الاستطاعة

الاستطاعة :

أهم شروط الحجّ الاستطاعة ، ولذا عقدنا لها فصلاً خاصّاً ، وغير المستطيع لايجب عليه الحجّ ؛ لقوله تعالى :  وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً ([1]) . وليس هذا بحاجة إلى البيان .

وإنّما الّذي ينبغي بيانه وتحديده هو معنى الاستطاعة ، فهل المراد منها مجرّد القدرة على الوصول إلى مكّة المكرّمة بأيّ سبيل ولو بالمشي أو الدين أو بيع ما يحتاج إليه وإلى عياله أو بالتقتير عليه وعليهم وما إلى ذلك ، أو أنّ المراد بالاستطاعة معنى شرعيّ خاصّ ؟

الجواب :

روي عن أهل البيت عليهم‏السلام([2]) أنّ المراد بالاستطاعة هنا الاستطاعة العقليّة ، وهي مجرّد القدرة على الوصول إلى مكّة . وروي عنهم [  عليهم‏السلام]([3]) أيضاً أ نّها الاستطاعة

الشرعيّة المحدّدة بتحديد خاصّ . وقد أعرض الفقهاء عن تلك الروايات التي أوجبت الحجّ إطلاقاً ولو بالدين أو المشي على الأقدام ، وعملوا بالروايات الثانية.

ومنها : أنّ سائلاً سأل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن معنى السبيل في قوله تعالى : مَنِ استَطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً  ؟ فقال الإمام  عليه‏السلام : « من كان صحيحاً في بدنه مخلّى في سربه ، له زاد وراحلة فهو يستطيع الحجّ »([4]) .

وسئل أبوه الإمام الباقر  عليه‏السلام نفس السؤال ، فقال : « الاستطاعة أن يكون له ما يحجّ به »([5]) .

وفهم الفقهاء من هاتين الروايتين وما إليهما أنّ الراحلة تعبير عن اُجرة السفر والانتقال إلى مكّة ، ثمّ العودة منها إلى بلده ، وأنّ الزاد عبارة عمّا يحتاج إليه من مال للمأكل والمشرب واُجرة السكن ونفقات جواز السفر وما إلى ذلك من الأشياء اللائقة بحاله ووضعه ، على أن يكون جميع ما يحتاج إليه زائداً عن ديونه ومؤنة عياله وأثاثه وكتبه وخادمه وما يضطرّ إليه من مصدر معاشه كالأرض للفلاّح والأدوات لصاحب المهنة والصنعة ورأس المال للتاجر ، بحيث يبقى بعد الحجّ على ما كان عليه قبل الحجّ .

هذا مع الأمن على نفسه وماله وعرضه .

______________________

[1] آل عمران : 97 .

[2] انظر الوسائل 11 : 43 ـ 44 ، ب11 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح2.

[3] انظر الوسائل 11 : 33 ، ب8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه .

[4] الوسائل 11 : 36 ، ب8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح10 ، وفيه : «فهو مستطيع » .

[5] الوسائل 11 : 33 ، ب8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح1 .

 

 

الحجّ قبل الاستطاعة :

لو أنّ شخصاً لم يجب عليه الحجّ لعجزه وعدم استطاعته الشرعيّة ومع ذلك تجشّم وتكلّف وحجّ حجّاً صحيحاً كاملاً ثمّ استطاع فهل تجب عليه الإعادة ثانية أو تكفيه الاُولى ؟

الجواب :

المشهور بين الفقهاء أ نّه لا بدّ من الإعادة بعد الاستطاعة الشرعيّة ؛ لأنّ الاُولى وقعت مستحبّة ، والمستحبّ لا يجزي عن الواجب ، وهو حجّة الإسلام التي لا بدّ من اتصافها بالوجوب .

ويلاحظ بأنّ كلّ حجّة صحيحة كاملة فهي حجّة إسلاميّة ، مستحبّة كانت أو واجبة ، ما دامت الأركان واحدة والأجزاء والشروط واحدة في كلّ من الواجبة والمستحبّة.

هذا ، إلى أ نّه لا مستند للمشهور سوى الاستحسان ، أ مّا النصّ فإنّه يدلّ على الإجزاء والكفاية ، كالروايات([1]) الدالّة على أنّ من يقدر على المشي يجب أن يحجّ ماشياً .

نقول : هذا مع العلم بأنّ حجّة الإسلام إنّما سمّيت بهذا الإسم للحديث المشهور : « بني الإسلام على خمسة : الشهادتان والصلاة والصوم والحجّ والزكاة »([2]) ، ذلك أنّ المراد بالحجّ في الحديث الحجّ من حيث هو بصرف النظر عن الوجوب والاستحباب .

____________________

[1] الوسائل 11 : 43 ، ب11 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه .

[2] الوسائل 1 : 19 ، ب1 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح15 .

 

 

البذل :

إذا وهب رجل آخر مالاً يكفيه للحجّ ولكن لم يشترط عليه أن يحجّ بالمال فلا يجب أن يقبل الهبة ؛ لأنّ تحصيل الاستطاعة ليس بواجب على أحد ، وبكلمة أنّ الحجّ يجب على الإنسان المستطيع ، ولا يجب على الإنسان أن يحصّل الاستطاعة .

وإذا بذل المال مشترطاً عليه الحجّ به فيجب عليه القبول ، ولا يجوز له الرفض ، ويتحتّم عليه الحجّ ؛ لقول الإمام الصادق عليه‏السلام : « من عرض عليه الحجّ ولو على حمار أجذع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع »([1]) .

وليس من شكّ أنّ الاستطاعة لن تتحقّق إلاّ إذا كانت النفقة ملائمة لوضع المبذول له ومكانته ، وإلاّ فلا يلزم القبول والإجابة ، والحمار الأجذع المقطوع الذنب قد يناسب ويلائم أكثر من واحد في ذلك العصر .

______________

[1] الوسائل 11 : 42 ، ب10 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح7 ، وفيه : « مستطيع للحجّ » .

 

 

الحجّ والخمس :

إذا كان عنده مبلغ من المال وقد تعلّق فيه الخمس وكان بمجموعه كافياً لنفقات الحجّ فقط ولا يزيد عنها شيئاً بحيث إذا أخرج الخمس تعذّر عليه الذهاب إلى مكّة وأداء الحجّ ، إذا كان الأمر كذلك قدّم الخمس والزكاة ؛ لأ نّهما دين ، ولا استطاعة إلاّ بعد وفائه من أيّ نوع كان ، وإذا حجّ ولم يكترث بقي الخمس في ذمّته ، وبطل حجّه إذا انحصر أداء الخمس على إخراجه من المال الّذي حجّ به ؛ إذ يكون والحال هذه حاجّاً بمال الغير .

وإذا كان عليه حقوق ماليّة كالخمس والزكاة وعليه أيضاً الحجّ وجب أن يؤدّي الخمس والزكاة ، ولا تجوز له المماطلة والتأخير بحال . وإذا تأخّر عن الأداء فقد عصى اللّه‏ واستحقّ العقاب ، سواءً أكان عازماً على أداء الحجّ أو لم يكن . وإذا حجّ والحال هذه يصحّ منه الحجّ ، ولا يبطل إلاّ في صورة واحدة ، وهي أن ينحصر أداء الخمس والزكاة بنفس المال الّذي حجّ به ، بحيث يصدق عليه أ نّه حجّ بمال الغير .

وقيل : إذا حجّ بهذا المال ناوياً منذ البداية أن يؤدّي الخمس من ماله الآخر وأدّاه أو اُدّي عنه أمكن القول بصحّة الحجّ .

ونقول في الجواب : إنّ الخمس متعلّق بالعين ، وعليه يكون التصرّف في هذا المال تصرّفاً في مال الغير ، ومهما كان الوجوب هامّاً فلا يستدعي تحليل هذا التصرّف ، وقد اتّفق الجمع على أنّ المزاحمة إذا وقعت بين وجوب وحرمةٍ قدّمت الحرمة .

 

 

الزواج :

لو كان عنده من المال ما يكفيه للزواج فقط أو الحجّ فقط فأ يّهما يقدّم ؟

الجواب :

ليس من شكّ أنّ الزواج من حيث هو ضرورة من ضرورات الحياة ، تماماً كالملبس والمسكن ، فمن احتاج إليه أو كان من أمثاله يتزوّجون ، ويسأله الناس : متى تتزّوج ؟ قدّم الزواج حتّى ولو لم يخف العنت والمرض أو الوقوع في الزنا ، كما قيّده بعض الفقهاء([1]) . وإن لم يكن بحاجة إلى الزواج ـ لأنّ عنده زوجة كافية وافية ، ولا يراه الناس مضطرّاً إلى المرأة ـ قدّم الحجّ .

بل إذا احتاج أولاده إلى الزواج جاز له أن يصرف ما لديه من المال في تزويجهم وجهازهم ، على شريطة أن ينفق المال في هذا السبيل قبل دخول وقت السفر للحجّ ، أ مّا بعده فلا ، حيث يكون قد توجّه إليه الخطاب والأمر بالحجّ ، كما أنّ الاستطاعة لا يجب تحصيلها ، فلا يجب أيضاً إبقاؤها والاحتفاظ بها ما دام الحجّ لم يجب بعد ، أ مّا إذا وجدت ووجب الحجّ فيجب الاحتفاظ بها وبكلّ ما يتوقّف عليه وجود الواجب .

______________

[1] المدارك 7 : 45 .

 

 

الزوجة :

إذا استطاعت الزوجة وجب عليها أن تحجّ ، سواء أذن لها الزوج أم لم يأذن ، تماماً كما هي الحال بالقياس إلى الصوم والصلاة والزكاة ، فلقد سئل الإمام  عليه‏السلامعن امرأة وهي صرورة ـ أي لم تحجّ بعد ـ ولا يأذن لها زوجها بالحجّ ؟ قال: « تحجّ وإن لم يأذن لها »([1]) . وقال الإمام  عليه‏السلام في رواية اُخرى عنه : « لا طاعة له عليها في حجّة الإسلام »([2]) . وكفى بقول عليّ أمير المؤمنين  عليه‏السلام : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »([3]) شاهداً ودليلاً.

أجل ، له أن يمنعها من الحجّ المندوب ؛ لأنّ الإمام  عليه‏السلام سئل عن امرأة موسرة حجّت حجّة الإسلام ، تقول لزوجها : حجّني مرّة اُخرى أله أن يمنعها ؟ قال : « نعم »([4]) . مضافاً إلى العمومات الثابتة الناطقة بأ نّه لا يحقّ للزوجة أن تخرج من بيت الزوج إلاّ بإذنه .

وكلّ امرأة مأمونة لها أن تسافر إلى الحجّ وغير الحجّ دون أن يكون معها أحد من أقاربها ومحارمها ، فلقد سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن امرأة تريد الحجّ وليس معها محرم هل يصلح لها الحجّ ؟ قال : « نعم ، إذا كانت مأمونة »([5]) .

وقال قائل : بل يجب أن يسافر معها محرم ، فإن لم يوجد حرّم عليها السفر حتّى إلى الحجّ الواجب . وربّما كان لهذا القول وجه يوم كان السفر طويلاً والطريق مخوفاً ، أ مّا اليوم حيث الأمن والأمان والتيسير والتسهيل في المواصلات فلا وجه له.

__________________________

[1] الوسائل 11 : 157 ، ب59 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح4 .

[2] الوسائل 11 : 155 ، ب59 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح1 .

[3] الوسائل 11 : 157 ، ب59 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح7 .

[4] الوسائل 11 : 156 ، ب59 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح2 .

[5] الوسائل 11 : 153 ، ب58 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، ح2 .

 

 

الدين :

الدين تارةً يكون للإنسان ، واُخرى يكون عليه ، فإن كان عليه واستغرق جميع ما يفضل عن حاجته وحاجة عياله ـ بحيث إذا أدّاه لا يزيد شيئاً عن حاجته ـ قدّم الدين على الحجّ ، وإن لم يستغرقه بكامله ـ بحيث يستطيع وفاء الدين والحجّ دون أن ينقصه شيء أو يضرّ بحاله ـ وجب عليه أن يفي بهما معاً ؛ لعدم التضادّ والمعارضة .

وإذا كان الدين له لا عليه وكان في غنى عنه غير محتاج إلى صرفه في مؤنته ومؤنة عياله فهل يجب عليه الحجّ والحال هذه أو لا ؟

الجواب :

إذا كان الدين مؤجّلاً لم يأت زمن وفائه بعد فلا يجب الحجّ ؛ لعدم الاستطاعة ، وإذا كان حالاًّ فقيل([1]) : يجب الحجّ حتّى ولو كان المديون مماطلاً ، واحتاج تحصيله إلى الخصومات والمرافعات . وقيل([2]) : لا يجب .

والحقّ أنّ هذا الدين إذا أمكن الحصول عليه بسهولة ـ بحيث لا يحتاج إلاّ لمجرّد المطالبة ـ وجب الحجّ ؛ لأنّ صاحب الدين يعدّ مستطيعاً بالفعل ، وإذا احتاج التحصيل إلى العناء والخصومات فلا يجب ، حتّى ولو أمكن الحصول على الدين ولكن بعد لأي([3]) ، حيث لا يعدّ من المستطيعين بالفعل ، بداهة أنّ الاستطاعة لا يجب تحصيلها ، وإنّما يجب الحجّ بعد الاستطاعة . وبكلمة أنّ العبرة بوجود الاستطاعة بالفعل لا بالقوّة ، ومن هنا يعلم أ نّه لا يجب الاستدانة للحجّ حتّى ولو كان قادراً على الوفاء بعد عودته بيسر وسهولة .

________________________

[1] المسالك 2 : 131 ـ 132 .

[2] المستمسك 10 : 90 .

[3] اللّأي : الإبطاء والاحتباس ، وقيل : المشقّة والجهد لسان العرب 12 : 213 .

 

 

الحجّ ونذر الزيارة يوم عرفة :

تدارس فقهاء عصرنا هذه المسألة وكثر كلامهم حولها ، وهي إذا نذر الإنسان أن يزور الحسين  عليه‏السلام في كلّ سنة يوم عرفة أو في السنة القادمة بالذات ولم يكن مستطيعاً حين النذر وبعده حدثت الاستطاعة فهل يقدّم الوفاء بالنذر أو يقدّم الحجّ ؟

قال السيّد صاحب العروة الوثقى وشارحها السيّد صاحب المستمسك : ( يقدّم الوفاء بالنذر ؛ لأنّ العذر الشرعيّ كالعقليّ في المنع من الوجوب )([1]) . أي أنّ الشرع أوجب على هذا الناذر الكون في كربلاء يوم عرفة ، وهذا يستدعي أنّ الشرع قد منعه عن الكون في عرفة هذا اليوم ، وعليه فلا يكون مستطيعاً لأداء الحجّ ، فيتعيّن الوفاء بالنذر ، وإذا استطاع للحجّ ثمّ أنشأ هذا النذر قدّم الحجّ بلا ريب لنفس السبب .

وبكلمة أنّ السابق يرفع موضوع اللاحق .

_______________________

[1] العروة الوثقى 2 : 261 ، م32 . المستمسك 10 : 117 وما بعدها.

 

 الشكّ في الاستطاعة :

إذا شكّ في أ نّه مستطيع مادّياً أو لا فهل يجب عليه أن يجري حساباً على أمواله ليتأكّد من الحقيقة ؟

الجواب :

إنّ القواعد العامّة لا تستدعي هذا الحساب ولا توجبه ، ذلك أنّ البحث والفحص إنّما يجب إذا كان الشكّ في حكم الشيء لا في موضوعه ؛ لأنّ قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » لا تصدق إلاّ بعد البحث عن الحكم في مظانّه واليأس من العثور عليه ، حيث يكون خفاء الحكم الشرعيّ وعدم وصوله إلى المكلّف ـ على فرض وجوده ـ خارجاً عن قدرة المكلّف وإرادته ، أ مّا إذا لم يبحث ويسأل إطلاقاً فيصحّ عقابه والحال هذه ؛ لأنّ عدم وصول الحكم إليه ناشئ عن إهماله وتقصيره .

وهنا الحكم معلوم ، وهو أنّ الاستطاعة شرط في وجوب الحجّ ما في ذلك ريب ، والشكّ إنّما حصل في الاستطاعة نفسها لا في حكمها ، وعليه فلا يجب البحث عنها .