انحرافات عاد قوم هود عليه السلام

انحرافات عاد قوم هود عليه السلام

 

)فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( سورة فصلت، الآية: 15

 

عاد! والأعمدة العالية

إنحراف القوة

 

مقدمة:

بعد الطوفان.. استقرت القافلة البشرية عند الجودي وما حوله، وقام نوح عليه السلام ومن معه بإقامة مدينة ثمانين، نسبة إلى عدد الناجين من قوم نوح (1) وكان نوح عليه السلام يبين للناس ما اختلفوا فيه ويبشر بينهم بنبي يأتي من بعده اسمه هود. وروي أن نوحا عليه السلام قال لأتباعه: إن الله سيبعث هودا وإنه سيدعو قومه وإن قومه سيكذبونه وعندئذ سيهلكهم الله تعالى بالريح. وأوصى نوح عليه السلام بأن على من يدرك هودا أن يؤمن به. كما أمر ابنه سام بأن يتعاهد هذه الوصية وأن يعلنها على الملأ عند رأس كل سنة وأن يكون يوم الاعلان هذا عيدا للقوم يتذكرون فيه بعث هود. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده (2) وتبشير النبي السابق بالنبي اللاحق لطف من الله ورحمة بعباده..

 

فوضع أوصاف النبي الذي ما زال في علم الغيب في ذاكرة قافلة التوحيد، يجعل الذاكرة تحمل على الدوام الأمل الذي يقاوم كل معاني الكفر والانحراف، ومع هذا الأمل تمتد جذور الفطرة إلى جميع ملكات النفس الإنسانية فتحفظ لها توازنها في عالم يعمل من أجل فرض سياسات التوثين وثقافات التضليل، فالذاكرة عندما تحتضن الأمل يعبر صاحبها جميع طرق الانحراف مرتديا رداء الصبر مرتبطا بنبي سابق متجها نحو نبي لاحق إن أدركه آمن به وإن لم يدركه وقع أجره على الله. والذاكرة التي تحتضن الأمل لا تأخذ إلا بالحق ولا تعمل إلا به. لأنها من البداية إلى النهاية انتظمت على الصراط المستقيم ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وعلى امتداد طريقها يكون رداء الصبر تحصين لها من عقائد وثقافات مظلات الشذوذ فالصبر إذا انطلق من عالم المشاهدة إلى عالم الغيب المخبوء ليلتقي بأمل يكون له مذاق خاص لأن الغاية غيب، والغيب في علم الله، فهذا الصبر الممدود يغذي ملكات النفس بالزاد التوحيدي الذي يشعر معه صاحبه بأنه ليس من نسيج قافلة الانحراف لأنه لا يسير على صراطها. وكما أن وضع الأنبياء في الذاكرة تحصين للسمع والبصر والفؤاد، كذلك فإن نسيان هذا الإخبار بالغيب يترتب عليه أن يسير صاحبه في طريق طويل وهو فاقد الذاكرة، وفاقد الذاكرة بعيد عن قافلة الصراط المستقيم قريب من دوائر الأهواء والانحراف والشذوذ وهذه الدوائر لا تلتقط إلا أجيال اللاوعي لتنشئ منهم جدرا يصدون عن سبيل الله. وأجيال اللاوعي هي التي ينتهي بها الطريق بأن تتصدى لأنبياء الله تعالى عندما يبعثهم الله ليضعوا قواعد تستقيم مع الفطرة. ورفضهم للأنبياء ارتكاس للفطرة نتيجة لليل طويل قطعوه وراء اتباع الشياطين الذين يغرسون الأماني المزخرفة في النفوس ويقيمون لها أصناما من كل الألوان والأشكال والأجناس، وعندما يأتي الرسول أو النبي إليهم يجدهم مستعدين للدفاع عن ما ألفته نفوسهم وما أصله فيهم آباؤهم وما تركه لهم أجدادهم.

 

لقد غرس نوح عليه السلام اسم النبي الذي سيأتي بعده في ذاكرة قومه.

 

كي تتمسك الذاكرة بعلامات التوحيد وتظل عروة التوحيد تمدهم بالزاد، وهم يعبرون من على طرق الذين ظلموا أنفسهم ويمتعهم الله ثم يمسهم منه عذاب أليم. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده، وكان القوم يتعاهدون بعث هود في يوم عيدهم. وعندما طال الأمد وتفرق الناس في الأمصار، اجتالت الشياطين الناس، وظهرت الأهواء التي تمهد للوثنية من جديد، وأصبحت وصية نوح بهود عليهما السلام، لا يهتم بها إلا طلاب العلم الذين عكفوا على كتب العلم وآثار علم النبوة، وظهرت الأمم التي أخبر الله تعالى بها نوحا عليه السلام بقوله: )يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (3) وكانت عاد من هذه الأمم.

 

أولا: عاد والدعوة إلى الله:

1 - عاد قوم هود:

ينتسب قوم عاد إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (4) وكان عاد يعبد القمر (5). ونزل هو وولده بالأحقاف وقيل إن الأحقاف واد بين عمان وأرض مهرة. وقيل: من عمان إلى حضرموت. وهي رمال مشرفة على البحر بالشحر (6) وبعد عاد جاء من ولده من يعبد الأصنام فأقام في قومه ثلاثة أصنام عبدوها من دون الله وهي: صمود، صداء، الهباء (7).

 

وعاد كانت تتكون من عشر قبائل، كانوا جميعا على هيئة النخل طولا.

 

ولقد خصهم الله تعالى من بين الأقوام ببسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني. وبهذه القوة تمتعت عاد بين الأمم برقي في المدينة والحضارة. ويكفي بهم حضارة ما ذكره القرآن الكريم عن مدينتهم. عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، كما كانت أرضهم خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم. فهذه الأشياء وغيرها تستوجب شكر الله عليها. ولكن عادا فتنت بقوتها وسارت في قافلة الكفر مبهورة بشبابها. وعلى امتداد طريق الكفر زين الشيطان لهم أعمالهم، ومحا من ذاكرتهم ليس بعث هود فيهم فحسب، وإنما الأحداث الحقيقية التي أدت إلى الطوفان الذي أطاح بكفار قوم نوح. فبعد أن طال الأمد وانتقلت عاد إلى أرضها الجديدة. كانت الأساطير والخرافات قد دثرت أحداث الطوفان. وعلى امتداد هذه الأساطير وقف العتاة والطغاة في عاد على أن الطوفان يمكن تفادي خسائره البشرية إذا شيدت الدور والأبنية على أعمدة عالية أو فوق قمم الجبال وعلى أي مرتفع من الأرض.

 

ووفقا لهذا الفهم الذي تنتهي أصوله إلى دائرة الآمال الطويلة وحب الحياة، أقامت عاد أول حضارة لها على الأعمدة...

 

يقول تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ / إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ / الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ( (8) ذكر ابن كثير البغوي: أن هؤلاء هم عاد الأولى. وإرم اسم قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها. وكانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد. كما أنهم بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وعاد الأولى دمرها الله تعالى لتكون عبرة لعاد التي بعث الله تعالى إليها هودا عليه السلام، ولكن أهل الأحقاف لم يعتبروا، وشيدوا حضارتهم بروح حضارة عاد الأولى، فأقاموا المصانع التي تنحت الأحجار وشيدوا القصور والقلاع على الأرض، ورفعوا فوق كل مرتفع من الأرض مأوى يحمي الناس من عوامل الطبيعة، ومع هذه الأخلاق الحديدية ظهرت الثقافة الحديدية التي تنطلق من منطق القوة، واستكبرت عاد في الأرض استكبارا لا حدود له... يقول تعالى:) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ( (9) لقد بغوا وعتوا وعصوا. ولأنهم بلوا بشدة تركيبهم وقواهم اعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله (10) ومع عقيدة كهذه وثقافة كهذه، تشنق الخيول المشلولة بلا أي جريرة.

 

وتحت فقه الغطرسة الذي دونته عاد يكون السب والطعن وشتى الإهانات من نصيب كل من يحمل بين جنباته فطرة نقية سليمة، فعاد شيدت الحصون على الأرض وفوق المرتفعات، ووفقا لفقه )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( الذي دونه الفقهاء الذين كانوا بآيات الله يجحدون. انطلقت عاد وراء الخلود خوفا من الموت. وأعلام الخلود والأماني والآمال العريضة يحملها الشيطان. بربط الناس بالدنيا وهو من أجل هذا الهدف لا يترك طريقا إلى الأهواء إلا زينه وزخرفه.

 

ومن عالم الزينة تخرج الأقوال التي ما إن تسمعها الآذان حتى تنصت لها، وتتحرك الأشياء التي ما إن تراها العيون حتى تحتضنها، إن عالم عاد هو عالم كفران النعمة ونكران المنعم، الذي يستهان فيه بالقتل ولا يقام فيه للفضيلة أي وزن! وعاد أمسكت بذيل كفار قوم نوح عندما رفضوا بشرية الرسول )قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً( (11) ورفض الرسول البشر، غرس شيطاني يضمن به عدم قبول أكثر الناس الهداية التي تأتيهم من رسول يماثلهم في البشرية، فالشيطان رفض البشرية من أساسها وظن في نفسه أنه أعلى منها مقاما، ووفقا لهذا المخزون الذي تحتويه النفس الشيطانية، طرح الشيطان منهج الرفض هذا بما يستقيم مع البشر، فكل صاحب هوى وكل صاحب عدة وجموع سيرى في نفسه أنه أعلى مقاما من الذي يدعوه وعلى هذا ستنحصر الهداية في رقعة.

 

وينطلق الشيطان في الرقعة الأوسع. والشيطان بطابوره الطويل زرع له أولياء مهمتهم الصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على فقه التحقير بجميع أدواته من سب وطعن وغير ذلك، والله تعالى حذر من سبل هؤلاء الأولياء وسيدهم، وأخبر بأنهم أعداء للبشرية جمعاء ولا يريدون لها الخير. فقال تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا( (12) لقد حذر سبحانه بأنه لا ينبغي للناس أن يفتتنوا بما يزينه لهم الشيطان وذريته من ملذات الدنيا وشهواتها لكي يعرضوا عن ذكر الله، ولا ينبغي أن يطيعونهم فيما يدعون إليه!

 

وعاد افتتنت بما زينه الشيطان لها، وأطاعته فيما يدعي إليه، ورفعت أعلام )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( وفي زمان الافتتان هذا، وفي عالم الأخلاق الحديدية هذه، بعث الله تعالى هودا عليه السلام إلى عاد. ولقد تعرض القرآن الكريم لقصة عاد والنبي المبعوث فيها هود عليه السلام في عشر سور منه هي: الأعراف، هود، المؤمنون، الشعراء، فصلت، الأحقاف، الذاريات، القمر، الحاقة، الفجر، وعاد الأولى هي إرم ذات العماد.

 

وصاحب إرم غير عاد قوم هود، قال تعالى: )أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( وإنما قال عاد قوم هود ليتميز عن عاد صاحب إرم ذات العماد. وجبار إرم ذات العماد أهلكه الله لتعتبر عاد ولكن عادا أمسكت بذيله وسارت على طريقته فبعث الله فيها هودا عليه السلام، وهود عليه السلام كما يراه القلب من خلال قصته مع عاد، كان إنسانا وقورا رزينا عاقلا واسعا صدره عظيما عقله، كبيرة نفسه، ذا شعور قوي، زاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا، صلب الإيمان خشنا في ذات الله سبحانه وتعالى، على الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين أبا رحيما، لا يقابل الشر بمثله بل لا يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه (13) وكان هود عليه السلام من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا (14) وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسامهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية، وكان عليه السلام ينذر قومه، ويحذرهم بأس الله، ويضرب لهم الأمثال بقوم عاد الأولى وبقوم نوح عليه السلام قبلهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم.

 

2 - الدعوة إلى الله:

كان هود عليه السلام أول رسول من الله تعالى بعد نوح عليه السلام. وهو أول رسول بعث إلى قوم افتتنوا بقوتهم وقالوا )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( وهود عليه السلام تجمعه بقومه. صلة القرابة، ودعوة القوم إلى الهداية بواحد منهم يعرفهم ويعرفونه، يجعل الدعوة تسير بسهولة ويسر، نظرا لأن القوم يعرفون أمانة وصدق المبعوث إليهم.

 

كما أن عنصر القرابة يكون بمثابة مائدة للتعاطف من خلالها يفهمون الرسالة ويدافعون عنها وبث الدعوة أولا بين أهل القوم الواحد، لطف من الله ورحمة بالعباد، فهو سبحانه بعث رسله على أرضية القربى لتفتح القربى طريق المودة، ووضع الدعوة في أول خطواتها على أرضية التعاطف والقربى والمودة إشارة إلى أن دين الله لا إجبار فيه.

 

دين مقدمته قبل أن يتكلم تقوم على التعاطف. وبهذا كله مما تقبله الفطرة السليمة. ولكن عندما اجتالت الشياطين الناس أصبح أبناء التراب يرفضون أبناء التراب وأبناء الرحم الواحد يقاتلون إخوانهم وكل هذا تحت لافتة )أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ( تلك اللافتة التي رفضت البشر الرسول ورفضت بعد ذلك جميع الهداة الصادقين على امتداد التاريخ! وفي هذا العالم الذي ألف دق خيام القسوة والظلم كان طريق الدعوة طريقا شاقا، وقام الجبابرة العتاة داخل كل قوم باضطهاد النبي المبعوث فيهم والذين آمنوا معه وهم جميعا من أبناء جلدتهم، فتحت شعار الجبابرة )أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ( طرد الأنبياء ورجموا بالحجارة، ونتيجة لمقدمة الذين كفروا التي تحمل الحجر، أصبحت الرسالة وأتباعها في جانب وأهل الكفر والأهواء في جانب آخر..

 

وعاد أول من دون فقه الغطرسة، وقفت من هود عليه السلام موقف الضد، كان يدعوهم بكلمة المودة والتعاطف )يَا قَوْمِ( فيواجهوه بالشر الجسيم والتمرد العظيم والجرأة الغليظة. وهود عليه السلام ما كان يدعوهم إلا لعبادة الله. وما كان يخاطبهم إلا بلطف وعطف. وكان عليه السلام يعاتبهم على ما يقومون به من البناء فوق كل مرتفع من الأرض وعلى اتخاذهم مصانع تصنع لهم الحصون لعلهم يخلدون، وعلى شدتهم وخشونتهم في تعاملهم مع الناس، وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم من أموال وبنين وجنات وعيون، ودعاهم إلى الرجوع إلى الله، لأن عدم الرجوع إليه بالتوبة والعمل الصالح سيترتب عليه عذاب يوم عظيم. يقول تعالى:) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {الشعراء/127} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ / وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ / وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ /فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ / أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ / وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم( (15).

 

لقد ردهم عليه السلام في دعوته إليهم إلى الحق الذي عليه تقوم الفطرة، قال لهم: )يَا قَوْمِ( ليلقى خطابه القبول في نفوسهم، ودعاهم إلى تقوى الله، وأخبرهم بأنه أمين لهم وأنه يدلهم على الطريق الذي لا يخيب من سار على هداه. وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، وبين لهم أنه لا مطمع دنيوي له فيما يقوله لهم، فهو لم يسألهم الأجر. فإذا كان هو الأمين الذي يعرفون أمانته.

 

وهو أيضا الذي لم يسألهم الأجر. فإن في كل هذا دليل على أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه.

 

كانت هذه مقدمته عليه السلام عندما خاطبهم. ثم بدأ ينتقد حضارة الأخلاق الحديدية فقال: )أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ( قال البغوي: الريع: المكان المرتفع (16).. وكانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا محكما هائلا باهرا (17)

 

والآية: العلامة والبناء على الأماكن المرتفعة، اخترعته عاد الأولى هروبا من الطوفان بعد أن شوهت الأساطير حقيقة طوفان قوم نوح، واعتبروه ثورة طبيعية يمكن مقاومتها بالبناء فوق المرتفعات وتحصين المنشآت على الأرض ضد السيول. وبعد أن أهلك الله عادا الأولى، جاءت عاد الثانية إلى الأحقاف، وقاموا بسلخ العمد من الجبال حتى إن العمود الواحد كان بطول الجبل، ثم ينقلون هذه الأعمدة وينصبونها ويبنون عليها القصور (18)، ولقد أخبرهم هود عليه السلام أن هذا العمل لا يدرج إلا تحت عنوان العبث، لأن اليوم العظيم إذا جاء فلن تقف أمامه علامات فوق المرتفعات، ولا حصون وقلاع على الأرض الممهدة، فعملهم هذا عبث لا احتياج إليه، وهو في الحقيقة مجرد لهو وإظهار للقوة (19) ثم انتقل عليه السلام إلى الشطر الثاني من حضارة القوة فقال:) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ( قيل: المصانع كانت لنحت الجبال وبناء القصور. وقيل: هي البروج المشيدة والبنيان المخلد (20) وكان القوم يعتقدون أن هذه المصانع كافية لحمايتهم من الموت ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء.. فقال لهم عليه السلام: أتتخذون مصانع لكي تقيموا فيها أبدا.

 

وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم (21).

 

وبعد أن انتقد أعمدة عاد التي أقامت عاد عليها حضارتها وثقافتها الحديدية انتقل من الأعمدة الصخرية إلى الأعمدة التي. تتكون من لحم ودم وعظم وقال لهم: )وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ( لقد وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت (22) " إذا بطشتم " أي إذا أخذتم وسطوتم " بطشتم جبارين " أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط. والجبار هو الذي يقتل ويضرب على الغضب (23) لقد ربط عليه السلام بين الأعمدة. بين الحجارة والدماء. فأعمدة هناك تنحت من الصخر ليرفع فوقها أعلام التحدي ورجاء الخلود، وأعمدة من لحم ودماء نزلت بالإنسان إلى أسفل سافلين. فنهش أصحابها أبدان المستضعفين طمعا في امتلاك جلودهم. إن عالم الأعمدة هو عالم الجوع والخوف.

 

لقد كفروا بالنعمة وبالمنعم فألبسهم الله لباس الجوع والخوف. إن القلاع،. والحصون خوف وجوع، وبطش الجبارين خوف وجوع، لأن الاطعام والأمن لا وجود له إلا في دائرة التقوى على الصراط المستقيم. وعاد قفزت من الدائرة وانحرفت عن الصراط. وبعد أن انتقد عليه السلام حضارتهم طالبهم بالدخول في دائرة التقوى وأن يطيعوا الله تعالى فيما يأمرهم به من ترك الترف والاستكبار. لأن الله تعالى هو الذي أمدهم بما يعلمون من بسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني، وهذا ظاهر لهم حيث يفوقون الأمم من حولهم في هذا، وهذه القوة زادت من قوتهم، فالواجب عليهم أن يشكروه عليها بوضع النعمة في موضعها، لأن الهلاك سببه كفران النعمة والطغيان بالمعصية، ثم ذكر لهم عليه السلام ما أمدهم الله به وعليه قامت أيضا حضارتهم. فالله تعالى أمدهم بالأموال والأنعام والبنين وجعل لهم الجنات والعيون. فهذا العطاء يجب أن يشكروا الله عليه ويتقوه فيه، لأن عدم شكر الله قد يحول هذا العطاء من مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، ومجرى النقمة يكون إذا آثروا المعصية على الطاعة. ثم قال عليه السلام: )إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( أخبرهم أنه يخاف عليهم لأنهم قومه، ويخاف عليهم لأنه أمين لا يسألهم أجرا، مشفق عليهم من عذاب الجبار خائف عليهم من نقمته وحلول غضبه على من تمرد عليه وبغى، ولم يرحم نفسه بخضوعه لله الواحد الذي له سلطان الدنيا والآخرة.

 

كان عليه السلام يتعامل معهم على مائدة القوم، مائدة التعاطف، فماذا كان ردهم؟ لقد جاء الرد بعيدا عن مائدة التعاطف جاء من قوم لا يتعاملون مع الطبيعة ومع الناس إلا تعامل الجبابرة )قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ / وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ( (24) لقد قابلوا خطابه الذي اتسم باللطف والعطف والخلق الكريم، قابلوه بقسوة وقالوا: ما يعنينا أن تعظ أو لا تكون أصلا من الواعظين. وأن ما ذكرته من الدعوة إلى التوحيد.

 

وما بينته من المواعظ في شأن ما تقوم عليه حياتنا. كل هذا من عادة البشر الأولين الماضين الذين نسمع عنهم في الأساطير والخرافات (25).

 

والبشر الأولين بالنسبة لعاد هم قوم نوح بعد الطوفان، فبعد نوح عليه السلام بدأت قوافل التوحيد تتحرك هنا وهناك تدعو إلى الله. وبعد أن طال الأمد طوى النسيان ما كانت تعظ به هذه القوافل. ثم اقتحم الانحراف بثقافته عالم النسيان. واعتبر كل ما كان يعظ به الأوائل شذوذ وهكذا فعلت الأهواء بأصحابها. أنستهم الله فعبدوا الأصنام. وأنستهم معجزات الله يوم الطوفان فأقاموا الأعمدة لتحميهم من الطوفان. وأنستهم صوت الحق والضمير على امتداد الأيام فاعتبروا التوبة والاستغفار رجعية. وإذا كانت عاد أول من قالوا: )إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(، فلقد أمسك كفار قريش الذين واجهوا الرسالة الخاتمة بذيلهم )وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا( (26).

 

وذكر البغوي وابن كثير أن آخرين قرأوا )إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ( بضم الخاء واللام. يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر، هو دين الأولين من الآباء والأجداد.

 

ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا. ولا بعث ولا معاد. ولهذا قالوا: )وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ( (27).

 

لقد انتفخت عاد بالغطرسة وانتفشوا بالغرور وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا أمام رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله على بصيرة، ومع العتو والغرور. كان كل يوم يمر تشيد عاد المزيد من الحصون والقلاع والمخازن المملوءة بالحبوب وفقا لثقافة )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً(؟

 

1- مروج الذهب / المسعودي: 26 / 1.

2- الميزان: / 10.

3- سورة هود، الآية: 48.

4- مروج الذهب: 57 / 2، ابن كثير 507 / 4.

5- مروج الذهب: 44 / 2.

6- الميزان: 307 / 10.

7- مروج الذهب: 157 / 2.

8- سورة الفجر، الآيتان: 6 - 7.

9- سورة فصلت، الآية: 15.

10- ابن كثير 94 / 4.

11- سورة فصلت، الآية: 14.

12- سورة الكهف، الآية: 50.

13- الأنبياء - حياتهم وقصصهم / الحسني العاملي: 102.

14- ابن كثير: 225 / 2.

15- سورة الشعراء، الآيات: 123 - 135.

16- البغوي: 229 / 6، الميزان.

17- تفسير البغوي: 229 / 6

18- كتاب الأنبياء / 96.

19- البغوي: 229 / 6.

20- البغوي: 229 / 6.

21- البغوي 299 / 6.

22- البغوي: 229 / 6.

23- ابن كثير: 229 / 6.

24- سورة الشعراء، الآيات: 136 - 138

25- البغوي: 220 / 6.

26- ابن كثير.

27- ابن كثير: 342 / 1.

------------------------------

ثانيا: تكبيل القوة:

لما دعاهم هود عليه السلام إلى الله تعالى وإلى دينه. وبالغ في وعظهم وإرشادهم. وحذرهم سطوة الجبار العلي القدير وعقوبته في الدنيا والآخرة. فلم ينفع معهم ولم يفد شيئا. حبس الله سبحانه عنهم المطر كي يتنبهوا ويرتدعوا ويرجعوا إلى الطاعة. وإمساك المطر عنهم سيبعد بينهم وبين الترف لأن الترف أصل أصيل في إفساد الفطرة وإفقاد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب، وإمساك المطر يؤدي بالإنسان إلى دائرة التضرع، ليكون التضرع مدخلا إلى التوبة. وروي أن الله تعالى أمسك عنهم المطر ثلاث سنوات حتى جهدوا وأجدبوا وقحطوا.

 

فأبوا إلا تماديا فيما هم عليه، وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا (1) وعلى امتداد زمن القحط كان هود عليه السلام يدعوهم كي يستغفروا الله فيرسل سبحانه السماء عليهم مدرارا )قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ {هود/50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ / وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ( (2).

 

لقد دعاهم وقوتهم التي يستندون عليها تئن تحت ضربات القحط. دعاهم إلى عبادة الله وحده وأخبرهم أنه لا يسألهم على ما يدعوهم إليه أجرا حتى يتهموه بأنه يريد بدعوته منفعة تعود إليه أو تضربهم، وهو إنما يبغي ثوابه من الذي فطره، من الله الذي أوجده وأبدعه، ودعاهم إلى تعقل ما يقوله لهم. حتى يتضح لهم أنه ناصح لهم في دعوته، وأنه ما يريد إلا أنه يحملهم على الحق. كما دعاهم إلى طلب المغفرة من الله وأن يتوبوا ويرجعوا إليه بالأعمال الصالحة، حتى يرحمهم بإرسال سحب هاطلة ممطرة يحيي بها الأرض وينبت الزرع والعشب. ويزدهم قوة الإيمان إلى قوة الأبدان، وأخبرهم أن عبادتهم التي اتخذوها من دون الله إحرام منهم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليهم، وفي الآية دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب وهذا في قوله: )يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم( وكذا قولهم في موضع آخر: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (3) كما أن الآية بها إشعار أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمر.

 

فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن وتجلب النقمة والشقاوة والهلكة (4) كما يشير إليه قوله تعالى: )وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ( (5).

 

لقد دعاهم هود عليه السلام وهم تحت ضربات القحط إلى التعقل، فالكون يخضع لنظام دقيق، وإن الاطعام والأمن بين يدي الذي يملك الجوع والخوف، فمن انحرف عن نظام الاطعام والأمن سقط في دائرة الجوع والخوف والمد والاستدراج فماذا كان رد عاد في عالم القحط والجدب؟ )قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ / إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ( (6) لقد ردوا على هود عليه السلام فيما قاله لهم.

 

فلقد طالبهم هود بأمرين هما: أن يتركوا آلهتهم ويعبدوا الله وحده، وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم، فهذه كانت مطالب هود عليه السلام. أما الرد عليه فجاء إجمالا وتفصيلا.

 

أما إجمالا فبقولهم: )مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ( أي ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه من الرسالة، إن دعوتك لنا خالية من المعجزة. فما هي معجزتك الخارقة للعادة؟ وبما أنه لا توجد معك معجزة. فلا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

 

وأما تفصيلا فلقد رفضوا دعوته التي طالبهم فيها برفض الشركاء فقالوا: )وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ( كما رفضوا دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة فقالوا: )وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( ووفقا للإجمال والتفصيل فقد آيسوه في كلتا الحالتين،. ثم قالوا له: )إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ( أي نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون.

 

لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك. ومن كان هذا شأنه فلا يعبأ بما يقوله في دعوته (7).

 

لقد طالبوه بالمعجزة، وأخبره أنهم لن يتركوا آلهتهم من قوله، أي بمجرد قوله اتركوهم يتركوهم. وأعلنوه بصراحة أنهم له غير مؤمنين. ثم نظروا إلى حضارتهم وأعمدتهم وأصنامهم وأخبروه أن ما يقوله لهم ما هو إلا نتيجة لما أصاب عقله من جنون وخبل، ومصدر هذا الجنون تطاوله على الآلهة ونهيه عن عبادتها!

 

هكذا تفكر عاد في عالم القحط. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على عمق الحضيض الذي تهاووا فيه بعد انحرافهم عن الصراط المستقيم، إن الإنسان عندما يفقد الماء يتضرع، ولكن أصحاب الأعمدة والصخور كانت لهم قلوب لا تعاني من فقد الماء. قلوب من حجارة. نبتت وترعرعت في خيام الأخلاق الحديدية.

 

معجزة هود عليه السلام:

لقد انتفخ جبابرة عاد وطالبوه بالمعجزة )قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ( ثم قالوا بأن أصنامهم قد مسته بسوء )إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ( فجاء رد هود عليه السلام بما يريدون. جاء بالمعجزة التي تستقيم مع الذي عند قوم عاد. وعاد عندها القوة وتسير على ثقافة )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( لهذا جاءتهم المعجزة التي تقصم ظهر قوتهم: قوة الفرد أو القبيلة أو المرتزقة أو الدولة، والمعجزة جاءت في رد هود عليه السلام: )قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ / مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ / إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( (8).

 

لقد أعلن البراءة من شركائهم. ولا ينفي ذلك كونه برئ منها من أول مرة. وإعلانه البراءة هنا ليضع القوم أمام التحدي وأمام المعجزة. فلقد قالوا بأن الأصنام قد مسته بسوء. فرد عليهم بأنه برئ منها لأنها لو كانت آلهة حقا وتتمتع بعلم وقدرة فيجب عليها أن تقهره وتنتقم منه لنفسها وهو يعلن تبرؤه منها فالتبرء حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوا. وبعد أن حطم عليه السلام القاعدة الصنمية للأوثان التي من حجر. انتقل إلى القاعدة الصنمية التي من لحم ودم وعظم. وقدم للجبابرة معجزته التي أذلتهم وهم في أزهى لباس للقوة قال: )فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ( لقد كان في قوله لهم أمر ونهي تعجيزيان لقد طالبهم أن يكيدوا له وفي قوله )جَمِيعًا( إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا، وبهذا التعجيز الشامل يكون قد قدم أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل (9). لقد قال للعتاة الذين يبطشون بطش الجبارين: )فَكِيدُونِي جَمِيعًا( ليشاهدوا وليعلموا أنهم بمضارتهم وثقافتهم وقوتهم لن يقدروا عليه بقتل أو بتنكيل. على الرغم من أنهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم فيها غيرهم من أهل الشدة والبطش. فليفعلوا ولن يستطيعوا أن يضروه. وعندما يضربهم العجز.

 

فيجب عليهم أن يصدقوه.

 

ويؤمنوا به وبرسالته التي من عند الله. لأنه لولا أنه نبي من عند الله، صادق فيما يقوله، مصون من عند ربه.. لقدروا عليه بكل ما أرادوا من عذاب أو دفع، وأخبرهم بأن معجزة التحدي للقوة لا تعود إلى كونه أشد منهم قوة ولا إلى أنه ينتمي إلى جنس غير جنس البشر، فهو بشر يخاف ويكره، ولكنه لن يخاف من قوتهم الطاغية، ليس لأنه يحمل معجزة التحدي للقوة، وإنما لأنه توكل على الله ربه وربهم، فهو سبحانه الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه. وهو سبحانه المحيط بهم جميعا والقاهر لهم. وهو سبحانه الذي ينصر الحق ويظهره على الباطل إذا تقابلا.

 

وأمام معجزة هود عليه السلام ارتدت عاد ثوب المذلة، فآلهتهم لم تفعل لهود عليه السلام شيئا رغم سهر فقهاء الجبابرة أمامها وطلبهم تدخلها، والجبابرة والعتاة لم يستطيعوا أن يضروا هودا وهم أصحاب شعار )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟( إن دولة تحمل شعارا لا تستطيع العمل بمضمونه هو - وفقا لمقاييس أصحاب القمة - مذلة وهو - وفقا لمقاييس أصحاب القاع - مهانة. )فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ( (10). وعندما كانت عاد في ثوب المذلة، كان هود عليه السلام بين أتباعه في عافية وسلامة لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يناله بشر، وعندما ذاق جبابرة عاد مرارة العجز، انسحبوا من المواجهة، انسحبت الدولة كلها بأوثانها وفقهائها وجبابرتها وجنودها من أمام هود عليه السلام، ووقفوا جميعا في خندق من خنادق الصد عن سبيل الله لا يملكون فيه إلا بذاءة اللسان.

 

 

1- الميزان: 306 / 10، ابن كثير: 225 / 2.

2- سورة هود، الآيات: 50 - 52.

3- سورة الأحقاف، الآية: 24.

4- الميزان: 300 / 10.

5- سورة الأعراف، الآية: 96.

6- سورة هود، الآيتان: 53 - 54.

7- الميزان: 301 / 10.

8- سورة هود، الآيات: 54 - 56.

9- الميزان 302 / 10.

10- سورة فصلت، الآية: 15.

----------------------------

ثالثا: استعجال العذاب:

ظل هود عليه السلام يدعو قومه، لكن الاستكبار كان يجري في دمائهم.

 

رغم ما يعانون من ذل نتيجة لعدم مقدرتهم على الكيد لهود. ولما يعانونه من القحط لإمساك المطر عنهم. والمستكبر المحتاج أكثر خطرا من غيره، لأنه يستعمل جميع أدوات البطش التي لا يستعملها غيره. وإن كان غيره يمكن أن يدمر من حوله من أجل نفسه فإن المستكبر المحتاج يمكن أن يدمر كل من حوله حتى نفسه ولا يتنازل عن هواه وجميع الذين استكبروا قبل أن يضربهم عذاب الاستئصال أوقفهم الله في دائرة الحاجة كي يستغفروا. لكنهم خرجوا من الدائرة وهم يشهرون مخالبهم في وجه كل طاهر، ويغرسون أنيابهم في جسم كل عفيف، طمعا في أن يخنقوا الأرض أو يصيبوها بالوباء. إن الاستكبار بجميع فصائله ينطلق من مملكة الظلم، التي يديرها أصحاب الرؤوس الفارغة والقلوب القاسية، وهؤلاء لا يتنازلون عن هوى من أهوائهم فيه حاجة لهم. وإن ترتب على ذلك الهلاك للجميع. لأنهم ببساطة ألد أعداء الجنس البشري وإن كانوا ينتمون إليه. هم ألد أعداء الإنسانية لأنهم يتصورون أن في عروقهم تجري الدماء النقية، ووفقا لهذا التصور أو الاعتقاد رفضوا قديما النبي البشر، وتطور الرفض فيما بعد إلى كل حامل علم لا يستقيم مع أهوائهم وإن كان حامل العلم معه سلطان وبرهان.

 

لقد خرجت عاد من دائرة الاحتياج رافضة للتوبة والاستغفار، وأمام العناد كان هود عليه السلام يبلغ رسالات ربه إليهم )يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ( (1) لم يحدثهم عن قلاعهم وحصونهم. إنما دعاهم فقط إلى عبادة الله. ولم يضف على ذلك شيئا. فماذا كان ردهم؟ )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (2) لقد كان جوابهم له فيه احتقار ومهانة. واجهوه أولا بأن فيه سفاهة. وواجهوه ثانيا بأنهم يظنون أنه من الكاذبين.. لتد واجهوه بهذه التهم لأنهم سمعوا منه دعوته أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يعترض على آلهتهم. فأخرجوا من جعبتهم تهمة السفاهة ورموه بها، والسفاهة: خفة العقل التي تؤدي إلى الخطأ في الآراء. ولقد زادت عاد وقاحة على قوم نوح، فقوم نوح رموا نوحا بالضلال في الرأي، أما عاد فقد رموا هودا بالسفاهة. إنها الغطرسة التي تلقي بالتهم هكذا جزافا بلا تدبر ولا دليل، ثم اتهموه بالكذب في غير تحرج ولا حياء، أنظر إلى قولهم له: )إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( ثم انظر إلى جوابه عليه السلام: )يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ / أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ( (3) لقد رد عليهم ردود الأنبياء. رموه بالسفاهة، فلم يخرجه ذلك عن وقار النبوة، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية، وأخبرهم أنه ليس به سفاهة، ولكنه رسول من رب العالمين، لا شأن له بما أنه رسول من الله، إلا تبليغ رسالات الله، وإن كانوا يظنون أنه كاذبا.

 

فهو ليس بغاش لهم فيما يريد أن يحملهم عليه، ولا خائن لما عنده من الحق، وكل ما يريده منهم هو التدين بدين التوحيد الذي يراه حقا، لأن هذا الدين هو الذي فيه نفعهم وخيرهم، وقد وصف عليه السلام نفسه بالأمين محاذاة لقولهم )وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (4).

 

لم يقابل هود عليه السلام الشر بمثله. ولم يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه. لقد رموه بالسفاهة، فقال: ليس بي سفاهة، ورموه بالكذب فقال: أنا لكم ناصح أمين، إنه منطق النبوة في الوعظ والإرشاد وهود عليه السلام كان واسع الصدر في دولة ترفع شعار )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( وكان ذا شعور قوي وزاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا صلب الإيمان في دولة إذا بطشت بطشت بطش الجبارين، وبعد أن نفى عن نفسه ما ألقوه عليه من تهم قال لهم: )أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( (5). لقد أراد أن يجذبهم من خيمة الأهواء والغطرسة إلى رحاب الشكر والحمد. فقال لهم: لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذلك، واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه، واشكروا الله الذي جعلكم أطول من أبناء جنسكم. واذكروا نعم الله ومنته عليكم لعلكم تفلحون (6).

 

لقد طالبهم بالشكر في أربعة مواضع:

أولا: أنه سبحانه بعث فيهم رسولا منهم وهذه نعمة تستحق الشكر.

ثانيا: أنه سبحانه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح دون غيرهم من الأمم.

ثالثا: أنه سبحانه زادهم في الخلق بصطة. وزيادة الخلق تزيد القوة ويترتب على ذلك إقامة المدينة والحضارة.

رابعا: أنه سبحانه أعطاهم من النعم ما لا تحصى ولا تعد وكل نعمة من نعم الله يجب شكرها، وشكرها أن توضع في موضعها، فماذا كان رد الجبابرة عندما طالبهم هود عليه السلام بأن يذكروا الله ويشكروه؟ )قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( (7) لقد رفضوا الذكر والشكر. وذلك لرفضهم عبادة الله وحده. كما حافظوا في ردهم على عبادة ما وجدوا عليه آباءهم. وفي خاتمة ردهم طالبوا بالعذاب.

 

وهكذا طالب هود بمطالب تنسجم مع الفطرة، فردوا بردود تنسجم مع العذاب العظيم لقد استكبرت عاد! قالوا لهود عليه السلام: )أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ( لقد وجدوا في التوحيد قيد، وجدوا فيه افعل ولا تفعل. أما ما كان يعبد الآباء فلا قيد فيه. لأن الأصنام لا تأمر ولا تنهى. وعلى هذا تكون أهواء الجبابرة طليقة في عالم الاغواء والتزيين. والقوي فيهم يكون سيدا للغابة، ولا قانون إلا قانونه، وفي عالم الغابة هذا، إذا قدمت ماءا صافيا لإنسان، برزت أنيابه كذئب يعوي!

 

وإذا حملت طعاما نقيا للجائعين، لا ينظرون إليه.. بل إليك! ويقتفون أثرك كاللصوص ليسرقوك. أو كقطاع طرق ليقتلوك وفي عالم الغابة إذا قدمت فكرة!

 

كلمة! ليتأملها عقل، فستدفع ثمن إنسانيتك غاليا، لأن الفكرة رحمة، والذئاب تعتبر الرحمة شذوذا. لقد رفض الجبابرة أن يعبدوا الله وحده، وأرادوا أصنام الآباء وما كان يراه الآباء. فالجماجم تحت التراب تراث. ورفض التراث في قانونهم جريمة. والجماجم تحت التراب على هداها يسير الأحياء والشيطان لهم دليل. إنه عالم الصم البكم العمي، رفضوا الشكر في المقدمة ورفعوا ما كان يعبد آباؤهم في الخاتمة ثم قالوا لهود عليه السلام: )فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( وعندما قالوا ذلك سمعوا الرد الأخير على أقوالهم. الرد الذي ستأتيهم من بعده الخاتمة ليكونوا بعد ذلك أحاديث وعبرة لمن أراد الاعتبار.

 

فعندما سألوا هودا عليه السلام أن يأتيهم بالعذاب: )قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ( (8).

 

أجابهم عليه السلام: بأنه قد وقع عليهم من ربهم رجس وغضب. لأنهم يحاجونه في هذه الأصنام التي سموها هم وآباؤهم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لهم على عبادتها حجة ولا دليل (9) وبأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم. أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب. ثم هددهم بما يستعجلون من العذاب. وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، وأمرهم بالإنتظار. وأخبرهم بأنه مثلهم في انتظار العذاب (10).

 

وعلى هذا انتهى الجدل، وانتظر الجميع القول الفصل الذي يحمل العذاب الشامل على فريق الجبابرة وأتباعهم. ويكون رحمة شاملة على طائفة المؤمنين مع هود عليه السلام، وجبابرة عاد عندما طلبوا العذاب، ظنوا أن في هذا الطلب تعجيز لهود عليه السلام مقابل تعجيزه لهم في الكيد له. فأمام معجزته التي طرحها عليهم )فَكِيدُونِي جَمِيعًا( قالوا له: )فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( فقولهم: )إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( يحمل ظنهم في عدم مقدرته الإتيان بالعذاب، لأنهم ابتداء يكذبونه في رسالته. وهود عليه السلام عندما حذرهم من عذاب اليوم العظيم. كان في الحقيقة يحذرهم من عذاب الاستئصال، لأن سنة الاستئصال كانت هي الجارية في صدر البشرية. وذلك لأن ظهور المجتمع الشاذ عن سبيل الفطرة في مرحلة تكوين المجتمعات الإنسانية.

 

قد يؤدي إلى انتشار الشذوذ والانحراف في المجتمعات الأخرى. لهذا كان بتر العضو المريض الذي لم يتقبل الدواء. رحمة وعبرة وشفاء للإنسانية في كل مكان. رحمة لأن الداء قد بتر ودفن في مكانه ولم يجتحهم، وعبرة كي يعيد المنحرف ترتيب أوراقه على أساس صحيح، وشفاء لقوم مؤمنين وتثبيت وإبلاغ لهم بأن السماء لا يفر من تحتها الظالمون.

 

لقد دخلت عاد بأقدامها إلى دائرة الاستئصال، وعندما قالوا لهود عليه السلام: )فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( (11) لم يزد عليه السلام في رده عن قوله: )إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ( (12) لقد قصر عليه السلام العلم بنزول العذاب في الله تعالى: )إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ( لأن العذاب من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل. أما هود فلا علم له ما هو العذاب؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقب عليه السلام بقوله: )وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ( أي أن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغته إليكم، ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟

 

وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه، وإني أراكم قوما تجهلون، فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم. حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزؤون بما يوعدكم به من العذاب (13). لقد ظنت عاد أن طلبها للعذاب تعجيز لهود عليه السلام، في الوقت الذي كانوا فيه يسيرون بأقدامهم على طريق العذاب الذي يصل بهم إلى اليوم العظيم. لقد كانت أقدامهم تدب على أرض جدباء أخذ أهلها حذرهم من الطوفان فأذلهم العطش.

 

وجاءت الرياح:

جلس قضاة الطاغوت في ديار الجبابرة ومن حولهم جنود عاد الذين شربوا من إناء الأخلاق الحديدية في ثقافة )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( جلسوا تحت السماء التي تمسك عنهم المطر، ومن حولهم نخالة الحبوب الناشفة. وأوراق الأشجار الميتة، لم يرفعوا أكفهم إلى السماء حتى يرفع الله عنهم العقاب، وإنما انطلقوا في يوم عيدهم إلى أكبر أصنامهم وتجمعوا حوله يسألونه الماء أساس حضارة عاد، ففي هذا العيد وكان يوافق دائما يوم الأربعاء. خرج الجبابرة وخدامهم من الفقهاء والجنود ومن حولهم الغوغاء والرعاع أصحاب العيون التي انطفأ منها كل بريق يحمل معنى من معاني الرحمة، وأمام الصنم الأكبر وقفوا يبتهلون ويتضرعون بالآباء تحت لهيب الشمس المحرقة، ولم تكن هناك رياح تسري في الحدائق سريانها البديع. ولم يكن للنسيم الرقيق وجود بينهم يوم زحامهم على أصنامهم. كان الحر شديدا وقطرة الماء أمل للإنسان وللحضارة العريضة التي تتربع عليها عاد، وبينما هم ينظرون في الأفق شاهدوا سحابا ثقيلا يستقبل أوديتهم. يقول تعالى: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا( (14) لقد حكموا على العارض بما يعلمون، ولكن الحقيقة لا يعلمها إلا الله فما كل سحاب يأتي بالماء، وما كل رياح تحمل الخير، فعاد وفقا لحضارتها وعقيدتها وثقافتها تحكم على الأشياء بما جرت به العادة، فالأب الأول في قافلة الانحراف ترك صنما، وهذا الصنم عبدته القافلة كلها، فإذا جاءت عاد ووجدته يكون الخروج عن العادة والتقاليد شذوذا.

 

وأمام العادة والتقاليد فليسقط السمع والبصر والفؤاد. ووفقا لهذا المقياس شاهدوا العارض فقالوا بأنه ممطر، لأن علمهم وقف عند الحد الذي يقول بأن السحاب لا يحمل إلا الماء. أما الذين يؤمنون بالله فيعلمون أن العناصر كلها خاضعة لخالقها، وقد تحمل هذه العناصر النعم لقوم بينما تحمل النقم لقوم آخرين، وقد تمطر السماء هنا ماء بينما تمطر في مكان آخر حجارة من سجيل منضود. لهذا كان الإيمان بالله هو روح النظر إلى الأشياء عند الذين آمنوا. وكانت تقوى الله هي المقياس الذي تتحطم عليه العادات والتقاليد، وكان الخوف من مكر الله يجعلهم في ارتعاد دائم، لأنهم بشر يعيشون على الأرض. والأرض يجري عليها الاختبار ويجري عليها الاستدراج والاستئصال. ويأتي العذاب للظالمين من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.

 

وعندما شاهدت عاد العارض وهي تحت مظلة عقيدة الأصنام وثقافة الاستكبار )قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا( لكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك يقول تعالى: )بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ / تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( (15) فبين سبحانه أولا أنه العذاب الذي استعجلوه حين قالوا لهود: )فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( وزاد سبحانه في البيان ثانيا بقوله: )رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ( تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال، وفي موضع آخر يقول سبحانه: )أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ / مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ( (16) والريح العقيم هي المفسدة التي لا تنتج شيئا (17) والتي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح. كتنشئة سحاب أو تلقيح أشجار أو نفع حيوان أو تطيب هواء (18) وفي موضع آخر يقول تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ / تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ( (19) وفسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، والشديدة البرودة، والشديدة الصوت، والشديدة الهبوب (20). وقوله تعالى: )في يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ( المراد باليوم هنا قطعة من الزمن، لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع. لقوله تعالى في موضع آخر: )فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ( (21) وقوله تعالى:) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا( (22). فتبارك الذي يضرب في كل زمان وكل مكان ويرحم في كل زمان. وكل مكان.

 

لقد جاءت الريح لتضرب المرتفعات والأعمدة وتضرب المنخفضات والحصون، جاءت الريح العقيم التي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة في عالم حضارة عاد، جاءت لتدمر كل شئ )بِأَمْرِ رَبِّهَا( فضاع الجبابرة وخدام الجبابرة أصحاب البطش والأخلاق الحديدية. روي أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار. ثم تنكسه على أم رأسه. فيسقط على الأرض فتثلغ رأسه. فيبقى جثة بلا رأس (23) ولهذا قال تعالى: )كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ / فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ / وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ( (24) وعلى امتداد أيام العذاب كان الجبابرة والمستكبرين يهرولون في كل مكان هربا من قسوة الرياح حتى إنهم كانوا يتحصنون الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من الله شيئا (25) لقد أقاموا الأعمدة إلى أعلى وفقا لحسابات الطوفان، وأسرفوا في هذا العبث إسرافا كبيرا، وعندما جاءتهم الريح جعلوا من أنفسهم أعمدة في بطن الأرض، ولكن هيهات هيهات !

 

لقد طحنت الريح قصورهم وحصونهم ومدائنهم. عصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما )فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ( وكانت ترفع الرجال والنساء إلى الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين.

 

وكانت الريح تقلع الرجال والنساء من تحت أرجلهم ثم ترفعهم إلى السماء ثم تحطمهم حطما، كانت الريح تمر بأهل البادية فحملهم هم ومواشيهم وأموالهم حتى يكونوا بين السماء والأرض وتلقى بأهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة (26) لقد قهرت الريح الذين فشوا في الأرض وقهروا أهلها تحت شعار )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( أما هود عليه السلام وأتباعه فروي أنه عليه السلام اعتزل ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس (27) )وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( (28) )فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ( (29).

 

لقد جاءتهم الريح في يوم نحس كانوا يحتفلون فيه بمجد آبائهم الأوائل.

 

ففي اليوم النحس جاءتهم الريح لتكون عليهم في أيام نحسات ذات غبار وتراب لا يرى فيها أحد أحدا. جاءتهم مسخرة من الله عليهم، تضربهم مرة بعد مرة كي يستوعب الجميع الهلاك وذكر المسعودي: أن الريح أتتهم يوم الأربعاء. فما جاءت الأربعاء الثانية وفيهم أحد حي (30). وذهبت عاد وأصبحوا عبرة لمن أراد الاعتبار. وبقيت الريح.. نعم بقيت، فهي على كل مكان من الأرض. وهي في جوف كل إنسان وهي في مخازن الله. وكما ذكرنا أن للمؤمن مقاييس ينظر بها إلى الأحداث من حوله وما يمكن أن يترتب عليها، فليس كل ريح تأتي بخير وليس كل سحاب يأتي بماء. ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه. فلما سئل: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وإذا رأيته أنت عرفنا في وجهك الكراهية. قال عليه وآله الصلاة والسلام " ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب.

 

قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا " (31) وذهبت عاد. وقطع دابر الذين كفروا. فلا ترى لهم باقية. ليسر في عصرنا أحد ينتسب إلى عاد بدمائه لأن دابرهم قد قطع. ولكن في عصرنا من هواه على هوى عاد، في عصرنا يوجد من يقول: )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( وفي عصرنا أعلام ورايات تمارس سياسات التجويع والتخويف، وفي عصرنا فتحت للغطرسة معاهد، وراجت الأخلاق الحديدية التي لا تقيم للفضيلة وزنا. بل ذبحتها تحت المقاصل تحت شعار روح العصر الحديث. وفي عالم الأخلاق الحديدية. زخرف الشيطان كل شئ بما يستقيم مع روح العصر. وفي عالم الزخرف اعتنق الناس فضائل الأهواء وكل فضيلة من حديد. كل فضيلة ظاهرها الرحمة وباطنها يقبع فيه عمود من أعمدة عاد )وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ( (32).

 

وذهبت عاد. ولما كانت عاد في صدر القافلة البشرية من بعد قوم نوح.

 

وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خاتمة القافلة الإنسانية فإن الله تعالى ربط بين البلاء والختام في مواضع من القرآن الكريم. وبين سبحانه أن عادا كانوا من التمكن على درجة عالية لم تكن لكفار مكة. وكان لهم من أدوات الادراك والتمييز ما يستطيع به الإنسان الاحتيال لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة. لكن كل هذا لم يغن عنهم. ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عندما جحدوا آيات الله. فما الذي يؤمن كفار خاتمة القافلة من عذاب الله وهم جاحدون لآيات الله يقول تعالى بعد أن أخبر عن هلاك عاد )وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون / وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (33) وفي الربط بين البدء والختام أيضا يقول تعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم: )فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود( (34) إنها تذكرة إنذارية، ليكون البدء هناك عبرة للخاتمة هنا )وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ / وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( (35).

 

مشهد وحركة:

لقد جحدت عاد بآيات الله من الحكمة والموعظة والمعجزة التي أظهرت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل، جحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم، وعصوا رسول ربهم هودا عليه السلام، ومن قبله من الرسل، لأن عصيان الواحد منهم هو عصيان للجميع. فكلهم يدعون إلى دين واحد، وعلى ذلك فهم عندما يعصون هودا يكونون قد عصوا بعصيانه سائر رسل الله، وسلسلة الأنبياء تنتهي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سمع به ولم يؤمن بما أنزل معه يكون بعصيانه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد عصى سائر رسل الله، والذين عصوا هودا عليه السلام إلى أين ذهبوا؟ لقد ذهبوا إلى كل جبار يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد واتبعوه. ولم يتبعوا كل جبار فقط ولكنهم اختاروا من بين الجبابرة كل جبار عنيد، والجبار العنيد علاوة على أنه يقهر الناس إلا أنه فوق هذا كثير العناد فلا يقبل الحق. )وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( وهذا الاختيار الذي رفضوا فيه هودا عليه السلام واتبعوا فيه كل جبار عنيد ألقى بهم في دائرة اللعن في الدنيا ويوم القيامة حيث العذاب الخالد، يوم يقف التابع والمتبوع من الذين استكبروا وهم ناكسوا رؤوسهم عند ربهم )وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ( (36) في الدنيا كان الجبابرة وخدامهم يضعون الذين آمنوا في مربع المجرمين. أما في الآخرة فسيقولها الجبابرة لحملة أقلامهم وسياطهم وغوغائهم. يا لعدل الله.. تأمل قول الخدام لأئمة الكفر: )لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ( يتهمونهم بإجبارهم على الكفر. وأنهم حالوا بينهم وبين الإيمان.

 

بالرغيف والشهوة والجاه والمال، بالتخويف والتجويع والترغيب والترهيب. ثم تأمل رد أئمة الكفر في عاد وكل عاد مهما اختلفت الأسماء والأعلام. تأمل ردهم على الخدام الخلان )أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ( أنحن صرفناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟! إن بلوغه إليكم بواسطة الرسول أقوى دليل على أننا لم نحل بينه وبينكم لقد سمعتم الدعوة. وكنتم مختارين بين الإيمان وبين الكفر. لكنكم كنتم متلبسين بالإجرام مستمرين عليه، فأجرمتم بالكفر بالإيمان لما جاءكم من غير أن يخبركم عليه، فكفركم منكم ونحن برءاء منه (37) إنه العتاب الذي لا يجدي.

 

ويؤدي في النهاية إلى ضعف من العذاب لكل من الأئمة والخدام، إن عادا بداية وعبرة للمجرمين )وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ( (38) أنظر إلى المشهد والحركة في النص القرآني )نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ( لقط أحاط بهم الخزي والذل فنكسوا رؤوسهم واعترفوا بما كانوا ينكرونه في الدنيا. وسألوا ربهم العودة إلى الدنيا عندما تبين لهم أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح. لقد سألوا العودة.

 

ولن يعودوا.

 

لقد اتبع الجبابرة الصغار الجبابرة الكبار في الحياة الدنيا. التف الصغار حول كل جبار عنيد واتخذوه قدوة من يوم نوح عليه السلام وحتى يوم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. ليصدوا عن سبيل الله. ولكن مدارس الصد على امتداد الزمان هي التي تسقط وهي التي تحترق. إن سقوط الباطل في كل زمان يعني انتصار الحق في كل زمان والباطل باطل وإن رفع شعار )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( وكان معه أكثر الناس، والحق حق وإن قل أتباعه والحق حق وإن وقف في حظيرة على الأرض. والباطل باطل وإن رفع أبنيته على الأعمدة ألم تر أن عادا استأصلهم الله وأن هود أنجاه الله برحمة منه. ألم تر أننا نقص هنا أخبار المجرمين ليرى الحاضر سقوط الباطل المهين في الدنيا والآخرة.

 

1- سورة الأعراف، الآية: 65

2- سورة الأعراف، الآية: 66.

3- سورة الأعراف، الآيتان: 67 - 68.

4- الميزان: 178 / 10.

5- سورة الأعراف، الآية: 69.

6- ابن كثير: 224 / 2.

7- سورة الأعراف، الآية: 70.

8- سورة الأعراف، الآية: 71.

9- ابن كثير: 225 / 2.

10- الميزان

11- سورة الأحقاف، الآية: 22.

12- سورة الأحقاف، الآية: 23.

13- الميزان: 211 / 18.

14- سورة الأحقاف، الآية: 24.

15- سورة الأحقاف، الآيتان: 24 - 25.

16- سورة الذاريات، الآيتان: 41 - 42.

17- ابن كثير: 236 / 4، البغوي: 71 / 8.

18- الميزان.

19- سورة القمر، الآيتان: 19 - 20.

20- ابن كثير: 364 / 4، الميزان /، البغوي: 134 / 8.

21- سورة فصلت، الآية: 16.

22- سورة الحاقة، الآية: 7.

23- البغوي: 135 / 8، ابن كثير: 265 / 4.

24- سورة القمر، الآيات: 20 - 22.

25- ابن كثير: 342 / 3، البغوي: 231 / 6.

26- ابن كثير: 412 / 4.

27- ابن كثير: 226 / 2.

28- سورة هود، الآية: 58.

29- سورة الأعراف، الآية: 72.

30- مروج الذهب: 159 / 2.

31- ابن كثير: 161 / 4.

32- سورة إبراهيم، الآية: 42.

33- سورة الأحقاف، الآيتان: 26 - 27.

34- سورة فصلت، الآية: 13.

35- سورة هود، الآيتان: 59 - 60.

36- سورة سبأ، الآيتان: 31 - 32.

37- الميزان.

38- سورة السجدة، الآية: 12.