سورة الممتحنة

سورة الممتحنة

مدنيّة.

و آيها ثلاث عشرة آية بالإجماع.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده: عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله امتحن اللّه قلبه للإيمان، ونوّر له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في بدنه ولا في ولده.

و

في مجمع البيان : ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات شفعاء له يوم القيامة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ: تفضون إليهم المودّة.

و الجملة ال من فاعل «تتّخذوا»، أو صفة «أولياء». جرت على غير من هي له فلا حاجة فيها إلى إبراز الضّمير فيها، لأنّه مشروط في الاسم دون الفعل.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. ولفظ الآية عامّ، ومعناه خاصّ.

و كان سبب ذلك، أنّ حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة،و كان عياله بمكّة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-]  وهل يريد أن يغزو مكّة؟

فكتبوا إلى حاطب يسألوه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب، أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة، فوضعته في قرونها  ومرّت.

فنزل جبرئيل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأخبره بذلك.

فبعث رسول اللّه أمير المؤمنين- عليه السّلام- والزّبير بن العوّام في طلبها، فلحقوها، فقال لها أمير المؤمنين: أين الكتاب؟

فقال: ما معي شي‏ء. ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئا.

فقال الزّبير: ما نرى معها شيئا.

فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: واللّه، ما كذبنا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، ولا كذب رسول اللّه على جبرئيل، ولا كذب جبرئيل على اللّه، واللّه، لئن لم تظهري الكتاب، لأردّنّ رأسك إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقالت: تنحيّا عنّي حتّى أخرجه. فأخرجت الكتاب من قرونها، فأخذه أمير المؤمنين- عليه السّلام- وجاءا به إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه: يا حاطب، واللّه، يا رسول اللّه، ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت، وأنّي أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّك رسول اللّه حقّا، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم.

فأنزل اللّه على رسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

و

في مجمع البيان : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّ سارة، مولاة أبي عمرو بن صفي  بن هشام، أتت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من مكّة إلى المدينة بعدبدر بسنتين.

فقال لها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أ مسلمة جئت؟

قالت: لا.

 [قال: أ مهاجرة جئت؟

قالت: لا.]

قال: فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهب مواليّ، واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال: فأين أنت من شباب مكّة؟ وكانت مغنيّة نائحة.

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّ رسول اللّه عليها بني عبد المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يتجهّز لفتح مكّة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة فكتب معها [كتابا]  إلى أهل  مكّة، وأعطاها عشرة دنانير ... عن ابن عبّاس، وعشرة دراهم ...

عن مقاتل بن حيّان، وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة، [و كتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة:]  انّ رسول اللّه يريدكم، فخذوا حذركم.

فخرجت سارة، ونزل جبرئيل فأخبر النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- بما فعل، فأرسل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا وعمّارا وعمر والزّبير وطلحة والمقداد بن أسود وأبا مرشد ، وكانوا كلّهم فرسانا، وقال لهم: انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ، فإنّ [بها ظعينة]  معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها.

فخرجوا حتّى أدركوها في ذلك المكان الّذي ذكره رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت باللّه ما معها من كتاب، فنحّوها وفتّشوا متاعهافلم يجدوا  معها كتابا، فهمّوا بالرّجوع.

فقال عليّ- عليه السّلام-: واللّه، ما كذبنا ولا كذبنا. وسلّ سيفه، وقال:

أخرجي الكتاب وإلّا، واللّه، لأضربنّ عنقك.

فلمّا رأت الجدّ، أخرجت من ذؤابتها قد خبّأته في شعرها، فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللّه، فأرسل إلى حاطب فأتاه.

فقال له: هل تعرف الكتاب؟

قال: نعم.

قال: ما حملك على ما صنعت؟

 

فقال: يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- واللّه، ما كفرت مذ أسلمت، ولا غششتك مذ نصحتك، ولا أحببتهم مذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته، وكنت عريرا، أي غريبا، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يدا، وقد علمت أنّ اللّه ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعذره.

فقام عمر بن الخطّاب وقال: يا رسول اللّه، دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: وما يدريك [يا عمر]  لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم.

و

روى البخاريّ ومسلم ، في صحيحيهما، عن عبد اللّه بن أبي رافع قال:

سمعت عليّا- عليه السّلام- يقول: بعثنا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أنا والمقداد والزّبير، وقال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخرجنا وذكر نحوه.

و

في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- لرجل: إن كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه، وإن كنت واليت عدوّه فاخرج من ملكه. (الحديث)وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ: حال من فاعل أحد الفعلين.

يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أي: من مكّة. وهو حال من «كفروا»، أو استئناف لبيانه.

أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ: بأن تؤمنوا به. وفيه تغليب المخاطب والالتفات من المتكلّم إلى الغيبة، للدّلالة على ما يوجب الإيمان.

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ: من أوطانكم.

جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي: علّة للخروج، وعمدة للتّعليق .

و جواب الشّرط محذوف دلّ عليه «لا تتّخذوا».

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ»: بدل من «تلقون»، أو استئناف معناه: أيّ طائل لكم في إسرار المودّة، أو الإخبار بسبب المودّة.

وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، أي: منكم.

و قيل : «أعلم» مضارع، والباب مزيدة، و«ما» موصولة أو مصدريّة.

وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، أي: يفعل الاتّخاذ.

فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ : أخطأه.

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ: يظفروا بكم.

يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً: ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم.

وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ: بما يسوؤكم، كالقتل والشّتم.

وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ : وتمنّوا ارتدادكم.

و مجي‏ء «ودّوا» وحده بلفظ الماضي، للإشعار بأنّهم ودّوا ذلك قبل كلّ شي‏ء، وأنّ ودادتهم حاصلة وإن لم يثقفوكم.

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ: قراباتكم .

وَ لا أَوْلادُكُمْ: الّذين توالون المشركين لأجلهم.

يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ: يفرق بينكم بما عراكم من الهول، فيفرّ بعضكم‏من بعض، فما لكم ترفضون اليوم حقّ اللّه لمن يفرّ عنكم غدا.

و قرأ  حمزة والكسائيّ، بكسر الصّاد، والتّشديد، وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر :

 «يفصّل» ، على البناء للمفعول، مع التّشديد [و «هو بينكم»] .

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : فيجازيكم عليه.

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: قدوة، اسم لما يؤتسى به.

فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ: صفة ثانية. أو خبر «كان»، و«لكم» لغو ، أو حال من المستكنّ في «حسنة»، أو صلة لها لا «لأسوة» لأنّها وصفت.

إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: ظرف لخبر «كان».

إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ: جمع بري‏ء، كظريف وظرفاء.

وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ، أي: بدينكم، أو بمعبودكم، أو بكم وبه، فلا نعتدّ بشأنكم وآلهتكم.

وَ بَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ: فتنقلب العداوة والبغضاء الفة ومحبّة.

و

في كتاب التّوحيد : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه وقد ذكر قوله - تعالى-: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ  بَعْضاً: والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: فيبرأ بعضهم من بعض. ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشّيطان:

إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. وقول إبراهيم خليل الرّحمن: كَفَرْنا بِكُمْ، يعني: تبرّأنا منكم.

و

في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد ، عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر [في كتاب اللّه- عزّ وجلّ-.قال: الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه:

... إلى أن قال- عليه السّلام-: والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ- يحكي قول إبراهيم- عليه السّلام-: كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، يعني: تبرّأنا منكم.

و

بإسناده  إلى أبي عبيدة الحذّاء: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-]  قال: من أحبّ للّه- عزّ وجلّ- وأبغض للّه وأعطى للّه جلّ وعزّ- فهو ممّن كمل إيمانه.

ابن محبوب ، عن مالك بن عطيّة، عن سعيد الأعرج، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من أوثق عرى الإيمان أن يحبّ  في اللّه، ويبغض في اللّه، ويعطي في اللّه، ويمنع في اللّه.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ الرّجل ليحبّكم وما يعرف ما أنتم عليه، فيدخله [اللّه- عزّ وجلّ-]  الجنّة بحبّكم، وإنّ الرّجل ليبغضكم وما يعرف  وما أنتم عليه، فيدخله اللّه النّار ببغضكم.

و

بإسناده  إلى الحسين بن أبان: عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: ولو أنّ رجلا أبغض رجلا للّه، لأثابه اللّه على بغضه إيّاه، وإن كان المبغض في علم اللّه من أهل الجنّة.

و

بإسناده  إلى إسحاق بن عمّار: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كلّ من لم يحبّ على الدّين [و لم يبغض على الدين‏]  فلا دين له.

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: وهو آزر عمّه، الّذي هو صنو أبيه.

لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ:استثناء  من قوله: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فإنّ استغفاره للكافر  ليس ممّا ينبغي أن تأتسوا به، فإنّه وعده الاستغفار عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ بالإيمان فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ . ولو لم يستثن ذلك لظنّ أنّه يجوز وعد الاستغفار مطلقا من غير موعدة بالإيمان.

وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ: من تمام قوله المستثنى.

رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ : متّصل بما قبل الاستثناء.

أو أمر من اللّه للمؤمنين بأن يقولوه، تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: بأن تسلّطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نتحمّله.

و

في أصول الكافي»: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن عقبة، عن إسماعيل بن عبّاد، يرفع الحديث إلى أبي عبد اللّه - عليه السّلام- قال: ما كان من ولد آدم مؤمن إلّا فقيرا، ولا كافر إلّا غنيّا، حتّى جاء إبراهيم فقال: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فصيّر اللّه في هؤلاء أموالا وحاجة، وفي هؤلاء أموالا وحاجة.

وَ اغْفِرْ لَنا: ما فرط منّا. رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

و من كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكّل، ويجيب الدّاعي.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: تكرير لمزيد الحثّ على التأسّي بإبراهيم، ولذلك صدّر بالقسم وأبدل قوله: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ من «لكم» فإنّه يدلّ على أنّه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التّأسّي بهم، وأنّ تركه مؤذن بسوء العقيدة، ولذلك عقّبه بقوله:

وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ : فإنّه جدير بأن يوعد به الكفرة.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةًلمّا نزل: «لا تتّخذوا» عادى المؤمنون أقاربهم المشركين وتبرّأوا عنهم، فوعدهم اللّه بذلك وأنجز إذ أسلم أكثرهم وصاروا لهم أولياء.

وَ اللَّهُ قَدِيرٌ: على ذلك.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ : لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ (الآية) فإنّ اللّه أمر نبيّه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفّارا، فقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إلى قوله-: غَفُورٌ رَحِيمٌ قطع اللّه ولاية المؤمنين منهم وأظهروا لهم  العداوة، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ (الآية) فلمّا أسلم أهل مكّة خالطهم أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [و ناكحوهم، وتزوّج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  أمّ حبيب بنت أبي سفيان بن حرب.

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، أي: لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، لأنّ

قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ: بدل من «الّذين».

وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ: وتفضوا إليهم بالقسط، أي: العدل.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، أي: العادلين.

قيل : روي أنّ قتيلة بنت عبد العزّى قدمت مشركة على بنتها، أسماء بنت أبي بكر بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدّخول، فنزلت.

و في مجمع البيان : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ- إلى قوله-: الْمُقْسِطِينَ، أي:

ليس ينهاكم اللّه عن مخالطة أهل العهد.

و قيل : من آمن من أهل مكّة ولم يهاجر.

و قيل : هي عامّة في كلّ من كان بهذه الصّفة. والّذي عليه الإجماع: أنّ برّالرّجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرّم، وإنّما الخلاف في إعطائهم مال الزّكاة والفطرة والكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا، وفيه خلاف بين الفقهاء.

إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ، كمشركي مكّة، فإنّ بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، [و بعضهم أعانوا المخرجين‏] .

أَنْ تَوَلَّوْهُمْ: بدل من الدين بدل الاشتمال.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ : لوضعهم الولاية في غير موضعها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ:

فاختبروهنّ بما يغلب على ظنّكم موافقة قلوبهنّ لسانهنّ  في الإيمان.

اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ: فإنّه المطّلع على ما في قلوبهنّ.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ: العلم الّذي يمكنكم تحصيله ، وهو الظّنّ الغالب بالحلف وظهور الأمارات. وإنّما سمّاه علما، إيذانا بأنّه كالعلم في وجوب العمل به.

و قيل : الامتحان أن يشهدن أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه.

و قيل : امتحانهنّ بما في الآية الّتي بعد، وهو أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً (الآية) فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ: إلى أزواجهنّ الكفرة، لقوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.

و التّكرير للمطابقة  والمبالغة. أو الأولى لحصول الفرقة، والثّانية للمنع عن الاستئناف.

وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا: ما دفعوا إليهنّ من المهور.، وذلك لأنّ صلح الحديبية جرى على أنّ ما جاءنا منكم رددناه، فلما تعذّر إليه ردّهنّ لورود النّهي عنه، لزمه ردّ مهورهنّ.

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ: فإنّ الإسلام حال بينهنّ وبين أزواجهن‏الكفّار.

إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: شرط إتيان المهر في نكاحهنّ، إيذانا بأنّ ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ (الآية) قال: إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف باللّه، أنه لم يحملها على اللّحوق بالمسلمين بغض زوجها الكافر ولا حبّها  لأحد من المسلمين، وإنّما حملها على ذلك الإسلام.

فإذا حلفت على ذلك، قبل إسلامها. ثمّ قال اللّه- عزّ وجلّ-: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ (الآية)، يعني: يردّ المسلم  على زوجها الكافر صداقها ثمّ يتزوّجها  المسلم، وهذا هو قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (الآية).

و

في الكافي : أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن عليّ بن يعقوب، عن مروان ابن مسلم، عن الحسين بن موسى الحنّاط، عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ لامرأتي أختا عارفة على رأينا بالبصرة ، وليس على رأينا بالبصرة إلّا قليل، فأزوّجها ممّن لا يرى رأيها؟

قال: لا، ولا نعمة . إنّ اللّه يقول: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.

و في مجمع البيان : قال ابن عبّاس: صالح رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بالحديبية مشركي أهل مكّة، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللّه، فهو لهم ولم يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه. 

فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنّبيّ‏بالحديبية، فجاء زوجها مسافر من بني مخزوم- وقال مقاتل: هو  صيف  بن الراهب - في طلبها وكان كافرا، فقال: يا محمّد، أردد عليّ امرأتي، فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام فَامْتَحِنُوهُنَّ.

قال ابن عبّاس: امتحانهنّ أن يستحلفنّ: ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا، إنّما خرجت حبّا للّه ولرسوله.

فاستحلفها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ما خرجت بغضا لزوجها، ولا عشقا لرجل منّا، وما خرجت إلّا رغبة في الإسلام، فحلفت باللّه الّذي لا إله إلّا هو على ذلك. فأعطى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولم يردّها عليه، فتزوّجها عمر بن الخطّاب. وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يردّ من  جاءه من الرّجال، ويحبس من جاءه من النّساء إذا امتحنّ ويعطي أزواجهنّ مهورهنّ.

قال الجبّائيّ : لم يدخل في شرط صلح الحديبية إلّا ردّ الرّجال دون النّساء ولم يجر للنّساء ذكر، وإنّ أمّ كلثوم بنت عقبة  بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكّة فجاء أخواها إلى المدينة وسألا رسول اللّه ردّها عليهما.

 [فقال- عليه السّلام-: الشّرط بيننا في الرّجال لا في النّساء. فلم يردّها عليهما.]

قال الجبّائيّ : وإنّما لم يجر هذا الشّرط في النّساء لأنّ المرأة إذا أسلمت لم تحلّ لزوجها الكافر، فكيف تردّ عليه وقد وقعت الفرقة بينهما.

وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ: بما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب جمع، عصمة.قيل : والمراد: نهي المسلمين  [عن المقام‏]  على نكاح المشركات.

و قرأ  البصريّان: «و لا تمسّكوا» بالتّشديد.

و

في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن أحمد بن عمر، عن درست الواسطيّ، عن عليّ بن رئاب، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب.

قلت: جعلت فداك، وأين تحريمه؟

قال: قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.

عليّ إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه - عزّ وجلّ-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.

فقال: هذه منسوخة بقوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ يقول: من عنده امرأة كافرة، يعني: على غير ملّة الإسلام [و هو على ملّة الإسلام‏]  فليعرض  عليها الإسلام، فإن قبلت فهي امرأته وإلّا فهي بريئة منه، فنهى اللّه أن يمسك بعصمتها.

و في مجمع البيان ، عند قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و

روى أبو الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: أنّه منسوخ بقوله : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. وبقوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.

و

في مصباح شيخ الطّائفة ، خطبة لعليّ- عليه السّلام- خطب بها يوم الغدير، وفيها يقول: وتقرّبوا إلى اللّه بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ: من مهور نسائكم اللّاحقات بالكفّار.

وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا: من مهور أزواجهم المهاجرات.

ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ، يعني: جميع ما ذكر من الآية.

يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ: استئناف. أو حال من الحكم، على حذف الضّمير. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ : يشرّع ما تقتضيه حكمته.

وَ إِنْ فاتَكُمْ: وإن سبقكم وانفلت منكم.

شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ: [أحد من أزواجكم‏]  وقد قرئ  به.

و إيقاع «شي‏ء» موقعه للتّحقير والمبالغة في التّعميم. أو شي‏ء من مهورهنّ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ.

قيل : أي: فجاءت عقبتكم، أي: نوبتكم من أداء المهر. شبّه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور [نساء]  هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الرّكوب وغيره.

فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا: من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر.

روي : أنّه لمّا نزلت الآية المتقدّمة أبى المشركون أن يؤدّوا مهر الكوافر، فنزلت.

و قيل : معناه: إن فاتكم فأصبتم من الكفّار عقبى، وهي الغنيمة، فآتوا بدل الفائت عن الغنيمة.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ : فإنّ الإيمان به ممّا يقتضي التّقوى منه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم في قوله: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، يعني: إذا لحقت امرأة من

المسلمين بالكفّار فعلى الكافر أن يردّ على المسلم‏صداقها، فإن لم يفعل الكافر وغنم المسلمون غنيمة أخذ منها قبل القسمة صداق المرأة اللّاحقة بالكفّار.

و

 [في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-]  قال في قوله- تعالى-:

وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ [إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ يقول : يعني: من يلحقن بالكفّار من أهل عقدكم ، فاسألوهم صداقها. وإن لحقن بكم من نسائهم شي‏ء، فأعطوهم صداقها . وأمّا قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ‏]  يقول: وإن لحقن  بالكفّار الّذين لا عهد بينكم وبينهم، فأصبتم غنيمة فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.

قال: وكان سبب نزول ذلك أنّ عمر بن الخطّاب كانت عنده فاطمة بنت أبي  أميّة بن المغيرة، فكرهت الهجرة معه وأقامت مع المشركين، فنكحها معاوية بن أبي سفيان، فأمر اللّه رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها.

و

في كتاب علل الشّرائع : حدّثنا محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصّفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن صالح بن سعيد وغيره من أصحاب يونس، [عن يونس‏]  عن أصحابه، عن أبي جعفر- عليه السّلام- وأبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت: رجل لحقت امرأته بالكفّار، وقد قال اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ (الآية) ما معنى العقوبة هاهنا؟

قال: إنّ الّذي ذهبت امرأته فعاقب على امرأة أخرى غيرها، يعني: تزوّجها، فإذا هو تزوّج امرأة أخرى غيرها فعلى الإمام أن يعطيه مهر امرأته الذّاهبة.

فسألته: فكيف صار المؤمنون يردّون على زوجها [المهر بغير فعل منهم في ذهابها، وعلى المؤمنين أن يردّوا على زوجها]  ما أنفق عليها ممّا يصيب المؤمنون؟قال: يردّ الإمام عليه، أصابوا من الكفّار أم لم يصيبوا، لأنّ على الإمام أن يجبر حاجة  من تحت يده، وإن حضرت القسمة فله أن يسدّ كلّ نائبة تنوبه قبل القسمة، وإن بقي بعد ذلك شي‏ء قسّمه بينهم، وإن لم يبق لهم شي‏ء [فلا شي‏ء لهم‏] .

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ: ولا يقتلن أولادهنّ على وجه من الوجوه، لا بالوأد ولا بالإسقاط.

قيل : يريد: وأد البنات.

وَ لا يَأْتِينَ  بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.

قيل : أي: بكذب يكذبنه في مولود يوجد بين أيديهنّ وأرجلهنّ، أي: لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم.

و قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ، وذلك أنّ الولد إذا وضعته الأمّ سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى من نهيهنّ على أن يأتين بولد من الزّنا فينسبنه إلى الأزواج، لأنّ الشّرط بنهي الزّنا قد تقدّم.

و قيل : البهتان الّذي نهين عنه قذف المحصنات، والكذب على النّاس، وإضافة الأولاد إلى الأزواج على البطلان في الحاضر والمستقبل من الزّمان.

وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: في حسنة تأمرهنّ بها.

و التّقييد بالمعروف، مع أنّ الرّسول لا يأمر إلّا به، تنبيه على أنّه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.

فَبايِعْهُنَّ: إذا بايعنك بضمان الثّواب على الوفاء في هذه الأشياء وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا فتح رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- مكّة بايع الرّجال، ثمّ جاء النّساء يبايعنه، فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ- إلى قوله-: رَحِيمٌ.

قالت هند: أمّا الولد فقد ربّيناهم صغارا  وقتلتهم كبارا.

و قالت أمّ حكيم بنت الحرث بن هشام- وكانت عند عكرمة بن أبي جهل-: يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما ذلك المعروف الّذي أمرنا اللّه ألا نعصيك فيه؟

قال: لا تلطمن خدّا، ولا تخمشن وجها، ولا تنتفن شعرا، ولا تشققن جيبا، ولا تسوّدن ثوبا، ولا تدعين بويل. فبايعهنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على هذا.

فقالت: يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كيف نبايعك؟

قال: إنّني لا أصافح النّساء. فدعا بقدح من الماء فأدخل يده ثمّ أخرجها، فقال: أدخلن أيديكنّ في هذا الماء، فهي البيعة.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن أسلم الجبليّ ، عن عبد الرّحمن بن سالم الأشلّ، عن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: كيف ما سح رسول اللّه النّساء حين بايعهنّ؟

قال: دعا بمركنه  الّذي يتوضّى فيه فصبّ فيه ماء، ثمّ غمس يده [اليمنى‏] ، فكلّما بايع واحدة منهنّ قال: اغمسي يدك. فتغمس كما غمس رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فكان هذا مماسحته إيّاهن.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله.

أبو عليّ الأشعريّ ، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم قال: قال أبوعبد اللّه- عليه السّلام-: أ تدري كيف بايع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- النّساء؟

قلت: اللّه أعلم وابن رسوله أعلم.

قال: جمعهنّ ثمّ دعا بتور برام ، فصبّ فيه ماء نضوحا، ثمّ غمس يده فيه، ثمّ قال:

اسمعن، يا هؤلاء، أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكنّ، ولا تأتين ببهتان تفترينه من بين أيديكنّ وأرجلكنّ، ولا تعصين بعولتكنّ في معروف، أقررتنّ؟

قلن: نعم. فأخرج يده من التّور.

ثمّ قال لهنّ: اغمسن أيديكنّ. ففعلن، وكانت يد رسول اللّه الطّاهرة أطيب من أن يمسّ بها كفّ أنثى ليس له بمحرم.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: المعروف ألّا يشقّقن جيبا، ولا يلطمن خدّا، ولا يدعون ويلا، ولا يتخلّفن عند قبر، ولا يسوّدن ثوبا، ولا ينشرن شعرا.

محمّد بن يحيى ، عن سلمة  بن الخطّاب، عن سليمان بن سماعة الخزاعيّ، عن عليّ بن إسماعيل، عن عمرو بن أبي المقدام قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: أ تدرون ما قوله- تعالى-: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ؟

قلت: لا.

قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال لفاطمة- عليها السّلام-: إذا أنا متّ فلا تخمشي عليّ وجها، ولا ترخي عليّ شعرا، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة.

قال: ثمّ قال: هذا المعروف الّذي قال اللّه- عزّ وجلّ-.و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : أخبرنا أحمد بن إدريس، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد، عن عليّ، عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ.

قال هو ما فرض اللّه عليهن من الصّلاة والزّكاة، وما أمرهنّ من خير.

و في من لا يحضره الفقيه : وفي رواية ربعي بن عبد اللّه، أنّه لمّا بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- النّساء وأخذ عليهنّ دعا بإناء فملأه، ثمّ غمس يده في الإناء، ثمّ أخرجها، ثمّ أمرهنّ بأن يدخلن أيديهنّ فيغمسن  فيه.

و

في مجمع البيان : وروي أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- بايعهنّ وكان على الصّفا، وكان عمر أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النّساء خوفا أن يعرفها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقال: أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا.

فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرّجال. وذلك أنّه بايع الرّجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط.

فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: ولا تسرقن.

فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل ممسك، وإنّي أصيب من ماله هنات ، فلا أدري أ يحلّ لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال.

فضحك رسول اللّه، وعرفها.

فقال لها: وإنّك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف، يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك.

فقال: ولا تزنين.

فقالت هند : او تزني الحرّة؟! فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه وبينها في‏الجاهليّة.

فقال- عليه السّلام-: ولا تقتلن أولادكنّ.

فقالت [هند] : ربّيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- يوم بدر، فضحك عمر حتّى استلقى، وتبسّم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.

و لمّا قال: ولا تأتين ببهتان.

فقالت هند: واللّه، إنّ البهتان قبيح، وما تأمرنا إلّا بالرّشد ومكارم الأخلاق.

و لمّا قال: ولا يعصينك في معروف.

فقالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شي‏ء.

و روى الزّهريّ  [عن عروة،]  عن عائشة قالت: كان النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يبايع النّساء بالكلام بهذه الآية: أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وما مسّت يد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يد امرأة قطّ إلّا امرأة يملكها. رواه البخاريّ في الصّحيح.

و روي  أنّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان إذا بايع النّساء، دعا بقدح ماء فغمس يده فيه، ثمّ غمسن أيديهنّ فيه.

و قيل : إنّه كان يبايعهنّ من وراء الثّوب ... عن الشّعبيّ.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل : يعني: عامّة الكفّار.

و قيل : اليهود، لأنّها نزلت في بعض فقراء المسلمين كان يواصلون اليهود [بأخبار المسلمين‏]  ليصيبوا من ثمارهم.

قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ: لكفرهم بها، أو لعلمهم بأن لا حظّ لهم فيها لعنادهم الرّسول المنعوت في التّوراة المؤيّد بالآيات.

كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ : أن يبعثوا، أو يثابوا، أو ينالهم‏خير منهم.

و على الأوّل وضع الظّاهر فيه موضع الضّمير، للدّلالة على أنّ الكفر آيسهم.

و

في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، عن إبراهيم بن محمّد الثّقفيّ قال: سمعت محمّد بن صالح بن مسعود قال: حدّثني أبو الجارود، زياد بن المنذر، عمّن سمع عليّا- عليه السّلام- يقول: العجب كلّ العجب بين جمادي ورجب.

فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا العجب الّذي لا تزال تعجب منه؟

فقال: ثكلتك أمّك، وأيّ عجب أعجب من أموات يضربون  كلّ عدوّ للّه ولرسوله ولأهل بيته، وذلك تأويل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ (الآية). فإذا أشتدّ القتل قلتم: مات، أو هلك، أو أيّ واد سلك. ذلك تأويل هذه الآية : ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً.

و هذا التّأويل يدلّ على الرّجعة.

و قوله: «قلتم : مات أو هلك»، [يعني: القائم- صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطّيّبين صلاة باقية إلى يوم الدين‏] .