الصــوم

معنى الصوم:

الصوم في اللغة هو الإمساك والكفّ والترك ، فمن أمسك عن شيء وكفّ عنه فقد صام عنه ، ومنه [ قوله تعالى ] :  فَقُولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمنِ صَوماً فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيّاً ([1]) .

وفي الشرع هو الإمساك عن أشياء خاصّة نهى عنها الشرع ـ كالأكل والشرب والجماع ـ في زمن مخصوص ، يبتدئ بطلوع الفجر وينتهي بالغروب ، على أن يكون الإمساك بنيّة التقرّب إلى اللّه‏ وطاعته وامتثال أمره .

_______________

[1] مريم : 26 .

 

 

أقسام الصوم:

ينقسم الصوم الشرعيّ إلى أربعة أقسام : واجب كصوم رمضان وقضائه ، ومحرّم كصوم العيدين ، ومندوب كصوم الأ يّام البيض من كلّ شهر وهي ( 13 و 14 و  15 ) ، ومكروه ـ بمعنى قلّة الثواب ـ كصوم ثلاثة أيّام بعد العيد ؛ لأ نّها أيّام أكل وشرب ، كما قال الإمام  عليه‏السلام([1]) .

_____________

[1] الوسائل 10 : 519 ، ب3 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، ح1 .

 

 

نيّة الصوم:

إنّ نيّة التقرّب إلى اللّه‏ هي روح العبادة وقوامها ، سواء أكانت صوماً وصلاة ، أو حجّاً وزكاة ، وقدّمنا أنّ معنى النيّة الدافع والباعث على العمل . والمهم هنا هو معرفة أوّل وقتها ، ومن أيّة لحظة يجب أن تبدأ ، وبما أنّ الصوم يبدأ من أوّل الفجر وأنّ النيّة شرط في صحّته وجب قهراً أن تكون من أوّل الفجر أو متقدّمة عليه ، مستمرّة إلى آخر النهار حيث ينتهي الصوم . وقد اشتهر عن النبيّ الأعظم  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم:

« لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من اللّيل »([1]) . هذا هو مقتضى القاعدة من غير فرق بين الصوم الواجب وغير الواجب ، ولا بين العامد والناسي ، ولكنّ الفقهاء خرجوا عن هذه القاعدة بعد أن ثبت عن أهل البيت عليهم‏السلام صحّة الصوم في مواضع ، مع تأخّر النيّة فيها عن الفجر .

 

وهذه المواضع هي:

1 ـ  إذا وصل المسافر إلى حدّ الترخيص قبل الزوال ولم يكن قد تناول المفطر ولا من نيّته أن يصوم فله أن ينوي الصوم ويصحّ منه ، بل يتعيّن عليه إن كان ذلك في شهر الصيام.

سئل الإمام  عليه‏السلام عن رجل قدم من سفرٍ في شهر رمضان ولم يطعم شيئاً قبل الزوال ؟ قال : « يصوم »([2]) .

وفي رواية اُخرى عن أبي بصير عن الإمام  عليه‏السلام : « إن قدم قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم ويعتدّ به »([3]) .

ومثله تماماً إذا شفي المريض من علّته قبل الزوال ولم يكن قد تناول المفطر .

2 ـ  إذا جهل أنّ غداً من رمضان أو نسي كلّيةً أ نّه منه فإنّه ينوي الصوم قبل الزوال ويصحّ صومه ولا شيء عليه .

واستدلّوا على ذلك بالإجماع ، وبما روي من أنّ أعرابيّاً جاء النبيّ  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يوم الشكّ وشهد برؤية الهلال فأمر النبيّ  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم منادياً ينادي كلّ من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليمسك([4]) . وهذه الرواية على تقدير صحّتها مختصّة بالجاهل ، وإلحاق الناسي به قياس . والمعتمد هو الإجماع.

3 ـ  له أن ينوي الصوم اختياراً قبل الزوال لقضاء شهر رمضان . فقد سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن رجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان ويريد أن يقضيها متى ينوي الصيام ؟ قال : « هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر » ، قال له السائل : فإن نوى الإفطار أيستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس ؟ قال : « لا »([5]) .

وفي رواية اُخرى أ نّه قال [  عليه‏السلام] : « نعم فليصمه ، ويعتدّ به إذا لم يكن أحدث شيئاً »([6]) . أي شيئاً يوجب الإفطار . وربّما تُحمل هذه الرواية على الاضطرار .

ومثله أيضاً من وجب عليه الصوم بنذر أو يمين أو كفّارة فإنّ له أن ينوي الصوم اختياراً قبل الزوال ، على شريطة عدم تناوله المفطر .

4 ـ  لمن أراد أن يصوم تطوّعاً واستحباباً أن ينوي الصوم ما دام النهار ، حتّى ولو بعد الزوال . فقد سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة ؟

قال : « هو بالخيار ما بينه وبين العصر وإن مكث حتّى العصر ثمّ بدا له أن يصوم ، وإن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم إن شاء »([7]) .

وقال [  عليه‏السلام] : « كان أمير المؤمنين  عليه‏السلام يدخل على أهله فيقول : عندكم شيء وإلاّ صمت ، فإن كان عندهم شيء أتوه به وإلاّ صام »([8]) .

وقد تبيّن معنى ممّا تقدّم أنّ من عليه صيام شهر رمضان أن يأتي بالنيّة مقارنة للفجر أو قبله ، وأنّ من أخّرها عنه عامداً متعمّداً بطل صومه ، وأ نّه يغتفر للمضطرّ ـ  كالجاهل والناسي ـ أن ينوي قبل الزوال ، وأنّ لمن وجب عليه الصوم في غير رمضان أن يؤخّر النيّة مختاراً إلى ما قبل الزوال ، على شريطة أن لا يكون الصوم الواجب مضيّقاً في وقته ، وإلاّ فحكمه حكم رمضان تماماً ، وأنّ لمن أحبّ الصوم تطوّعاً أن ينوي ما دام النهار باقياً .

 

ويتفرّع على ذلك مسائل:

منها  : تكفي نيّة واحدة لشهر رمضان بكامله ، ولا تجب لكلّ يوم على حدة ، بخاصّة بعد ما فسّرنا النيّة بالباعث والداعي.

ومنها  : لو ترك نيّة صوم رمضان عمداً ـ بحيث عزم منذ ليلته أن لا يصوم غداً ولمّا أصبح على هذه النيّة تاب وأناب ورجع إلى ربّه ولم يكن قد تناول المفطر بعدُ  ـ فإنّ صومه يفسد ، ولا يجديه أن يحدث نيّة الصوم لا قبل الزوال ولا بعده بطريق أولى إجماعاً محصّلاً . ولكن اختلف الفقهاء هل تجب عليه الكفّارة مع القضاء أو أنّ عليه القضاء وكفى ؟ والصحيح أ نّه يقضي ولايكفّر ؛ لأصل البراءة من وجوب التكفير ، ولأنّ الأدلّة قد أناطت وجوب التكفير بالأكل والشرب والجماع ، وما إلى ذاك من المفطرات .

ومنها  : من صام يوم الشكّ بنيّة أ نّه من شعبان وأراد من صومه مجرّد التطوّع والاستحباب أو القضاء عمّا في ذمّته ثمّ تبيّن أ نّه من رمضان صحّ عن رمضان دون غيره ؛ لأ نّه هو الواجب واقعاً وقد تحقّقت نيّة التقرّب ، أمّا نيّة الاستحباب والقضاء فلغو زائد لا أثر له في أصل النيّة ، وتمحّضها للّه‏ سبحانه . وقد سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن رجل صام اليوم الّذي يشكّ فيه فكان من شهر رمضان أفيقضيه ؟ فقال للسائل:

« لا ، هو يوم وفّقت له »([9]) .

وإن قصد الأمر المتعلّق بهذا اليوم كائناً ما كان صحّ بلا ريب ؛ لأنّ الأمر والمأمور به موجودان واقعاً ، والقصد تعلّق بامتثال الأمر على ما هو عليه ، ولا يضرّ الترديد في تصوّره وخياله ما دام القصد متّجهاً إلى الأمر الواقعي بالذات .

وإن تردّد في التعيين وقصد الوجوب إن كان من رمضان والاستحباب إن كان من شعبان قال أكثر الفقهاء المتأخّرين : يبطل صومه ، حيث يشترط في العبادة قصد التعيين .

وقال السيّد الحكيم في المستمسك([10]) : بل يصحّ ؛ لأ نّه إن تبيّن أ نّه من شعبان فقد نواه ، وإن تبيّن من رمضان فكذلك ، والجزم بأحدهما خاصّة لا دليل عليه ، بل قام الدليل على عدمه ، حيث سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن صوم [ يوم ]([11]) الشكّ ؟ فقال : « صمه ، فإن يك من شعبان كان تطوّعاً ، وإن يك من رمضان فيوم وفّقت له »([12]) .

وهو الحق ؛ لأنّ المطلوب هو قصد التقرّب إلى اللّه‏ سبحانه ، والمفروض وجوده ، ومجرّد التردّد لا يضرّ بأصل القصد ما دام المنوي واحداً لا غير ، وقصد التعيين في العبادة إنّما يجب لو كان المطلوب متعدّداً في الواقع ، كمن عليه أكثر من

واجب ، أو كمن أراد أن يأتي بعبادتين إحداهما مستحبّة كصلاة الفجر والاُخرى واجبة كصلاة الصبح.

______________________

[1] المستدرك 7 : 316 ، ب2 من أبواب وجوب الصوم ونيّته ، ح1 .

[2] الوسائل 10 : 190 ، ب6 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح4 .

[3] الوسائل 10 : 191 ، ب6 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح6 .

[4] المبسوط للسرخسي 3 : 62.

[5] الوسائل 10 : 13 ، ب2 من أبواب وجوب الصوم ، ح10 .

[6] الوسائل 10 : 10 ، ب2 من أبواب وجوب الصوم ، ح2 .

[7] الوسائل 10 : 14 ، ب3 من أبواب وجوب الصوم ، ح1 .

[8] الوسائل 10 : 12 ، ب2 من أبواب وجوب الصوم ، ح7 .

[9] الوسائل 10 : 21 ، ب5 من أبواب وجوب الصوم ، ح2 .

[10] المستمسك 8 : 226 ـ 227.

[11] ما بين المعقوفين من المصدر.

[12] الوسائل 10 : 21 ، ب5 من أبواب وجوب الصوم ، ح3 .

 

 

وقت الصوم:

حدّد اللّه‏ سبحانه أوّل الصوم وآخره بقوله تعالى :  وَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأَسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ ([1]) .

ولم يختلف في هذا التحديد إثنان من المسلمين ، بل هو من ضرورات الدين ، ولذا لم يتعرّض أكثر الفقهاء لتحديده ، واكتفوا بقولهم : يحرم الصوم في الليل والعيدين وأيّام التشريق لمن كان في منى ، وهي الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر من ذي الحجّة .

________________

[1] البقرة : 187 .

 

 

الشروط:

الشروط في الصوم منها ما هو شرط للوجوب والوجود معاً كالعقل والخلوّ من الحيض والنفاس والمرض والسفر . فلا يصحّ الصوم ولا يجب من المجنون حتّى ولو عرض الجنون على الصائم ساعة من النهار ثمّ زال ، ولا من الحائض والنفساء حتّى ولو عرض الحيض أو النفاس قبل انتهاء النهار بلحظة أو انقطعا بعد الفجر بلحظة ، ولا من المريض الّذي يضرّه الصوم ، ولا من المسافر إلاّ إذا سافر لمعصية ، أو كانت مهنته السفر ، أو نوى الإقامة عشرة أيّام ، أو بعد أن تردّد ثلاثين يوماً في مكان واحد ، أو صام ثلاثة أيّام بدل هدي التمتّع حيث لا يجد الهدي ، أو ثمانية عشر يوماً بدل البدنة لمن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً ، أو نذر الصوم في يوم خاصّ ولو في السفر .

وهل للمسافر أن يصوم في سفره تطوّعاً واستحباباً ؟ نقل صاحب الجواهر([1]) الجواز على كراهيّة عند الأكثر ، جمعاً بين ما دلّ من الروايات على المنع مطلقاً وبين ما أجازه استحباباً ، ومنعه فريضة.

ومن الشروط ما هو شرط في الوجود فقط ـ أي في الصحّة ـ لا الوجوب كالإسلام ، فإنّ غير المسلم لا يصحّ منه الصوم ، مع الإتّفاق بأ نّه واجب عليه .

ومنها  : ما هو شرط في الوجوب لا في الوجود كصوم الصبيّ المميّز ، فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى صحّة عبادته ، مع أ نّها غير واجبة عليه ، ومعنى صحّتها أ نّها ليست تمرينيّة ، بل شرعيّة يترتّب عليها الثواب ، ويحسب لأبويه ، وبديهة أنّ الصحّة لا تتوقّف على وجود الأمر كي يقال : كيف تصحّ وهي غير مأمور بها ؟ إذ لا ملازمة بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة .

______________________

[1] الجواهر 16 : 338 .

 

 

النائم والمغمى عليه:

بقيت الإشارة إلى النائم والمغمى عليه ، أمّا النائم فإن سبقت نيّة الصوم واستمرّ في نومه إلى الليل صحّ ، ولا قضاء عليه . قال صاحب الجواهر : ( بالإجماع والروايات )([1]) .

وإن لم ينوِ الصوم إطلاقاً ، فإن انتبه قبل الزوال نوى ولا قضاء عليه ، وإن استمرّ نائماً حتّى زالت الشمس فعليه القضاء . قال صاحب الجواهر : ( بلا خلاف ولا إشكال ؛ لفساد الأداء بفوات النيّة التي هي شرط فيه )([2]) .

أمّا المغمى عليه فقد ألحقه بعضهم بالنائم وأوجب عليه القضاء حتّى ولو استغرق الإغماء أيّاماً . وذهب المشهور إلى عدم القضاء حتّى ولو عرض الإغماء في جزء من أجزاء النهار ؛ لأنّ الإغماء يزيل العقل ، وزواله يسقط التكليف الواجب

والمستحبّ.

قال صاحب الجواهر : ( وهذا هو الأشبه باُصول المذهب وقواعده ، حيث يصدق اسم الصائم على النائم ، ولا يصدق على المجنون والمغمى عليه )([3]) .

وهو الحقّ ؛ لأنّ النائم لم يسلب العقل منه كلّيةً ، ولذا إذا أيقظته استيقظ عاقلاً ، بخلاف المغمى عليه فإنّ العقل مسلوب منه بالمرّة ، وإذا أيقظته لا يستيقظ ولا ينتبه .

ومن هنا صحّ تكليف النائم ، غاية الأمر أنّ التكليف لم يصل إلى مرتبة الفعليّة ؛ لمكان العذر ما دام غافلاً ، فإذا انتبه زال العذر ووجب العمل ، تماماً كالجاهل فإنّه مكلّف بلا ريب ، ويعذر ما دام الجهل ، فإذا علم انتفى العذر ووجب العمل .

___________________

[1] الجواهر 16 : 330 .

[2] الجواهر 16 : 332 .

[3] الجواهر 16 : 329 ـ 330.