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ .

فَغَفَرَ لَهُ: قبل استغفاره.

إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ: لعباده.

الرَّحِيمُ : بهم.

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ: قسم محذوف الجواب، أي: أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها، لأتوبن.

فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ : أو استعطاف، أي: بحقّ إنعامك عليّ اعصمني، فلن أكون معينا لمن أدّت معاونته إلى جرم.

و عن ابن عبّاس : إنّه لم (يستثن وابتلي) به مرّة أخرى.

و قيل : معناه: أنعمت عليّ من القوّة أعين أوليائك، فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.

و في هذا دلالة، على أنّ مظاهرة المجرمين جرم ومعصية، ومظاهرة المؤمنين طاعة.و إنّما ظاهر موسى- عليه السّلام- من ظاهره الإيمان وخالف من ظاهره الكفر.

و جاء في الأثر: أنّ رجلا قال لعطاء بن أبي رباح: إنّ فلانا يكتب لفلان، ولا يزيد على كتبه دخله وخرجه، وإن أخذ منه أجرا، كان له غنى. وإن يأخذ، اشتدّ فقره  وكثر عياله.

فقال عطاء: أما سمعت قول الرّجل الصّالح: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ .

فَأَصْبَحَ في اليوم الثّاني.

فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً: من قتل القبطيّ. يَتَرَقَّبُ: يترصّد الاستقادة.

فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ: يستغيثه. مشتقّ من الصّراخ. معناه: أنّ الإسرائيليّ الّذي قد كان خلّصه بالأمس ووكز القبطيّ لأجله، يستصرخ موسى، فليستعين به على رجل آخر من القبط خاصمه.

قال ابن عبّاس:  لمّا فشا [أمر]  قتل القبطيّ، قيل لفرعون: إنّ بني إسرائيل قتلت منّا رجلا.

قال: أ تعرفون من قاتله، ومن يشهد عليه؟

قالوا لا. فأمرهم بطلبه. فبيناهم يطوفون، إذ مرّ موسى من الغد الى ذلك الإسرائيليّ يطلب نصرته ويستغيث به.

قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ : بيّن الغواية. لأنّك تسبّبت لقتل رجل، وتقاتل آخر مع كثرة آل فرعون. ولم يرد الغواية في الدّين.

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما: لموسى ولإسرائيليّ. لأنّه لم يكن على دينهما. ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل.

قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ: قاله الإسرائيليّ. لأنّه لمّا سمّاه غويّا، ظنّ أنّه يبطش عليه. أو القبطيّ. كأنّه توهّم من قوله، أنّه الّذي قتل القبطيّ بالأمس لهذا الإسرائيليّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، متّصل بقوله: في المدينة. فلمّا كان من الغد، جاء آخرفتشبّث بذلك الرّجل الّذي يقول بقول موسى- عليه السّلام- فاستغاث بموسى. فلمّا نظر صاحبه إلى موسى قال له: أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي، كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ. فخلّى عن صاحبه وهرب.

إِنْ تُرِيدُ: ما تريد.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ: تتطاول على النّاس، ولا تنظر العواقب.

وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ : بين النّاس. فتدفع التّخاصم بالّتي هي أحسن. ولمّا قال هذا، انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملائه، فهمّوا بقتله.

فخرج مؤمن آل فرعون- وهو ابن عمّ فرعون- اسمه حزقيل.

و قيل : رجل اسمه شمعون.

و قيل: شمعان . ليخبر موسى كما قال: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى: يسرع. صفة الرّجل. أو حال منه، إذا جعل مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ صفة له لا صلة «لجاء». لأنّ تخصيصه بها يلحقه بالمعارف.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، متّصلا بقوله: حتّى قلبته عن رأيه ورضي- آخر ما نقلنا عنه قريبا- فنشأ موسى في آل فرعون. وكتمت أمّه خبره، وأخته والقابلة، حتّى هلكت أمّه والقابلة الّتي قبلته. فنشاء- عليه السّلام- لا يعلم به بنو إسرائيل.

قال: وكانت بنو إسرائيل تطلبه وتسأل عنه، فيعمى عليهم خبره. قال: فبلغ فرعون، أنّهم يطلبونه ويسألون عنه. فأرسل إليهم وزاد عليهم في العذاب ، وفرّق بينهم، ونهاهم عن الإخبار به والسّؤال عنه.

قال: فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم فقالوا: قد كنّا نستريج إلى الأحاديث، فحتّى متى وإلى متن نحن في هذا البلاء؟

قال: واللَّه، إنّكم لا تزالون فيه حتّى يجيئ اللَّه- تعالى ذكره- بغلام من ولد لاوي بن يعقوب، اسمه موسى بن عمران، غلام طوال جعد. فبينا هم كذلك، إذ أقبل موسى- عليه السّلام- [يسير على بغلة حتّى وقف عليهم. فرفع الشّيخ رأسه فعرفه بالصفة،فقال له: ما اسمك- يرحمك اللَّه؟ قال: موسى.]  قال: ابن من؟

قال: ابن عمران.

قال: فوثب إليه الشّيخ، فأخذ بيده فقبّلها. فثاروا إلى رجله فقبّلوها. فعرفهم وعرفوه، واتّخذهم شيعة. فمكث بعد ذلك ما شاء اللَّه، ثمّ خرج فدخل مدينة لفرعون فيها رجل من شيعته يقاتل رجلا من آل فرعون من القبط. فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه القبطيّ، فوكزه موسى فقضى عليه. وكان موسى- عليه السّلام- قد أعطي بسطة في الجسم، وشدّة في البطش. فذكره النّاس وشاع أمره، وقالوا: إنّ موسى- عليه السّلام- قتل رجلا من آل فرعون. فأصبح في المدينة خائفا يترقّب. فلمّا أصبحوا من الغد، إذا الرّجل الّذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر «ف قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بالأمس رجل واليوم رجل فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

 

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى محمّد بن الجهم  قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا- عليه السّلام- [فقال له المأمون: يا ابن رسول اللَّه، أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟

قال: بلى.

قال: فأخبرني عن قول اللَّه- تعالى-]  فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.

قال الرّضا- عليه السّلام- إنّ موسى- عليه السّلام- دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها. وذلك بين المغرب والعشاء فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى- عَلَيْهِ السّلام- على العدوّ بحكم اللَّه- تعالى ذكره- فوكزه فمات قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، يعنى: الاقتتال الّذي كان وقع بين الرّجلين، لا ما فعله موسى- عليه السّلام-من قتله. «انّه»، يعني: الشّيطان. عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.

قال المأمون: فما معنى قول موسى- عليه السّلام-: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها (بدخول)  هذه المدينة. فَاغْفِرْ لِي، أي:

استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي، فيقتلوني. فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قال موسى:

رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من القوّة حتّى قتلت رجلا بوكزه. فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ بل أجاهدهم  في سبيلك بهذه القوّة حتّى ترضى. «فأصبح» موسى- عليه السّلام- فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ على آخر. قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. قاتلت رجلا بالأمس، وتقاتل هذا اليوم لأؤدّبنّك. وأراد أن يبطش به.

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما وهو من شيعته. قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

 

قال المأمون: جزاك اللَّه عن أنبيائه خيرا، يا أبا الحسن.

قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ: يتشاورون بسببك. وإنّما سمّي التّشاور ائتمارا، لأنّ كلّا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر.

فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ : اللّام، للبيان. وليس صلة «للنّاصحين». لأنّ معمول الصّلة لا يتقدّم الموصول.