النبي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام

.: النبي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (ع) :.

 

مقدمة:

ورد اسم إبراهيم (ع) في 69 موضعا من القرآن الكريم تحدثت عنه آيات تتوزع بين خمسة وعشرين سورة. والقرآن يثني كثيرا على هذا النبي الكريم ويذكره بصفات جليلة عظيمة.

 

إنه قدوة وأسوة في كل المجالات، ونموذج للإنسان الكامل.

 

مكانته في سلم معرفة الله... ومنطقه الصريح أمام عبدة الأوثان... ونضاله المرير ضد الجبابرة... وتضحياته على طريق الله، وصموده الغريب أمام عواصف الحوادث والاختبارات الصعبة... كل واحدة من هذه الصفات تشكل النموذج الأعلى للسائرين على طريق التوحيد.

 

إبراهيم كما يصفه القرآن من ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾(1)، ومن ﴿الصَّالِحِينَ﴾(2)، ومن ﴿الْقَانِتِينَ﴾(3)، ومن ﴿الصِّدِّيقِينَ﴾(4)، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾(5)، و﴿إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾(6)، ذو سخاء عظيم وشجاعة منقطعة النظير.

 

حياة إبراهيم المليئة بالأحداث:

ونستطيع أن نقسم مراحل حياته الشريفة إلى ثلاث فترات:

1 - فترة ما قبل النبوة.

2 - فترة نبوته ومحاربته للأصنام في بابل.

3 - فترة الهجرة من بابل وتجواله في أرض مصر وفلسطين ومكة.

 

ولادته وطفولته:

ولد إبراهيم (ع) في أرض "بابل" التي كانت من بلدان العالم المهمة، وتحكمها حكومة قوية وجائرة، وفتح عينيه على العالم في الوقت الذي كان نمرود بن كنعان الملك الجبار الظالم يحكم أرض بابل ويعتبر نفسه الرب الأعلى(7).

 

بالطبع لم يكن للناس في ذلك الوقت هذا الصنم فقط، بل كانت لهم أصنام مختلفة يعبدونها ويتقربون إليها.

 

والدولة في ذلك الوقت كانت تدافع بقوة عن الأصنام، لأنها الوسيلة المؤثرة في تحذير وتسخيف المجتمع، بحيث لو صدرت أي إهانة من أحد إتجاهه يعتبرونها خيانة عظيمة.

 

وقد نقل المؤرخون قصة عجيبة حول ولادة إبراهيم (ع) و خلاصتها هي: توقع المنجمون إنه سوف يولد شخص ويحارب نمرود بكل قوة، ولذلك فقد سعى جاهدا لأن يوقف ولادة هذا الشخص أو أن يقتله حين ولادته، إلا إنه لم يتمكن من ذلك وولد المولد.

 

واستطاعت أمه أن تحفظه عبر تربيته في زوايا الغار القريب من مولده، بالشكل الذي أمضى ثلاثة عشر عاما هناك.

وفي النهاية وبعد أن ترعرع في مخفاه بعيدا عن أنظار شرطة نمرود، ووصل إلى سن الشباب، صمم على الخروج منه والنزول إلى المجتمع ليشرح لهم دروس التوحيد التي إستلهمها من دخيلة نفسه وتأملاته الفكرية.

 

نبوة إبراهيم (ع)

ليس عندنا دليل واضح على عمر إبراهيم (ع) حينما تقلد مقام النبوة، ولكن نستفيد من سورة مريم، أنه أثناء محاورته لعمه كان من الأنبياء، حيث يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا / إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾(8).

 

ونعلم أن هذه الحادثة كانت قبل إلقائه في النار، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما قاله بعض المؤرخين من أن عمره أثناء إلقاءه في النار كان 16 عاما سوف يثبت لدينا أنه تحمل أعباء الرسالة منذ صباه.

 

خمس صفات بارزة

يتحدث القرآن الكريم عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو "إبراهيم" بطل التوحيد.

 

ويشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها إبراهيم (ع).

 

1- ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾.

وقد ذكر أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيم (ع) بأنه "أمة" وأهمها أربع:

الأول: كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمة بذاته، وشعاع شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمة بكاملها.

 

الثاني: كان إبراهيم (ع) قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا لإنسانية، ولذلك أطلق عليه ﴿أُمَّةً﴾ لأن (أمة) اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

 

الثالث: كان إبراهيم (ع) موحدا في محيط خال من أي موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه (أمة) في قبال أمة المشركين "الذين حوة".

 

الرابع: كان إبراهيم (ع) منبعا لوجود أمة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة "أمة".

 

نعم فقد كان إبراهيم أمة وكان إماما عظيما، وكان رجلا صانع أمة، وكان مناديا بالتوحيد وسط بيئة إجتماعية خالية من أي موحد.

 

1- صفته الثانية: أنه كان ﴿قَانِتًا لِلّهِ﴾.

2- وكان دائما على الصراط المستقيم سائرا على طريق الله، طريق الحق ﴿حَنِيفًا﴾.

3- ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بل كان نور الله يملأ كل حياته وفكرة، ويشغل كل زوايا قلبه.

4- وبعد كل هذه الصفات، فقد كان ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ﴾.

 

وبعد عرض الصفات الخمسة يبين القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:

1- ﴿اجْتَبَاهُ﴾ للنبوة وإبلاغ دعوته.

2- ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وحفظه من كل انحراف، لأن الهداية لا تأتي لأحد عبثا، بل لابد من توفر الاستعداد والأهلية لذلك.

3- ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾. "الحسنة" في معناها العام كل خير وإحسان، من قبيل منح مقام النبوة مرورا بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4- ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

5- وختمت عطايا الله عز وجل لإبراهيم (ع) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاما وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان – وخصوصا للمسلمين – ولم يجعل دينه مختصا بعصر أهل زمانه، فقال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(9).

 

أسوه للجميع:

إن منهج القرآن "من أجل التأكيد على تعاليمه القيمة" يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مر بنا في تجنب عقد الولاء لأعداء الله، يتحدث القرآن الكريم عن إبراهيم (ع) ومنهجه القدوة كنموذج.

 

رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصا العرب منهم.

 

قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾(10).

 

إن حياة إبراهيم (ع) الذي هو كبير الأنبياء، تلهمنا دروس العبود لله، والطاعة والجهاد في سبيله، والوله والحب لذاته المقدسة، إن هذا النبي العظيم الذي كانت الأمة الإسلامية من بركة دعائه، وهي معتزة بالتسمية التي أطلقها عليهم،هو لكم اسوه حسنة في هذا المجال.

 

والمراد من تعبير ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلة عددهم.

 

وجاء في التواريخ أيضا أن جماعة في "بابل" آمنوا بإبراهيم (ع) بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه، وصاحبوه في الهجرة.

 

ذرية صالحة:

القرآن الكريم يشير إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإلهية العظيمة.

 

يقول سبحانه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ولم تذكر الآية ابن إبراهيم الآخر إسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود الى أن ولادة إسحاق من "سارة" العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

 

ثم بين إن مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: ﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾.

 

ثم لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم، وأن التوحيد بدأ بإبراهيم، يقول: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾.

 

إننا نعلم أن نوحا هو أول أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

 

فبالإشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إنما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث "الوراثة والأصل" و "الذرية".

 

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾(11).

 

الحوار مع آزر:

ثم يتطرق القرآن الكريم إلى شرح محاورته مع أبيه آزر – والأب هنا إشارة إلى العم، فإن كلمة الأب، كما قلنا سابقا، ترد أحينا في لغة العرب بمعنى الأب، وأحيانا بمعنى العم – فيقول: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾. إن هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأن أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة "دفع الضر والمحتمل". فهو يقول: لماذا تتجه إلى معبود ليس عاجزا عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنه لا يملك أصلا القدرة على السمع و البصر. وبتعبير آخر: إن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إلا أن هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.

 

إن إبراهيم يبدأ في دعوته العامة بأبية، وذلك لأن النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإسلام (ع) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين.

 

بعد ذلك دعاه – عن طريق المنطق الواضح – إلى اتباعه، فقال:﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾(12) فإني قد وعيت أمورا كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إني سوف لا أسلك طريق الظلال والخطأ، ولا أدعوك أبدا إلى هذا الطريق المعوج، فإني أرد سعادتك وفلاحك، فاقبل مني لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيك هذا الصراط المستقيم إلى المحل المقصود.

 

ثم يعطف نظره إلى الجاني السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾.

 

من الواضح أن العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعا من العبادة.

 

ثم يذكره وينبه مرة أخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾(13).

 

لأرجمنك يا إبراهيم:

مرت كلمات إبراهيم (ع) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما. يقول القرآن الكريم: إن حرص وتحرق إبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إلى قلب آزر، بل إنه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾(14).

 

الملفت للنظر، أن آزر لم يكن راغبا حتى في أن يجري إنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، لا إنه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.

 

ثانيا: إنه عندما هدد إبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في "لأرجمنّك" ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.

 

ثالثا: إنه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إنه اعتبر إبراهيم في تلك الحال وجودا لا يحتمل، وقال له ﴿اهجرني مليا﴾ أي ابتعد عني دائما، وإلى الأبد. وهذا التعبير المحقر جدا لا يستخدمه إلا الأشخاص الأجلاف والقساة ضد مخالفيهم.

 

لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدة وقف بكل سمو وعظمة، و ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾(15).

 

إن هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إبراهيم بقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ وما يأتي بعده منكلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاما يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في سورة القصص: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(16).

 

ثم أضاف: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾. إن إبراهيم في الواقع قابل خشونة تهديد آزر بالعكس، ووعده بالإستغفار وطلب مغفرة الله له.

 

ثم يقول: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أي الأصنام ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾(17).

 

تبين هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر الذي قال: "اهجرني" فقبل إبراهيم ذلك. ومن جهة أخرى فإنها تبين حزمه في عقيدته، فإن ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنك لا تملك الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإني سأثبت على اعتقادي.

 

ويقول بصورة ضمنية بأني إذا دعوت ربي فإنه سيجيب دعوتي، أما أنتم المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقا، بل ولا يسمع كلامكم أبدا.

 

لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود، وكان دائما ينادي بالتوحيد، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضده وثار عليه، إلا إنه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعا كثيرين على مر القرون والأعصار، بحيث إن كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده(18).

 

أدلة التوحيد في السموات:

على أثر الكرة الذي كان يحمل إبراهيم للأوثان وطلبة من آزر أن يترك عبادة الأصنام، يشير سبحانه إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، ويبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.

 

يبين أولا أن الله كما عرف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السماوات والأرض: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.

 

لاشك أن إبراهيم كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بوحدانية الله، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنه كان مؤمنا بالمعابد ويوم القيامة، ولكنه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه مرحلة ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾.

 

الآيات التالية تشرح هذا المعنى، وتبين استدلال إبراهيم من أفول الكواكب والشمس على عدم إلوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم: هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾.

 

ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربي: ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق.

 

هنا قال إبراهيم: إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.

 

عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتطل بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربي فإنه أكبر وأقوى ضوءا، ولكنه إذا رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.

 

 

الآن بعد أن عرفت أن وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلها قادرا وحاكما على نظام الكائنات، فاني أنجه إلى الذي خلق السماوات والأرض، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحدا، فاني موحد ولست مشركا: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(19).(20)

 

وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إبراهيم، مذاهب شتى، غير أن المعظم يراه "الزهرة" أو "المشتري" ويذكر التأريخ أن القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أما الحديث المنقول عن الإمام الرضا (ع) فيقول: إن ذلك الكوكب كان "الزهرة"، وهذا ما جاء أيضا في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (ع).

 

الدعوة للتوحيد:

﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

 

ثم يذكر إبراهيم (ع) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبين في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أولا: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾.

 

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث إن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة "عبادة الأوثان" ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنكم تكذبون ونضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾.

 

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

 

ثم يبين الدليل الثالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إما لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في "الأخرى" وكلا الهدفين باطل... وذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾.

 

وأنتم تعتقدون بأن هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾.

 

ولأنه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾.

 

وبتعبير آخر، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر للمنعم الحقيقي، وتعرفون إن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان – أيضا- بذاته المقدسة. وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنه ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

 

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

 

وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

 

ثم يلتفت إبراهيم (ع) مهدد لهم ومبديا عدم إكتراثه بهم قائلا: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(21) سواء استجاب له قومه، أو لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

 

وجدنا آبائنا كذلك يفعلون:

فأجابوه مباشرة ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾! وهذا التعبير يدل على أنهم يحسوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافيا أن يجيبوه: نعبد أصناما، إلا أنهم أضافوا هذه العبارة: ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾!

 

وعلى كل حال، فإن إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ / أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾؟!

 

إلا أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائما، فـ ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾(22).

 

وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردوا به على إبراهيم (ع)، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفوا أثر غيره ويصم أذنيه ويغمض عينيه، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!..

 

مخطط إبراهيم الرائع:

يتحدث القرآن عن قصة تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم(23).

 

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جدية هذه المسألة، وأنه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنه يتقبل كل ما يترتب على ذلك بكل وجوده، أضاف: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾(24).

 

وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأني سأستغل في النهاية فرصة مناسبة وأحطم هذه الأصنام!

 

إلا أن عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربما كانت قد بلغت حدا لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجد، ولم يظهروا رد فعل تجاهه، وربما ظنوا بأن أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدسات تماما، بأية جرأة؟ وبأية قوة؟!

 

ومن هنا يتضح أن ما قاله بعض من أن هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرا في نفسه، أو بينها لبعض بصورة خاصة لا جاعي له، خاصة وأنه مخالف تماما لظاهر القرآن إضافة إلى أننا سنقرأ بعد أن عباد الأصنام قد تذكروا قول إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدث عن مؤامرة ضد الأصنام.

 

على كل حال، فإن إبراهيم نفذ خطته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.

 

إن عبدة الأوثان كانوا قد اتخذوا يوما خاصا من كل سنة عيدا لأصنامهم، وكلنوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثم يخرجون من المدينة أفواجا، وكانوا يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في إعتقادهم.

 

وبذلك خلت المدينة من سكانها، فاستغل إبراهيم (ع) هذه الفرصة الجيدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغبا في إضاعتها. وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ / فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾.

 

وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾(25).(26)

 

ألا تأكلون؟

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (ع) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهز العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

 

فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه له عبدتكم، إنه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، مالكم لا تأكلون؟ ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾.

 

ثم أضاف، لم لا تتكلمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ﴾.

 

وبهذا استهزء إبراهيم (ع) بكل معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شك فإنه كان يعرف أنها لا تأكل ولا تتحدث، وأنها جماد. وأراد على ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

 

بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقض على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوة ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾(27).

 

على أية حال، فإن إنقضاض إبراهيم (ع) على الأصنام، حول معبد الأصنام المنظم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الأولى، فالأيدي والأرجل المحطمة تفرقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان مظهر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

 

وبعد إنتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم- بكل هدوء وإطمئنان – معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعد نفسه للحوادث المقبلة، لأنه كان بعلم أن عمله بمثابة إنفجار هائل سيهز المدينة برمتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (ع) وحيدا في وسطها إلا أن له ربا يحميه، وهذا يكفيه.

 

إبراهيم في محكمة النمروديين:

وأخيرا إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى المعبد مباشرة، حتى يظهروا ولائهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبركت – بزعمهم – بمجاورة الأصنام، فما إن دخلوا المعبد حتى واجهوامنظرا أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلا من الأيادي والأرجل المكسرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾؟! ولا ريب أن من فعل ذلك فـ ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

 

إلا أن جماعة منهم تذكروا ما سمعوه من إبراهيم (ع) وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.

 

صحيح إن إبراهيم كان شابا، وربما لم يكن سنه يتجاوز (16) عاما، وصحيح أن كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلا أن من المسلم به أن مراد عباد الأصنام لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إن إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إن فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا... أي إنه فرد مجهول تماما، ولا شخصية له في نظرهم.

 

إن المألوف – عادة – عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجهت إليه أفكار الجميع، و ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾(28) عليه بالجريمة.

 

فنادى المنادون في نواحي المدينة: "ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام"، فإجتمع كل الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتهم؟

 

لقد حدثت ضجة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأن هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شاب مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزت البناء الديني للناس.

 

حجة إبراهيم الدامغة:

وأخيرا تشكلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، يقال: إن نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة، وأول سؤال وجهوه إلى إبراهيم (ع) هو أن: ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾؟

 

هؤلاء لم يكونوا مستعدين حتى للقول: أأنت حطمت آلهتنا وجعلتها قطعا متناشرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

 

فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾(29).

 

إن من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أن آثار الجريمة كانت بادية على يد الصم الكبير، وفقا للرواية المعروفة: إن إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير!.

 

لماذا تأتون إلي؟ ولماذا لا تتهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنه إعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

 

إن إبراهيم (ع) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا، إلا أن كل القرائن تشهد أنه لم يكن جادا في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفندها أمامهم، ويفهم هؤلاء أن هذه الأحجار والأخشاب التي لاحياة فيها ذليلة وعاجزة إلى حد الذي لا تستطيع أن تتكلم بجملة واحدة تستنجد بعبادها، فكيف يريدون منها أن تحل معضلاتهم؟! ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليومية، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضع أمامه مسلماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الإستفهام، وهذا ليس كذبا أبدا، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) في كتاب الكافي: "إنما قال: بل فعلع كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنهم لا يفعلون" ثم قال: "والله ما فعلوه وما كذب".

 

يقضة سرعان ما تزول:

لقد هزت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقضت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.

 

في لحظة سريعة إستيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾(30) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدسة.

 

والطريف في الأمر أننا قرأنا سابقا أنهم غتهموا إبراهيم بكونه ظالما، وهنا قبلوا وإعترفوا في أنفسهم بأن الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم. وفي الواقع فإن كل مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيون العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثير لهذه المسالة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصبين.

 

إلى الآن إستطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حساسة جدا من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسية هائجة.

 

ما هؤلاء ينطقون؟

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، وثارت في ضمائرهم الملوثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضد نور التوحيد هذا، ورجع كل شيء إلى حالته الأولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ﴾ ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾ فإنهم دائما صامتون، ولايحطمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.

 

وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للإستدلال المنطقي ليوجه لهم أشد هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُم﴾؟

 

فماذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخيالية الي لا قدرة لها على الكلام، وليس لها شعور وإدراك، ولا تقدر أن تدافع غن نفسها، ولا تستطيع أن تحمي عبادها، ولا يصدر عنها أي عمل؟

 

إن عبادة معبود ما إنما يكون لأهليته للعبادة، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من خسارتهم، إلا أن إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح إنها لا تملك أدنى حركة، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا وجهالة؟!

 

ووسع معلم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(31)؟ إلا إنه لم يلح في توبيخهم وتقريعهم لئلا يلجوا في عنادهم.

 

في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطته بدقة متناهية، فأول شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي لا تحس ولا تتكلم وإذا كنتم تقولون: إنها سنة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين.

 

وفي المرحلة الثانية أقدم على خطة عملية ليبين أن هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كل من ينظر إليها نظرة إحتقار، خاصة وأنه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطمها تماما، وليوضح أن تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.

 

وفي المرحلة الثالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخية إلى طريق مسدود، فمرة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارة خاطب عقولهم، وأخرى وعظم، وأحيانا وبخهم ولامهم. والخلاصة، فإن هذا المعلم الكبير قد دخل من كل الأبواب، وإستخدم كل طاقته، إلا أن من المسلم أن القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين أولئك القوم للأسف.

 

ولكن لا شك أن كلمات إبراهيم (ع) وأفعاله بقيت كأرضية للتوحيد، أو على الأقل بقيت كعلامات إستفهام في أذهان أولئك، وأصبحت مقدمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أن جماعة آمنوا به، وهم وإن قلوا عددا، إلا أنهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيأوا الإستعداد النسبي لفئة أخرى.

 

حرقوه:

مع أن عبدة الأوثان اسقط مافي أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العملية والمنطقية، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلا أن عنادهم وتعصبهم الشديد منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قرارا صارما وخطيرا في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صوره، أي حرقه وجعله رمادا.

 

هناك علاقة عكسية بين القوة والمنطق عادة، فكل من إشتدت قوته ضعف منطقه، إلا رجال الحق فإنهم كلما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.

 

وعندما لا يحقق المتعصبون شيئا عن طريق المنطق، فسوف يتوسلون بالقوة فورا، وقد طبقت هذه الخطة في حق إبراهيم تماما يقول القرآن الكريم: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾(32).

 

إن المتسلطين المتعنتين يستغلون نقاط الضعف النفسية لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم – عادة – لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وألقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إن آلهتكم ومقدساتكم مههدة بالخطر، وقد سحقت سنة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم – إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل- ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوة وقدرة.

 

انظروا إلى كل الناس يدافعون عن مقدساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكل مقدساتكم؟!

 

والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضد إبراهيم بحيث أنهم لم يكتفوا بعدة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلا من الحطب ثم أشعلوه فاتقدت منه نار مهولة كأنها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السماء لينتقموا من إبراهيم أولا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطمتها خطته وأسقطت أبهتها!!

 

لقد كتب المؤرخون هنا مطالب كثيرة، لا يبدوا أي منها بعيدا...

 

ضجيج الملائكة:

إن الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كل مكان، وقد وصل الأمر إلى أن النساء اللاتي كان عملهن الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلا من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنهم يضيفون مقدارا من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النار في الحطب من كل جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تسطيع الطيور أن تمر فوقها.

 

من البديهي أن نارا بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النار المترامية الأطراف بحركة سريعة.

 

عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النار، ضجت السماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحد البطل وزعيم الرجال الأحرار.

 

إن جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: "أما إليك فلا" إني أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع.

 

وهنا إقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربك، فأجابه: "حسبي من سؤالي علمه بحالي". ناجى إبراهيم ربه في تلك الساعة:"يا أحد يا أحد، يا صمد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، توكلت على الله".

 

النار حديقة غناء:

وعلى كل حال، فقد ألقي إبراهيم في النار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانين أن محطم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح ترابا ورمادا.

 

لكن الله الذي بيده كل شيء حتى النار لا تحرق إلا بإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالما من لهب تلك النار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾(33).

 

والمعروف أن النار قد بردت برجا شديدا إصطكت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض: إن الله سبحانه لو لم يقل: سلاما، لمات إبراهيم من شدة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أن نار النمرود قد تحولت إلى حديقة غناء. حتى قال بعض إن تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيام عمره.(34)

 

لا يخفى أن الوضع قد إختلف تماما ببقاء إبراهيم سالما، وخمدت أصوات الفرح، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب، وكان جماعة يتهامسون علنا فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربه، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته، غير أن العناد ظل مانعا من قبول الحق، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد إستفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلتهم.

 

الفتى الشجاع:

إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن عمره يتجاوز ست عشرة سنة وذكر البعض أن عمره عند ذاك كان (26) سنة.

 

وعلى كل حال فإنه كان في عمر الشباب، ومع إنه لم يكن معه أحد يعينه، فإنه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت الآخرين، وهب بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك، واستهزأ بكل مقدسات المجتمع الخيالية الواهية، ولم يدع للخوف من غضب وإنتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه، لأن قلبه كان مغمورا بعشق الله، وكان إعتماده وتوكله على الذات المقدسة فحسب.

 

أجل.. هكذا هو الإيمان، أينما وجد وجدت الشهامة، وكل من حل فيه فلا يمكن أن يقهر!

 

إبراهيم ونمرود:

عندما ألقوا إبراهيم في النار، كان نمرود على يقين من أن إبراهيم قد أصبح رمادا، أما عندما دقق النظر ووجده حيا، قال لمن حوله: إني أرى إبراهيم حيا، لعلي يخيل إلي! فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح نمرود: يا إبراهيم إن ربك عظيم، وقد أوجد بقدرته حائلا بنك وبين النار! ولذلك فإني أريد أن أقدم قربانا له، وأحضر أربعة آلاف قربان لذلك، فأعاد إبراهيم القول بأن أي قربان – وأي عمل – لا يتقبل منك إلا أن تؤمن أولا. غير إن نمرود قال في الجواب: فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن، وليس بإمكاني أن أتحمل ذلك!

 

على كل حال، فإن هذه الحوادث صارت سببا لإيمان جماعة من ذوي القلوب الواعية برب إبراهيم (ع)، أو يزدادوا إيمانا، وربما كان هذا هو السبب في عدم إظهار نمرود رد فعل قوي ضد إبراهيم، بل إكتفى بإبعاده عن أرض بابل.

 

محاجة إبراهيم مع طاغوت زمانه:

القرآن لا يذكر اسم هذا الشخص الذي حاج إبراهيم، ويشير إليه بقوله: ﴿أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾ أي أنه لغروره بحكمه قام بمحاججة إبراهيم.

 

نقل عن أمير المؤمنين علي (ع) رواية تذكر إنه "النمرود بن كنعان" وكتب التاريخ تذكر هذا الاسم أيضا.

 

على الرغم من عدم تعرض القرآن لذكر وقت هذا الحوار، فالقرائن تدل على إنه وقع بعد قيام إبراهيم بتحطيم الأصنام ونجاته من النار، إذ من الواضح أنه قبل إلقائه في النار لم تكن لتجري أمثال هذه المجادلات، لأن عبدة الأصنام ما كانوا يسمحون له بالكلام وهم يعتبرونه مجرما ينبغي أن ينال بأسرع وقت جزاءه على فعلته الشنيعة بتحطيم آلهتهم المقدسة!

 

على كل حال، إن ذلك الجبار تملكه الغرور والكبر وأسكره الملك، سأل إبراهيم عن ربه: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟ ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.

 

الواقع إن أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم الله وقدرته.

 

ولكن نمرود الجبار إتخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إن قانون الحياة والموت بيدي ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾.

 

ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم والحضار: أرأيتم كيف أحيي وأميت.

 

ولكن إبراهيم قدم دليلا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد لك من إغفال الناس فقال: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ وهنا ألقم هذا المعاند حجرا ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(35).

 

وبهذا اسقط في يدي العدو المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم الحي، وهذا أفضل طريق لإسكات كل عدو عنيد.

 

يستدل من القرآن بصورة واضحة أن جبار ذلك الزمان كان يدعي الأولهية، لا ليعبدوه فحسب، بل ليؤمنوا به خالقا لهذا العالم أيضا، أي إنه كان يرى نفسه معبودا وخالقا.

 

هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين:

لقد هزت قصة حريق إبراهيم (ع) ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، بحيث فقد نمرود معنوياته تماما، لأنه لم يعد قادرا على أن يظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عرف بين الناس بأنه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبار ظالم – بكل إمكانياته وقدرته – بمفرده، وأنه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتم أنه سيكون خطرا على تلك الحكومة الجبارة الغاشمة، فلابد أن يخرج من تلك الأرض على أي حال.

ومن جهة أخرى، فإن إبراهيم كان قد أدى رسالته في الواقع – في تلك البلاد، ووجه ضربات ماحقة إلى هيكل وبنيان الشرك، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه البذور وتبدي ثمارها، وتقلع جذور الأصنام وعبادتها، وتسحب البساط من تحتها.

 

فلا بد من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط – وكان ابن أخ إبراهيم – وزوجته سارة، وربما كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾(36).

 

وبالرغم من أن اسم هذه الأرض لم يرد صريحا في القرآن، إلا أنه بملاحظة الآية الأولى من سورة الاسراء، يتضح أن هذه الأرض هي أرض الشام ذاتها، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضا غنية مباركة خضراء، ومن الجهة المعنوية كانت معهدا لرعاية الأنبياء.

 

وقد وردت بحوث مختلفة في الروايات في أن إبراهيم (ع) هاجر تلقائيا، أم أبعدته سلطات نمرود، أم أن الإثتيت إشتركا، والجمع بينهما جميعا هو أن نمرود ومن حوله كانوا يرون في إبراهيم خطرا كبيرا عليهم، فأجبروه على الخروج نت تلك البلاد، هذا من جهه، ومن جهه آخرى، فإن إبراهيم كان يرى رسالته ومهمته في تلك الأرض قد إنتهت، وكان يبحث عن منطقة آخرى للعمل على توسيع دعوة التوحيد فيها، خاصة وأن البقاء في بابل يشكل خطرا على حياتة فتبقى دعوته العالمية ناقصة.

 

إن نمرود أمر أن ينفوا إبراهيم من بلادة، وأن يمنعوة من الخروج بماشيته وماله، فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، فاختصموا إلى قاضي نمرود، وقضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب بلادهم، وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود، فأمرهم أن يخلوا سبيلة وسبيل ماشيته وماله، وأن يخرجوه، وقال: (إنه إن بقى في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم).

 

كيف تحيي الموتى؟

مر إبراهيم (ع) يوما على ساحل البحر فرأى جيفة مرمية على الساحل نصفها في الماء ونصفها على الأرض تأكل منها الطيور والحيوانات البر والبحر من الجانبين وتتنازع أحيانا فيما بينها على الجيفة، عند رؤية إبراهيم (ع) هذا المشهد خطرت في ذهته مسألة يود الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفية عودة الأموات إلى الحياة مرة أخرى، ففكر وتأمل في نفسه أنه لو حصل مثل هذا الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاما لحيوانات كثيرة، وكان بالتالي جزء من بدن تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى الحياة؟ فخاطب إبراهيم (ع) ربه وقال: رب أرني كيف تحيي الموتى.

 

فأجابه الله تعالى: أولم تؤمن بالمعاد؟ فقال (ع): بلى ولكن ليطمئن قلبي.

 

فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها، ثم يقسمها عدة أقسام ويضع على كل جبل قسما منها، ثم يدعو الطيور إليه، وعندئذ سوف يرى مشهد يوم البعث، فامتثل إبراهيم للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور تتجمع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.

 

يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.(37)

 

نكات:

1- لا شك أن الطيور الأربعة كانت من أربعة أنواع مختلفة، وإلا فإن هدف إبراهيم (ع) من عودة كل جزء إلى أصله لا يتحقق. وفي بعض الروايات أن هذه الطيور كانت طاووسا وديكا وحمامة وغرابا، فكان الاختلاف بيتها كبيرا، ويرى بعض أنها مظهر للصفات والخصال المختلفة في البشر. فالطاووس يمثل العجب والخيلاء والتكبر، والديك يمثل الرغبات الجنسية الجديدة، والحمامة تمثل اللهو واللعب، والغراب يمثل الآمال والمطامح البعيدة.

 

2- لم يرد في القرآن ذكر عدد الجبال التي وضع عليها إبراهيم أجزاء الطيور، ولكن الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت (ع) تقول أنها عشرة.

 

3- هل وقعت عندما كان إبراهيم في بابل، أم بعد نزوله بالشام؟ يظهر أن ذلك قد حدث في الشام، لأن منطقة بابل خالية من الجبال.

 

الأمر بانتقال اسماعيل وهاجر:

قد مرت أعوام طوال في لهفة وإنتظار للولد الصالح، وكان يقول: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وأخيرا استجاب له ربه، فوهبه إسماعيل أولا، ومن بعد إسحاق، وكان كل منهما نبيا عظيم الشخصية.

 

وقد أدى حسد سارة زوجته الأولى لهاجر التي كانت جارية وإختارها زوجة له وولدت له إسماعيل.. أدى إلى أن يأتي بها من فلسطين بأمر الله إلى مكة ويتركها وإبنها بين الصحاري والجبال واليابسة، بدون مأوى ولا قطرة ماء، ويعود ثانية إلى فلسطين.

 

إن ظهور عين زمزم ومجيء قبيلة جرهم والسماح لها بالسكن كل ذلك أدى لأن تعمر هذه الأرض.

 

ومن الطريف أن يقول بعض المؤرخين: حينما وضع إبراهيم زوجته هاجر وإبنه الرضيع إسماعيل في مكة وأراد الرجوع، نادته: يا إبراهيم، من أمرك أن تضعنا في أرض قاحلة لا نبات فيها ولا ماء ولا إنسان؟ فأجابها بجملة قصيرة: ربي أمرني بذلك، قالت: ما دام كذلك فإن الله لا يتركنا.

 

على اي حال، امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهم بالرجوع، فضجت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!

 

بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هز إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يود على أن ناجى ربه قائلا: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾(38)، ثم ودع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.

 

لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأم وماؤها، وجف لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم نارا، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت أولا إلى جبل "الصفاء" فلم تجد للماء أثرا، لفت نظرها بريق ماء عند جبل "المروة" فأسرعت إليه فوجدته سرابا، ثم رأت عند المروة بريقا لدى الصفاء أسرعت إليه فما وجدت شيئا، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفاء و المروة بحثا عن الماء. وفي النهاية وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.

 

الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جر الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضا نحو الماء وببركة هذه العائلة تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم.

 

ويع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها، وعلى الحاج أن يضمه إلى البيت في الطواف، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج هذا الحجر وكأنه جزء من الكعبة.

 

إسماعيل في المذبح:

إن عمر إسماعيل كان"13" عاما حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير، والذي يدل على بدء امتحان عسير آخر لهذا النبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أن الله يأمره بذبح أبنه الوحيد وقطع رأسة. فنهض من نومه مرعوبا، لأنه يعلم أن ما يراه الأنبياء في نومهم حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكررت رؤيته ليلتين اخريين، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.

 

وقيل: أن أول رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجة، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبق عنده أدنى شك في أن هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.

 

امتحان شاق آخر يمر على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الأبوة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي.

 

ولكن قبل كل شيء، فكر إبراهيم (ع) في إعداد إبنه لهذا الأمر، حيث قال ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾.

 

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: ﴿تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾.

 

ولا تفكر في أمري فإنك ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾(39).

 

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفف في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!

 

فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر "13" عاما بقضية الذبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعل هنا شخصية مستقلة حرة الإرادة.

 

فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضد النفس، وجعله يستشعر حلاوة لذة التسليم لأمر الله والرضا به، كما استشعر حلاوتها هو.

 

ومن جهة أخرى، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له:إذبحني، وإنما قال له: إفعل ما أنت مأمور به، فإنني مستسلم لهذا الأمر، وخاصة إنه خاطب أباه بكلمة ﴿يَا أَبَتِ﴾ كي يوضح إن هذه القضية لا تقلل من عاطفة الإبن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرة، وإن أمر الله هو فوق كل شيء.

 

ومن جهة ثالثة أظهر أدبا رفيعا تجاه الله سبحانه وتعالى، وإن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، ونما يعتمد على إرادة ومشيئة الله، وبعبارة أخرى: أن يطلب توفيق الإستعانة والإستقامة من الله.

 

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الأولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل.

 

وسوسة الشيطان:

فقد عمد الشيطان إلى تكريس كل طاقته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الإمتحان.

 

فأحيانا كان يذهب إلى زوجته "هاجر" ويقول لها: أتعلمين بماذا يفكر إبراهيم؟ إنه يفكر بذبح ولد إسماعيل اليوم!

 

فكانت تجيبه هاجر: إذهب ولا تتحدث بأمر محال، فإنه أرحم من أن يقتل ولده فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

 

الشيطان هنا يواصل وساوسه، ويقول: إنه يزعم بأن الله أمره بذلك.

 

فتجيبه هاجر: إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله، وليس هناك طريق آخر سوى الرضا والتسليم لأمر الله.

 

وأحيانا كان يذهب صوب "الولد" ليوسوس في قلبه لكنه فشل أيضا إذ لم يحصل على أي نتيجة لأن إسماعيل كان كله قطعة من الرضا والتسليم لذلك الأمر.

 

وأخيرا إتجه نحو الأب، وقال له: يا إبراهيم إن المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

 

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوة، وصاح به: إبتعد من هنا يا عدو الله.

 

فورد في حديث آخر إن إبراهيم جاء في البداية إلى "المشعر الحرام" ليذبح إبنه هناك، ولكن الشيطان تبعه، فترك المحل وذهب إلى مكان آخر "الجمرة الأولى" فتبعه الشيطان أيضا، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة، وعند وصوله إلى "الجمرة الثانية" شاهد الشيطان أمامه أيضا فرماه بسبع قطع أخرى من الحجارة، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع أخرى، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد.

 

أبلغ سلامي إلى أمي:

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث، وركز فقط على النقاط الأساسية في هذه القصة العجيبة، كتب البعض: إن إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته، فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض "منى" قال إسماعيل لوالده:

 

يا أبت، أحكم من شد الحبل كي لا تتحرك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، أخاف أن يقلل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

 

والدي العزيز اشحذ السكين جيدا، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوث بالدم، لأني أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

 

ثم أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوني إليها كي يسلي خواطرها ويهدىء من آلامها، لأنها ستشم رائحة إبنها منه، وكلما أحست بضيق القلب، تضعة على صدرها ليخفف الحرق الموجود في أعماقها.

 

دموع الوداع:

قربت اللحظات الحساسة، فلأمر الإلهي يجب أن ينفذ، فعندما رأى إبراهيم (ع) درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضتة وقبل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدمة الشوق للقاء الله.

 

القرآن الكريم يوضح هذا الأمرفي جملة قصيرة ولكنها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾.

 

مرة آخرى تطرق القرآن هنا بإختصار، كي يسمح للقاريء متابعة هذه القصة بإنشداد كبير.

 

قال البعض: إن المراد من عبارة ﴿تَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ هو أنه وضع جبيت ولده – طبقا لإقتراح – على الأرض، حتى لا تقع عيناه على وجه أبنه فتهيج عنده عاطفة الابوة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

 

على أية حال كب إبراهيم (ع) إبنه على جبينه، ومرر السكين بسرعة وقوة على رقبة إبنه، وروحه تعيش حال الهيجان، وحب الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردد.

 

إلا أن السكين الحادة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة. وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرر السكين مرة آخرى على رقبة ولده، ولكنها لم تؤثر بشيء كالمرة السابقة.

 

نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكين: إذبحي، ولكن الله الجليل يعطي أوامره للسكين أن لا تذبحي، والسكين لاتستجيب سوى لأوامر الباري عز وجل.

 

وهنا ينهي القرآن كل حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليءة بالمعاني العميقة ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ / قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الإمتحان، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماما وبكل وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لايمكن مكافأته بأقل من هذا. ثم يضيف القرآن الكريم ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ﴾(40).

 

عملية ذبح الإبن البار المطيع على يد أبيه، لا تعد عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الإبن، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك إستسلامه ورضاه المطلق – من دون أي إزعاج – لتنفيذ هذا الأمر، وتنفيذ كافة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الإستعداد لعملية الذبح نفسيا وعمليا.

 

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله، إذ أستقبل الذبح بصدر مفتوح زإطمئنان يحفه اللطف الإلهي، واستسلام في مقابل هذا الأمر.

 

تكبير جبرئيل:

إن جبرئيل هتف "الله أكبر" " الله أكبر" أثناء عملية الذبح لتعجبه.

فيما هتف إسماعيل "لا إله إلا الله، والله أكبر".

ثم قال إبراهيم " الله أكبر ولله الحمد".

 

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نرددها في يوم عيد الأضحى.

 

وكما هو معروف فإن من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى، هي التكبيرات الخاصة التي يرددها المسلمون بعد الصلاة، سواء كانوا من المشاركين في مراسيم الحج بمنى، أو ممن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض.

 

وكيفية هذه التكبيرات هي: "الله أكبر،الله أكبر، لاإله إلاالله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا". فعندما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقا، تتضح حقيقة هذه التكبيرات، وهي أنها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم، وشيء أضيف إليه.

 

وبعبارة أخرى فإن هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة إنتصار إبراهيم وإبنه إسماعيل في الإمتحان الكبير، وتعطي العبر لكل المسلمين، سواء كانوا في منى أوفي غيرها.

 

ذبح عظيم:

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا، وتتحقق أمنية إبراهيم في تقديم القربان لله، بعث الله كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن إبنه إسماعيل، ولتصير سنة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحج وتأتي إلى أرض "منى" ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾(41).

 

وإحدى دلائل عظمة الذبح، هو إتساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحاليا يذبح كل عام أكثر من مليون اضحية تيمنا بذلك الذبح العظيم وإحياء لذلك العمل العظيم.

 

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم (ع)، أعرب الكثير عن اعتقادهم في أن جبرئيل أنزله، فيما قال البعض الآخر: إنه هبط عليه من أطراف جبال "منى"، ومهما كان فإن وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.

 

النجاح الذي حققه إبراهيم (ع) في الإمتحان الصعب، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم، وإنما جعله خالدا على مدى الأجيال ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾.

 

إذ غدا إبراهيم (ع) "أسوة حسنة" لكل الأجيال، و"قدوة" لكل الطاهرين، وأضحت أعماله سنة في الحج،وستبقى خالدة حتى تقوم القيامة، إنه أبو الأنبياء الكبار، وإنه أبو هذه الأمة الإسلامية ورسولها الأكرم محمد بن عبد الله (ص).

 

ولما إمتاز به إبراهيم (ع) من صفات حميدة، خصه الباري عز وجل بالسلام ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.

 

نعم، إنا كذلك نجزي ونثيب المحسنين ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(42) جزاء يعادل عظمة الدنيا، جزاء خالد على مدى الزمان، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام الله عزوجل عليه.

 

من هو ذبيح الله؟

اختلف بشأن الولد الذي أمر إبراهيم بذبحه، هل كان "إسماعيل أم إسحاق" الذي لقب بذبيح الله؟ فمجموعة تقول: إن "إسحاق" هو "ذبيح الله" فيما تعتبر مجموعة أخرى "إسماعيل" هو الذبيح، التفسير الأول أكد عليه الكثير من مفسري أهل السنة، فيما أكدوا أهل الشيعة على أن إسماعيل هو الذبيح.

وظاهر القرآن الكريم تؤكد على أن إسماعيل هو ذبيح الله.

 

البشارة بإسحاق:

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم "وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن، ومن ثم أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط" فتقول أولا: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ﴾.

 

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذي دخلوا على إبراهيم (ع) بوجوه خالية من الإبتسامة، فابتدأوه بالسلام ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا﴾.

 

فقام إبراهيم (ع) بوظيفته "إكرام الضيف"، فهيأ لهم طعاما ووضعه أمامهم، إلا أنهم لم يدنوا إليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبر عما جال في خاطره ﴿إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ﴾(43).

 

وكان مصدر خوف إبراهيم (ع) مما كان عليه متعارفا في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه، فهو عندهم إشارة إلى وجود نية سوء أو علامة عداء.

 

ولكن الملائكة لم يتركوا إبراهيم في هذا الحال حتى: ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾.

 

من هو المقصود الغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أن المقصود هو "إسحاق"، حيث نقرأ أن إمرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشرته الملائكة، ويظهر كذلك إنها كانت إمرأة عاقرا فبشروها أيضا(44).

 

وكما هو معروف فإن سارة، هي أم إسحاق، ولإبراهيم (ع) ولد آخر أكبر من إسحاق واسمه (إسماعيل) من "هاجر" – الأمة التي تزوجها إبراهيم.

 

كان إبراهيم يعلم جيدا إنه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية، "ومع أن كل شيء مقدورا لله عزوجل"، ولها أجابهم بصيغة التعجب: ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾.. هل البشارة منكم أم من الله عزوجل وبأمره، أجيبوني كي أزداد إطمئنانا؟

 

إن تعبير "مسني الكبر" إشارة إلى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

 

ويمكن لأحد أن يشكل: بأن إبراهيم (ع) قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إسماعيل (ع) وهو في الكبر.. فلم التعجب من تكرار ذلك؟

 

والجواب:

أولا: كان بين ولادة إسماعيل وإسحاق أكثر من عشر سنوات، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدة ضعيف الاحتمال.

 

وثانيا: إن حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب، وإذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرة أخرى.

 

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع، وإذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال.

 

يذكر البعض أن عمر إبراهيم (ع) عند ولادة إبنه إسماعيل كان (99) عاما، وعند ولادة إسحاق كان عمره (112) عاما.

 

وعلى أية حال.. لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إبراهيم حيث ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ فهي بشارة من الله وبأمره، فهي حق مسلم به.

 

وتأكيدا للأمر ودفعا لأي إحتمال في غلبة اليأس على إبراهيم، قالت الملائكة: ﴿فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾.

 

لكن إبراهيم (ع) طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه، وإنما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من إختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة، ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾(45).

 

إن الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة، الله الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن تطفة حقيرة ليخرجه ولدا سويا، الله الذي حول نخلة يابسة إلى حاملة للثمر بإذنه، الله الذي جعل النار بردا وسلاما.. هل من شك بأنه سبحانه قادر على كل شيء، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!

 

إبراهيم يبني الكعبة:

نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أن بيت الكعبة كان موجودا قبل إبراهيم، وكان قائما منذ زمن آدم. تتحدث سورة إبراهيم تقول: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾(46).

 

وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.

 

وفي سورة آل عمران: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾(47). ومن المؤكد أن عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

 

هكذا يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(48).

 

فابراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة. وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة، وهي المسماة بالقاصعة، يقول: "ألا ترون أن الله سبحانه إختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار.. فجعلها بيته الحرام.. ثم أمر آدم (ع) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه..."(49).(50)

 

القرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أولا بيد آدم، ثم انهدمت في طوفان نوح، ثم أعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل.

 

الإمامة جزاء إبراهيم:

القرآن الكريم يشير إلى الإختبارات المتتالية التي إجتازها إبراهيم (ع) بنجاح، وتبين من خلالها مكانة إبراهيم وعظمته وشخصيته. ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾.

 

وبعد أن إجتاز هذه الإختبارات بنجاح استحق أن يمنحه الله الوسام الكبير ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾.

 

وهنا تمنى إبراهيم (ع) أن يستمر خط الإمامة من بعده، وأن لا يبقى محصورا بشخصه ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾.

 

لكن الله أجابه: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(51).

 

وقد استجيب طلب إبراهيم (ع) في استمرار خط الإمامة في ذريته، لكن هذا المقام لا يناله إلا الطاهرون المعصومون من ذريته لا غيرهم.

 

وسائل اختبار إبراهيم:

من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم (ع)، وما أداه هذا النبي العظيم من أعمال جسيمة استحق ثناء الله، نفهم أن المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم (ع)، فحملها وأحسن حملها، وأدى ما عليه خير أداء، وهي عبارة عن:

أخذ ولده إلى المذبح والإستعداد التام لذبحه، وإطاعة لأمر الله سبحانه.

 

إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكت فيه إنسان.

 

النهوض بوجه عبدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران. وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.

 

الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن، والإتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته... وأمثالها.

 

كان كل واحد من هذه الإختبارات ثقيلا وصعبا حقا، لكنه بقوة إيمانه نجح فيها جميعا، وأثبت لياقته لمقام "الإمامة".

 

من هو الإمام؟

القرائن الواضحة تشير إلى أن منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم (ع) بعد الإمتحانات العسيرة، واجتياز مراحل اليقين والشجاعة والإستقامة، هي غير منزلة البشارة والإبلاغ والإنذار.

 

هذه الحقيقة يوضحها بإجمال حديث عميق المعنى روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول: "إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء، قال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ قال: لا يكون السفيه إمام التقي".

 

 

 

1-الصافات/105.

2-النحل/122.

3-النحل/120.

4-مريم/41.

5-التوبة/114.

6-النجم/37.

7-ذكر بعض المؤرخين إن ولادته (ع) – في مدينة "أور" التابعة لدولة بابل.

8-مريم/41-42.

9-النحل/120-123.

10-الممتحنة/4.

11-الأنعام/84-85.

12-مريم/43.

13-مريم/45.

14-مريم/46.

15-مريم/47.

16-القصص/55.

17- مريم/48.

18- هل كان آزر أبا إبراهيم؟

تطلق كلمة "الأب" في العربية على الوالد غالبا، ولكنها قد تطلق أيضا على الجد من جهة الأم وعلى العم، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإنسان، ولكنها إذا جاءت مطلقة فإنها تعني الوالد ما لم تكن هناك قرينة تدل على غير ذلك.

فهل الرجل الذي تشير إليه الآية (آزر) هو والد إبراهيم؟  أيجوز أن يكون عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أولي العزم؟  ألا يكون للوراثة من هذا الوالد تأثير سيء في أبنائه؟  بعض مفسري أهل السنة يجيب بالإيجاب على السؤال الأول، ويعتبر آزر والد إبراهيم الحقيقي، أما المفسرون الشيعة فيجمعون على أن آزر ليس والد إبراهيم، بل قال بعضهم: إنه كان جده لأمه، وقال أكثرهم: إنه كان عمه، وهم في ذلك يستندون إلى القرائن التالية:

1- لم يرد في كتب التاريخ أن أبا إبراهيم هو آزر، بل يقول التأريخ إن اسم أبيه هو "تارخ"

وهذا ما ورد أيضا في العهدين القديم والجديد، والذين يعتبرون آزر والد إبراهيم يستندون إلى تعليلات لا يمكن قبولها من ذلك أنهم يقولون: إن اسم والد إبراهيم هو تاريخ ولقبة آزر، وهذا القول لا تسنده الوثائق التاريخية.

أو يقولون: إن "آزر" اسم صنم كان أبو إبراهيم يعبده، وهذا القول لا يأتلف مع هذه الآية التي تقول أن أباه كان آزر، إلا إذا قدرنا جملة أو كلمة، وهذا أيضا خلاف الظاهر.

2- يقول القرآن: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى...﴾(التوبة/113) ثم لكيلا يتخذ أحد من استغفار إبراهيم لآزر حجة يقول: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾(التوبة/114) وذلك لأن إبراهيم كان قد وعد آزر أن يستغفر له: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ (مريم/47). بأمل رجوعه عن عبادة الأصنام، ولكنه عدما رآه مصمما على عبادة الأصنام ومعاندا، ترك الاستغفار له.

يتضح من هذه الآية بجلاء أن إبراهيم بعد أن يئس من آزر، لم يعد يطلب له المغفرة ولم يكن يليق به أن يفعل.

كل القرائن تدل على أن هذه الحوادث وقعت عندما كان إبراهيم شابا، يعيش في بابل ويحارب عبده الأصنام.

ولكن آيات أخرى في القرآن تشير إلى أن إبراهيم في أواخر عمره، وبعد الانتهاء من بناء الكعبة، طلب المغفرة لأبيه "في هذه الآيات – كما سيأتي – لم تستعمل كلمة "أب" بل استعملت كلمة "والد" الصريحة في المعنى" حيث يقول ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء / رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء / رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (إبراهيم39-41).

إذا جمعنا هذه الآية مع آية سورة التوبة التي تنهي المسلمين عن الاستغفار للمشركين وتنفي ذلك عن إبراهيم، إلا لفترة محدودة ولهدف مقدس، تبين لنا بجلاء أن المقصود من "أب" في الآية المذكورة ليس "والد"، بل هو العم أو الجد من جانب الأم أو ما إلى ذلك، وبعبارة أخرى:أن "والد" تعطي معنى الأبوة المباشرة، بينما "أب" لا تفيد ذلك.

وقد وردت في القرآن كلمة "أب" بمعنى العم، كما في الآية (113) من سورة البقرة: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ والضمير في "قالوا" يعود على أبنا يعقوب، وكان إسماعيل عم يعقوب، لاأباه.

وهناك روايات إسلامية مختلفة تؤكد هذا الأمر، فقد جاء في حديث معروف عن رسول الله (ص) أنه قال: "لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني الجاهلية".

ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان، أما القائلون أن أقبحها هو الزنا فلا يقوم على قولهم دليل. خاصة وأن القرآن يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾.(التوبة/28)

الطبري، وهو من علماء أهل السنة، ينقل في تفسيره "جامع البيان" عن المفسر المعروف "مجاهد" أنه قال: لم يكن آزر والد إبراهيم.

الآلوسي في "روح المعاني" يؤكد عند تفسير هذه الآية أن الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كثيرا من هلماء المذاهب الأخرى يرون إن آزر اسم عم إبراهيم.

والسيطوي العالم السني المعروف، نقل في كتابه "مسالك الحنفاء" عن أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول الله (ص) وأجداده لم يكونوا مشركين أبدا.  مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفا، ثم يستند السيوطي نفسه إلى مجموعتين من الروايات.

الأولى: تقول إن آباء رسول الله وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الروايات عن "صحيح البخاري" و "دلائل النبوة" للبيهقي وغيرهما من المصادر).

والثانية: هي التي تقول: إنه في كل عصر وزمان كان هناك أنس من الموحدين الذين يعبدون الله، ثم يجمع بين هاتين المجموعتين من الروايات ويستنتج أن أجداد رسول الله (ص)، بما فيهم والد إبراهيم، كانوا حتما من الموحدين

19-الأنعام/75-79.

20-للمفسرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التالية بشأن ما دفع بإبراهيم الموحد العابد لله الواحد، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول: هذا ربي؟  ومن بين آراء المفسرين الكثيرة نقف عند تفسير واحد من هذه التفاسير وهو:

أن إبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته عبدة النجوم والشمس، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل مع عبدة الأوثان وخروجه منها إلى الشام، حيث التقى بهؤلاء الأقوام، وإبراهيم الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم، أراد أن يجلب إليه إنتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر، فأظهر في البداية أنه معهم وقال لهم: إنكم تقولون: إن كوكب الزهرة هذا هو ربي، حسنا، فلنر ما يحصل لهذا الإعتقاد في النهاية، ولم يمض وقت طويل حتى إختفى وجه الكوكب النير خلف ستار الأفق المظلم، عندئذ إتخذ إبراهيم من هذا الأفول سلاحا يواجههم به فقال: أنا لا يمكنني أن أتقبل معبودا كهذا.

وعليه، فإن عبادة (هذا ربي) تعني: هذا ما تعتقدون أنه ربي، أو أنه قالها بلهجة الإستفهام: "هذا ربي؟"..

21-العنكبوت16-18.

22-الشعراء/71-74.

23-القرآن الكريم ربط بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾(الصافات/83). أي إن إبراهيم كان سائرا على خطى نوح (ع) في التوحيد والدل والتقوى والإخلاص، حيث أن الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها. كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أن الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض: إن الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ 2600 سنة)، إذ أن العلاقات الإيمانية – كما هو معروف – لا يؤثر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير.

24-الأنبياء/57.

25-الصافات/88-90.

26-وهنا يطرخ سؤالان:

الأول: لماذا نظر إبراهيم (ع) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني: هل إنه كان مريضا حقا حينما قال: إنني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأول، مع أخذ إعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار، يتضح أنهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتى أنهم كانوا يقولون بأن أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنهم يكنون لها الإحترام

لكونها تمثل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب إستقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم (ع) بأنه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إني سقيم، فتركوه ظنا منهم أن نجمه يدل على سقمه.

أما بعض كبار المفسرين، فقد احتملوا أنه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه، لأنه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معينة، ولكن الإحتمال الأول يعد مناسبا أكثر، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أن نظره إلى السماء هو التفكر في أسرار الخلق، رغم أنهم كانوا يتصورون أن نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة النجوم توقع الحوادث القادمة.

أما بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعددة:

منها: أنه كان مريضا حقا، وحتى إن لم يكن مريضا فإنه لن يشارك في مراسم عيدهم، فمرضه كان عذرا جيدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنه استخدم التورية، كما أن استخدام التورية من قبل الأنبياء يعتبر عملا غير مناسب.

27-الصافات/91-93.

28-الأنبياء/62-63.

29-الأنبياء/62-63.

30-الأنبياء/64

31-الأنبياء/65-67.

32-الأنبياء/68.

33-الأنبياء/69.

34-فهناك إختلاف في كيفية عدم إحراق النار لإبراهيم، إلا أن مجمل الكلام أنه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبب عن أي سبب إلا بأمر الله، فيقول يوما للسكين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوما آخر للنار: لا تحرقي، ويوما آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!

35-البقرة/258.

36-الأنبياء/71.

37-البقرة/260.

38-إبراهيم/37.

39-الصافات/102.

40-الصافات/103-106.

41-ما المراد بالذبح العظيم؟ هل إنه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟  أو لأنه كان فداء عن إسماعيل؟ أو لأنه كان لله وفي سبيل الله؟ أو لأن هذه الأضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟ المفسرون قالوا الكثير بشأنها، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كل ما هو مقصود أعلاه.

42-الصافات/107-110.

43-إن الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إليه، إلا أن ذلك ورد في الآية (69) و (70) من سورة هود فليراجع.

44-﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ﴾(هود/71).

45-الحجر/51-56.

46-إبراهيم/37.

47-آل عمران/96

48-البقرة/127.

49-أي أن يطوفوا حوله.

50-نهج البلاغة، صبحي صالح، ص 292 – (الخطبة القاصعة).

51- البقرة/126.