سورة العنكبوت الآية 1-20

سورة العنكبوت مكّيّة كلّها. وقيل: مدنيّة كلّها.

 وقيل: مكّيّة، إلّا عشر آيات في أوّلها فإنّها مدنيّة. وهي تسع وستّون آية.»

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال  بإسناده، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة العنكبوت والرّوم في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين، فهو- واللَّه يا أبا محمّد- من أهل الجنّة. لا استثني فيه أبدا، ولا أخاف أن يكتب اللَّه عليّ في عيني إثما. وإنّ لهاتين السّورتين من اللَّه مكانا.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: ومن قراء سورة العنكبوت، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين.

الم  سبق القول فيه. ووقوع الاستفهام بعده، دليل استقلاله بنفسه. أو بما يضمر معه.

أَ حَسِبَ النَّاسُ:

الحسبان ممّا يتعلّق بمضامين الجمل، للدّلالة على جهة ثبوتها. ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين. أو ما يسدّ مسدّهما كقوله: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ‏

 : فإنّ معناه: أ حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا. فالترّك أوّل مفعوليه وغير مفتونين من تمامه. ولقولهم: أمنا، هو الثّاني، كقولك: حسبت ضربه للتّأديب. أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم: آمنا. بل يمتحنهم اللَّه بمشاقّ التّكاليف. كالمهاجرة، والمجاهدة، ورفض الشّهوات، ووظائف الطّاعات، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. ليتميزّ المخلص من المنافق والثّابت في الدّين من المضطرب فيه. ولينالوا بالصّبر عليها عوالي الدّرجات. فإن مجرّد الإيمان وإن كان عن خلوص، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.

قيل : إنّها نزلت في ناس من الصّحابة، جزعوا من أذى المشركين.

و قيل: في عمّار بن ياسر، قد عذّب في اللَّه.

و قيل: في مهجع مولى عمر بن الخطّاب، رماه عامر بن الحضرميّ  بسهم [يوم بدر]  فقتله. فجزع عليه أبواه وامرأته.

وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: متّصل «بأحسب» أو «بلا يفتنون».

و المعنى أنّ ذلك سنّة قديمة جارية في الأمم كلّها. فلا ينبغي أن يتوقّع خلافه.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة  توقيع من صاحب الزّمان- عليه السّلام- كان خرج إلى العمريّ وابنه- رضى اللَّه عنه- رواه سعد بن عبد اللَّه. قال الشّيخ أبو [عبد اللَّه‏]  جعفر: وجدته مثبتا بخطّ سعد بن عبد اللَّه  رحمه اللَّه: وفّقكما اللَّه [لطاعته،]  وثبّتكما على دينه، وأسعدكما بمرضاته. انتهى إلينا ما ذكرتما، أنّ الميثمي أخبركما عن المختار ومناظرته من لقى. واحتجاجه، بأنّه لا خلف غير جعفر بن عليّ وتصديقه إيّاه. وفهمت جميع ما كتبتما به ممّا قال أصحابكما  عنه وأنا أعوذ باللَّه من العمى بعد الجلاء، ومن الضّلالة بعد الهدى، وفي موبقات الأعمال ومرديات الفتن. فإنّه- عزّ وجلّ- يقول: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. كيف يتساقطون في الفتنة، ويتردّدون في‏الحيرة، ويأخذون يمينا وشمالا. فارقوا دينهم، أم ارتابوا، أم عاندوا الحقّ، أم جهلوا ما جاءت به الرّوايات الصّادقة والأخبار الصّحيحة، أو علموا فتناسوا.

و التّوقيع طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في أصول الكافي - عدّة من أصحابنا، عن احمد بن محمّد، عن معمّر بن خلّاد قال:

 

سمعت أبا الحسن- عليه السّلام- يقول: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. ثمّ قال لي: ما الفتنة؟

قلت: جعلت فداك، الفتنة في الدّين.

فقال: يفتنون كما يفتن الذّهب. ثمّ قال. يخلصون كما يخلص الذّهب.

و في نهج البلاغة : وقام إليه- عليه السّلام- رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عنها؟

فقال- عليه السّلام-: لمّا أنزل اللَّه- سبحانه- قوله: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا، ورسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بين أظهرنا. فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الفتنة الّتي أخبرك اللَّه بها؟

فقال: يا عليّ، إنّ أمتي سيفتنون من بعدي.

فقلت: يا رسول اللَّه، أ وليس قد قلت لي يوم أحد، حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشّهادة، فشقّ ذلك علىّ، فقلت لي: أبشر، فإنّ الشّهادة من ورائك؟

فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذا؟

فقلت: يا رسول اللَّه، ليس هذا من مواطن الصّبر ولكن من مواطن البشرى والشّكر.

و قال: يا عليّ [، إنّ القوم‏]  سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة والأهواء السّاهية.

 

فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، والسّحت بالهدّية، الرّبا بالبيع.قلت: يا رسول اللَّه، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك، أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ قال:

بمنزلة فتنة.

و في شرح الآيات الباهرة : قال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه-: حدّثني محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.

قال: صار العبّاس إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال: امش حتّى يبايع لك النّاس.

فقال له: أ تراهم فاعلين؟

قال نعم.

قال: فأين قول اللَّه- عزّ وجلّ-: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.

و قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- : حدّثنا أحمد بن محمّد، عن سعيد، عن أحمد بن الحسين، عن أبيه، عن حصين بن مخارق، عن عبيد اللَّه بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن عليّ، عن أبيه- صلوات اللَّه عليهم- قال: لمّا نزلت الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. قال: قلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الفتنة؟

قال: يا عليّ، إنّك مبتلى بك. وإنّك مخاصم قاعدّ  للخصومة.

و قال - أيضا-: حدّثنا أحمد بن هوذة، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد اللَّه بن حمّاد، عن سماعة بن مهران قال: رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- كان ذات ليلة في المسجد فلمّا كان قريب  الصّبح، دخل أمير المؤمنين- عليه السّلام- فناداه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فقال: يا عليّ.

قال: لبيّك.

قال: هلّم إليّ. فلمّا دنا منه قال: يا عليّ، بت الليلة حيث تراني. فقد سألت ربّي‏ألف حاجة، فقضاها لي. وسألت لك مثلها، فقضاها. وسألت لك ربّي، أن يجمع لك أمّتي من بعدي فأبى عليّ ربّي. فقال: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.

و في إرشاد المفيد : الفضل بن شاذان، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: لا يكون ما تمدّون إليه أعناقكم حتّى تميّزوا وتمحّصوا.

و لا يبقى منكم إلّا القليل. ثمّ قرأ: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. ثمّ قال: إنّ من علامات الفرج، حدث يكون بين المسجدين ويقتل فلان من ولد فلان خمسة عشر كبشا من العرب.

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ :

قيل»

: فليتعلّقنّ علمه بالامتحان تعلّقا حاليّا، ليتميّز به الّذين صدقوا في الإيمان والّذين كذبوا فيه وينوط بهم ثوابهم وعقابهم. ولذلك قيل المعنى: وليميّزنّ. أو ليجازين.

و يجوز أن يكون المعنى: ليصير معلومه موجودا من صدق جماعة وكذب آخرين. بناء على أنّ المراد، وهو العلم التّفصيليّ. الّذي هو عين المعلوم. الّذي هو الموجود الخارجيّ.

و قرئ: «و ليعلمنّ» من الإعلام، أي: وليعرّفنّهم، كبياض الوجوه وسوادها . وفي مجمع البيان : وهو المرويّ عن جعفر بن محمّد، ومحمّد بن عبد اللَّه بن الحسن.

 

الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏

و في تفسير عليّ بن إبراهيم:  حدّثني أبي، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: جاء العبّاس إلى أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- فقال:

انطلق نبايع لك النّاس.

فقال له أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه-: أو تراهم فاعلين؟

قال: نعم.

قال: فأين قوله عزّ وجلّ: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي: اختبرناهم.فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.

و في مجمع البيان : عند قوله. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وفي تفسير الكلبيّ: أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فتوضّأ وأسبغ وضوءه. ثمّ قال فصلّى فأحسن صلاته. ثمّ سأل اللَّه- سبحانه- أن لا يبعث عذابا من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض. فنزل جبرائيل- عليه السّلام- [فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه- تعالى- سمع مقالتك. وأنّه قد أجارهم من خصلتين، ولم يجرهم من خصلتين.

أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم.]  ولم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين.

فقال- عليه السّلام-: يا جبرائيل، ما بقاء أمّتي مع قتل بعضهم بعضا. فقام وعاد إلى الدّعاء، فنزل الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. (الآيتين) فقال: لا بدّ من فتنة تبتلي بها الأمّة بعد نبيّها، ليتعيّن  الصّادق من الكاذب. لأنّ الوحي انقطع وبقي السّيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

و في تفسير العيّاشيّ : عن جابر قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام- [: قوله  لنبيّه:]  لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ فسّره لي.

قال: فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: يا جابر، إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- كان حريصا على أن يكون عليّ- عليه السّلام- من بعده على النّاس. وكان عند اللَّه خلاف ما أراد رسول اللَّه.

قال: قلت: فما معنى ذلك؟

قال: نعم، عنى بذلك قول اللَّه لرسوله- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ يا محمّد في عليّ. الأمر إليّ في عليّ وفي غيره. ألم أنزل  عليك يا محمّد فيما أنزلت من كتابي إليك الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ قال: فوّض رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الأمر إليه.و في إرشاد المفيد- رحمه اللَّه-  وقد جاءت الرّواية: أنّه لمّا تمّ لأبي بكر ما تمّ وبايعه من بايع، جاء رجل إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- وهو يسوّي قبر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بمسحاة في يده، وقال له: إنّ القوم قد بايعوا أبا بكر، ووقعت الخذلة في الأنصار  لاختلافهم، وبدر الطّلقاء للعقد  للرّجل خوفا من إدراككم الأمر. فوضع طرف المسحاة على الأرض  ويده عليها، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ.

و في الكافي : روي أنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال في خطبة له: ولو أراد اللَّه- سبحانه- بأنبيائه- حيث بعثهم- أن يفتح لهم كنوز الذّهبان ومعادن البلدان  ومغارس الجنان وأن يحشر طير السّماء ووحش الأرض معهم، لفعل. ولو فعل لسقط البلاء واضمحلّ الجزاء  وبطل الابتلاء  ولما وجب للقائلين  أجر المبتلين  ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين. ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبيّن. ولذلك لو أنزل اللَّه مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ.  ولو فعل لسقط البلوى عن النّاس أجمعين. ولكنّ اللَّه- جلّ ثناؤه- جعل رسله أولي قوّة في عزائم نيّاتهم، وضعفه فيما ترى الأعين من حالاتهم. من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه، وخصاصة تملأ الأسماع والأبصار أداؤه.

و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام وعزّة لا تضام وملك يمدّ نحوه أعناق الرّجال ويشدّ إليه عقد الرّجال، لكان أهون على الخلق في الاختبار وأبعد لهم في الاستكبار. ولأمنوا عن رهبة  قاهرة لهم أو رغبة  مائلة بهم. فكانت النّيّات  مشتركة والحسنات مقتسمة.

و لكنّ اللَّه أراد أن يكون الاتّباع لرسله والتّصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره‏و الاستسلام إليه ، أمورا خاصّة لا يشوبها من غيرها مشائبة. وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل.

ألا ترون أنّ اللَّه- جلّ ثناؤه- اختبر الأوّلين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار ما تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام، الّذي جعله للنّاس قياما.

ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الدّنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية معاشا، وأغلظ محالّ المسلمين [مياها. بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرئ منقطعة، وأثر من مواضع قطر السّماء واثر ليس يزكو به خفّ ولا ظلف‏]  ولا حافر. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه. فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، وتهوي إليه ثمار الأفئدة في مغاوز قفار متّصلة وجزائر بحار منقطعة ومهاوي فجاج عميقة. حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا. يهلّلون اللَّه  حوله. ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا القنع والسّراويل وراء ظهورهم وحسروا بالصعود  حلقا عن رؤوسهم، ابتلاء عظيما واختيارا كبيرا وامتحانا شويدا وبليغا وقنوتا مبينا. جعله اللَّه سببا لرحمته، ووصلة  [و وسيلة]  جنّته، وعلّة لمغفرته، وابتلاء للخلق برحمته.

فلو كان اللَّه- تعالى- وضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار وسهل وقرار جمّ الأشجار داني الثّمار ملتفّ النبات متّصل القرى من برّة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراض  مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة وحدائق كثيرة، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ثمّ لو كانت الأساس المحمول عليها أو الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء، لخفّف مصارعة الشّك»

 في الصّدور ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ولنفي معتلج الرّيب من النّاس. ولكنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يختبر عبيده بأنواع الشّدائد ويتعبّدهم بألوان المجاهدة. ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر من‏قلوبهم وإسكانا للتّذلّل في أنفسهم. وليجعل ذلك أبوابا [فتّحا]  إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه، وفتنة. كما قال: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.

و في شرح الآيات الباهرة : وقال- أيضا- حدّثنا جعفر بن محمّد الحسيني ، عن إدريس بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن ثابت، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قلت له: فسّر لي قوله - عزّ وجلّ- لنبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ فقال: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- كان حريصا على أن يكون عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- من بعده على النّاس. وكان عند اللَّه خلاف ذلك. فقال:

و عني بذلك قوله- عزّ وجلّ-: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ قال: فرضي رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بأمر اللَّه- عزّ وجلّ-.

و في جوامع الجامع : وفي الحديث: كان من قبلكم يؤخذ، فيوضع المنشار على رأسه فيفرّق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ: الكفر والمعاصي. فإنّ العمل يعمّ أفعال القلوب والجوارح.

أَنْ يَسْبِقُونا: أن يفوتونا. فلا نقدر أن نجازيهم على مساوئهم.

و هو سادّ مسادّ مفعولي «حسب». أو «أم» منقطعة. والإضراب فيها، لأنّ هذا الحسبان أبطل من الأوّل. ولهذا عقّبه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ : أي: بئس الّذي يحكمونه. أو حكما يحكمونه حكمهم هذا. فحذف المخصوص بالذّمّ.

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ: .

قيل: في الجنّة.و قيل: المراد بلقاء اللَّه: الوصول إلى ثوابه. أو إلى العاقبة من الموت [و البعث‏]  والحساب والجزاء. على تمثيل حاله، بحال عبد قدم على سيّده بعد زمان مديد وقد اطّلع السّيّد على أحواله. فإمّا أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله، أو يسخط [لما سخط]  منها.

فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ: فإنّ الوقت المضروب للقائه.

لَآتٍ: لجاء. وإذا كان وقت اللّقاء آتيا، كان كائنا لا محالة. فليبادر ما يحقّق أمله ويصدق رجاءه. أو ما يستوجب به القربة والرّضا.

و في كتاب التّوحيد ، حديث طويل عن عليّ- عليه السّلام- يقول فيه، وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات وقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، يعني بقوله: من كان يؤمن بأنّه مبعوث، فإنّه وعد اللَّه لآت من الثّواب والعقاب. فاللّقاء هاهنا ليس بالرّؤية. واللّقاء: هو البعث. فافهم جميع ما في كتاب اللَّه عن لقائه، فإنّه يعني بذلك:

البعث.

وَ هُوَ السَّمِيعُ: لأقوال العباد.

الْعَلِيمُ : بعقائدهم وأفعالهم.

وَ مَنْ جاهَدَ: نفسه بالصّبر على مضض الطّاعة، والكفّ عن الشّهوات.

فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ: لأنّ منفعته لها.

إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ : فلا حاجة به إلى طاعتهم. وإنّما كلّف عباده، رحمة عليهم، ومراعاة لصلاحهم.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه-: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى [، عن محمّد]  بن زكريّا، عن أيّوب بن سليمان، عن محمّد بن مروان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: قوله- عزّ وجلّ-: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ. نزلت في عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وهم الّذين بارزوا عليّا وحمزة وعبيدة. ونزلت فيهم مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ قال في عليّ وصاحبيه. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ: الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطّاعات.

وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ : أي: أحسن جزاء أعمالهم.

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً: بإتيانه فعلا ذا حسن. أو كأنّه حسن لفرط حسنه.

و «وصّى» يجري مجرى أمر، معنى وتصرّفا.

و قيل:  هو بمعنى: قال، أي: وقلنا له: أحسن بوالديك حسنا.

و قيل : [: «حسنا»]  منتصب بفعل مضمر. على تقدير قول مفسّر للتّوصية، أي:

قلنا: أولهما. أو: افعل بهما حسنا. وهو أوفق لما بعده. وعليه يحسن الوقف على «بوالديه».

و قرئ: حسنا. أو إحسانا .

وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: بإلهيّته. عبّر عن نفيها بنفي العلم بها، إشعارا بأنّ ما لا يعلم صحّته لا يجوز اتّباعه وإن لم يعلم بطلانه، فضلا عمّا علم بطلانه.

فَلا تُطِعْهُما: في ذلك. فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولا بدّ من إضمار القول إن لم يضمر قبل.

إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ: مرجع من آمن منكم ومن أشرك. ومن برّ بوالديه ومن عقّ.

فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : بالجزاء عليه.

و الآية قيل : نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمّه حمنة. فإنّها لمّا سمعت بإسلامه، خلفت أن لا تنتقل من الضّحّ  ولا تطعم ولا تشرب حتّى يرتدّ. ولبثت ثلاثة أيّام كذلك.

و كذا الّتي في لقمان والأحقاف.

و

قيل : نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ. وذلك أنّه أسلم، فخاف أهل‏

بيته. فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فحلفت أمّه أسماء بنت مخزمة بن أبي جندل التّميميّ، أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل كنّا حتّى يرجع إليها. فلمّا رأى ابناها أبو جهل والحرث ابنا هشام- وهما أخوا عيّاش لأمّه- جزعها ركبا في طلبه حتّى أتيا المدينة. فلقياه وذكرا له القصّة. فلم يزالا به حتّى أخذ عليهما [العهود و]  المواثيق، أن لا يصرفاه عن دينه وتبعهما. وقد كانت صبرت أمّه ثلاثة أيّام ثمّ أكلت وشربت. فلمّا خرجا من المدينة أخذاه وأوثقاه [كتافا.]  وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة، حتّى بري‏ء من دين محمّد جزعا من الضّرب وقال ما لا ينبغي. فنزلت الآية. وكان الحرث أشدّهما عليه، فحلف عيّاش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه. فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حينا. ثمّ هاجر النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- والمؤمنون إلى المدينة.

و هاجر عيّاش وحسن إسلامه. وأسلم الحرث بن هشام، وهاجر إلى المدينة، وبايع النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- على الإسلام ولم يحضر عيّاش. فلقيه عيّاش يوما بظهر قباء- ولم يشعر بإسلامه- فضرب عنقه. فقيل له: إنّ الرّجل قد أسلم. فاسترجع عيّاش وبكى. ثمّ أتى النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وأخبره بذلك. فنزل وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً  (الآية).

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ : في جملتهم. والكمال في الصّلاح منتهى درجات المؤمنين، ومتمنّى أنبياء اللَّه المرسلين. أو في مدخلهم، وهي الجنّة.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ: عذّبهم الكفرة على الإيمان.

جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ: ما يصيبهم من أذيّتهم في الصّرف عن الإيمان.

كَعَذابِ اللَّهِ: في الصّرف عن الكفر.

وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ: فتح وغنيمة.

لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ: في الدّين فأشركونا فيه.

و المراد: المنافقون. أو قوم ضعف إيمانهم، فارتدّوا من أذى المشركين. ويؤيّدالأوّل. أَ وَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ : من الإخلاص والنّفاق.

وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا: بقلوبهم.

وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ : فيجازي الفريقين.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا: الّذي نسلك في ديننا.

وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ: [إن كان ذلك خطيئة. أو إن كان بعث ومؤاخذة. وإنّما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتّباع،]  مبالغة في تعليق الحمل بالاتّباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كانت تشجيعا لهم عليه. وبهذا الاعتبار ردّ عليهم وكذّبهم بقوله: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ :

 «من» الأولى للتّبيين. والثّانية مزيدة. والتّقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ قال: من أحبّ لقاء اللَّه جاءه الأجل وَمَنْ جاهَدَ [آمال‏]  نفسه عن اللّذّات والشّهوات والمعاصي فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. [و قوله:]  وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً قال: هما اللّذان ولداه.

و أمّا قوله- عزّ وجلّ- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قال: إذا آذاه إنسان أو أصابه ضرّ أو فاقة أو خوف من الظّالمين، دخل  معهم في دينهم. فرأى أنّ ما يفعلونه هو مثل عذاب اللَّه الّذي لا ينقطع وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ، يعني: القائم- صلوات اللَّه عليه- لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ. وقوله- عزّ وجلّ-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ قال: كان الكفّار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا. فإنّ الّذي تخافون أنتم ليس بشي‏ء فإن كان حقّا نتحمّل نحن ذنوبكم. فيعذّبهم اللَّه- عزّ وجلّ- مرّتين، مرّة  بذنوبهم [و مرّة بذنوب غيرهم.

وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ: أثقال ما اقترفته أنفسهم.وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ: وأثقالا أخر معها. لما تسبّبوا]  له بالإضلال، والحمل على المعاصي. من غير أن ينقص من أثقال من يتبعهم شي‏ء.

وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ: سؤال تقريع وتبكيت.

عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ : من الأباطيل.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً: بعد المبعث.

قيل : إنّه بعث على رأس الأربعين. ودعا قومه تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطّوفان ستّين .

و إنّ المقصود من القصّة تسلية رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وتثبيته على ما يكابده من الكفرة.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- حديث طويل في مكالمة بينه وبين اليهود. وفيه قال لهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: لقد أقام نوح في قومه ودعاهم ألف سنة إلّا خمسين عاما. ثمّ وصفهم اللَّه- تعالى- فقلّلهم، فقال : وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ولقد تبعني في سنيّ القليلة وعمري اليسير ما لم يتبع  نوحا في طول عمره وكبر سنّه.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضيل ، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- فمكث نوح- عليه السّلام- [في قومه‏]  ألف سنة إلّا خمسين عاما لم يشاركه في نبوّته أحد.

و في روضة الكافي  بإسناده إلى أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- مثله.

 عليّ بن إبراهيم، عن أبيه،  عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن إسماعيل الجعفيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لبث فيهم نوح ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم سرّا وعلانية. فلمّا أبوا وعتوا قال: ربّ:  أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ

 

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من خبر الشّاميّ وما سأله عنه أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جامع الكوفة حديث طويل. وفيه: وسأله عن اسم نوح ما كان؟

فقال: اسمه السّكن. وإنّما سمّي نوحا، لأنّه ناح على قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما.

و في كتاب علل الشّرائع،  بإسناده إلى أحمد بن الحسن الميثميّ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان اسم نوح- عليه السّلام- عبد الغفّار. وإنّما سمّي نوحا، لأنّه كان ينوح على نفسه.

و بإسناده إلى سعيد بن جناح : عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: اسم نوح عبد الملك. وإنّما سمّي نوحا، لأنّه بكى خمسمائة عام.

و بإسناده إلى محمّد بن أورقة : عمّن ذكره، عن سعيد بن جناح، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: اسم نوح عبد الملك. وإنّما سمّي نوحا، لأنّه بكى خمسمائة عام.

و بإسناده إلى محمّد بن أورقة ): عمّن ذكره، عن سعيد بن جناح، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان اسم نوح عبد الأعلى. وإنّما سمّي نوحا، لأنّه بكى خمسمائة عام.

و اختلاف الأخبار في اسم نوح- عليه السّلام- محمول على تعدّد اسمه.

و لا اختلاف في معنى بكائه. لأنّه يمكن اجتماع جميع معانيه.

فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ: طوفان الماء. وهو لمّا طاف بكثرة، من سيل أو ظلام أو نحوهما.وَ هُمْ ظالِمُونَ : بالكفر.

فَأَنْجَيْناهُ، أي: نوحا.

وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ: ومن أركب معه من أولاده وأتباعه.

قيل : كانوا ثمانين. وقيل: ثمانية وسبعين. وقيل: عشرة، نصفهم ذكور ونصفهم إناث.

وَ جَعَلْناها، أي: السّفينة. أو الحادثة.

آيَةً لِلْعالَمِينَ : يتّعظون، ويستدلّون بها.

وَ إِبْراهِيمَ: عطف على «نوحا». أو نصب بإضمار «اذكر» .

و قرئ، بالرّفع على تقدير: من المرسلين إبراهيم.

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ: ظرف «لأرسلنا»، أي: أرسلناه حين كمل عقله وتمّ نظره، بحيث عرف الحقّ وأمر النّاس به. أو بدل منه بدل الاشتمال، إن قدّر «باذكر».

وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ: مما أنتم عليه.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ : الخير والشّرّ، وتميّزون ما هو خير ممّا هو شرّ. أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم، دون نظر الجهل.

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً: وتكذبون كذبا في تسميتها آلهة، وادّعاء شفاعتها عند اللَّه. أو تعملونها وتنحتونها للإفك. وهو استدلال على شرارة ما هم عليه، من حيث أنّه زور وباطل.

و قرئ «تخلقون» من خلق للتّكثير. «و تخلقون» من تخلّق للتّكلّف. «و إفكاً» على أنّه مصدر كالكذب. أو نعت بمعنى: ذا إفك .

إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً: دليل ثان على شرارة ذلك، من حيث أنّه لا يجدي بطائل.

و «رزقا» يحتمل المصدر. بمعنى: لا يستطيعون أن يرزقوكم، وأن يراد المرزوق.

و تنكيره، للتّعميم.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ: كلّه. فإنّه المالك.وَ اعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ: متوسّلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيّدين لما حفّكم من لنّعم بشكره. أو مستعدّين للقائه بهما. فإنّه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ :

و قرئ، بفتح التّاء  وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ: من قبلي من الرّسل فلم يضرّهم  تكذيبهم. إنّما ضرّ أنفسهم، حيث تسبّب لما حلّ بهم من العذاب. فكذا تكذيبكم.

وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ : الّذي زال معه الشّكّ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.

فالآية وما بعدها من جملة قصّة إبراهيم إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ويحتمل أن يكون اعتراضا بذكر شأن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم، توسّط بين طرفي قصّته. من حيث أنّ مساقها تسلية رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وتنفيس عنه. بأنّ أباه خليل اللَّه كان ممنوّا بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم. وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.

أَ وَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ: من مادة وغيرها.

و قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر، بالتّاء على تقدير القول .

و قرئ، يبدأ  ثُمَّ يُعِيدُهُ: إخبار بالإعادة بعد الموت. معطوف على «أو لم يروا» لا على «يبدئ» فإنّ الرّؤية غير واقعة عليه.

و يجوز أن تؤوّل الإعادة بأن ينشئ في كلّ سنة مثل ما كان في السّنّة السّابقة من النّبات والثّمار ونحوهما. ويعطف عليه إِنَّ ذلِكَ: الإشارة إلى الإعادة. أو إلى ما ذكر من الأمرين.

عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ : إذ لا يفتقر في فعله إلى شي‏ء.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ: حكاية كلام اللَّه لإبراهيم. أو محمّد- صلّى اللَّه عليهما-.

فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ: على اختلاف الأجناس والأحوال.ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ: بعد النّشأة الأولى، الّتي هي الإبداء. فإنّه والإعادة نشأتان، من حيث أنّ كلّا اختراع وإخراج من العدم. والإفصاح باسم «اللَّه» مع إيقاعه مبتدأ، بعد إضماره في «بدأ» والقياس، الاقتصاد عليه. للدّلالة على أنّ المقصود بيان الإعادة. وأنّ من عرف بالقدرة على الإبداء، ينبغي أن يحكم له بالقدرة عليها. لأنّها أهون.

و الكلام في العطف ما مرّ.

و قرئ: «النّشاءة»، كالرّآفة.  إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ : لأنّ قدرته لذاته. ونسبة ذاته إلى كلّ الممكنات على سواء. فيقدر على النشأة الأخرى، كما قدر على النّشأة الأولى.