سورة العنكبوت الآية 21-40

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ: تعذيبه.

وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته.

وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ : تردّون.

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: ربّكم عن إدراككم.

فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ: إن فررتم من قضائه، بالتّواري في الأرض والهبوط في مهاويها والتّحصّن في السّماء والقلاع الذاهبة فيها.

و قيل : ولا من في السّماء. كقول حسّان:

          أمن يهجو رسول اللَّه منكم             ويمدحه وينصره سواء

 وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ : يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض، أو ينزل من السّماء ويدفعه عنكم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ: بدلائل وحدانيّته أو بكتبه.

وَ لِقائِهِ: بالبعث.

أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي، أي: يئسوا منها يوم القيامة. فعبّر عنه بالماضي، للتّحقيق والمبالغة. أو أيسوا في الدّنيا لإنكار البعث والجزاء.

وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : بكفرهم.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ: قوم إبراهيم له.و قرئ، بالرّفع على أنّه الاسم. والخبر إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ:  كان ذلك قول بعضهم. لكن لمّا قيل فيهم ورضى به الباقون، أسند إلى كلّهم.

فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، أي: قذفوه في النّار، فأنجاه منها. بأن جعلها عليه بردا وسلاما.

إِنَّ فِي ذلِكَ: في إنجائه منها.

لَآياتٍ: هي حفظه من أذى النّار، وإخمادها مع عظمها في زمان يسير، وإنشاء روض مكانها.

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : لأنّهم المنتفعون بالفحص عنها والتّأمل.

وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا:

لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها.

و ثاني مفعولي «اتّخذتم» محذوف. ويجوز أن يكون «مودّة» المفعول الثّاني، بتقدير مضاف. أو بتأويلها بالمودودة، أي: اتّخذتم أوثانا سبب المودّة بينكم.

و قرأها نافع وابن عامر وأبو بكر، منوّنة ناصبة «بينكم» والوجه ما سبق. وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس، مرفوعة مضافة. على أنّها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودودة. أو سبب [مودّة بينكم. والجملة صفة «أوثانا». أو خبر «إنّ» على أنّ «ما» مصدرية، أو موصولة. والعائد محذوف. وهو المفعول الأوّل.

و قرئت، مرفوعة منوّنة ومضافة بفتح «بينكم». كما قرئ: «لقد تقطّع بينكم».

و قرئ: «إنّما مودّة  بينكم».]

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أي:

يقوم التّناكر والتّلاعن بينكم. أو بينكم وبين الأوثان، على تغليب المخاطبين. كقوله :

وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد،  عن أبي عمر والزّبيريّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: والوجه الخامس من‏الكفر، كفر البراءة. وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، يعني: يتبرّأ بعضكم من بعض.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في روضة الكافي : يحيى الحلبيّ، عن ابن مسكان، عن مالك الجهنّي قال: قال لي أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- يا مالك، إنّه ليس من قوم ائتمّوا بإمام في الدّنيا، إلّا جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه. إلّا أنتم ومن كان على مثل حالكم.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب التّوحيد ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات: وأمّا قوله : يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً. وقوله : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وقوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً  وقوله:

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وقوله : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وقوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. فانّ ذلك في مواطن غير واحد، من مواطن ذلك اليوم الّذي كان مقداره خمسين ألف سنة. يجمع اللَّه الخلائق يومئذ في مواطن يتفرّقون، ويكلّم بعضهم بعضا، ويستغفر بعضهم لبعض.

أولئك الّذين كان منهم الطّاعة في دار الدّنيا، الرّؤساء  والأتباع. ويلعن أهل المعاصي الّذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظّلم والعدوان في دار الدّنيا، المستكبرين والمستضعفين. يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا. والكفر في هذه الآية: البراءة.

يقول: فيبرأ بعضهم من بعض. ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشّيطان : إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ وقول إبراهيم خليل الرّحمن : كَفَرْنا بِكُمْ، أي: تبّرأنا.و في محاسن البرقي : عنه، عن أبيه عن حمزة بن عبد اللَّه، عن جميل بن درّاج، عن مالك بن أعين، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- يا مالك، أما ترضون أن يأتي كلّ قوم يلعن بعضهم بعضا إلّا أنتم ومن قال بمقالتكم .

وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ : يخلّصونكم منها.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ: هو ابن أخته، وأوّل من آمن به.

و قيل : إنّه آمن به حين رأى النّار لم تحرقه.

وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ: من قومي.

إِلى رَبِّي: إلى حيث يأمرني ربّي.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة،  بإسناده إلى محمّد بن الفضل، عن أبي حمزة الثّمالي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- حديث طويل. يقول في آخره- عليه السّلام- وإنّ الأنبياء بعثوا خاصّة وعامّة. أمّا إبراهيم نبوّته بكوثى [ربّا.]

 

و هي قرية من قرى السّواد فيها بدأ أوّل أمره، ثمّ هاجر منها وليست بهجرة. فقال : وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إني مهاجر إلى ربي سيهدين.  وكانت هجرة إبراهيم بغير قتال.

و أمّا إسحاق فكانت نبوّته بعد إبراهيم. وأمّا يعقوب فكانت نبوّته بأرض كنعان، ثمّ هبط إلى مصر فتوفّي فيها.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطيّ، عن هشام [بن سالم‏]  ودرست بن أبي منصور، عنه قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها. ونبيّ يرى في النّوم ويسمع الصّوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط- عليهما السلام‏

- والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخيّ قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: كانت أمّ إبراهيم وأمّ لوط- عليهما السّلام- سادة  وورقة- وفي نسخة رقيّة- أختين. وهما ابنتان للاحج. وكان اللاحج نبيّا منذرا، ولم يكن رسولا

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ: الّذي يمنعني عن أعدائي.

الْحَكِيمُ : الّذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.

روي : أنّه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمّه إلى حرّان ثمّ منها إلى الشّأم. فنزل فلسطين، ونزل لوط سدوم.

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ: ولدا ونافلة، حين أيس عن الولادة من عجوز عاقر. ولذلك لم يذكر إسماعيل.

وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ: فكثر منهم الأنبياء.

وَ الْكِتابَ: يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة.

وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ: على هجرته إلينا.

فِي الدُّنْيا: بإعطاء الولد في غير أوانه، والذّرّيّة الطّيّبة، واستمرار النّبوّة فيهم، وانتماء أهل الملل إليه، والثّناء والصّلاة عليه إلى آخر الدّهر.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : لفي عداد الكاملين في الصّلاح.

و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه-  بإسناده إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: اعلموا  يا عباد اللَّه، أنّ المؤمن من يعمل لثلاث من الثّواب: إمّا الخير، فإنّ اللَّه يثيبه بعمله في دنياه. قال- سبحانه- لإبراهيم: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. فمن عمل للَّه- تعالى- أعطاه أجره في الدّنيا والآخرة وكفاه الهمّ فيهما.

وَ لُوطاً: عطف على «إبراهيم». أو على ما عطف عليه.إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ: الفعلة البالغة في القبح.

ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ : استئناف مقرّر لفاحشتها. من حيث أنّها ممّا اشمأزّت منه الطّباع، وتحاشت عنه النّفوس حتّى أقدموا عليها لخبث طينتهم.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي بصير، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قول لوط: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ.

فقال: إنّ إبليس أتاهم في صورة حسنة، فيه تأنيث، عليه ثياب حسنة. فجاء إلى شبان منهم، فأمرهم أن يقعوا به. ولو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه، لكن طلب إليهم أن يقعوا به. فلما وقعوا به التذّوه. ثمّ ذهب عنهم وتركهم، فأحال بعضهم على بعض.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أحدهما- عليهما السّلام- مثله.

 

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ: وتتعرّضون للسّابلة بالقتل وأخذ المال. أو بالفاحشة، حتّى انقطعت الطّرق. أو تقطعون سبيل النّسل، بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث.

وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ: في مجالسكم الغاصّة. ولا يقال: النّادي، إلّا لما فيه أهله.

الْمُنْكَرَ: كالجماع، والضّراط، وحلّ الإزار، وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها.

و قيل : الخذف ورمي البنادق.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : «و قوله- جلّ ذكره-: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال: هم قوم لوط. [كان يضرّط بعضهم على بعض‏] .

و في عوالي اللّئالي : وروي عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- أنّه رأى رجلا يخذف بحصاة في المسجد، فقال- عليه السّلام-: ما زالت تلعنه حتّى وقعت. ثمّ قال:

الخذف في النّادي من أخلاق قوم لوط. ثمّ تلا قوله- تعالى- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ

 قال: هو الخذف.

و في مجمع البيان : وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قيل: فيه وجوه: أحدهما، هو أنّهم كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء. عن ابن عبّاس وروي ذلك عن الرّضا- عليه السّلام-.

و في جوامع الجامع : وفي الحديث: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ : في استقباح ذلك. أو في دعوة النّبوّة، المفهومة من التّوبيخ.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي: بإنزال العذاب.

عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ : بابتداع الفاحشة، وسنّها فيمن بعدهم.

وصفهم بذلك، مبالغة في استنزال العقاب، وإشعارا بانّهم أحقّاء بأن يعجّل لهم العذاب.

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى: بالبشارة بالولد والنّافلة.

قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ: قرية سدوم. والإضافة لفظيّة، لأنّ المعنى على الاستقبال.

إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ : تعليل لإهلاكهم. بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم، الّذي هو الكفر وأنواع المعاصي.

قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً: اعتراض عليهم، بأنّ فيها من لم يظلم. أو معارضة للموجب بالمانع، وهو كون النّبيّ بين أظهرهم.

قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ: تسليم، لقوله. مع ادّعاء مزيد العلم به، وأنّهم ما كانوا غافلين عنه. وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه.

إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ : الباقين في العذاب. أو القرية.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي يزيد الحمّاد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل. فمرّوا بإبراهيم- عليه السّلام- وهم معتمّون، فسلّموا عليه. فلم يعرفهم ورأى هيئة حسنة، فقال: لا يخدم هؤلاء إلّا أنابنفسي. وكان صاحب ضيافة. فشوى لهم عجلا سمينا حتّى أنضجه، ثمّ قرّبه إليهم. فلمّا وضعه بين أيديهم، رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة. فلمّا رأى ذلك جبرائيل- عليه السّلام- حسر العمامة عن وجهه. فعرفه إبراهيم- عليه السّلام- فقال:

أنت هو؟

فقال: نعم ومرّت سارة امرأته فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ .

فقالت ما قال اللّه- عزّ وجلّ- فأجابوها بما في الكتاب.

فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟

قالوا: في إهلاك قوم لوط.

فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟

فقال جبرائيل- عليه السّلام-: لا.

قال- عليه السّلام- فإن كان فيها خمسون؟

قال: لا.

 [قال: فإن كان فيها ثلاثون؟

قال: لا.]

 

قال: فإن كان فيها عشرون؟

قال: لا.

قال: كان فيها عشرة؟

قال: لا.

قال: فإن كان فيها خمسة؟

قال: لا.

قال: فإن كان فيها واحد؟

قال: لا قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ قال الحسن بن عليّ: لا أعلم هذا القول إلّا وهو يستبقيهم . وهو قول اللّه- عزّ وجلّ- : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ.و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله وسلم- سأل جبرائيل: كيف كان مهلك قوم لوط؟

فقال: إنّ قوم لوط كانوا أهل قرية لا يتنظّفون من الغائط، ولا يتطهّرون من الجنابة، بخلاء أشحّاء على الطّعام. وإنّ لوطا لبث فيهم ثلاثين سنة. وإنّما كان نازلا عليهم، ولم يكن منهم. ولا عشيرة له [فيهم ثلاثين سنة]  ولا قوم. وإنّه دعاهم إلى اللّه- عزّ وجلّ- وإلى الإيمان واتّباعه، ونهاهم عن الفواحش، وحثّهم على طاعة اللّه، فلم يجيبوه ولم يطيعوه. وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- لمّا أراد عذابهم، بعث إليهم رسلا منذرين عذرا نذرا. فلمّا عتوا عن أمره، بعث إليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين. فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين، فأخرجوهم  منها. وقالوا للوط فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ من هذه القرية اللّيلة بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ  أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ .

فلمّا انتصف اللّيل، سار لوط ببناته. وتولّت امرأته مدبرة، فانقطعت إلى قومها تسعى بلوط وتخبرهم أنّ لوطا قد سار ببناته. وإنّي نوديت من تلقاء العرش لمّا طلع الفجر:

يا جبرائيل، حقّ القول من اللّه بختم  عذاب قوم لوط. فاهبط إلى قرية قوم لوط وما حوت، فاقلبها  من تحت سبع أرضين. ثمّ اعرج بها إلى السّماء، فأوقفها حتّى يأتيك أمر الجبّار في قلبها. ودع منها آية بيّنة من منزل لوط، عبرة للسّيّارة. فهبطت على أهل القرية الظّالمين.

فضربت بجناحي الأيمن على ما حوى عليها شرقها  وضربت بجناحي الأيسر على ما حوى عليه غربها . فاقتلعتها- يا محمّد- من تحت سبع أرضين، إلّا منزل لوط آية للسّيّارة. ثمّ عرجت بها في خوافي جناحي، حتّى أوقفتها حيث يسمع أهل السّماء زقاء ديوكها ونباح كلابها. فلمّا طلعت الشّمس نوديت من تلقاء العرش: يا جبرائيل، اقلب القرية على القوم فقلبتها عليهم، حتّى صار أسفلها أعلاها. وأمطر اللّه عليهم حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏

 مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ من أمّتك بِبَعِيدٍ .

 

وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ: جاءته المساءة والغمّ بسببهم. مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.

و «أن» صلة. لتأكيد الفعلين واتّصالهما.

وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً: وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه، أي: طاقته. كقوله:

ضاقت يده. وبإزائه رحب ذرعه بكذا: إذا كان مطيقا له. وذلك، لأنّ طويل الذّراع ينال ما لا يناله قصير الذّراع.

وَ قالُوا: لمّا رأوا فيه أثر الضّجرة.

لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ: على تمكّنهم منّا.

إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ :

و قرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ ويعقوب: «لنجينّه، ومنجوك» بالتّخفيف.

و وافقهم أبو بكر في الثّاني. وموضع «الكاف» على المختار الجرّ. ونصب «أهلك» بإضمار فعل. أو بالعطف على محلّها، باعتبار الأصل .

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ: عذابا منها. سمّي بذلك، لأنّه يقلق المعذّب. من قولهم: ارتجز: إذا ارتجس، أي: اضطرب.

و قرأ ابن عامر: «منزّلون» بالتّشديد .

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ : بسبب فسقهم.

وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً:

قيل : هي حكايتها الشّائعة. أو آثار الدّيار الخربة.

و قيل: الحجارة الممطورة. فإنّها كانت باقية بعد.

و قيل: بقيّة أنهارها المسودّة.

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ : يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار. وهو متعلّق «بتركنا». أو «آية». أو «بيّنة».

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ:و افعلوا ما ترجون ثوابه. فأقيم المسبّب مقام السّبب.

و قيل : إنّه من الرّجاء، بمعنى: الخوف.

وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ  فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ:

الزّلزلة الشّديدة.

و قيل : صيحة جبرائيل، لأنّ القلوب ترجف لها.

فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ: في بلدهم أو دورهم. ولم يجمع، لأمن اللّبس.

جاثِمِينَ : باركين على الرّكب، ميّتين.

وَ عاداً وَثَمُودَ: منصوبان بإضمار «اذكر». أو فعل دلّ عليه ما قبله، مثل:

أهلكنا.

و قرأ حمزة وحفص ويعقوب: «و ثمود» غير مصروف. على تأويل القبيلة.

وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ، أي: تبيّن لكم بعض مساكنهم. أو إهلاكهم من جهة مساكنهم، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها.

وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ: من الكفر والمعاصي.

فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ: السّويّ. الّذي بيّن الرّسل لهم.

وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ : متمكّنين من النّظر والاستبصار، ولكنّهم لم يفعلوا.

أو متبيّنين أنّ العذاب لاحق بهم بإخبار الرّسل لهم، ولكنّهم لجّوا حتّى هلكوا.

و في مصباح الشّريعة:  قال الصّادق- عليه السّلام- بعد أن ذكر الشّيطان:

و لا يغرّنّك تزيينه الطّاعات عليك. فإنّه يفتح لك تسعة وتسعين بابا من الخير، ليظفر بك عند تمام المائة. فقابله بالخلاف، والصّدّ عن سبيله، والمضادّة باستهوائه .

وَ قارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ: معطوفون على «عادا». وتقديم قارون، لشرف نسبه.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ : فائتين. بل أدركهم أمر اللّه. من سبق طالبه: إذا فاته.فَكُلًّا: من المذكورين.

أَخَذْنا بِذَنْبِهِ: عاقبنا بذنبه.

فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً: ريحا عاصفا فيها حصباء. أو ملكا رماهم بها، كقوم لوط.

وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ: كمدين وثمود.

وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ: كقارون.

وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا: كقوم نوح وفرعون وقومه.

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ: ليعاملهم معاملة الظّالم. فيعاقبهم بغير جرم، إذ ليس ذلك من عادته.

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ : بالتّعريض للعذاب.

و في كتاب الخصال : عن جعيد الهمدانيّ قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- إنّ في التّابوت الأسفل [من النّار اثني عشر]:  ستّة من الأوّلين، وستّة من الآخرين. فأمّا السّتّة من الأوّلين: فابن آدم قاتل أخيه، وفرعون الفراعنة، والسّامريّ، والدّجّال كتابه في الأوّلين ويخرج في الآخرين، وهامان، وقارون.

و فيه : قال أبو ذرّ: ألستم تشهدون أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله وسلم- قال: شرّ الأوّلين والآخرين اثنا عشر: ستّة من الأوّلين، وستّة من الآخرين. ثمّ سمّي ستّة من الأوّلين: ابن آدم الّذي قتل أخاه، وفرعون، وهامان، وقارون، والسّامريّ، والدّجّال اسمه في الأوّلين ويخرج في الآخرين،

و الحديثان طويلان أخذت منهما موضع الحاجة.