النبي آدم عليه السلام

 .: النبي آدم (ع) :.

 

مقدمة:

شاء الله أن يخلق على وجه الأرض موجوداً، يكون فيها خليفة، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة، وشاء سبحانه أن تكون الأرض ونعمها وما فيها من كنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا الإنسان.

 

مثل هذا الموجود إلى قسط وافر من العقل والشعور والإدراك والكفاءة الخاصة، كي يستطيع أن يتولى قيادة الموجودات الأرضية.

 

وبهذه المناسبة يقول القران الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

 

الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) يشير أيضا إلى هذا المعنى وهو أن الملائكة لما وقفوا على عظيم منزلة ادم عز ذكره علموا أنهم أحق بان يكونوا خلفاء الله في أرضة وحججه على بريته

 

سؤال الملائكة:

يذكر القران الكريم سؤال الملائكة وجهوه لرب العالمين مستفسرين لا معترضين: ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾؟ (1)

 

الله سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.

الملائكة كانوا عالمين _كما يبدوا من تساؤلهم _ أن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك؟!

 

قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل وجه الإجمل مستقبل الإنسان، وقيل إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ لأنهم علموا أن هذا الإنسان يخلق من التراب، والمادة لمحدوديتها هي حتماً مركز للتنافس والنزاع. وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في الإنسان. وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لاتشبعه. وهذا الواضح _ إن لم يقترن بالإلتزام والشعور بالمسؤولية _ يؤدي الى الفساد وسفك الدماء.

 

بعض آخر ذهب إلى أن تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلقوات سبقت آدم، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت من الملائكة إنطباعا مرّا عن موجودات الأرض.

 

الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقا كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم – أكثر من غيرهم- للخلافة لائقون، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان الملئ بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم، - وهم خالون من كل هذه المؤثرات – بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!

 

ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال محمد (ص) وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت (ع) وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة. الجدير بالذكر، إن الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة أمور: التسبيح والحمد، والتقديس. (2)

 

وفي الحقيقة أن مرادهم هو القول بأن الهدف إذا كان هو الطاعة والعبودية فنحن على أتم الاستعداد، ولو كان هو العبادة فنحن على هذه الحالة دائما، وإذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الأمر في حين أن الإنسان المادي مضافا إلى فساده فإنه يفسد الأرض.

 

ومن أجل أن تضح الحقيقة للملائكة أقدم الله سبحانه على هذه التجربة ليعلموا الفرق الشاسع بينهم وبين بني آدم.

 

الملائكة في بوتقة الاختبار:

كان آدم يملك – بفضل الله – قابلية خارقة لفهم الحقائق وشاء الله أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾. (3)

 

﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وأمام هذا الإختبار تراجع الملائكة لأنهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها الله لآدم، ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.

 

وهكذا أدركت الملائكة تلك القدرة التي يحملها آدم، التي تجعله لائقا لخلافة الله على الأرض، وفهمت مكانة هذا الكائن في الوجود.

 

وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أدم الملائكة: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾. (4)

وهنا اتضح للملائكة أن هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.

 

آدم (ع) في الجنة:

ينتقل القرآن إلى فصل آخر منموضوع عظمة الإنسان، ويقول: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾. (5)

 

الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته. فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

 

حقا، إن هذا الموجود، اللائق لخلافة الله على الأرض، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم (ص)، يستحق كل احترام.

 

لماذا أبى إبليس؟

وإبليس – كما صرح القرآن – ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية.

 

باعثة على الإمتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد إنه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم، بل ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له.

 

ثم إن الله تعالى أخذ إبليس على عصيانه وطغيانه، و ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ (6) – في مقام الجواب- بعذر غير وجيه إذ: ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾. (7)

 

وكأن إبليس كان يتصوّر أن النار أفضل من التراب، وهذه هي أكبر غلطاته وأخطائه، ولعلّه لم يقل ذلك عن خطأ والتباس، بل كذب عن وعي وفهم.

 

ولكن قصّة الشيطان لم تنته إلى هذا الحد، فهو عندما عرف بأنه صار مطرودا من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته، وبدل أن يتوب ويثوب إلى الله ويعترف بخطئه فإن الشيئ الوحيد الذي طلبه من الله تعالى هو أن يمهله ويؤجل موته إلى يوم القيامة: ﴿قال انظرني إلى يوم يبعثون﴾.

 

ولقد استجاب الله لهذا الطلب، فـ ﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾. (8)

 

إن القرآن الكريم وإن لم يصرح بالمقدار الذي استجيب من طلب الشيطان من حيث الزمن إلا إنه تعالى قال له: ﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ {15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ وهذا يعني أن مطلب الشيطان لم يستجب له بتمامه وكماله، بل استجيب إلى الوقت الذي يعلمه الله تعالى.

 

غير أن الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإهمال الطويل) الحصول على فرصة لجبران ما فات منه أو ليعمّر طويلا، إنما كان هدفه من ذلك هو إغواء بني البشر ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ (9) أي لأغويتهم كما غويت، ولأضلّنهم كما ضللت.

 

ثم إن الشيطان أضاف – تأكيدا لقوله – بأنه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب، ويسد عليهم الطريق من كل جانب ﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾. (10) (11)

 

ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط، ولكن عندما أضاف معصية أكبر إلى معصيته بالعزم على إضلال الآخرين جاء الأمر المشدّد: ﴿قال أخرج منها مذموما مدحورا﴾. (12)

 

ثم حلف على أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه ﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾. (13)(14)

 

الاستقرار في الجنة:

بعد هذا المشهد ومشهد إختبار الملائكة، أمر آدم آدم وزوجه أن يسكنا الجنة ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾. (15)

 

يستفاد من آيات القرآن أن آدم خلق للعيش على هذه الأرض لكن الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كل ما يزعج آدم.

 

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهية في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

 

وكان من الضروري أيضا أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية. فمعصية الله – لا تسد إلى الابد – أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإلهية.

 

ينبغي أن ينضج آدم (ع) في هذا الجوّ إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياى على ظهر الأرض.

 

كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنة أن ينهض بمسئولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية.

 

وسوسة الشيطان:

وهنا رآى " آدم" نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الإقتراب من الشجرة، كن الشيطان أبى إلا أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ووعده وزوجه.

 

وللوصول إلى هذا الهدف رأى أن أفضل طريق هو أن يستغل حب الإنسان ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة، وليوفّر لهما عذرا يعتذران ويتوسلان به لتبرير مخالفتهما لأمر الله ونهيه، ولهذا قال لآدم وزوجته: ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾.

 

وبهذه الطريقة صور الأمر الإلهي في نظرهما بشكل آخر، وصور المسألة وكأن الأكل من " الشجرة الممنوعة" ليس غير مضر فحسب، بل يورث عمرا خالدا أو نيل درجة الملائكة. والشاهد على هذا الكلام هو العبارة التي قالها إبليس ﴿ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ﴾. (16)

 

فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق (ع)، وعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع): فجاء إبليس فقال: " إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما اببه من الجنة".

 

ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير، ولكن الشيطان – من أجل أن يحكم قبضته ويعمق وسوسته في روح آدم وحواء – توسل بالإيمان المغلظة للتدليل على أن يريد لهما الخير؟ ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾. (17)

 

آدم على أمل الحياة الخالدة:

لم يكن آدم يملك تجربة كافية عن الحياة، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان وخدعه بعد، ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا، كما إنه لم يكن في مقدوره أن يصدّق بأن يأتي بمثل هذه الإيمان المغلظة كذبا، وينشر مثل هذا الحبائل والشباكعلى طريقه. ولهذا وقع في حبال الشيطان، وانخدع بوسوسته في المآل، ونزل بحبل خداعه المهترىء في بئر الوساوس الشيطانية للحصول على ماء الحياة الخالدة والملك الذي لا يبلى، ولكتّه ليس فقط لم يظفر بماء الحياة كما ظن، بلسقطفي ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإلهية، كما يعبر القرآن عن ذلك ويلخصه في عبارة موجزة إذ يقول: ﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾.

 

مع إن آدم – نظرا لسابقة عداء الشيطان له، ومع علمه بحكم الله ورحمته الواسعة، ومحبته ولطفه – كان من اللازم أن يبدد كل الوساوس ويقاومها، ولا يسلم للشيطان، إلا إنه قد وقع ما وقع على كل حال.

 

وبمجرد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾. (18)

 

ويستفاد من العبارة أعلاه أنهما بمجرّد أن ذاقا من ثمرة الشجرة الممنوعة أصيبا بهذه العاقبة المشؤومة، وفي الحقيقة جردا من لباس الجنة الذي هو لباس الكرامة الإلهية لهما.

 

ويستفاد من هذه جيدا أنهما قبل ارتكابهما لهذه المخالفة لم يكونا عاريين، بل كانا مستورين بلباس لم يرد في القرآن ذكر عن حقيقة ذلك اللباس وكيفيته، ولكنه على أي حال كان يعد علامة لشخصية آدم وحواء ومكانتهما واحترامهما، وقد تساقط عنهما بمخالفتهما لأمر الله وتجاهلهما لنهيه.

 

على حين تقول التوراة المحرفة: إن آدم وحواء كانا في ذلك الوقت عاريين بالكامل، ولكنهما لم يكونا يدركان قبح العري، وعندما ذاقا وأكلا من الشجرة الممنوعة التي كانت شجرة العلم والمعرفة، أنفتحت أبصار عقولهما، فرأيا عريهما، وعرفا بقبح هذه الحالة.

 

إن آدم الذي تصفه التوراة لم يكن في الواقع إنسانا، بل كان بعيدا عن العلم والمعرفة جدا، إلى درجة إنه لم يكن يعرف حتى عريه.

 

ولكن آدم الذي يصفه القرآن الكريم، لم يكن عارفا بوضعه فحسب، بل كان واقفا على أسرار الخلقة أيضا "علم الأسماء"، وكان يعد معلم الملائكة، وإذا ما استطاع الشيطان أن ينفذ فيه فإن ذلك لم يكن بسبب جهله، بل استغل الشيطان صفاء نيتّه، وطيب نفسه.

 

ويشهد بهذا القول الآية التي تقول: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾. (19)

وما كنبه بعض الكتاب المسلمين من أن آدم كان عاريا منذ البداية، فهو خطأ بيّت تشأ ممّا ورد في التوراة المحرفة.

وعلى كل حال فإن القرآن يقول: إن آدم وحواء لمّا وجدا تفسيهما عاريين عمدا فورا إلى ستر نفسيهما بأوراق الجنة: ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾. (20)

 

وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من الله يقول: ألم أحذركم من الإقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما: إن الشيطان عدو لكما؟ فلماذا تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.

 

ماذا كانت الشجرة الممنوعة؟

جاءت الإشارة إلى الشجرة الممنوعة في ست مواضع من القرآن الكريم، من دون أن يجري حديث عن طبيعة أو كيفية أو اسم هذه الشجرة، وأنهما ماذا كانت؟ وماذا كان ثمرها؟ بيد أنه ورد في المصادر الإسلامية تفسيران لها، أحدهما "مادي" وهو أنها كانت "الحنطة" كما هو المعروف في الروايات.

 

ويجب الإنتباه إلى نقطة وهي إن العرب تطلق لفظة "الشجرة" حتى على النبتة، ولهذا أطلقت – في القرآن الكريم- لفظة الشجرة على نبتة اليقطين. (21)

 

والتفسير الآخر "معنوي" وهو أن المقصود من تلك الشجرة – كما في الروايات- هو ما عبر عنها "بشجرة الحسد" لأن آدم طبقا لهذه الروايات – بعد ملاحظة مكانته ومقامه – تصور إنه لا يوجد فوق مقامه مقام، ولا فوق مكانته مكانة، ولكن الله تعالى أطلعه على مقام ثلة من الأولياء من ذريته وأبنائه "رسول الإسلام وأهل بيته"، فحصل عنده ما يشبه الحسد، وكانت هذه هي الشجرة الممنوعة التي أمر آدم بأن لا يقربها.

 

وفي الحقيقة تناول آدم – طبقا لهذه الروايات – من شجرتين، كانت إحداهما أقل منه مرتبة وأدنى منه منزلة، وقد قادته إلى العالم المادي، وكانت هي "الحنطة". والأخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تشكل مقام ثلة من أولياء الله، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته، وحيث إنه تعدى حده في كلا الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم. ولكن يجب أن نعلم أن هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام منه، بل كان مجرد إحساس نفساني من دون أن تتبعه أية خطوة عملية على طبقه.

 

وحيث إن للآيات القرآنية معان متعددة، فلا مانع من أن يكون كلا المعنيين مرادين من الآية.

 

ومن حسن الاتفاق أن كلمة " الشجرة" قد استعملت في القرآن الكريم في كلا المعنيين، فحينا استعملت في المعنى المادي المتعارف للشجرة،(22) وتارة استعملت في الشجرة المعنوية.

 

ولكن النقطة التي يجب أن نذكر بها هنا، هي إنه وصفت الشجرة الممنوعة في التوراة المختلقة- المعترف بها اليوم من قبل جميع مسيحي العالم ويهودييه – بشجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة (23) تقول التوراة: إن آدم لم يكن عالما ولا عارفا قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة، حتى إنه لا يعرف ولم يميز عريه، وعندما أكل من تلك الشجرة، وصار إنسانا بمعنى الكلمة طرد من الجنة خشية أن يأكل من شجرة الحياة أيضا فيخلد كما الآلهة. (24)

 

وهذا من أوضح القرائن الشاهدة على أن التوراة الرائجة ليست كتابا سماويا، بل هي من نسيج العقل البشري القاصر المحدود، الذي يعتبر العلم والمعرفة عيبا وشيئا للإنسان، ويعتبر آدم بسبب إرتكابه معصية تحصيل العلم والمعرفة مستحقا للطرد من جنة الله، وكأن الجنة لم تكن مكان العقلاء الفاهمين ومنزل العلماء العرفين!! (25)

 

الإخراج من الجنة:

يقول القرآن الكريم بعد ذلك: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾. (26)

 

نعم، أخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾.

 

وهنا، فهم آدم إنه ظلم نفسه، وأخرج من الجو الهادئ الملئ بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان. وهبط في جو مفعم بالتعب والمشقة والعناء. مع أن آدمكان نبيا ومعصوما، فإن الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى – كما سنرى – كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. وهو عقاب شديد تلقّاه آدم جرّاء عصيانه.

 

ما هي جنة آدم (ع)؟

يبدو أن الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنة التي وعد بها المتقون. بل كانت من جنان الدنيا، وصقعا منعما خلابا من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك:

 

أولا: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مرارا خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانيا: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثا: وردت عن أهل البيت (ع) روايات تصرح بذلك.

 

منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه سئل عن جنة آدم، فقال: (جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كان من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا).

 

من هذا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانيا بل مقاميا. أي أنه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانه.

 

من المحتمل أيضا أن تكون هذه الجنة غير الخالدة في إحدى الكواكب السماوية، وفي بعض الروايات الإسلامية إشارة إلى أ، هذه الجنة في السماء. غير إن من الممكن أن يكون المقصود بالسماء في هذه الروايات "المقام الرفيع" لا "المكان المرتفع".

 

على كل حال، توجد شواهد كثيرة على أن هذه الجنة هي غير جنة الخلد الموعودة. لأن جنة آدم بداية مسير الإنسان وجنّة الخلد نهايتها. وهذه المقدمة لأعمال الإنسان ومراحل حياته، وتلك نتيجة أعمال الإنسان ومسيرته. (27)

 

رجوع آدم إلى الله وتوبته:

بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي بالخروج من الجنة، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وإنه أخرج من ذلك الجو الهاديء المنعم على إثر إغواء الشيطان، ليعيش في جو جديد مليء بالتعب والنصب، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم.

 

وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

 

صحيح أن آدم لم يرتكب محرما، ولكنه ترك الأولى يعتبر معصية منه، ولذلك سرعان ما تدارك الموقف، وعاد إلى خالقه.

 

على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث – أو ينبغي أن يحدث – وقبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير.

 

الكلمات التي تلقاها آدم:

تعددت الآراء في تفسير "الكلمات" التي تلقاها آدم(ع) من ربه.

المعروف إنها الكلمات المذكورة في الآية 23 من سورة الأعراف: ﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (28)

 

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت (ع) أن المقصود من "الكلمات" أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين – عليهم أفضل الصلاة والسلام- وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من رب العالمين فعفا عنه. (29)

 

قصة آدم ومستقبل هذا العالم:

إن بعض الذين تأثروا بموجة الأفكار الغربية الإلحادية عادة، حاولوا أن يضفوا على قصة آدم وحواء من بدايتها إلى نهايتها طابع التشبيه والكناية المجازية، أو ما يسمى الآن بالرمزية ويحملوا جميع الألفاظ المتعلقة بهذه الحادثة – على خلاف الظاهر – على الكناية عن المسائل المعنوية.

 

ولكن الذي لا شك فيه أن ظاهر هذه الآيات يحكي عن حادثة واقعية وقعت لأبينا وأمنا الأولين: آدم وحواء، وحيث أن هذه القصة لا تتضمن أية نكتة غير قابلة للتفسير حسب الظاهر، كما ليس فيها ما يخالف الموازين العقلية "ليكون قرينة على حملها على المعنى الكنائي" لهذا ليس هناك أي دليل على أن نعرض عن ظاهر الآيات، ولا نحملها على معناها الحقيقي.

 

ولكن مع ذلك يمكن أن تحمل هذه الحادثة الواقعية الحسية إشارات إلى حياة النوع البشري في مستقبل هذا العالم. (30)

 

أول حادثة قتل على الأرض:

إن القرآن الكريم لم يذكر أي إسم لأبناء آدم (ع): لكن الروايات الإسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما "هابيل" والآخر "قابيل" وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أن ولدي آدم المذكورين اسمهما "قائن"و "هابيل".

 

وقد ذكر المفسر المعروف "أبو الفتوح الرازي" أن هذين الإسمين قد وردا بألفاظ مختلفة، فالاسم الأول جاء فيه "هابيل" و "هابل" و "هابن"، أما الاسم الثاني فجاء فيه "قابيل" و "قايين" و "قابل" و "قابن" أو "قبن"، وعلى أي صورة كان الاسم فإن الإختلاف بين الروايات الإسلامية ونص التوراة بخصوص اسم "قابيل" نابع عن الإختلاف اللغوي، ولا يشكل أمرا مهما في هذا المجال. (31)

 

والقرآن الكريم يقول في هذا المجال لنبي الله أن يتلو على قومه قصة ولدي آدم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ﴾. (32)

 

لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئا عن ماهية القربان الذي قدمة ولدا آدم، بينما نقلت الروايات الإسلامية – والتورات في سفر التكوين، الباب الرابع – أن (هابيل) كان يمتلك ماشية فختار لإفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور، وأن (قابيل) الذي كان صاحب زرع، قد أختار لقربانه أردأ الأنواع من الزرع.

 

لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابتا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عتد الله – والذي ورد في هذا المجال هو مانقلتة بعض الروايات الإسلامية من أن هذين الشخصين كانا قد وضعا قرباتهما على قمة جبل، فنزلت صاعقة فاحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله، وبقى قربان قابيل على حاله لم يمسة شيء، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضاً.

 

لكن بعض، يعتقدون أن قبول ورفض القربانين إنما أعلنا عن طريق الوحي لآدم (ع)، وما كان سبب ذلك غير أن هابيل كان إنسانا ذا سريرة نقية يحب التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه، بينما كان قابيل رجلا ملوث القلب حسودا معاندا فرفض الله قربانه، والآيات التالية توضح حقيقة ما جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.

 

وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يخدد الأخ – الذي لم يتقبل الله القربان منه- أخاه بالقتل ويقسم إنه قاتله لا محالة، ﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾ أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيرا إلى إن عدم قبول القربان منه إنما نتج أ، علة في عمله، وإنه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكدا إن الله يقبل أعمال المتقين فقط ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

 

وأكد له إنه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله، فإنه – أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان – لن يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف الله ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم حيث تقول الآية: ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾.

تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم (ع)، فتبين الآية الأولى منهما إن نفسى قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ﴾. (33)

 

يستدل من هذه العبارة على إن قلب " قابيل" بعد أن تقبل الله قربان أخيه "هابيل" أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الإنتقام من أخيه "هابيل" ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطرية يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها وأعدته لقتل أخيه.

 

التستر على الجريمة:

إن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما بفعله، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة "هابيل" فاضطر "قابيل" (ربما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الاثناء بعث الله غرابا فأحذ يحفر الارض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءا من طعامه – كما هي عادة الغربان – وليدل بذلك "قابيل" كيف يدفن جثة اخيه، حيث تقول الآية الكريمة، ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ ﴾. (34)

 

ولا غرابه في أن يتعلم انسان شيئا من طير من الطيور، فالتاريخ و التجربة يدلان على أن للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها منها البشر على طول التاريخ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض الكتب الطبية تذكر ان الانسان مدين في جزء من معلوماتة الطبية للحيوانات!

 

يا ويلتي:

ثم يشيرالقران الكريم الى ان قابيل استاء من غفلته وجهله، فاخذ يؤنب نفسه كيف اصبح اضعف من الغراب فلا يستطيع دفن اخيه مثله، فتقول الآية: ﴿ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي ﴾

 

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾. (35)

 

فهل كان ندمه على جريمته، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربما أخوته الآخرين الذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أن ندمه كان إشفاقا على نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان – عادة- من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح؟

 

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى "قابيل" فذلك لا يعني إنه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب، خوفا من الله واستقباحا للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن "قابيل"، وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.

 

ورد في حديث عن النبي (ص) قوله:"لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل".

 

مما لا ريب فيه أن قصة ولدي آدم (ع) قصة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية، كما أن عبارة "بالحق" الواردة في هذه القصة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإن الأقوال التي افترضت لهذه القصة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصة المفترضة لا أساس لها مطلقا. (36)

 

 

1- البقرة، 30.

2- البقرة، 30.

3- اختلف المفسرون في تفسير " تعليم الأسماء"، ومن المؤكد أن المقصود من ذلك هو تعليم الأسماء دون المعاني. فذلك لا يكسب آدم فخرا، بل المقصود هو معاني الأسماء والمفاهيم والمسميات.

هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعا.

عن أبي العباس قال: سألت الإمام الصادق (ع) عن قول الله: وعلّم آدم الأسماء كلها، ماذا علمه؟ قال: "الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه".

علم الأسماء إذن لم يكن يشبه "علم المفردات"، بل كان يرتبط بفلسفة الأسماء وأسرارها وكيفياتها وخواصها. والله سبحانه منح آدم هذا العلم ليستطيع أن يستثمر المواهب المادية والمعنوية في الكون على طريق تكامله.

كما منح الله آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها. وهذه نعمة كبرى، لو عرفنا أن علوم البشرية تنقل عن طريق الكتب والمدونات. وما كان هذا التدوين مقدورا لولا وضع الأسماء للأشياء وخواصها.

4- البقرة، 33-31.

5- البقرة، 34.

6- قال تعالى: ﴿فسجدوا إلا إبليس كان من الجن﴾ " الكهف، 50".

7- الأعراف، 12.

8- الأعراف، 14-15.

9- الحجر، 37-38.

10- الأعراف، 16.

11- ويمكن أن يكون هذا التعبير كتابة عن أن الشيطان يحاصر الإنسان من كل الجهات ويتوسل إلى إغوائه بكل وسيلة ممكنة، ويسعى في إضلاله، وهذا التعبير دارج في المحاورات اليومية أيضا، فنقول: فلان حاصرته الديون أو لأمراض من الجهات الأربع.

وعدم ذكر الفوق والتحت إنما هو لأجل أن الإنسان يتحرك عادة في الجهات الأربع المذكورة، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالبا.

12- الأعراف، 17.

13- الأعراف، 18.

14- هل كان السجود لله أم لآدم (ع) ؟

لا شك أن السجود يعني "العبادة" لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلا الله.

من هنا فإن الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني "سجدة السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود "خضوع" لا عبادة.

جاء في "عيون الأخبار" عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع): (كان سجودهم لله تعالى عبودية، ولآدم إكراما وطاعه، لكوننا في صلبه).

15- البقرة، 35.

16- طه، 120.

17- الأعراف، 21.

18- الأعراف، 20-22.

19- الأعراف، 27.

20- الأعراف، 22.

21- إذ قال سبحانه: ﴿وانبتنا عليه شجرة من يقطين﴾ الصافات، 146.

22- مثل: ﴿وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن﴾ المؤمنون، 20 التي هي إشارة إلى شجرة الزيتون.

23- مثل: ﴿والشجرة الملعونة في القرآن﴾ الإسراء، 60 التي يكون المراد منها إمّا طائفة من المشركين، أو اليهود، أو الأقوام الطاغية الأخرى مثل بني أمية.

24- التوراة، سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة رقم 17.

25- والملفت للنظر أن الدكتور "ويليم ميلر" الذي يعد من مفسري الإنجيل القديرين والبارزين بل من مفسري العهدين "التوراة والإنجيل معا" يقول في كتابه المسمى "ماهي المسيحية": (إن الشيطان تسلل إلى الجنة في صورة حيّة، وأقنع حواء بأن تأكل من ثمرة تلك الشجرة، ثم أعطت حواء من تلك الشجرة إلى آدم، فأكل منها آدم أيضا، ولم يكن فعل أبوينا الأوليين مجرّد خطأ عادي، أو غلطة ناشئة من عدم التفكير، بل كان معصية معمّدة ضد الخالق، وبعبارة أخرى: إن آدم وحواء كانا يريدان كانا يريدان بهذا الصنيع أن يصيرا آلهة، إنهما لم يرغبا في أن يطيعا الله، بل كانا يريدان أن يعملا وفق رغباتهما وميولهما الشخصية، فماذا كانت النتيجة؟ لقد وبخهما الله تعالى بشدة، وأخرجهما من الجنة، ليعيشا في عالم مليء بالعذاب والمحنة والألم).

لقد أراد مفسر التوراة والإنجيل هذا أن يبرر شجرة التوراة الممنوعة، ولكنه نسب أعظم الذنوب وهو مضادة الله ومحاربته – إلى آدم... أما كان من الأفضل أن يعترف- بدل إعطاء هذه التفسيرات – بتطرق التحريف والتلاعب إلى هذه الكتب المسماة بالكتب المقدسة؟!

26- البقرة، 36

27- ما هو ذنب آدم؟

المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين. ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب، إضافة إلى أنه كان نبيا، والنبي معصوم.

من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم، وتوجد لذلك ثلاثة فسيرات يكمل بعضها الآخر.

1- ما ارتكبه آدم كان " تركا للأولى" أو بعبارة أخرى كان "ذنبا نسبيا"، ولم يكن "ذنبا مطلقا". الذنب المطلق: وهو الذنب الذي يستحق مؤتكبه العقاب أيا كان، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان. والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص، وإن كان إرتكابه مباحا، بل مسحبا أحيانا من قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة، وبعدم حضور القلب تارة أخرى. وهذه الصلاة تتناسب وشأننا، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله (ص). صلاة الرسول ينبغي أن تكون بأجمعها إتصالا عميقا بالله تعالى، وإن فعل الرسول غير ذلك فلا يعني إنه ارتكب محرما، بل يعني إنه ترك الأولى.

وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة، وإن كان الأكل منها غير محرم بل "مكروها".

2- ونهي الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب: لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض. والله سبحانه وتعالى قال لآدم لا تأكل من هذه الشجرة فتخرج من الجنة، وآدم في أكله من الشجرة خالف نهيا إرشاديا.

3- الجنة التي مكث فيها آدم لم تكن محلا للتكليف، بل كانت دورة إختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض. وكان النهي ذا طابع إختياري.

28- البقرة، 37.

29- هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض بعضها مع بعض، ولعل آدم تلقى من ربه كل هذه الكلمات، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات، وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.

30- يعني أن الإنسان المركب من قوة "العقل" ومن "الغرائز الجامحة" والتي تجره كل واحدة منهما إلى جهة وناحية يواجه في خضم هذه الحياة الصاخبة دعاة كذابين أصحاب سوابق سيئة مثل الشيطان، يحاولون بوسوساتهم المتواصلة إلقاء الستار والحجاب على عقله بغية عزله عنه، وبغية خداعه وإضلاله وتركه حائرا في متاهات الحياة يبحث عن سراب.

إن أول نتيجة للإستسلام أمام الوساوس هو إنهيار حاجز التقوى، وسقوط لباسه، وانكشاف مساوئه وسوءاته.

والأخرى هي الابتعاد عن مقام القرب إلى الله، وسقوط الإنسان عن مقام الإنسانية الكريم، والإخراج من جنة الأمن والطمأنينة، والوقوع في دوامة الحياة المادية المضنية.

وفي هذه الحالة يمكن لقوة العقل – أيضا- أن تساعد الإنسان وتعينه على النهوض من كبوته، فبفكر فورا في تلافي ما فاته، وجبران ما بدر منه، فيبعثه العقل والتفكير إلى أن يعود إلى الله كي يعترف بكل شجاعة وصراحة بذنوبه، اعترافا بناءا واعيا مفيدا يعد منعطفا في حياته.

 

وفي هذا الوقت تمتد إليه يد الرحمة الإلهية مرة أخرى، وتنقذه وتخلصه من السقوط الأبدي، وإن كان لا يستطيع مع ذلك التخلص من آثار معصيته الوضعية ونتائجها الطبيعية مهما كانت قليلة وحدودة. ولكن هذه الحادثة ستكون له درسا وعبرة، وسيمكنه ذلك من أن يتخذ من هذه الهزيمة قاعدة صلبة لانتصاره في مستقبل الحياة، ويستفيد من هذا الضرر نفعا كبيرا في المراحل القادمة من حياته.

31- والغريب في الأمر أن أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الإختلاف المذكور دليلا اعترض به على القرآن، فقال: إن القرآن أورد لفظة "قابيل" بدل "قائن"!

والجواب هو أن مثل هذا الاختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال الأسماء – فمثلا كلمة "إبراهيم" الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل "أبراهام"، كما أن القرآن الكريم لم يأت مطلقا باسم "هابيل" و "قابيل" وقد ورد هذان الإسمان في الروايات الإسلامية فقط.

32- المائدة، 27.

33- المائدة، 27- 29.

34- المائدة، 31.

35- المائدة، 31.

36- ولا مانع من أن تكون هذه القصة حقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالانحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

وكم هو العدد الكبير من أولئك الأبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون – في النهاية – فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب فتحثهم تدفعهم إلى إخفاء جرائمهم، لكنهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.