انحرافات بني إسرائيل

انحرافات بني إسرائيل 

﴿وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم﴾

سورة البقرة، الآية: 88

 

 الحمار يحمل أسفارا

الطريق إلى المسيح الدجال

 

مقدمة:

أثناء حكم يوسف عليه السلام لمصر. جاء بنو إسرائيل وأقاموا فيها، وسار فيهم يوسف بشريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وأرسى قواعد التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله وحده لا شريك له في نفوسهم، وبعد رحيل يوسف عليه السلام هبت عواصف الفراعنة تحمل الوثنية وتطرحها على أرض مصر من جديد. ويرى هذا لدى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ (1) وعلى امتداد الثقافة الفرعونية تأثرت الروح الإسرائيلية بالوثنية الفرعونية ومنها عبادة عجل أبيس الذي اعتقدوا أن روح الآلهة تسكنه! وتحت الراية الفرعونية شرب بنو إسرائيل من وعاء المادية حتى أصبحت المادية أصل أصيل داخل نفوسهم. وهذه المادية هي التي جعلتهم يحكمون في الله سبحانه بما يعقلون من أوصاف الماديات، ورغم أن شعب بني إسرائيل أجرى حياته في ظل الفرعونية وفيما بعد على المادة إلا أن عصبيتهم القومية كانت تحتفظ لهم بدين آبائهم بصورة من الصور. وعلى الرغم من أن الكثرة منهم كانوا يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعنون بما وراء الحس، إلا أن عصبيتهم القومية كانت تعتني بما وراء الحس اعتناء تشريفيا من غير أصالة.

 

وعندما بعث موسى عليه السلام لم يؤمن به إلا القلة إيمانا حقيقيا، أما الكثرة فكانوا يؤمنون به إيمانا قوميا عاموده الفقري إنجاز المصالح. وبعد خروج بني إسرائيل من مصر إلى سيناء، بوأهم الله المبوأ الطيب الذي يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من مسكن وهواء وماء. فسيناء صحراء جرداء لا شجر فيها ولا سكن والشمس فيها شديدة، ولكن يطيب لهم المكان، ساق الله إليهم الغمام ليظلهم ويقيهم وهج الشمس، وأرسل لهم سبحانه الرياح تحمل لهم المن والسلوى، وأمر سبحانه موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فلما ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وبالجملة أصبحوا وهم مع رسول الله موسى عليه السلام أحرارا يملكون أنفسهم ويعملون بكل حرية وكرامة ويعبدون إله الخلق.

 

ولكن شعب بني إسرائيل لم يشكر النعمة التي أنعمها الله عليه. فلقد كانت الكثرة إلى الكفر أسبق. والناقضون لعهد الله فيهم أكثر، فبعد أن ملوا من العيش في سيناء، طلب القوم من موسى عليه السلام سعة العيش، وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض. فقال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ند خلها حتى يخرجوا منها. فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.

 

قال المفسرون: توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار.

 

والحق أن المراد مصر من الأمصار (2) فموسى عليه السلام حينما أراد الإنتقال بهم إلى إحدى المدن وإلى مصر من الأمصار من بلاد الشام امتنعوا عليه (3)، وقالوا لا قدرة لنا على مقاومتهم وقتالهم فلما رغبهم بوعظه ونصائحه، وببيان آياته التي أجراها الله على يديه، وعلموا منه الجد في لزوم دخول تلك البلاد، وسكنى تلك الأرض المقدسة ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ*قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (4). لقد طالبهم رسولهم بالقتال، والإنسان ذو الفطرة النقية يحب الاستشهاد تحت قيادة نبي الله ورسوله. ولكن القوم لم يرتفعوا إلى هذا الفهم نظرا لأنهم لا يعنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة، ومن أجل هذا قاموا بأعمال تثبت أنهم أكثر أمم الأرض لجاجا وخصاما وأبعدهم عن الانقياد للحق، لأنهم يتمادون في الجهالة والضلالة ولا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، وعن نقض المواثيق وإن غلظت. والقرآن الكريم سجل لهم العديد من مواقف الكفر والجحود وبأنهم كفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل، وإنما اختلفوا عن علم. وشعب بني إسرائيل لم يعبد كله العجل. ولا كلهم عصوا الأنبياء ولا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم، وإنما نسبت المعاصي إلى الكل رغم أنها صادرة عن البعض، لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، وينسب فعل بعضهم إلى الآخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، وكما رأينا قبل ذلك أن الذي عقر ناقة صالح كان فردا واحدا ولكن الله تعالى نسب عملية العقر إلى ثمود كلها لأنهم قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض.

 

1 - بصمات الانحراف على وجه شعب إسرائيل:

لقد فضل الله تعالى بني إسرائيل على العالمين، لأن فيهم أنبياء بني إسرائيل، فوجود النبوة هو العمود الفقري للتفضيل وليس وجود الشعب، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ*وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (5) قال المفسرون: قوله: ﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فالعالم هو الجماعة من الناس. كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم. ومعنى تفضيلهم على العالمين، تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم. لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة. وأما غيرهم من الناس فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم. ويمكن أن يكون المراد. تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس. سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم. فإن الهداية الإلهية من غير واسطة. نعمة يتقدم بها. تلبس بها على من لم يتلبس.

 

وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.

 

فالمجتمع الحاصل من الأنبياء الملتف حولهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي (6).

 

فالذين حول دائرة النبوة، مهديون إلى صراط مستقيم وفي أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق. أما الذين يسيرون على طريق يفرقون فيه بين رسل الله، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو يفرقون فيه بين أحكام الله وشرائعه، فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، أو يركبون الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني، فهذه الطرق هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه، لأن أصحابها انحرفوا عن دائرة الأنبياء التي هي شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء. فبني إسرائيل فضلهم الله على العالمين لأنهم الأرضية لأنبياء بني إسرائيل. فبدون الأنبياء ما ذكر اسم بني إسرائيل. وبني إسرائيل بدون الدين الحق. لا قيمة لهم ولا وزن.

 

ولذا نرى أنهم عندما طالبوا موسى بأن يجعل لهم آلهة من دون الله، ردهم عليه السلام إلى دائرة التفضيل التي لا تستند إلا على الدين الحق. يقول تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ....﴾ (7) الآية قال المفسرون: كانت نفوسهم قد تأثرت بالعبادات المصرية. لذلك كانوا يتصورون أن الله سبحانه جسم من الأجسام! وكلما كان موسى عليه السلام يقرب لهم الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل.

 

لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم، فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها! فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة. فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه. ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده - كما يقول عبدة الأصنام - فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته. فإنه فضلكم جملي سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق. وإنجائكم من فرعون وعمله.

 

فكما ترى. دفعهم موسى عليه السلام بألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل (8) لقد ردهم عليه السلام إليه بصفته رسول الله الذي على يديه شاهدوا المعجزات وبصفته أعلم الناس بدين الله الحق لأن الله فضله على العالمين، وبردهم إليه أد خلهم في دائرة التفضيل. وهم داخل هذه الدائرة ما داموا في ظلال الأنبياء.

 

فإذا كذبوا الأنبياء أو قتلوهم، فلا مكان لهم على الصراط المستقيم ولو رفعوا آلاف الرايات التي تحمل في ظاهرها رموز الصراط المستقيم، وبني إسرائيل تاجروا بالاسم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم، وذلك بعد أن قفزوا بعيدا خارج دائرة الأنبياء. لقد تمردوا على موسى وهارون عليهما السلام. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ (9) قال المفسرون: أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة (10) ولم يقف الأمر عند موسى، بل تمردوا على جميع أنبياء الشجرة الإسرائيلية، حتى لعنهم داوود وعيسى ابن مريم عليهم السلام. يقول تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (11) قال المفسرون: إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات. بأنهم ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم. وذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم واستمرارهم على الاعتداء.

 

لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف. فحرفوا الكلم عن مواضعه. وكفروا بآيات الله. وقتلوا الأنبياء بغير حق. وقالوا قلوبنا غلف. وبعد هذا يقولون. إن الله فضلهم على العالمين! إن الشذوذ الذي دق قوم نوح أوتاده انتهى آخر الأمر إلى سلة بني إسرائيل! بمعنى أن الانحراف الذي وضعه قوم نوح، ضرب الله أصحابه بالغرق ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم.. أما الانحراف نفسه فإن طرحه على الأجيال في كل زمان، مهمة شيطانية.. فالشيطان يلتقط الانحراف بعد التجربة الإنسانية الأولى. ثم يزينه بما يستقيم مع جيل آخر. وبعد انتهاء الجيل يقوم بتعديل الانحراف بعد التجربة الإنسانية الثانية. ليلقيه على جيل ثالث. وهكذا.

 

فمن كان له عبرة في السلف وتذكر ضربات الطوفان والرياح والصيحة وغير ذلك.. ابتعد بفطرته النقية عن مصادر الشذوذ الملون والانحراف المغلف بأغلفة براقة! أما الذين تربعت عبادة العجول على عقولهم، فإن في سلالهم تتجمع جميع الانحرافات ابتداء من قابيل قاتل أخيه وانتهاء بآخر انحراف وآخر شذوذ. وبنو إسرائيل استحوذوا على جميع الانحرافات ثم قاموا بنشرها على صفحة العالم للصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على أديان اخترقوها وقاموا بتوجيهها نحو أهدافهم وأيضا على منظمات وجمعيات تحمل لافتات براقة ظاهرها الرحمة والعدل وباطنها العذاب الأليم. ونحن سنوجز هنا انحرافات الأوائل التي استقرت في السلال الإسرائيلية بعد أن قام تلاميذ الشيطان بتحويرها وتهذيبها وتجميلها حتى استقرت في الصورة الأخيرة.

 

بصمة انحراف قوم نوح:

كما ذكرنا من قبل أن قوم نوح عبدوا الأصنام، ورفضوا بشرية الرسول، وأطاحوا بسنة العدل الاجتماعي فقسموا البشر إلى أقوياء وضعفاء، فالأقوياء هم الأشراف. والضعفاء هم الأراذل، وبنو إسرائيل لم يخرجوا قيد أنملة عن هذا، لقد عبدوا العجل واتبعوا الأهواء، وسنتكلم عن هذا في موضعه، أما رفضهم للرسول البشر.. فلقد رفعوا هذه اللافتة في وجه نبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ (12) قال المفسرون: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب. والطائفتين ترجعان إلى أصل واحد. وهو شعب إسرائيل، بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام، ودعوة عيسى انتشرت بعد رفعه في غير بني إسرائيل، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام (13). لقد سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوب من الله إلى فلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به (14). وهذا السؤال بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن. لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة، وإنما يلغو ويهذو بما قدمت له أيدي الأهواء. من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس (15).

 

ولم يطلبوا خطاب السماء فقط. وإنما طالبوا أيضا بآية على الأرض يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ (16) قال المفسرون: كذب الله تعالى هؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. وأخبر على لسان رسوله. بأنه قد جاءهم رسل من قبل محمد بالحجج والبراهين وبنار تأكل القرابين. فلماذا قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلوهم. أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم. ثم أخبر الله تعالى رسوله بأن لا يوهنه تكذيب هؤلاء له. فله أسوة بمن قبله من الرسل الذين كذبوا مع ما جاؤوا به من البينات.

 

وبنو إسرائيل الذين يرفعون لافتة التفضيل على العالمين. قالوا لمحمد رسول الله قاله فرعون لموسى عليه السلام لقد وصف فرعون آيات موسى بالسحر. وبنو إسرائيل لم يفعلوا أكثر من هذا. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (17) قال المفسرون: ملخص دعوة عيسى عليه السلام ﴿أني رسول الله إليكم﴾ أشار بهذا إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله. ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ...﴾ فقوله: ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة. ولا تناقض شريعتها بل تصدقها، ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا. والنسخ بيان انتهاء أمر الحكم وليس بإبطال. ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها في قوله: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (18) ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله. ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ (19).

 

وقوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليه السلام. وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله: ﴿مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه، ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته. هو انفتاح باب الرحمة الإلهية على الناس، فيه سعادة دنياهم وعقباهم، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما... فماذا فعل بنو إسرائيل في الرسول الذي بعثه الله ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وبين لهم بعض ما يختلفون فيه؟ وماذا كان موقفهم من النبي أحمد صلى الله عليه وآله الذي بشر به عيسى والذي يجدونه مكتوبا عند هم في التوراة والإنجيل؟ لقد كان موقفهم من عيسى أنهم كذبوه. وحاصروه. فرفعه الله إليه. أما موقفهم من أحمد صلى الله عليه وآله فكان هو نفس موقف فرعون من موسى ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.

 

أليس في هذا بصمات كفار قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، لقد رفضوا بشرية الرسول بما يستقيم مع أهوائهم. فطالبوا بكتاب من السماء وقربان تأكله النار وعندما شاهدوا المعجزة أمام عيونهم بعد ما شاهدوا معالمها على صفحات كتبهم قالوا: هذا سحر مبين. وبعد أن رفضوا القمة على امتداد عصورهم، بدأوا يرفضون القاعدة وفقا لفقه كفار قوم نوح الذين صنفوا البشرية إلى قسمين.

 

أشراف وأراذل! فهذا الفقه سار بشذوذه على امتداد المسيرة البشرية، واستقر في النهاية داخل سلة بني إسرائيل، فادعوا أنهم شعب الله المختار! وأنهم أولياء الله وأحباؤه، وباقي البشر بالنسبة لهم مجرد حيوانات آدمية تكد من أجلهم، وتحمل على ظهورها أحجار هيكلهم، ولقد أطاح القرآن الكريم بتصنيفهم للبشر، وتحداهم بأن يتمنوا الموت أمام رسول الله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (20) قال المفسرون: ومحصل المعنى. قل لليهود مخاطبا لهم. يا أيها الذين تهودوا، إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس، إن كنتم صادقين في دعواكم. فتمنوا الموت، لأن الولي يحب لقاء وليه، ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة، ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت، وعلى هذا فهو يحب الموت ويتمنى أن يحل به، ليدخل دار الكرامة، ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة. وقد علل سبحانه عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم، وهو كناية عن الظلم والفسوق، ومعنى الآية ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ أي ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم، فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين، يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه، لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة، والآيتان مع معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾ (21) إن ادعاء الولاية تطوير لأطروحة الأشراف والأراذل.. تلك الأطروحة التي مرت بتجارب عديدة داخل المعامل الشيطانية حق طالت الكبير والصغير، داخل البيت الواحد والشارع الواحد والقرية الواحدة. لقد رفع الأشراف أعلا مهم، وما زالوا يسخرون من الأراذل الذين يجمعون الألواح والدسر. إن ادعاء بني إسرائيل هذا كان مظلة كبرى قاست البشرية من تحتها جرائم لا حصر لها، وحتما سيأتي الطوفان يوما، وليس كل طوفان من ماء. وليس كل سفينة من ألواح ودسر.

 

 

1-تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.

2- سورة غافر، الآية: 34.

3- ابن كثير: 102 / 1.

4- كتاب الأنباء: ص 322.

5- سورة المائدة، الآيتان: 24 - 25.

6- سورة الأنعام، الآيات: 83 - 88.

7- الميزان: 243 / 7.

8- سورة الأعراف، الآيات: 138 - 141.

9- الميزان: 235 / 8.

10- سورة الصف، الآية: 5.

11- ابن كثير: 359 / 4.  سورة المائدة، الآيات: 78 - 79.

12- سورة النساء، الآية: 153.

13- الميزان: 129 / 5.

14- ابن كثير: 572 / 1.

15- الميزان 130 / 5.

16- سورة آل عمران، الآيتان: 183 - 184.

17- سورة الصف، الآية: 6.

18- سورة آل عمران، الآية 50.

19- سورة الزخرف، الآية: 63.

20- سورة الجمعة، الآية: 6 - 7.

21- سورة البقرة، الآيتان: 94 - 95.

------------------------------

بصمة انحراف قوم عاد:

استكبرت عاد قوم هود، ودقت في خيام الانحراف وتد وثقافة ﴿من أشد منا قوة؟﴾، وهذا الشذوذ ناله التطوير على امتداد المسيرة البشرية، فتلاميذ الشيطان، وفروا لكل منحرف جرعته! أما فيما يتعلق ببني إسرائيل. فلقد امتلأت سلالهم بالذهب وبالمكائد، بالترغيب والترهيب، بالتجويع والتخويف. والقرآن عندما سجل لهم انبهارهم بما عندهم وضعهم في موضع الخزي، فعاد عندما قالوا من أشد منا قوة؟ لم يشيروا إلى الله سبحانه صراحة.

 

لهذا قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً...﴾ (1) أما بنو إسرائيل فلقد طرحوا الفقه بعد تطويره وقالوا إن الله فقير!! وإن يده مغلولة!!! أما هم فأغنياء. يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ (2) قال المفسرون: إنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شئ من أمر الرزق. إما في خصوص المؤمنين، لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه، إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر، وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ (3) فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه. لترويج دينه وإحياء دعوته، وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه (4). ولعنهم. ولعنة الله تعالى لأحد.. إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي. فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره (5).

 

وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (6) قال المفسرون: القائلون هم اليهود، بقرينة ما في ذيل الآية من قتلهم الأنبياء وغير ذلك، بأنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم. فليس إلا فقير ونحن أغنياء!!! وقد رد الله عز وجل عليهم ما قابلوه. وأخبر سبحانه أن قولهم هذا ومعاملتهم رسل الله. وقد قارن الله قولهم هذا بقتل الأنبياء: لكونه قولا عظيما.

 

سيجزيهم الله عليه شر الجزاء.

 

لقد تمدد فقه عاد آخر الزمان وجاب البحار وحلق في الفضاء وجلس على مقاعد الصفوف الأولى في المحافل الدولية! وتسلل من تحت الأظافر ليتجسس على الناس ويحصي الكلمات حتى في السكون! وجميع ذلك في الظاهر من أجل حقوق الإنسان. أما في الباطن فمن أجل إنسان واحد، يعتقد بأن الله فضله على العالمين وأنه شعب الله المختار، بدون قيد أو شرط -. إنه فقه القوة وبناء الأعمدة والجدران! إنه فقه الغطرسة والاستكبار، وما عاد من الظالمين ببعيد!

 

بصمة انحراف ثمود:

لقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله آية لصالح عليه السلام، وإذا كان عقر الحقائق قد شق طريقه وسط المسيرة البشرية، بواسطة تلاميذ الشيطان. فإن فقه العقر عندما وصل إلى سلة بني إسرائيل كان قد ذهب مذهبا بعيدا. فالقوم تخصصوا في قتل الأنبياء. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ (7)

 

قال المفسرون: يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقد موها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه (8) وعلى هذا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساؤوا مواجهته وإجابته وجعلوا الرسل المبعوثين فيهم فريقين: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، وقد ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا، فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق! وأصم ذلك آذانهم من سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم!

 

واليهود قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام. وكان الله قادرا على منعهم من قتلهما، كما كان سبحانه قادرا على منع ثمود من عقر الناقة، ولكن كل شئ يجري لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة! فزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام هم آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية. ومن عدل الله سبحانه أنه جعل سد منافذ الهدى يأتي على أيدي الظالمين، ليكون رفضهم للهدى هو عين إقامة الحجة عليهم بأنهم قد جاءهم من الله هدى. وقتل بني إسرائيل لأنبياء الله، يدل على أن القوم اتسعوا في الانحراف والشذوذ، ومعنى رفضهم للهدى من أجل المحافظة على الانحراف، أنهم باختيارهم خرجوا من دائرة التفضيل على العالمين، لكونهم شعب غير جدير بالجندية تحت قيادة أنبياء الله. باختصار لم يظلمهم الله، فهم الذين قتلوا الأنبياء وهم الذين قفزوا خارج دائرة التفضيل، ولأن قيادة البشرية ليست حكرا على أحد، فقد جاء الله تعالى بالذين يتولون قيادة المسيرة من بعد شعب بني إسرائيل الذي تفرغ للكيد وا الظلم والفساد. وبني إسرائيل كان عمدتهم في قتل الأنبياء وتكذيبهم، أنهم! يجدون عندهم ما تهوى أنفسهم.

 

بمعنى أنهم يريدون أن يتبع الحق أهواءهم!! وهذا ضد حركة الوجود لقوله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ (9) قال المفسرون: إن الذين يكرهون الحق. إنما يكرهونه لمخالفته هواهم. فهم يريدون من الحق أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون، إذ لو اتبع الحق أهواءهم.

 

تركوا وما يهونه من الإعتقاد والعمل فعبدوا الأصنام واتخذوا الأرباب واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد. جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة والنظام الذي يجري فيها بالحق. فيعطي كل واحد منهم ما يشتهيه من جريان النظام، ولا يكون ذلك إلا بتغيير أجزاء الكون عما هي عليه، فتبدل العلل والأسباب، وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم. وفي هذا فساد السماوات والأرض ومن فيهن، واختلال النظام، وانتفاض القوانين الجارية في الكون، لأنه من البين أن الهوى لا يقف على حد ولا يستقر على قرار.

 

وقديما عقرت ثمود الناقة، وكانت الناقة ترشد هم إلى الطريق الحق، فعندما تغوص ثمود في أوحال الذنوب تشرب الناقة من الماء الكثير ولا تترك لهم إلا القليل، كما تأكل من العشب مثل ذلك، وعندما يخرجوا من أوحال الذنوب لا تشرب الناقة ولا تأكل إلا القليل، كانت الناقة تفعل وصالح عليه السلام يترجم.

 

لكنهم أبوا إلا الأوحال وأرادوا أن توافق حركة الناقة أفعالهم التي تمليها أهواءهم ولأن الحق لا يتبع الأهواء.. عقروها، ولأن الأنبياء لم يأتوا بني إسرائيل إه بما لا تهوى أنفسهم قتلوهم، فأي فرق بين ثمود وبين بني إسرائيل؟ لقد قتلوا زكريا ويحيى وقالوا: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ﴾ (10) لقد شاهدوا معجزاته الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه!

 

وخالفوه! وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم! حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام. ولم يتركوه في سياحته فعملوا على حصاره، وعندما شرعوا في الهجوم عليه، رفعه الله إليه، وألقى الله شبه عيسى على آخر. فلما رأوا شبيهه ظنوه إياه فألقوا القبض عليه وصلبوه.

 

إن حركة ثمود لم تمت. بل تجددت ولبست أكثر من ثوب ذواعا عن الأهواء، بعد أن فقد القوم روح الطاعة والسمع لرسل الله. وبعد أن استقرت ملكة الاستكبار والعتو فيهم. فإن حركة ثمود باقية تحفر بخناجرها الصخور والقبور ليد فنوا كل ناقة، وكم في كون الله من ناقة لا تسير على أربع ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (11).

 

بصمة انحراف قوم لوط:

قوم لوط قطعوا السبيل ودقوا أوتاد اللاأخلاق في طريق المسيرة البشرية، ورقعوا الحجارة في وجه من يريد الاصلاح! وهددوه بالرجم وخوفوه بالإخراج من قريتهم! كان لوط عليه السلام يريد زرع الأخلاق الفاضلة وإزالة الأخلاق الرذيلة لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلا قهم كان عليه السلام يريد أن يرتفع القوم ويخرج من حياة الحضيض حيث الفحشاء والوقاحة والفساد إلى بئر العفة حيث يتعلمون الأدب ولا يتركون شيئا إلا لله ولا يتعلقون بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده. ولكن القوم أبوا إلا الفحشاء والعار فحل بهم الدمار. ومن بعدهم بدأت الفحشاء حول وتدهم الذي دقوه تتسع شيئا فشيئا، وعندما استقرت الفحشاء في معامل بني إسرائيل خرجت بوجوه عديدة، تنطلق من فقه يحب أن تشيع الفاحشة بين الناس، ومن أجل هذا الهدف زينوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. زينوا المقدمات والنتائج.

 

وبعد أن رفعت أعلام الفواحش فتحوا الأبواب للمنكر ودونوا له الدساتير وبعد أن استقر في عالمهم المنكر دخل البغي.

 

إنها دوائر تسلم بعضها بعضا، فالفاحشة في عهد قوم لوط كانت بقعة قذرة، أما في عهد بني إسرائيل فكانت أقذر وأوسع، لقد سيطرت أدواتهم على عالم السهرات والأزياء وبيوت التجميل ومعامل السينما ودور العرض ووسائل الإعلام مسموعة ومنظورة ومقروءة. وظهرت في مدارسهم اللاأخلاقية أجيال المخنثين وفي هذه الدوائر ظهر الجنس الثالث حيث الرجال للرجال! والجنس الرابع حيث النساء للنساء! واتسعت تجارة اللواط والزنا والسحاق وأصبحت لها مدن ودول واستيراد وتصدير! وبالجملة قطع الفساد شوطا طويلا في عالم الانحراف والشذوذ وأصبح يهدد البشرية في عمقها. وتهديد العمق البشري يدرج في جرائم إهلاك النسل، وفي عصر الهيمنة لبني إسرائيل وأتباعهم سعى الجميع في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، وكما رفع قوم لوط الحجارة في وجه الذين يتطهرون! فإن بني إسرائيل عملوا من أجل إشعال الحروب للفتك بالذين يتطهرون. يقول تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (12) قال المفسرون. أي أنه كلما أثاروا حربا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم، والآية على ما يدل السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله وعلى المسلمين. بما أنهم مؤمنين بالله وآياته (13) وقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الافساد في الأرض والله لا يحب من هذه صفته (14). إن فقه الفساد الذي يحوي بين دفتيه جميع صور الفواحش. سهر عليه الذين لعنهم الله في القرآن، والله تعالى لعن في القرآن إبليس ولعن فيه اليهود ولعن فيه المشركين ولعن فيه المنافقين. والملعون لا يمكن بحال أن يقيم مجتمعا فاضلا عادلا، لأن المجتمع الفاضل لا يقومك إلا بالأخلاق الفاضلة، والأخلاق الفاضلة تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها، ولا يكون هذا العامل سوى التوحيد.

 

بصمة انحراف أهل مدين:

لقد نهى الله تعالى عن نقص المكيال والميزان، وسماه إفسادا في الأرض، ومدين دقت وتدها في طريق المسيرة البشرية، ولقد نصحهم شعيب عليه السلام فأبوا إلا بخس الناس أشياءهم، وفي عهد بني إسرائيل اتسعت دوائر المعاملات المالية، وأصبح للمال بيوت عتيقة دولية وإقليمية، وقلما تجد بيتا عتيقا من هذه البيوت ليس لليهود فيه خيط، فالقوم أحكموا السيطرة لمعرفتهم بخفايا الربح السريع على امتداد تاريخهم الطويل. والقرآن الكريم وصفهم بأنهم في معاملاتهم يأكلون السحت، والسحت هو كل مال اكتسب من حرام.

 

 يقول تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (15)، وقال تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ (16) قال المفسرون: لقد نهاهم الله عن الربا. فتناولوه وأخذوه. واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل (17) وأهل الكتاب كل ثمين عندهم خضع للنجارة فحرفوا الكلم عن مواضعه وأخذوا على ذلك رشوة. ويقول تعالى في طائفة منهم: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (18) قال المفسرون: هؤلاء صنف من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل (19) وقال تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ (20).

 

فإذا كانت القاعدة والقمة مهمتها بخس الناس أشياءهم وأكل أموالهم بالباطل، فإنه لا أمل في إقامة المجتمع الإنساني الذي يليق بالإنسان الفطري.

 

وكيف يتم هذا إذا كان أهل القمة على أرائك الدين قد انحرفوا إلى سبيل الباطل.

 

وهم المعنيون بإصلاح قلوب الناس وأعمالهم ودفع الناس في سلوك طريق العبودية. في الحقيقة إن أباطرة الحال في المحافل الدولية العتيقة لم يكن الإصلاح هدفا لهم في يوم من الأيام. وكيف يكون ذلك وهم الذين يسعون في الأرض فسادا بنص القرآن. لقد امتدت أيديهم إلى الجهة المالية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني واستحوذوا عليها، ثم بدأوا العمل المنظم الذي يؤدي إما إلى فقر مفرط، وإما إلى غنى مفرط، لأن هذه النتيجة ستؤدي في النهاية إلى فرض تربيتهم وسياستهم! وفي ظل التربية والسياسة هذه لا ترى ملامح حكمة ولا يصغى فيه لموعظة.. لقد هيمن أصحاب الأرائك الدينية على الجهات المالية للصد عن سبيل الله كما نصت الآية ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ وعندما بدأ العبث المنظم بالجهة المالية للمجتمع الإنساني، ترتب على هذا العبث جنايات وتعديات ومظالم تنتهي بالتحليل.. إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف والإسراف في المأكل والمشرب والمنكح والمسكن والاسترسال في الشهوات، وهتك الحرمات، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم.

 

وأصحاب الأرائك. أو أصحاب الأيكة الجدد لا يضرهم الذين ساروا في طريق الفقر الذي انتهى إلى قطعهم للطرق واختلاسهم لأموال الناس. ولا يضرهم الذين ساروا في طريق الغنى الذي انتهى بهم إلى الاسترسال في الشهوات لأن خيوط اللعبة كلها في أيديهم. فإذا اختل النظام الحاكم في حيازة الأموال هنا. رد عليه نظام آخر في اقتناء الثروة هناك، إن أصحاب الأيكة الجدد يقبضون على المال ويظفرون بالثروة وهي بين أهلها الذين قتلهم الفقر أو الذين قتل فيهم الترف إنسانيتهم، والقبض على المال ليس غاية وإنما الصد عن سبيل الله هو الغاية. والمحيط الإنساني عندما يجري فيه قطاع الطرق الذين يبحثون عندما يسرقون. ويجري فيه الذين يبحثون عن مشتهيات النفس ومتعتها، ينقلب هذا المحيط إلى محيط حيواني ردئ. لا هم فيه إلا البطن وما دونه، ولا يملك فيه أحد إرادته، وبفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي تغلق أبواب الحكمة والمواعظ وهذا هو هدف أصحاب الأيكة الجدد. وأن لا يقوم مجتمع حي فعال يليق بالإنسان الفطري، المتوجه إلى سعادته الفطرية. ولأن السعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان، أو يعمل للوصول إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت، قام أصحاب الأيكة الجدد برفع أعلام أكثر من طاغوت. أعلام مغلفة بأغلفة تستقيم مع روح العصر الحديث. فأيهما أبشع وجها. أهل مدين أم أصحاب الأيكة الجدد؟

 

بصمة انحراف الفراعنة:

تقوم العقيدة الفرعونية في الأساس على عبادة الشمس، وهذه العبادة أنتجت في النهاية ثالوثا عموده. الفقري أسطورة إيزيس وأوزير وولدهما حور، ورغم أن صورة هذا الثالوث شملت جميع الآلهة عند الفراعنة فيما بعد حيث جعلوا لرع وغيره زوجة وابنا. إلا أن عجل أبيس كان هو الصورة المثلى للثالوث ولحلول روح الإله فيه! وكان إذا مات عجل من هذه العجو لي أقامت مصر الحداد وخضعت الجثة لفقه معقد وسارت الجنازة وفقا لطقوس عجيبة. وكانت أهم مدافن هذه العجول سيرابيوم سقارة (21) وبنو إسرائيل عندما كانوا في مصر بالقطع شاهدوا الحداد وشاركوا في جنازات العجول، بل واكتسبت قلوب أكثرهم حب هذه العجول، كما أن بعضهم اختلطت نفسه بعقيدة ابن الإله..

 

وإلا فلماذا عبدوا العجل، ولماذا قالوا عزير ابن الله!؟ ووفقا لأطروحتهم هذه.. لم يغلق باب بني إسرائيل حتى قالوا بأن المسيح ابن الله! ونحن إذا عدنا إلى نقطة البداية.. عندما عبر بهم موسى عليه السلام البحر. نجد أنهم عندما شاهدوا قوما يعكفون على أصنام لهم.. طالبوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

 

وبالجملة كان القوم على استعداد للانحراف نظرا لعب ء الثقافة الفرعونية على عقله وقلبه. ولقد آتت هذه الثقافة ثمارها، عندما وعد الله تعالى موسى عليه السلام أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما، وأخبر موسى قومه بذلك وجعل عليهم أخاه هارونا عليه السلام، فلما جاء الثلاثون يوما ولم يرجع موسى.

 

عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون! وقالوا: إن موسى كذب وهرب منا، وعندئذ تقدم السامري وكان من أصحاب موسى وكان على مقدمة القوم يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، وروي أن السامري وهو على مقدمة القوم شاهد فرس جبرائيل كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض. تحرك ذلك الموضع فأخذ السامري قبضة من هذا التراب، وصرها في صرة وكان يفتخر بها على بني إسرائيل.

 

وعندما هم القوم بهارون واتهموا موسى بالهرب.. أمر السامري بجمع الذهب.

 

وفي رواية أن الشيطان جاءهم في صورة رجل وقال لهم: إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه، وعندما جاء القوم بالذهب وصنعوا العجل.. ألقى السامري بالتراب الذي معه في جوف العجل. فلما وقع التراب في جوفه خار فسجد له أكثر بني إسرائيل!

 

 

قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾ (22) وكان اتخاذ العجل خطوة أساسية في عالم الانحراف ما زالت باقية في عالم المادة. وعلى الرغم من أن العجل قام موسى عليه السلام بنسفه في اليم ولم يعد له وجوب إلا أن العجل قبل أن ينسفه موسى كان قد شربته القلوب! يقول تعالى: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ (23) قال المفسرون: الإشراب هو السقي، والمراد بالعجل: حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل (24)، لقد جريت ثقافته في الدماء، يبتلعها كل من وجد هواه فيها، ومن امتص قلبه الزخرف وقع تحت العقاب في أي زمان وفي أي مكان قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ (25) قال المفسرون. أبهم الله تعالى ما سينالهم من غضبه وذلة الحياة. فلم يبين ما هما. رذيل الآية: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ يدل على أن غضب الله وذلة الحياة الدنيا. سنة جارية إلهية في المفترين على الله (26)، ونائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفه. وإن ذل البدعة على أكتافهم وإن همجلت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين. وقد نبه تعالى عباده وأرشدهم أنه يقبل توبة عباده (27). فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أي سيئة كانت. لم يمنع من قبولها مانع (28).

 

وعقاب الذلة الذي ضربه الله على الذين اتخذوا العجل. ظل علامة مميزة لهم على امتداد الزمان يحمله الذين جاؤوا على أهوائهم جيلا بعد جيل. يقول تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ (29) قال المفسرون. أي وضعت عليهم الذلة والمسكنة. وألزموا بها شرعا وقدرا. أي لا يزالون مستذلين من وجد هم استذلهم وأهانهم (30). إن الذلة كانت علامة آبائهم الأوائل الذين جلسوا حول العجل، وعندما جاء الذين يسيرون على هدى الآباء، قتلوا الأنبياء، لأن الأنبياء لم يأتوا لهم بما يستقيم مع الذي في قلوبهم. ويقول تعالى عن الذين يحملون علامات الذل في موضع آخر:

﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾(31) قال المفسرون: إن الذلة مضروبة عليهم كضرب الخيمة على الإنسان أو كضرب السكة على الفلز فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله. وحبل وسبب من الناس وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل. والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم والدليل على ذلك قوله. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾ فإن ظاهر معناه أينما وجد هم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية، فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي. إلا أن يد خلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.

 

وقال بعض المفسرين. إن قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ ليس في مقام تشريع الحكم. بل إخبار عما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر. فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى، وهذا المعنى لا بأس به (32).

 

لقد اتبعوا عجول الفراعنة فضربتهم الذلة بعد عجل سيناء، ولأنهم يعلمون أن مقامهم في الذلة يتحدد بدقة، إذا هيمن الدين الحق، لم يدخروا جهدا في وضع العراقيل أمام مشاعل النور للدين الحق. واشتروا بذهب العجول كل رخيص وكل سلاح وأحصوا الكلمات وتتبعوا المواليد خوفا من أن يخرج منهم من يؤرق مضاجعهم وحاصروا الشواطئ وتحول كل واحد فيهم إلى هامان جديد.

 

1- سورة فصلت، الآية: 15.

2- سورة المائدة، الآية: 64.

3- سورة البقرة، الآية: 245.

4- ابن كثير: 75 / 2.

5- الميزان: 33 / 6.

6- سورة آل عمران، الآية 181.

7- سورة المائدة، الآية: 70.

8- ابن كثير 80 / 2.

9- سورة المؤمنون، الآية: 71.

10- سورة النساء، الآية: 157.

11- سورة الشعراء، الآية: 227

12- سورة المائدة، الآية: 64.

13- الميزان: 36 / 6.

14- ابن كثير: 76 / 2.

15- سورة المائدة، الآية 62.

16- سورة النساء، الآية: 161.

17- ابن كثير: 584 / 1.

18- سورة البقرة، الآية: 79.

19- ابن كثير: 117 / 1.

20- سورة التوبة، الآية: 34.

21- تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.

22- سورة الأعراف، الآية: 148.

23- سورة البقرة، الآية: 93.

24- الميزان: 222 / 1.

25- سورة الأعراف، الآية: 152.

26- الميزان: 253 / 8.

27- ابن كثير: 248 / 2.

28- الميزان: 253 / 8.

29- سورة البقرة، الآية: 61.

30- ابن كثير: 102 / 1.

31- سورة آل عمران، الآية: 112.

32- الميزان: 384 / 3.

--------------------------------

من معالم الخزي في الحي اليهودي:

عندما شاء الله أن يتقدم بني إسرائيل المسيرة البشرية وراء أنبيائهم في عالم يعج بعبادة غير الله، أقام الأنبياء الحجة الكاملة على البشرية، وفي نفس الوقت على القاعدة التي منها ينطلقون ألا وهم بنو إسرائيل. وإقامة الحجة هي العامود الفقري فإما أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا، فهذه قضية أخرى عامودها الفقري أن الله غني عن العالمين، فالله تعالى هو خالق الإنسان وبما أنه خالقه فهو سبحانه أعلم بما يصلحه، فبعث إليه الأنبياء والرسل بالإصلاح، فمن تقبل الدواء نال الشفاء ومن أبى إلا المرض عاش فيه وأصابه ما أصابه، فإن عاد بالتوبة قبله الله، وإن أصر على المعصية ففي الدنيا عذاب وفي الآخرة عذاب. ودين الله لا إجبار فيه والله غني عن العالمين، ولأن بني إسرائيل كانوا في المقدمة يوم أن فضلهم الله على العالمين، فإن الله تعالى جعل في بعضهم آيات تكون عبرة للقوم كي يستقيم المعوج وتواصل المقدمة المسيرة. ولكن تكون عبرة لمن يأتي بعدهم لينظر كيف تكون حركة التاريخ. ومن هذه الآيات بعد خروجهم من مصر: إهلاك السبعين وإحياؤهم، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، والتظليل بالغمام وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وآية البقرة ومسخ بعضهم قردة خاسئين.

 

وآيات كثيرة حدثت على امتداد رحلة تفضيلهم وهم وراء الأنبياء من بعد موسى عليه السلام، منها خروج قوم من أوطانهم هربا من الطاعون وكانوا أعدادا كثيرة، فأماتهم الله دهرا طويلا ثم بعثهم في وقت واحد، فهذه كلها آيات كان من المفروض أن تكون زادا لبني إسرائيل يمنعهم من الانحراف، لكن القوم تركوا وراء ظهورهم الآيات والعبر وعندما انتهت رحلة التفضيل، وانتقل الطريق والقافلة إلى غيرهم، جلسوا يجترون الذكريات ويعيشون في أوهام التفضيل وأعلامه.

 

ونحن لن نسرد كل آيات العذاب التي ضربهم بها الله ليستقيم المعوج منهم، وإنما سنلقي الضوء على آيتين لما فيهما من عبر جامعة لم يلتفت إليها القوم. الأولى خاصة برجل آتاه الله الأموال وكانت عنده الكنوز والثانية لرجل آتاه الله العلم وأراه الآيات العليا. ولكن الرجلان جرت في دمائهما كل معالم الانحراف فلم يشكرا النعمة والمنعم. فأخذ هما الله أخذ عزيز مقتدر. فلم يغن عن الأول كنوزه. ولم يقو الثاني على حماية نفسه. لقد كانت آيات الله في المال والعلم زاجرا لبني إسرائيل، لكن الذئاب منهم شقوا مسيرهم نحو الكنوز ونجو دروب التحريف وأكل أموال الناس بالباطل!

 

1 - عبرة قارون:

كان قارون من بني إسرائيل، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة القوة، فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره!

 

وأمن العذاب الإلهي، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة، وبغى الفساد في الأرض. يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (1) قال المفسرون:

وعظوه أن لا يبطر بما هو فيه من مال. وأن يشكر الله على ما أعطاه وأن يطلب فيما أعطاه الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله، ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى، وقالوا له: لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شئ قليل مما أوتيت، وهوما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا، والباقي فضل ستتركه لغيرك.

 

فخذ منها ما يكفيك ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أي أنفقه لغيرك إحسانا، كما آتاكه الله إحسانا، ولا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة. إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإصلاح (2) فماذا كان رد قارون على العظة؟ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ (3) قال المفسرون: أجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق.. لقد ادعى إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره. وبما أن هذا باستحقاق فقد استقل بما عنده وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني.

 

وهذا الزعم الذي ابتلى به كقارون أهلكه. إن قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ من غير إسناد الإتياء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: ﴿فيما آتاك الله﴾ نوع إعراض عن ذكر الله، ولقد رد سبحانه مقولته فقال: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (4) قال المفسرون: استفهام توبيخي وجواب عن قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ أي إذا كان يرى أن الذي اقتنى به المال ويبقيه له هو علمه، فهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هم أشد منه قوة وأكثر جمعا. فلو كانت قوتهم وجمعهم عن علم عند هم. فقد أهلكهم الله بجرمهم، فلو كان العلم هو الجامع للمال والحافظ لهم لنجاهم من الهلاك.. وجاء يوم الغب الذي يحمل عذابا غير مردود يقول تعالى. ﴿فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل، صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون﴾ (5) قال المفسرون: ﴿الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا﴾ أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم. ليس لهم وراءها غاية. فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾ (6) ولذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط.

 

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..﴾ أي المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون وعدوه سعادة عظيمة على الإطلاق. قالوا: إن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتي قارون فإذا كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوا ثواب الله. ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ أي وما يفهم هذا القول وهو قولهم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون..

 

وعلى مشهد من الجميع من أصحاب الدنيا وأصحاب العلم ابتلعت الأرض الطاغية المستكبر.. يقول تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ*وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُون﴾ (7).

 

قال المفسرون: خسف به وبداره الأرض.. فما كان له جماعة يمنعونه العذاب، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه، فلم يقه جمعه وتقه قوته من دون الله، وبأن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه. فالفاء في قوله:

﴿فَمَا كَانَ﴾ لتفريع الجملة على قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾ أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله، وأن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي (8).

 

واعترف الذين تمنوا مكانه ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه بأن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان وعلمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه.. لقد عرفوا الحقيقة بعد مشهد وحركة. وعلموا أن سعة الرزق وضيقه بمشيئة من الله، وكان قارون علامة بارزة أمام بني إسرائيل لكن الكثرة عبروا عليها ولم يتبينوها، لأن في قلوبهم حب العجل!

 

2 - عبرة صاحب النبأ:

أبهم الله تعالى اسم صاحب النبأ، واختلف المفسرون في تعيين من هو في الآية الكريمة. وأقوى الروايات أنه يدعى ﴿بلعم بن باعوراء﴾، وأن الله تعالى أعطاه الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له (9) وروي أن موسى عليه السلام بعثه إلى ملك مدين يد عوه إلى الله فأعطاه الملك الأرض والمال فتبع بلعم بن باعوراء دينه (10). وروي غير ذلك. والخلاصة أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (11) قال المفسرون: أمر الله نبيه أن يتلو على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم، وهو نبأ الرجل الذي آتاه الله آياته، وكشف لباطنه عن علائم وآثار إلهية عظام، يرى بها حقيقة الأمور، فانسلخ منها ورفضها ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه، فكان من الهالكين الحائرين البائرين، ولو شاء الله لرفعه من قاذورات الدنيا بالآيات العظيمة التي آتاه إياها.

 

ولكنه أخذ بأسباب التدنس ومال إلى زينة الحياة الدنيا وأقبل على لذاتها ونعيمها.

 

واتبع هواه وكان ذلك موردا الإضلال الله له، لا لهدايته. وهذا الرجل مثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. فهو ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة. فلا تزال آيات الله تتكرر على حواسهم.

 

ويتكرر التكذيب بها منهم ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾ أي قص القصة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فينقادوا للحق وينزعوا عن الباطل.

لقد كان صاحب النبأ معه آيات باهرات، لكنه أخذ بأسباب الزينة التي تشبع الأهواء، فكان مصيره النار. لقد كان يحمل آيات باهرات، لكنه لم يستعمل قلبه وبصره وأذنه فيما ينفعه ويحقق له السعادة الدائمة الحقيقية والله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يقص القصة لعل بني إسرائيل العالمين بحال صاحب النبأ وما جرى له بسبب استعماله نعمة الله في غير طاعة الله، لعلهم عندما يذكرهم النبي صلى الله عليه وآله بالقصة يتفكرون ليحذروا أن يكونوا مثله، وهم بما أنهم أهل كتاب، قد أعطاهم الله علما ميزهم به على من عداهم من الأعراب. وبصرف النظر عن تحريفهم لكتابهم، إلا أن هذا الكتاب كان يحتوي بين دفتيه على آية عظيمة. إذا كفروا بها كان شأنهم كشأن صاحب النبأ الذي ترك الآيات وجلس بجوار الذهب والفضة.

 

وهذه الآية التي في كتابهم خاصة بنبي الله محمد صلى الله عليه وآله الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم. فهذه الآية دعوة لهم كي يتبعوه كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك، فإن كتموا أو صدوا أو قالوا كما قال فرعون هذا سحر مبين.. كان الذل امتدادا لهم.. ذل في الدنيا موصول بذل الآخرة. يقول تعالى: ﴿..عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (12).

 

فذكره صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف الثلاثة (الرسول النبي الأمي) تدل على أنه كان مذكورا في التوراة والإنجيل بهذه الأوصاف الثلاثة. فماذا فعل أتباع صاحب النبأ بهذه الأوصاف؟ لقد حرفوها. ولكن التحريف لم يجهز على الحقيقة أمام البحث والتدقيق (13). إن الحقيقة باقية لتكون حجة على أجيالهم في كل زمان. إن اتباع صاحب النبأ لم يحترموا العلم فجعلهم الله كمثل الحمار كما جعل صاحبهم من قبل كمثل الكلب. يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (14) قال المفسرون: المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى عليه السلام.

 

فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع. فتركوها ولم يعملوا بها. فحملوها ولم يحملوها. فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهؤلاء يعرف ما فيها من المعارف والحقائق. فلا يبقى له من حملها إلا التعب بحمل ثقلها!

 

3 - البعوث الدائمة والطمس الدائم:

لم يضرب عذاب الاستئصال شعب إسرائيل ضربة واحدة. كما ضرب من قبل عاد وثمود وغير هما. والحكمة من وراء هذا، أن لشعب إسرائيل قيادة من أنبياء بني إسرائيل، فالشعب باق ما دام لهم في علم الله قيادة منهم، ومقدمات عذاب الاستئصال تأتي مع رفضهم لآخر نبي في الشجرة الإسرائيلية، والله تعالى لا يستأصل قوما إلا بعد إنذار. وعلى هذا لا يأتي الاستئصال إلا بعد إنذارهم من الله على لسان الرسول الذي يأتي بعد آخر رسول من شجرة إسرائيل، ولما كان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو أول رسول يأتي من خارج الشجرة الإسرائيلية وخاتم النبيين. فقد جاءهم بالرحمة والإنذار، فلما رفضوا الرحمة شقوا طريقهم نحو عذاب الاستئصال. وقبل أن يشقوا هذا الطريق، تعرضوا لضربات عدة فرادى وجماعات، لعلهم يتذكرون ويلتفون حول رسلهم والصالحين منهم ولكنهم أبوا إلا الأخذ بذيول الانحراف!

 

1 - البعوث الدائمة:

كتب الله على شعب إسرائيل القتل والأسر والاضطهاد على أيدي الجيوش الجرارة التي جاءت إليهم من جهات عديدة، بعد أن ظلموا أنفسهم وسهروا من أجل الحفاظ على الانحراف والشذوذ! وبعد أن تقلصت دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتسعت دوائر السلبية والظلم والبغي بينهم. وعلى امتداد مسيرة بني إسرائيل كان فيهم الصالحين وغير ذلك. ولكن غير الصالحين كانوا دائما إلى الافساد في الأرض أسرع! وذلك لأن رقعة الانحراف كانت رقعة واحدة بينما كانت رقعة الصالحين تنقسم إلى قسمين: قسم ضعيف قليل العدد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والقسم الآخر يحتوي على كثرة لم ترتكب المعاصي ولكنها تركت الساحة للمفسدين كي يعربدوا فيها وينشروا ضلالتهم.

 

ونظرا لهذا التقسيم انتشر الفساد لسهر أعوانه عليه. وفي سنة الله تعالى إذا عمل قوم بالمعاصي ولم يغيره الناس أوشك الله أن يعمهم بعقاب، لأن ارتكاب المعاصي مد خل رئيسي لهدم أركان الدين. ومن عدل الله سبحانه أنه قبل أن يعم بني إسرائيل بالعذاب الشامل، وضع في بداية طريقهم حدثا كان يجب عليهم أن يحفروه في ذاكرتهم، ليعلموا أن الذي حدث في قرية صغيرة يمكن أن يضرب الأمة الكبيرة. يقول تعالى.﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ*فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ*فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (15).

 

قال المفسرون: " انقسم أهل القرية في أمر الله ثلاث فرق. فرقة ارتكبت ما نهى الله عنه. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، وقالت للفرقة التي نهت واعتزلت: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من ذلك. فلا فائدة في نهيكم إياهم. فقالوا. ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعلهم بهذا الانكار يتقون " (16). وفي قولهم: ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾ حيث أضافوا الرب إلى الفريق الذي يلومهم ولم يقولوا: إلى ربنا.. إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم. لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه. ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده. وأنتم عباد له كما نحن عباده، فعليكم من التكاليف ما هو علينا ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين أي للفرقة التي ارتكبت ما نهى الله عنه. في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم. وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة. وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع وعظة، مشاركة معهم في ظلمهم. وأن الأخذ الإلهي الشديد، كما يترصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم (17).

 

لقد ضرب العذاب الظالم المعتدي والظالم الذي سكت. وفي الحديث كانوا أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ وثلث أصحاب الخطيئة.

 

فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (18) وقال تعالى للذين عتوا عن أمره:

 

﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي ذليلين حقيرين مهانين. لقد كانت أحداث هذه القرية إشارة للمسيرة الإسرائيلية بأن العذاب الشامل على الأبواب إذا لم يأخذوا بأسباب النجاة. وأنهم إذا ركبوا المعاصي ولم تنههم الأحبار وغيرهم أخذتهم العقوبات. ولكن القوم توسعوا في الظلم. الظلم الذي يهدم. والظلم الذي يرى معالم الهدم ويعين على الهدم بصمته. وأمام هذا الاسراع الذي يسير في عكس اتجاه حركة الفطرة أصابهم العذاب الشامل. وكان رداء ملازما لهم على امتداد مسيرتهم. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (19) قال المفسرون. ﴿تَأَذَّنَ﴾ بمعنى اعلم. والمعنى: واذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم. ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب. وأنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده.. لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب. لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك. فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه. ولا عائق يعوقه.

 

وقد نزل ببني إسرائيل نوازل كثيرة. منها ما جرى عليهم بيد (نبوخذ ناصر) عام 588 ق. م وكان من ملوك بابل وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلا دهم ثم فتحها عنوة وخرب البلاد وهدم الهيكل وأحرق التوراة وأباد النفوس بالقتل العام. ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة فأسرهم وسيرهم معه إلى بابل. وبعد رحيل (نبوخذ ناصر) دخلوا تحت حماية ملك الفرس (كورش) الذي أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة. وأعانهم على تعمير الهيكل.

 

وظل اليهود خاضعين لحكم الفرس حتى جاء الإسكندر الأكبر 323 ق. م واجتاح المنطقة، وبعد وفاة الإسكندر خضعت أورشاليم لبطليموس وكان واحدا من قواد الإسكندر الأكبر وكان يتولى حكم مصر. ثم اجتاح الرومان البلاد عام 63 ق. م بعد أن ضعفت أيدي الإغريق. وحدث نزاع شديد بين اليهود والرومان انتهى بخراب أورشاليم وهدم الهيكل عام 70 ميلادية على يد (تيطوس) الروماني.

 

ثم حدثت مشادات بين اليهود والرومان. انتهت باستقلال اليهود عن الرومان ثلاث سنوات وأصبحت أورشاليم عاصمة لهم وذلك عام 132 م. وبعد ثلاث سنوات أي في عام 135 م نكل الرومان باليهود وهدموا أورشاليم وبنوا على أنقاضها مدينة لهم وأقاموا بها معبد لإله (جوبتر) إله الرومان على أنقاض المعبد القديم. ولم يسمح الرومان لأي يهودي بدخول المدينة أو الاقتراب منها. وفي عام 313 م أصبحت الديانة النصرانية دين الدولة الرومانية الرسمي. وهدم معبد جوبتر. وفي سنة 326 م جاءت الملكة هبلانة أم الإمبراطور قسطنطين وقامت ببناء كنيسة القيامة في أورشاليم. وفي عام 614 م غزا الفرس بلاد الشام. وانتصروا على الرومان وهدموا كنيسة القيامة. ثم غلب الرومان الفرس. ثم جاء الفتح الإسلامي عام 636 م ولم يكن لليهود قائمة.

 

وفي عام 1948 اعترفت الأمم المتحدة بدولة إسرائيل. وكان هذا الاعتراف ثمرة لجهد طويل قامت به الأيدي الخفية التي زينت كل قبيح في عالم الطمس الطويل الذي يسير في عكس اتجاه الفطرة. وفي بطن الغيب ما زالت البعوث قائمة. وانتظروا ونحن معكم منتظرون.

 

1- سورة القص، الآيتان: 76 - 77.

2- الميزان: 76 / 16، ابن كثير: 399 / 3.

3- سورة القصص، الآية: 78.

4- سورة القصص، الآية: 78.

-------------------------------------

2 - الطمس والمسخ:

أولا: أخذ اليهود بأسباب الضلال:

ظلت البعوث تطارد بني إسرائيل على ظلمهم. ولم يكن هذا يعني عدم وجود صالحين بينهم، فلقد عاش معهم في كل منازلهم التي نزلوا بها من يد عوهم إلى تقوى الله. ولكن دعوته كانت تذهب أدراج الرياح. وفي كل جيل بعد ذلك كانت تقل نسبة الصالحين وتتسع نسبة الذين يهرولون إلى السيئات. حتى جاءت الأجيال التي لا خير فيها. أجيال ورثت الكتاب وتحملوا ما فيه من المعارف والأحكام والمواعظ والبشارات. وكان لازم هذا. أن يتقوا ويختاروا الدار الآخرة. ويتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من. الثواب الدائم.

 

لكنهم أخذوا ينكبون على اللذائذ الفانية ولم يبالوا بالمعصية وإن كثرت. ووضعوا في طريق الانحراف وتدا هو من أشد الأوتاد خطورة بعد وتد رفض بشرية الرسول. وكان هذا الوتد قولهم: " سيغفر الله لنا " لقد هرولوا إلى المعاصي تحت لافتة مغفرة الله لهم. وهذا قول بغير حق. شربوه في قلوبهم وسقوه للذين من بعدهم. يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ*وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (1).

 

قال المفسرون. لقد أخذ الله عليهم الميثاق عند حملهم الكتاب ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ والحال أنهم درسوا ما فيه. وعلموا بذلك أن قولهم:

﴿سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ قول بغير الحق. ليس لهم أن يتفوهوا به. لأنه يجرئهم على معاصي الله وهدم أركان دينه " و " الحال أن " الدار الآخرة خير للذين يتقون " لدوام ثوابها وأمنها من كل مكروه ﴿أَفَلاَ يَتَّقُونَ﴾. ثم بين سبحانه أن التمسك بالكتاب هو الاصلاح الذي يقابل الافساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها. وخص سبحانه الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله والخضوع إلى مقامه..

 

وبدأ الذين ورثوا الكتاب يتعاملون مع التوراة بأهوائهم تحت لافتة أنهم مغفور لهم ولأنهم وضعوا كتاب الله وراء ظهورهم سلط الله عليهم من جعلهم يتجرعون الذل. وخلال سبي شعب إسرائيل إلى بابل وكانوا وقتئذ يعرفون باسم العبرانيون (2). كان العبرانيون الذين ساروا على خطى الآباء تحت لافتة سيغفر الله لهم. قد نسوا أيضا هذه اللافتة عندما بدأوا في إعادة كتابة التوراة في بابل.

 

وذلك لأن التوراة التي أنتجها العبرانيون في بابل أنتجت الدين اليهودي. الذي سار فيما بعد بوقود الصهيونية التي تهدف إلى جمع اليهود ولم شملهم وتهجيرهم إلى فلسطين لتأسيس دولة يهودية فيها تدين بالدين اليهودي وتتميز بالعنصر اليهودي ربا لثقافة اليهودية وبإرادة بعث مملكة داود. والتوراة التي تم إنتاجها في بابل كتبت على يد " عزرا " شيخ العنصرية والتعصب الأعمى الأكبر (3) حوالي سنة 457 ق. م (4) فعزرا وتلاميذه كانوا بمثابة العجلات التي سارت عليها التوراة حتى استقرت في نهاية الأمر لتقول.

 

(أولا): إن المملكة العبرية هي عنوان وركيزة تخليص يهوه لشعبه، فهي وعاء العهد الإبراهيمي المقطوع وتجسيمه!

(ثانيا): إن أورشاليم اختارها يهوه بنفسه لتكون مسكنا له. فهي ليست عاصمة المملكة السياسية فحسب، بل العاصمة الدينية التي لا يمكن للإله أن يستقر أو يسكن أو يعبد إلا فيها!

(ثالثا): إن المملكة العبرية كلها أزلية. فمهما فعل الملوك ومهما تألبت الدول. لن يتخلى يهوه عنها!

(رابعا): ليس للأمم والملوك أن لا يقووا على هذه المملكة فحسب، بل عليهم جميعا أن يخضعوا لسلطانها!

(خامسا): إن المملكة رغم اجتياحها من قبل الأجانب وسبي أهلها. إلا أن الله قد تعهد بإرسال بطل يعيد لهم هذه المملكة فعزرا بكل حق هو مؤسس الدين اليهودي كما نعرفه الآن. ولا عجب إن اعتبرته اليهود " ابنا لله " لأنه بعمله هذا بعث الهوية اليهودية التي رأت النور ساطعا في مملكة داود وسليمان بعد أن قضت أجيالا طويلة في الظلام، ثم تقلصت وكادت تنقرض تماما من وجه الأرض لولا أن أنتجت عزرا (5) ولا شك أن التوراة كانت في يوم ما كتابا إلهيا عزيزا، إلا أن طابور الذين أورثوا الكتاب أنجبوا في النهاية الجيل الذي جلس عزرا على قمته، فحرفوها وزاغوا بها عن أهدافها الإلهية ومراميها الأخلاقية وجعلوا منها كتابا تعصبيا عنصريا. ومن العجيب أن توراة عزرا التي بين أيدينا صورها الآن. لم تذكر اسم الشيطان مرة واحدة، أن كاتب التوراة في بابل استبعد اسم الشيطان من توراة موسى ليس في إخراجه آدم وزوجته من الجنة فحسب، بل في كل إصحاحات الأسفار الخمسة ووضع بدله ﴿الحية﴾ في التوراة العبرانية و ﴿الثعبان﴾ في التوراة السامرية (6). والأعجب، أن كاتب التوراة استبعد سجود الملائكة لآدم عليه السلام (7).

 

لماذا استبعد الشيطان من كتاب يدعي أتباعه أنه من عند الله؟ لا بد أن يكون هذا الاستبعاد لغرض معين أو ربما يكون استبعاده من الأسفار الخمسة كلها من أجل أن تتصرف أجيال المستقبل بجسارة ولا يهمها شئ. ثم لماذا استبعد سجود الملائكة لآدم؟ يقول صاحب نقد التوراة: استبعد سجود الملائكة لآدم، لأن السجود معناه أن الجنس البشري كله مكرم ومحترم. وهم لا يقولون بذلك.

 

بل يقولون إن بني إسرائيل وحدهم من سائر الأمم هم المصطفين الأخيار (8) ولم يكن هذا فقط العجيب والأعجب عند كاتب التوراة. أن اسم الإله بدل. فبدل أن يدعى باسم الحق وهو إله العالمين ورب البشر. جعله كاتب التوراة " إله إبراهيم ويعقوب وإسرائيل " فحسب. وإن كان له أي علاقة بالعالمين في نظرهم. فهو فقط ليقهر العالمين لصالح شعبه المختار (9) كما أن الحق الذي لا مراء فيه، هو أن إله اليهود كما تخيله كاتب التوراة لم يكن إلها توحيديا، لقد كان وثنا أو أوثانا، وضعتها زوجة يعقوب تحت فستانها كما في سفر التكوين (إصحاح 31 / 19، 34، 35) وأصبح جنيا تصارع مع يعقوب طيلة الليل حتى تغلب عليه يعقوب فسمي إسرائيل والمنتصر كما في سفر التكوين (إصحاح 32 / 24 إلى 32) وأصبح في عهد موسى وداود إلها ناريا قبليا يسكن في قمة الجبل سواء في حوريب أو صهيون. وتحول من بعد ذلك إلى الإله الذي لا يعمل إلا لليهود. خيرا لهم وشر الشعوب الأرض فكان الإله المستعبد. نعم. لقد أصبح مجردا وكان دائما أحدا. إلا أنه لم يكن في أي يوم إلها توحيديا عند كاتب التوراة (10) ومن السخف بمكان أن نقر ادعاء اليهود أنفسهم والنصارى أن اليهود موحدون (11). إن الإله الذي تحدثت عنه التوراة ليس إلها توحيديا ولقد تطور هذا الإله على امتداد التوراة. والصهيونية هي حركة هذا الإله في التاريخ: (12).

 

وعزرا ادعى العلم بعد أن أطلق شائعة مفادها: أنه عندما كان يبكي على قتل علماء بني إسرائيل وسبي كبارهم وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه، قالت له امرأة كانت تبكي هي الأخرى عند جبانة. اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصلي، فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله، فذهب وفعل ما أمر به، فإذا الشيخ فقال له: افتح فمك، ففتح فمه، فألقى فيها شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، فرجع عزرا وهو أعلم الناس بالتوراة (13)، ولما رجع اليهود من بابل بالتوراة المحرفة، سكن السامريون في مد فهم ومعهم نسخة من التوراة التي كتبها عزرا في بابل. وسكن العبرانيون في مد نهم ومعهم صورة من نفس التوراة.

 

ورغم أن التوراة واحدة. إلا أنهم اختلفوا على تعيين جهة القبلة المقدسة التي يترتب على تعيين المدينة التي تكون عاصمة لمملكة بني إسرائيل. ودب الشقاق والنزاع بين السامريين والعبرانيين وكره بعضهم بعضا. وقام العبرانيون بتغيير كلمات في توراة عزرا، وتام السامريون بتغيير كلمات في توراة عزرا. واستقر السامريون على أن تكون قبلتهم في اتجاه جبل " عيبال " واستقر العبرانيون على أن تكون القبلة في اتجاه " جرزيم " وهذه الكلمات هي التي ميزت بين التوراتين. وزاد العبرانيون على أسفار موسى الخمسة التي كتبها عزرا أسفار لأنبياء كانوا في بني إسرائيل من بعد موسى (14).

 

لقد جاء عزرا بتوراة ادعى أنها توراة موسى. في الوقت الذي ذكرت فيه توراة عزرا خبر موت موسى ودفنه في أرض مؤاب. فهل كان في توراة موسى خبر موت موسى ودفنه في أرض مؤاب وأنه؟ إلى هذا اليوم لا يعرف أحد مكان - قبره (15). لقد جاء عزرا بتوراة لا يعر ف موسى عنها شيئا. والمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، كان يعلم أن التوراة محرفة. بدليل أن في عصره كان السامريون والعبرانيون يتعبد كل منهم في اتجاه قبلته الخاصة. وعندما سألت امرأة سامرية المسيح عن الصواب أجاب. بأنه سيأتي اليوم الذي لا يقدس فيه هذا الجبل ولا ذاك الجبل. ففي إنجيل يوحنا 4 / 19 - 24 (قالت له المرأة: يا سيد. أرى أنك نبي آباؤنا سجدوا في هذا الجبل. وأنتم تقولون إن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. فقال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة. لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم تسجدون للرب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم ". لقد كان المسيح يعلم بالتحريف.

 

وأخبرهم بالصواب وبأن يعملوا أعمال إبراهيم إن كانوا هم أبناء إبراهيم كما يدعون. لكنهم اعتمدوا ما عند هم وطالبوا عيسى بأن يأتي لهم بالأرض والميراث. الذي غرسه عزرا وتلاميذه. وقاد القوم فيما بعد إلى المسيح الدجال كما سنبين في حينه.

 

والقرآن الكريم أثبت تحريف اليهود للتوراة قال تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ (16) قال المفسرون: وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة، كما ينسب إلى التوراة الموجودة.

وإما بتفسير ما ورد عن الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بشارات التوراة. ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم عليه السلام من البشارة وقالوا: إن الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم. ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن يوضع فيه (17).

 

والتحريف جاء بعد أن شق شعب إسرائيل طريقه في الضلال. لقد بد أوا بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم. عندئذ فتحت عليهم أبواب الأهواء، فد خلوا منها.

 

وبالدخول أبعدوا من رحمة الله، ولكي يسيروا في دروب الأهواء تحت لافتة دينية، حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها. فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين وهذا الحظ يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة. وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين، لأن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض، يفسد بعضه بفساد بعض آخر، سيما الأركان والأصول، وذلك كمن يصلي لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله. أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحق، فلا ما بقي في أيديهم نفعهم. إذ كان محرفا فاسدا. ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه. ولا غنى عن الدين ولا سيما أصوله وأركانه.

 

لقد تاهوا في عالم الأهواء. وفي هذا التيه استقرت أقدامهم عند المسيح الدجال. والمسيح الدجال حذر منه جميع الأنبياء أقوامهم. ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال. " إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة " (18). لقد حذرت أنبياء بني إسرائيل من المسيح الدجال. ووصفوه لشعب إسرائيل. ومن صفاته عندهم أنه يملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض (19) وعندما مارس عزرا والذين من بعده عمليات العبث في التوراة وجدوا أن الأنبياء قد بشروا بمسيح يأتي في المستقبل، وأيضا حذروا من مسيح يأتي في المستقبل فأي مسيح يختاره الذين يعبثون في كتاب الله؟ لقد اختاروا صاحب الأرض بعد أن زاولوا عملية تحريف الكلم عن مواضعه، وضعوا على المسيح الذي معه الأرض والماء والخبز علامات التبشير. وعندما جاءهم المسيح ابن مريم الذي بشر به أنبياء بني إسرائيل. صدوا عن سبيل الله وقالوا إن الموعود لم يجئ بعد، واتهموا نبي الله عيسى بأنه كذاب في ادعائه للنبوة وذلك لأنهم اعتبروا أنه الذي حذرت منه رسلهم! ومارسوا هذا العمل وهذا الصد عن سبيل الله عندما بعث الله رسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد هذا في أثر عن ابن عباس قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ أي لم تخلطون الباطل مع الحق في كتابكم. صفة الدجال بصفة محمد ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ ولم تكتمون صفة محمد ونعته ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون ذلك في كتابكم (20).

 

إن القرآن يشهد بأن التوراة محرفة عمدا، والذي يحرف كتاب الله عمدا فهو ملعون ومن سار تحت رايته فهو ملعون يستظل بلعنة ويتجه نحو لعنة! وعزرا هو الذي فتح الباب. وعزرا هذا، هو عزير المذكور في القرآن في قوله تعالى:

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ﴾ (21) وعزير ليس بنبي كما حكى الشيخ الآلوسي في تفسيره روح المعاني، فعزرا الذي لم يذكر اسم الشيطان مرة واحدة في توراة موسى. ولم يذكر سجود الملائكة لآدم. ولم ينزه الله تعالى فيما كتب، وطمس صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن علم أن الله قد استجاب دعاء إبراهيم في أن يكون نسل إسماعيل هداة الأمم، وأن الله وعد بمباركة الأمم في آل إسماعيل بنبي يظهر فيهم في قول لإبراهيم " وأما إسماعيل. فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عثر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة " (22) عزرا هذا كان بمثابة نهاية طريق وبداية طريق آخر في التاريخ الإسرائيلي. هو نهاية طريق لأنه اكتفى بفقهاء الانحراف. وكان القوم من قبل فيهم من يدعو إلى الصلاح. وهو بداية طريق، لأن انحرافات البشرية من قبل قد تم تزيينها على طريق عزرا نحو أرض المعاد التي هي في حقيقة أمرها أطروحة المسيح الدجال. وعزرا حمل أعلام وقراطيس الشذوذ في قومه. فهو بلا جدال حامل أعلام الذين عبدوا العجل.

 

والذين سيسيرون على طريقه من أي دين آخر، هم في الحقيقة إخوان للذين عبدوا العجل من بني إسرائيل. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ (23). أخرج عبد الرازق وابن المنذر وابن أبي حاتم قال أبو قلابة: هو جزاء لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان: كذلك نجزي المفترين قال: كل صاحب بدعة ذليل. وقيل لسفيان هل هي لأصحاب العجل خاصة قال: كلا اقرأوا ما بعد ها. وكذلك نجزي المفترين. فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة (24) ولقد حمل أتباع العجل مشاعلهم وساروا في اتجاه الدجال. وفي الطريق كانوا يلوحون لغيرهم للركوب في قطارهم. وللأسف الشديد ركبت معهم أجناس عديدة من أديان شتى بعد أن اتبعوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. وناموا معهم في كل جحر ضيق خرب. إن الطريق العجل المفروش بالذهب اللاحقيقي والذي ينتهي إلى دجال لا يمثل أي حقيقة سيركبه كل من حمل في قلبه انحراف. وكل من اكتسب دينارا من فتنة عليها من الله تحذير.

 

1- سورة الأعراف، الآيتان: 169 - 170.

2- أصول الصهيونية / إسماعيل الناروقي. ط وهبه ص 8.

3- أصول الصهيونية / إسماعيل الناروقي. ط وهبه ص 460

4- الميزان: 243 / 9 وقيل 423 ق. م.

5- الميزان: 92.

6- نقد التوراة / حجازي السقا. ط الكليات الأزهرية ص 176.

7- نقد التوراة ح / حجازي السقا. ط الكليات الأزهرية ص 176.

8- نقد التوراة / حجازي السقا. ط الكليات الأزهرية ص 176.

9- أصول الصهيونية: 95.

10- أصول الصهيونية: 97.

11- أصول الصهيونية: 96.

12- أصول الصهيونية: 97.

13- نقد التوراة. ص 144.

14- نقد التوراة: 146.

15- نث

16- سورة النساء، الآية: 46.

17- الميزان: 364 / 4.

18- رواه ابن ماجة والحاكم وصححه وأقره الذهبي وغير وهما.

19- راجع كتابنا عقيدة الدجال.

20- هامش الدر المنثور 183 / 1 تفسير سورة البقرة

21- سورة ا لتوبة، الآية: 30.

22- التكوين 17 / 20.

23- سورة الأعراف، الآية: 152.

24- الدر المنثور: 128 / 3.

----------------------------------------

ثانيا: اختراق النصارى:

لقد ذكرنا في كتابنا عقيدة المسيح الدجال عن اختراق اليهود للنصرانية الكثير. وسنذكر هنا ما تقتضيه الحاجة. لقد كان المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام هو آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية. ولكن فقهاء الانحراف من شعب إسرائيل لم يؤمنوا به وطالبوه إن كان هو المسيح حقا فليأت إليهم بميراث إبراهيم. ولقد أخبرهم عليه السلام بأنه مصدقا لما بين يديه من التوراة، وتصديقه للتوراة التي بين يديه، إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة الأصل النازلة على موسى عليه السلام وهذا التعليم جاء في قول الله تعالى لمريم: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ (1) وفي هذا دليل على أنه لم يكن مصدقا للتوراة التي في زمانه لكونها محرفة.

 

وما جرى على عيسى عليه السلام جرى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. لقد كان مصدقا لما بين يديه من التوراة، ولم يكن مصدقا لما بين يدي عزرا. لأن الذي بين يدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الله، ولأن عيسى عليه لم يكن مصدقا بما بين يدي عزرا، بدأ اليهود يغزلون له على مغازل الكيد، ولما أيقن عيسى عليه السلام أن دعوته غير ناجحة بين بني إسرائيل كلهم أو جلهم، وأنهم كافرون به لا محالة، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة. مهد لبقاء دعوته ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ﴾ (2) لقد أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه.

 

فيتمحضوا للحق، فتستقر فيهم عدة الدين، وتتمركز فيهم قوته، ثم تنتشر من عند هم دعوته، وعندما استفهم عيسى منهم ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (3) وكان تعالى قد أوحى إليهم أن يؤمنوا بالمسيح يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ (4) قال المفسرون: المراد بهذا الوحي وحي إلها م (5).

 

لقد كان وحي الله للحواريين إشارة إلى أن أتباع توراة عزرا لا فائدة فيهم.

 

وأن الدعوة سيوضع في طريقها جميع أحجار شعب إسرائيل حتى لا تعبر إليهم، ومن أجل ذلك أوحى الله إلى صدر القافلة التي قدر لها أن تواجه أحجار الجموع كي يؤمنوا برسوله. وبدأ المسيح عليه السلام يقيم الحجة على شعب إسرائيل.

 

فلما وجد اليهود أن المسيح يزاحمهم في مدنهم وفي هيكلهم ويتحدث من توراة غير توراتهم التي لا تحمل إلا معالم سماوية باهتة. بد أوا يمارسون سلطانهم الظاهر والخفي من أجل الايقاع به، ومكروا مكرا، وعند الله مكرهم، فأخبر سبحانه عيسى عليه السلام بما يمكر اليهود. قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (6) قال المفسرون: المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ (7) وقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (8) وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا قام من النوم: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا " (9) فالتوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت فقط. بل بعناية الأخذ والحفظ. والمعنى أن الله رفعه في منامه وأبعده من الكفار وصانه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود وأن متبعيه من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين به إلى يوم القيامة.

 

وبدأ اليهود يعدون العدة للفتك بالمسيح عليه السلام كما فتكوا من قبل بزكريا ويحيى عليهما السلام ولكن الله تعالى نجا المسيح ابن مريم من أيديهم، وما وجدوا في بيت المسيح إلا شبيه المسيح. الذي ألقى الله عليه الشبه بعد رفع المسيح إليه، وخرج اليهود يهللون لانتصارهم الكبير يقول تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا*بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (10) قال المفسرون: ينص على أنه عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره.

 

فأخذوا غير المسيح عليه السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه. وقد وردت به روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.. وقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ أي اختلفوا في عيسى أو في قتله ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي في جهل بالنسبة إلى أمره ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي التخمين أو رجحان ما أخذه بعضهم من أفواه بعض. وقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ أي ما قتلوه قتل يقين، أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين وقوله. ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ وهذه الآية بحسب السياق. تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه. فقد سلم من قتلهم وصلبهم. وظاهر الآية أيضا. أن الذي ادعوا إصابته بالقتل والصلب، وهو عيسى عليه السلام، رفعه الله بشخصه البدني، وحفظه من كيدهم، فعيسى رفع بجسمه وروحه، لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى، فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق، فإن الإضراب الواقع في قوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ وهذه الآية يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف... وبعد ذلك كله فالآيات التي جاءت بعد ذلك في سورة النساء، لا تخلوا عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد (11).

 

لم يتوف المسيح عليه السلام بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف.

 

وسيظهر آخر الزمان ليدافع عن اسمه أمام مسيح دجال وقف دليلا لأصحاب جميع الانحرافات والشذوذ. ولن يكون أتباع المسيح ابن مريم أولئك الذين قالوا بأن المسيح ابن الله! أو الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة! فجميع هؤلاء سيجدون كراسيهم وطعامهم عند مسيح آخر دجال. إذا ادعى النبوة صدقوه وإذا ادعى الألوهية صدقوه، لأنهم تربوا على ثقافة تقول بأن لله ولد أو بأن لله جسد على هيئة الإنسان. فهؤلاء لن يشعروا بالغربة وهم مع المسيح لأنه امتدادا لانحرافهم.

 

والدجال سيدعي كل هذا. سيطالب بميراث بني إسرائيل. فيصطف خلفه بني إسرائيل وخدام وكلاب بني إسرائيل. ثم يجري الله على يديه بعض الفتن.

 

فيشفي الأكمه والأبرص فيتذكر النصارى معجزات المسيح ويهرولون إليه، ثم يدعي الألوهية، ليذوق الذين رفضوا البشر الرسول والذين جحدوا بآيات الله الذل على أيدي الدجال أذل خلق الله.

 

وبعد رفع المسيح، وبعد أن ظن اليهود أنهم قتلوه، بدأوا يتفرغون لأتباعه، الذين كانوا قد تفرقوا على رؤوس الجبال انتظارا لعودة المسيح عليه السلام، وكان عليه السلام قد أخبر أتباعه بأن اليهود لن يصلوا إليه، وأنه سيعود إليهم عندما يشاء الله. على هذا كانوا يحسبون أن العودة قريبا، فتفرقوا في الجبال انتظارا لهذه العودة (12).

 

لم يكن اليهود يشعرون بالراحة وبينهم أتباع المسيح. ومن أجل هذا بد أوا يعدون العدة لإخراجهم. ولكن ليس من القدس وما حولها فحسب وإنما من الدين أيضا. وهذه المهمة قام بها واحد من اليهود المتعصبين لفكرة أرض الميعاد (13) وكان يدعي " شاؤول " ويعرف في المسيحية باسم " بولس " فبولس قام بتفصيل دين لا يكون خطرا على اليهود في أي منزل من منازل البشرية نزل.

 

وبعد فترة من رفع المسيح. تقدم بولس مخترقا جدار المسيحية وقدم نفسه على أنه قد قابل المسيح. وأنه تلميذه الأمين. وفي بداية الأمر كان أتباع المسيح يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ أما في نهاية الأمر فقد وضع بو لس الدين الجديد الذي قال عنه الدكتور جوستاف لوبون " إن بولس أسس باسم يسوع دينا. لا يفقهه يسوع لو كان حيا. ولو قيل للحواريين الإثني عشر أن الله تجسد في يسوع.

 

ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين (14). لقد وضع بولس إنحراف التثليث الذي عكف عليه فقهاء عجل أبيس في مصر القديمة. وفقا لأسطورة إيزيس وأوزير.

 

وضعه داخل جدار المسيحية ولم يكتف بهذا. بل صاغ الدين الجديد على أساس أن يكون تابعا لليهود وساهرا على مصالحهم بصورة من الصور. وعلى أن لا ينال النصارى مقابل اتباعهم لليهود شرف الانتساب إليهم في الدم أو الميراث الموعود. وفي هذا يقول توينبي: النجاح الذي يدعو للدهشة أن بولس انتزع مسيحية لا يهودية من الدين اليهودي. بحيث كان باستطاعة غير اليهودي أن يتقبلها بحرية من غير أن يلتزم بالشريعة اليهودية. ومما يدعو للإعجاب بشكل مساو للدهشة أن المسيحية ذات الصبغة اليهودية السابقة الذكر، نجحت في النهاية في أن تضم إليها سكان الإمبراطورية الرومانية باستثناء اليهود " (15).

 

والخلاصة. وضع بولس اللبنة التي عليها يقوم صرح الدفاع عن شعب الله المختار. وفي هذا يقول الكردنال دانيلوا: " إن المسيحيين المخلصين، يعتبرون بولس خائنا. وتصفه وثائق مسيحية بالعدو. وتتهمه بالتواطؤ التكتيكي (16) ويقول موريس بوكاي. " إن بولس كان أكثر وجوه المسيحية موضعا للنقاش. وإذا كان قد اعتبر خائنا لفكر المسيح فذلك لأنه كون مسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح من حوله لنشر تعاليمه. ولم يكن بولس قد عرف المسيح في حياته (17) وباختصار شديد. إذا كان عزرا قد قاد القافلة في اتجاه الانحراف المظلم. فإن بولس لمد لحق به. لأن عزرا جدا من أجداده.

 

وأرض المعاد هدفا من أهدافه. ويخطئ من يظن أن بولس قد أضاف للإنسانية بعدا كريما. بل صنع أوثانا جديدة وزين أوثانا قديمة وفي هذا يقول وول ديورانت: " إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها (18) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله (19) وقصارى القول: إن المسيحية كانت آخر شئ عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم (20).

 

وهكذا شق الذين كفروا من أهل الكتاب طريقهم الذي بدأه عزرا وأنهاه بولس الذي لم ير المسيح ولم يسمع منه. وعلى الرغم من هذا كان يقول: " أنا أيضا عندي روح الله الروح يفحص كل شئ وحتى أعماق الله " (21) وكان يقول: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس. إذ صار لعنة لأجلنا. لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة " (22) هذا ما قاله بولس في حق نفسه وهذا ما قاله في حق المسيح. فأما هو فعنده روح الله وأما المسيح فلقد صار لعنة!!. وظل الحي اليهودي يموج في بعضه. حتى جاء يوم النجاة. ذلك اليوم الذي إذا رفضوه ضربهم عذاب الطمس.

 

ثالثا: ما قيل عذاب الطمس:

في الحي اليهودي ذاق اليهود العذاب على أيدي الغزاة الأجانب. وذاق النصارى العذاب على أيدي بعضهم بعضا. وفي هذا الظلام جاءهم الهدى يحمل رايته محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فبين لهم ما التبس عليهم وما اختلفوا فيه. وقص على بني إسرائيل قصصهم التي لا يعرفها غيرهم. وقص على النصارى أحداث ليلة رفع الله تعالى فيها المسيح وكان أتباع المسيح يعرفونها ولكن عندما طال الأمد قام اليهود بوضع رداء الفتنة على الأحداث ووجهوها في صالحهم. لقد قص القرآن على الأسماع. الحقيقة التي يفوز من آمن بها ورد قولهم الذي يقول أن لله ولد. فقال تعالى: ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (23) قال المفسرون: في الآية حجة على نفي التعدد.

 

فمعنى ربوبية الإله. في شطر من الكون ونوع من أنواعه، هو تفويض التدبير فيه إليه. بحيث يستقل في أمره. من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه. فإذا كان هناك أرباب فلازم ذلك. أن يستقل كل إله بما يرجع إليه من نوع التدبير. وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم. كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوانات والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها. وكل منها عن كل منها. وفيه ساد السماوات والأرض وما فيهن. وبما أن النظام الجاري في العالم يسير على صراط واحد فإن ذلك يعني أن المدبر واحد قوله: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بيانه.

 

أن التدابير الجارية في الكون مختلفة. منها التدابير العرضية. كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر. والتدبيرين الجاريين في الماء والنار. ومنها التدابير الطولية. التي تنقسم إلى تدبير عام كلي. وتدبير خاص جزئي محكوم، كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه. وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء. وكتدبير العالم المادي برمته. وتدبير نوع من الأنواع المادية.

 

فبعض التدبير، وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا، بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه. كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم، لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص، ولازم ذلك أن يكون، الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير. عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو. دونه. واستعلاء الآلهة يؤدي إلى فساد الكون. وبما أن النظام الكوني يسير على صراط مستقيم ملتئم الأجزاء متصل التدبير، فإن هذا يعني أن المدبر واحد لا إله إلا هو.

 

لقد تحدث الرسول الأعظم وتلى آيات ربه وأخبرهم بأنه لو قدر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، ونتيجة ذلك عدم انتظام الوجود. والوجود من أمامهم يرى منتظم متسق مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال، وأخبرهم أن تعدد الآلهة يكون من نتيجته أن يقوم كل منهم بقهر الآخر ويعلو بعضهم على بعض.

 

أخبرهم بهذا وبأكثر من هذا كما في كتاب الله، ولكن رياح السلف كانت تعصف داخل الجماجم الفارغة التي لم تقدم حقيقة واحدة تثبت صدق ادعائها.

 

واكتفوا بركوب دواب الأهواء التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل واتجهوا بدوابهم وراء سلف ضل وأضل. ولله عليهم الحجة البالغة. وكما نهاهم القرآن أن يقولوا بأن لله ولد، نهاهم بأن لا يقولوا أن الله ثالث ثلاثة، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (24) قال المفسرون: إنه خطاب للنصارى، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب، وهو وصف مشترك إشعارا بأن تسميتهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه. ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق. وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ أي المبارك " عيسى ابن مريم " تصريح بالاسم واسم الأم. ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير. وليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة " كن " التي ألقيت إلى مريم البتول. لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب. قال تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (25) فكل شئ كلمة له تعالى. غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية. والذي اختص لأجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة. هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ والروح من الأمر. قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (26) ولما كان عيسى عليه السلام. كلمة " كن " التكوينية وهي أمر فهو روح.

 

فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان بالله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا. حال كون الانتهاء. أو حال كون الإيمان بالله ورسله. ونفي الثلاثة خيرا لكم.

 

﴿سبحانه أن يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض﴾ فإن الولد كيفما فرض، هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته فتكونا منه. وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى. وهو القيوم لكل شئ وحده. فلا يماثله شئ من هذه الأشياء فلا ولد له (27).

 

لقد جاءهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهدى وتلى عليهم قول ربه:

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ*لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (28) قال المفسرون: هذا كالبيان، لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح عليه السلام. عن تعلق الكفر بهم. إذ أشركوا بالله. ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا. إن الله هو المسيح ابن مريم... ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح عليه السلام نفسه، فإن قوله عليه السلام: ﴿اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ يدل على أنه عبد مربوب مثلهم.

 

وقوله: ﴿إنه من يشرك بالفقد حرم الله عليه الجنة﴾ يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته، فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.

 

وفي قوله عليه السلام: ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث الفداء. وأنه عليه السلام باختياره الصلب، فدى بنفسه عنهم، فهم مغفور لهم! مرفوع عنهم التكاليف الإلهية! ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا! وقوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ أي أحد الثلاثة: الأب والإبن والروح. أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة. وهذا لازم قولهم أن الأب إله. ولابن إله والروح إله. وهو ثلاثة! وهو وحد! يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان. فهناك أمور ثلاثة هي: زيد وابن عمرو والإنسان. هناك أمر واحد هو المنعوت بهذه النعوت. وقد غفلوا عن هذه الكثرة إن كانت حقيقة غير اعتبارية. أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة. وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقة. فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية. في زيد المنعوت بحسب الحقيقة. مما يستنكف العقل عن تعقله. ولذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة، من مذاهب الأسلاف، التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية.

 

ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه، سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.

 

وقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فالمعنى: ليس في الوجود شئ من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا، لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات لا خارجا ولا فرضا، إن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى، لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة. أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى إحدى الذات لا ينقسم لا في الخارج ولا في وهم ولا في عقل. فليس الله سبحانه. بحيث يتجزأ في ذاته إلى شئ وشئ قط. ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر. كيف؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج. فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالواحدة العددية. التي لسائر كيف؟ وهذه الواحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده، فكيف يتصف بما هو من صنعه؟ (29).

 

وقوله: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالمعنى: ولما كان القول بالتثليث ليس في وسع عقول العامة أن تتعقله، فأغلب النصارى، يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه. ولا أن يطمعوا في تعلقه. وبما أنه ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا.

 

كان هناك من النصارى من لا يقول بالتثليث. ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله. كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها وعلى ما يضبطه التاريخ فقوله: ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ أي لئن لم ينته النصارى عما يقولون - نسبه قول بعض الجماعة إلى جميعهم - ليمسن الذين كفروا منهم - وهم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم. ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ تخصيص على التوبة والاستغفار. وتذكير بمغفرة الله ورحمته. أو إنكار. أو توبيخ.

 

لقد توجهت آيات القرآن إلى الكتاب تدعوهم إلى الإيمان قبل أن يطمس الله وجوههم ويسيروا وقد ختم الله على قلوبهم نحو الدجال. لا ينفعهم إيمان إذا جاء بأس الله. ولا يأذن الله لناصر ينصرهم بالهداية. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ (30) قال المفسرون: وأنتم تشهدون. الشهادة هي الحضور والعلم عن حس. دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله: إنكارهم كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الموعود الذي بشربه في التوراة والإنجيل. مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه (31). وقال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (32) قال المفسرون: كانوا يخفون آيات النبوة وبشارتها. وكانوا يخفون حكم الرجم. وأما عفوه عن كثير، فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب. ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين. كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة. لا يصح استنادها إليه تعالى. كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك. وما لا يجوز العقل نسبة إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات. وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس. ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد. وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد وثنية وقوله: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ المراد بالنور والكتاب المبين القرآن. وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كتابه. ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد عده الله تعالى نورا في قوله: ﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (33).

 

وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ قيد فيه تعالى قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ﴾ بقوله: ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه. ومعنى الآية والله أعلم: يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه. من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة. وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة. فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله. وقد قال تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ (34) وقال: ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (35) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والإنخراط في سلك الظالمين. وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته، وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (36) فالآية أعني قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ تجري مجري قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (37).

 

وقوله: ﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ معنى إخراجهم بإذنه: إخراجهم بعلمه.. لقد دعاهم الرسول الأكرم إلى النور والمغفرة قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ*وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ (38) قال المفسرون: المراد بالتقوى بعد الإيمان. التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار. وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار وقوله:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ﴾ المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام. دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داوود وغيره وقوله: ﴿لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ المراد بالأكل التنعم مطلقا. والمراد من فوقهم هو السماء ومن تحت أرجلهم هو الأرض.

 

والآية من الدليل على أن الإيمان والعمل الصالح له تأثير في صلاح النظام الكوني.

 

من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني. فلو صلح النوع الإنساني، صلح نظام الدنيا، من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم. لقد عرض عليهم القرآن الإيمان بالرسول صلى عليه وآله وسلم. كي يركبوا طريق الهداية. ثم عرض عليهم أن يقيموا التوراة والإنجيل اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام. ففي حالة ظهورهما سيقطعون أقرب الطرق للإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فيؤمنون به عن طريق كتبهم. لأنه موصوف فيها. وكان اليهود والنصارى ينشرون بينهم وفي العالم خبر نبوته كما قال تعالى: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (39) قال المفسرون:

أي قبل مجئ النبي بالقرآن كانوا بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ويقولون أنه سيبعث نبي أخر الزمان. نقتلكم معه قتل عاد وإرم (40) فلما جاءهم عرفوا أنه هو انطباق ما كان عندهم من أوصاف عليه كفروا (41). وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ﴿لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض﴾ (42) أي لو صدق برسالتي وما جئت به عشرة من علماء اليهود ورؤسائهم الذين يقتدى بهم، لقادوا سائرهم إلى الدخول في الإسلام.

 

لقد كان النبي يريد أن يؤمن قادة اليهود. ولكن قادة اليهود انطلقوا في عالم الطمس يتبعهم الظالمون من النصارى. ولن يغني عنهم إيمانهم بأنبياء بني إسرائيل. لأنهم فرقوا بين الله ورسله، فقالت اليهود آمنا بموسى، ثم كفروا بعيسى ومحمد. والتوراة التي بأيديهم لا تحمل إلا ملامح باهتة عن موسى.

 

وقالت النصارى آمنا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد. والأناجيل التي بأيديهم منسوبة إلى تلاميذ يؤرخون لحياة المسيح وما وقع بينه وبين اليهود. وهي أولا لا تتفق فيما بينها في كثير من المعاني. وثانيا فإنها تقول بالتثليث بينا التوراة لا تقول به. وهكذا فرقوا بين الله ورسله وكتبه. وحكم الله حكمه الحق بأنهم كافرون بالله ورسله جميعا. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا*وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (43) فالكفر بالبعض والإيمان بالبعض. ليس إلا تفرقة بين الله ورسله. ولا سبيل إلى الله إلا الإيمان به وبرسله جميعا. فإن الرسول ليس له من نفسه شئ. ولا له من الأمر من شئ. فالإيمان به إيمان بالله. والكفر به كفر بالله. لقد كانت الرسالة المحمدية هي الباب الأخير الذي بدخوله ينجوا بني إسرائيل من العذاب الذي دق أوتاده سلفهم حول العجل يوما ما. كان الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو طوق النجاة الذي ينشلهم من بحار الفتن التي أدلى فيها سلفهم كل واحد منهم بدلوه المحمل بالشذوذ والانحراف. ولكن أصحاب الأيدي الخفية أولئك الذين يعملون من قديم من أجل تأصيل الشذوذ عملوا بكل جهد من أجل أن تسير مسيرة الفساد في اتجاه الدجال. ولأن الإسلام لا يكره أحد على اتباعه. تركهم الله في طريقهم. وختم على قلوبهم بعد أن مهدوا لأنفسهم ودخلوا بأقدامهم تحت عذاب الطمس.

 

1- سورة آل عمران، الآية: 48.

2- سورة آل عمران، الآية: 52.

3- سورة آل عمران، الآية: 52.

4- سورة المائدة، الآية: 111.

5- ابن كثير: 115 / 2.

6- سورة آل عمران، الآية: 55.

7- سورة الأنعام، الآية: 60.

8- سورة الزمر، الآية: 42.

9- ابن كثر: 366 / 1.

10- سورة النساء، الآيتان: 157 - 158.

11- الميزان: 133 / 5.

12- راجع بحوثنا في المسيح الدجال.

13- كان فريسيا. أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في اليهودية (أعمال الرسل:

7 / 26).

14- حياة الحقائق / جوستاف لوبون: ص 187.

15- تاريخ الجنس البشري / توينبي: 377 / 1.

16- حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب: 59.

17- دراسات في الكتب المقدسة / بوكاي. ص 101.

18- قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 27 ف 2 ص 276.

19- قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 28 ف ه مر 320.

20- قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 27 فصل 5 ص 276.

21- كور: 7 / 40.

22- غلاطية: 3 / 13.

23- الميزان: 62 / 15.

24- سورة النساء، الآية: 171.

25- سورة آل عمران، الآية: 47.

26- سورة الإسراء، الآية: 85.

27- الميزان: 150 / 5.

28- سورة المائدة، الآيات: 72 - 74.

29- الميزان: 71 / 6

30- سورة آل عمران، الآية: 70.

31- الميزان: 256 / 3.

32- سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16.

33- سورة الأحزاب، الآية: 46.

34- سورة الزمر، الآية: 7.

35- سورة التوبة، الآية: 96.

36- سورة الجمعة، الآية 5.

37- الأنعام، الآية: 82.

38- سورة المائدة، الآيتان: 65 - 66.

39- سورة البقرة، الآية: 89.

40- ابن كثير: 124 / 1.

41- الميزان: 222 / 1.

42- رواه محمد وأبو داود - الفتح الرباني: 102 / 1.

43- سورة النساء، الآيات: 150 - 152.

---------------------------------------

رابعا: عذاب الطمس:

إن الإنسان سيد أعماله. وبداية الضلال من الإنسان نفسه. فليس للشيطان أية سلطة على الناس. ولا يتمكن من إكراه الناس على المعصية. إن الشيطان يزن الأعمال فقط. ويدعوا الناس إلى الضلال فقط. وعندما يلبي الإنسان الدعوة. يضله الله عقابا لسوء اختياره. ومعنى إضلال الله للعبد، أن الله يقطع رحمته منه فينحرف باختياره. بني إسرائيل شهدوا أكثر من آية مع أنبيائهم. ووضعهم الله تحت ضربات الغزاة كي يتوبوا ويستغفروا. لكنهم وهم في سبي الغزاة حرفوا التوراة وشكلوا جهازا دينيا يسهر على مصالح المسيح الدجال. وواصلوا الانحراف حتى إنهم أحكموا القبضة على الأنبياء فقتلوهم.

 

وأحكموا القبضة على دعوة عيسى بعد أن رفعه الله. فربطوها بالتوراة والتوراة لا تعلم عنها شيئا. وظلت القافة تسارع بالفساد في الأرض باختيارها حتى جاءهم الإنذار الإلهي القاصم. قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً﴾ (1) قال المفسرون: روي أن هناك من أسلم عندما سمع هذه الآية.

وقال: " يا رب أسلمت " مخافة أن تصيبه هذه الآية. وقيل في طمس الوجوه الكثير. فمن قائل: طمسها أن تعمى. ومن قائل: جعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى. وقيل: ترد على أدبارها أي تمنع عن الحق (2) وقال صاحب الميزان: تعرضت الآية لليهود أو طائفة منهم. فإنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله وأفسدوا صالح دينهم. ابتلوا بلعن من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق الإيمان إلا قليلا. فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيد قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ ودعاهم الله إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم. وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم. لو تمردوا واستكبروا. من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. وطمس الوجوه. محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية. مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة. وهذا المحو ليس هو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها. بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها. فإذا كانت الوجوه تقتصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فإن كانت الوجوه المطموسة لا تقصد إلا خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى. وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة. كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه. لم ينل إلا شرا وفسادا. وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا (3).

 

أما قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ فآيات أصحاب السبت هي التي تخبر عن مسخهم قردة وقد ألقينا عليهم بعض الضوء عند حديثنا عن القرية التي أصبحت أمام أمر الله ثلاث فرق. وقال المفسرون: " أو " في قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ على ظاهرها من إفادة الترديد. والفرق بين عيدين:

أن الأول الذي هو الطمس، يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها. والثاني الذي هو اللعن كلعن أصحاب السبت.

 

يوجب تغيير المقصد. بغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة. فهؤلاء إن تمردوا عن امتثال ولم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه. وإما اللعن. ولكن الآية تدل على أن السخطة لا تعمهم جميعا حيث قال تعالى: ﴿وُجُوهًا﴾ فأتى بالجمع المنكر.

 

ولو كان المراد الجميع لم ينكر. ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها نكتة هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد، وهو إبعاد للجماعة بشر، لا يلحق إلا ببعضهم.

 

كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه، يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب. وفي قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ حيث أرجع فيه ضمير ﴿هم﴾ الموضوع الأولي العقل إلى قوله: ﴿وُجُوهًا﴾ كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا. بأن المراد بالوجوه. الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وودها على أدبار تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به البعض ويقوي ذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري. بحيث لا يشاهد حقا إلا أعراض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به. هذا نوع من التصرف الإلهي. مقتا ونقمة. نظير ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (4).

 

فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس، يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل، إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية: ﴿آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم..﴾.. ومن الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته. ثم إن الدين الحق. لما كان هو الصراط المستقيم. الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه. وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد. والسقوط في مهابط الهلاك، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ (5) وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم﴾ (6) ولازم هذه الحقيقة، أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية، طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها، فالمحروم من سعادة الدين، محروم من سعادة الدنيا. من استقرار الحال وتمهد الأمن وكل ما يطيب به العيش.

 

وآية الطمس ختمها الله بقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي أن الأمر لا محالة واقع (7) فأمره سبحانه لا يخالف ولا يمانع (8).

 

باختصار عالم الطمس هو سير القطار بلا رجعة والله غني عن العالمين، وفي عالم الطمس لن يفلحوا أبدا حتى ولو رفعوا أعلامهم على القمر وعلى جميع صناديق النقد الدولية. عالم الطمس كلما ازداد أصحابه تقدما تأخروا لأنهم يسيرون عكس اتجاه الفطرة ونحو المسيح الدجال، وتحت أقدامه يقفون يشكون الفقر والحاجة فيغذي أهواءهم. إن مربع الشمس يعيش داخل مربع الضلالة.

 

فالضلالة هي التي تغذي قافلة الطمس. ومن كان غذاؤه من الضلالة فلا أمل في شفائه ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ (9) قال المفسرون: من كان في الضلالة، تدل على استمرارهم في الضلالة، لا مجرد تحقيق ضلالة ما بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد بما منه ضلالته، كالزخارف الدنيوية.

 

فينصرف عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة فيظهر له الحق عند ذلك. ولن ينتفع به. قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا﴾ (10) وهذا دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام. والمراد به أن ينصرف عن الحق بالاشتغال بزهرة الحياة. فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به. كما قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ (11) وقال:

﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ (12).

﴿خامسا﴾: الخلاصة:

إن الذين يعبدون أصناما من دون الله ويسيرون وراء أهوائهم في الحقيقة يدعون الشيطان العاري من كل خير، ويسيرون في اتجاه طاعة، لأن الشيطان أخذ على عاتقه أن يظلهم بالاشتغال بعبادة غير الله. واقتراف المعاصي وأن يغرينهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم.

 

وما يهمهم من أمرهم. وأن يأمرهم بتحريم ما أحل الله وتغيير خلقه مثل الإخصاء واللواط والسحاق والخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف. والظالمين من أهل الكتاب اشتغلوا بهذا كله. لقد اشتغلوا بآمال وأماني أرض المعاد.

وجعلوا هذه الآمال عامودا فقريا لحركتهم. ولأنهم بظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصيح أضلهم الله، ولم يأذن سبحانه لناصر ينصرهم بالهداية ولا منقذ ينقذهم من الضلال، فأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ (13).

 

إن قافلة بني إسرائيل التي بدأت مع موسى عليه السلام على أرض مصر.

 

اضطهدت في سبيل الله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ*قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (14) قال المفسرون: كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم. كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها، كان المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها. ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا. ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد. بل ليمتحنكم بهذا الملك. ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف. فينظر كيف تعملون (15).

 

وانطلقت المسيرة الإسرائيلية تحمل الهدى للعالمين. وبينما هي تسير ظهر أصحاب العجل والبقرة. وأصحب الكنوز وصاحب النبأ. وطابور النفاق الطويل وصناع الأهواء والأصنام. ولم يكن في ذاكرة هؤلاء قول موسى: ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ وتطورت مسيرة الانحراف لتنتج في النهاية كتبا وإن كانت لا تخلو من حق إلا أنها في خطوطها العرضية لا تحمل إلا ملامح سماوية باهتة وهذه الكتب وقف وراءها فقهاء السوء يدعون الناس لطريق الطمس، حيث علوم فقه التحقير الذي وضعه قوم نوح وعلى طريقه استؤصلوا، وعلوم فقه الغطرسة الذي وضعته عاد وعلى طريقه جاءتهم الرياح، وعلوم فقه الجحود الذي وضعته ثمود وعلى سبيله جاءتهم الصيحة، وعلوم فقه اللواط الذي وضعه قوم لوط وعلى طريقه ضربتهم حجارة من سجيل منضود، وعلوم فقه اللصوصية الذي دونه أهل مدين وأصحاب الأيكة وعلى طريقه ضربتهم الصيحة، وجاءتهم الظلة.

 

لقد عمل فقهاء الانحراف داخل الحي الإسرائيلي من أجل تغليب الشذوذ ورفع رايات الأهواء على امتداد طريق الانحراف، وتم توفير القنابل الذرية لحماية هذا الطريق.

 

ولكن نهاية الطريق قد أخبرنا الله عنها ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (16) ﴿مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم * وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ (17).

 

1- سورة النساء، الآية: 47.

2- ابن كثير: 505 / 1.

3- الميزان: 367 / 4.

4- سورة الأنعام، الآية: 110.

5- سورة الروم، الآية: 41.

6- سورة الأعراف، الآية: 96.

7- الميزان: 370 / 4.

8- ابن كثير 208 / 1.

9- سورة مريم، الآية: 75.

10- سورة مريم، الآية: 75.

11- سورة غافر، الآية: 85.

12- سورة الأنعام، الآية: 158.

13- سورة النساء، الآية: 119.

14- سورة الأعراف، الآيتان: 128 - 129.

15- الميزان: 225 / 8.

16- سورة النور، الآية: 39.

17- سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43.

-------------------------------------