سيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم -2

خامسا: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة:


1 - الدعوة في المدينة:

هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد أن أخرجه الذين كفروا من مكة بغير حق. وفي المدينة قام ببناء مسجده بعد أن آخا بين المهاجرين والأنصار بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. فلقد قامت المؤاخاة بتذويب جميع الفوارق بين الإنسان وأخيه الإنسان. في المدينة بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتم ببناء الفرد الذي هو أساس المجتمع فكان على صلة دائمة بالأفراد والقبائل يسألوه ويجيب ويبين لهم وأمور دينهم. وفي عالم المدينة لم تختلف الدعوة كثيرا عنها في مكة. لأن الأسس التي وضعها الإسلام لبناء الفرد والجماعة أسس واحدة تقبلها الفطرة في كل زمان ومكان. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم نادى في المدينة بما نادى به في مكة وحث على طاعة الله. وحفظ اللسان ومحاسبة النفس. وحث على التفكر. وحث على الصبر والقناعة والحياة وحسن الخلق والوفاء بالوعد. وحث على التواضع والتوبة والعفو. وحث على مخالفة الهوى وعلى الإقتصاد في جميع الأمور. ونهى عن الحسد وعن الكذب وعن الشماتة وعن الغرور ونهى عن الاستحقار وعن الحرص وعن العجب وحب الجاه والزور ونهى عن قتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين وأكل مال اليتم ظلما ونهى عن قذف المرأة المحصنة وقطيعة الرحم. ونهى عن السحر والإضرار بالآخرين. ونهى عن الزنا واللواط السحاق ونهى عن السرقة وشرب الخمر وأكل الربا وأكل السحق وأكل لحم الميتة. ونهى عن البخس في المكيال وعن حبس الحقوق من غير عذر. ونهى عن ترك الصلاة المفروضة ومنع الزكاة الواجبة.

 

ونهى عن الإضلال عن سبيل الله والحكم بغير ما أنزل الله. ونهى عن النفاق والظلم إشاعة الفواحش. ونهى عن الغيبة والنميمة والاشتغال بالملاهي. ونهى عن الفتنة وعن التجسس على المسلمين ومحاربة المؤمنين وإيذائهم ونهى عن الرياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون عذر.

 

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم للنفس الدواء الشافي لها من أمراض الانحراف وكان يرفع عن الفطرة الأحمال الغليظة التي وضعها معسكر الانحراف من خلال ثقافته وتربيته. وبعد أن خاطب النبي كل فرد في أعماق نفسه ودعاه إلى سعادة الحياة وطيب العيش تحت مظلة التوحيد. نادى عليه الصلاة والسلام بالوحدة واعتنى بأمر الاجتماع قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (1) وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ (2) لقد اهتم الإسلام من يومه الأول بالاجتماع. وجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية. والإسلام في تعاليمه لا ينتج إلا اجتماع قوي. لأنه يبدأ بتربية الأخلاق والغرائز في الفرد الذي هو أصل وجود المجتمع ونتيجة لذلك يكون المجتمع قادرا على قهر القوى الفردية المشتتة الأهواء حتى ولو اجتمعت تحت راية واحدة. والمجتع الإسلامي الذي يقوم على القرآن وسنة رسول الله ينطلق من قاعدته الأصلية التي شيدت على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله. أما غيره من مجتمعات فيقوم على الأهواء ولا أجر ولا جزاء عند الأهواء إلا هباء ضائع في خلاء.

 

2 - الصد عن سبيل الله:

لم تكف أجهزة ومؤسسات الصد عن سبيل الله عن الكيد للدعوة الإسلامية بعد الهجرة. بل قامت هذه الأجهزة باستعمال أسلحة جديدة للقضاء على دعوة الحق. منها سلاح أهل الكتاب وسلاح النفاق. ولم تكف قريش يوما واحدا عن التحرش بأهل الإسلام من أجل جرهم إلى معركة حربية نظرا لما كانوا يعتقدون بأن المسلمين أمة جديدة لم يشتد ساعدها وعليهم ببتر هذا الساعد قبل أن يشتد ويطيح بخيام الانحراف التي تغذي الأهواء. وأسلحة الصد التي استخدمها معسكر الانحراف كثيرة نكتفي منها بثلاثة:

 

1 - الصد بالسلاح:

بعد الهجرة بدأت أجهزة الصد في مكة ترصد كل من قال الله ربي. فإذا أوقع في أيديهم إما أن يقتل وإما أن يخرجوه من الديار. كما بدأوا يتحرشون بأهل المدينة فتارة يقطعون طرقهم وتارة يبثون عليهم ما يفتن الناس في دينهم. وبعد أن قطع جبابرة الظلام شوطا كبيرا في هذا المجال. أمر الله تعالى بالحرب. وقال لرسوله في آيات كريمة: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ / الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ (3) قال المفسرون: أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا - من جانب المشركين - وإن الله على نصرهم لقدير. ثم بين تعالى كونهم مظلومين. وهو أنهم أخرجوا من ديارهم وقد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم. ولم يخرجوهم بحمل وتسفير. بل آذوهم وبالغوا في إيذائهم وشددوا التعذيب والتفتين. حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة والتغرب عن الوطن وترك الديار والأموال. فقوم إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإخراجهم إياهم وألجؤهم إلى الخروج. ولقد أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله. وفي هذا إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق. إلى حيث جعلوا قولة القائل ربنا الله. وهي كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره (4).

 

والحرب في الإسلام غيرها تحت أي راية أخرى ففي الإسلام الله هو الذي يأمر والله هو الذي يحدد الأهداف والله هو الذي ينصر من التزم بتعاليمه. أما الرايات الأخرى فالتاريخ يشهد أن القديم كان يحارب من أجل الأهواء والحديث يحارب من أجل الأهواء. أهواء الفرد أو القبيلة أو الحزب والجميع في خدمة أهواء بني إسرائيل الذين ينقبون في الطين عن ميراث مزعوم. والحرب في الإسلام تنطلق من قاعدة واحدة يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ (5) قال المفسرون: كون القتال في سبيل الله. لأن الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد. فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم. فالقتال في السلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ الاعتداء هو الخروج عن الحد. والنهي عن الاعتداء، مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتدى. كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق. والابتداء بالقتال. وقتل النساء والصبيان. وغير ذلك مما تبينه السنة النبوية (6) فحروب الإسلام لا اعتداء فيها. لأن الذين يقومون بها يقومون من أجل من الدفاع عن الفطرة. الفطرة لا تقبل الاعتداء ولأنهم يدافعون عن الفطرة طالبهم الله تعالى بأن يعدوا لأعدائهم الذين يريدون هدم الفطرة. ما استطاعوا ليرهبوا به عدو الله الذي هو عدوهم.

 

قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (7) قال المفسرون وجه تعالى الخطاب إلى الناس. وذلك لأن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية. يحفظ فيها حقوق كل فرد ويراعي فيها مصلحة الضعيف والقوي والغني والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكل على حد سواء. ولما كانت المنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد. فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة. والإعداد وإن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والإمكانات البالغة. لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية والتدريب بفنونها. فالتكليف تكليف الجميع. وبالجملة فإن الإنفاق من أجل الإعداد فيه حفظ للمجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه وأعراضه وأمواله. والإنفاق والإعداد فيه حفظ للدين الذي به يعبد الله في أرضه. وكل فرد ينفق في سبيل الله مالا أو جاها أو أي نعمة يرجع إلى نفسه نفع ما أنفقه من نماء في الدنيا والآخرة إن الإسلام يدافع عن البشرية ويحافظ على التوازن لأن أي انحراف بشري هو في حقيقته انحراف عن دوران الكون. وأي انحراف ضد الكون يقابل إما بالطوفان وإما بالرياح وإما بالصيحة. ولله جنود السماوات والأرض. والإسلام كما طالب كل صغير وكبير بأن يعد ما في استطاعته لدحر أعداء الكون. وضع للجميع دستورا حربيا وفرض عليهم أن يتبعوه لأن النصر يتحقق به قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ / وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين / وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ / وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (8) قال المفسرون: أوجب الله على المؤمنين أمور ستة. وطالبهم برعيتها في الحروب الإسلامية عند لقاء العدو وهي: الثبات. وذكر الله كثيرا. وطاعة الله ورسوله. وعدم التنازع. وأن لا يخرجوا بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله. وقال صاحب الميزان: ومجموع الأمور الستة دستورا حربيا جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية شيئا. والمتأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلامية الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبدر وأحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أن الأمر في الغلبة والهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي وعدم رعايتها والمراقبة لها والمساهلة فيها (9).

 

فأي حرب دفعت راية إسلامية ولم تلتزم في انطلاقها بقانون عدم الاعتداء ولم تأخذ بالأسباب لإعداد ما استطاعت من قوة ولم تلتزم بهذه الأمور الستة هي حرب للأهواء فيها نصيب كبير. ولا تصب نتائجها إلا في وعاء الفتنة والإسلام برئ من كل من ارتكب تحت لافتته الجرائم يريد بها الحياة الدنيا. وبرئ من كل اتهام اتهمه به طابور الانحراف الذي ليس عنده علم يرى. بل ظلمات بعضها فوق بعض. والإسلام كما أوضحنا لم يبدأ بقتال. فالقرآن الكريم في مكة أمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله سبحانه وتعالى.

 

ثم نزلت آيات القتال بعد أن خرجت طوابير الانحراف شاهرة أسلحتها. فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم (10) ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب (11) ومنها آيات القتال مع المشركين عامة وهم غير أهل الكتاب (12).

 

و آيات القتال هي آيات الدفاع عن الفطرة. فالإسلام هو دين التوحيد بناه الله تعالى على أساس الفطرة. ومن أجل هذا فهو القيم على إصلاح الإنسانية فإقامة الإسلام والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة. لأنه وحده يمثل الدفاع عن حق الإنسانية في حياتها. فإذا كان في الشرك بالله هلاك الإنسانية وموت الفطرة. فكذلك كانت معارك الإسلام إعادة لحياة الإنسانية وإحيائها بعد الموات ولما كان الإسلام دينا عالميا لا بد أن تصل دعوته إلى بني الإنسان. ولأن العرب هم الطريق إلى العجم والعجم لا يؤمن حتى يؤمن العرب. ولأن العرب لا تؤمن حتى تؤمن قريش. كان لا بد من كسر شوكة قريش التي خرجت بها لتصد عن سبيل الله. و الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في جميع معاركه كان يوصي سراياه وعساكره بتقوى الله ويقول: " اغزوا باسم الله وفي سبيل الله.

 

قاتلوا من كفر بالله. ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى إحدى ثلاث. فإن أجابوكم إلى واحدة فاقبلوا منهم واكففوا عنهم: أدعوهم إلى الدخول في الإسلام. فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا. ثم أدعوهم إلى التحول إلى دار المهاجرين. فإن فعلوا. فاخبروهم أن لهم. ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية. فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا عنهم. فإن أبوا فاستعينوا بالله وقاتلوهم " والرسول الاكرام صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ معركة قط إلا بعد أن يقيم الحجة. ولم يبدأ بحرب قط من دائرة الاعتداء. وفي حربه مع قريش لم يلجأ إلى السلاح في بداية الأمر وإنما رد اعتدائهم بمحاربتهم اقتصاديا بعد الهجرة. فسد عليهم طرق التجارة. رجاء أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى. لكن قريش تمادت في الاعتداء. فكان في السيف دواء. كان السيف ضرورة لا بد منها. لإفساح الطريق أمام الكلمة التي تقيم الحجة على الناس.

 

وعندما أهلكت الحروب المتعاقبة قريش. اضطروا إلى المعاهدة على ترك القتال. وبعد توفيق معاهدة الحديبية بين المسلمين وقريش. وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجالا لنشر الدعوة الإسلامية. فكتب إلى ملوك العرب والعجم والأساقفة وشيوخ القبائل يدعوهم إلى الله سبحانه. وبث عليه الصلاة والسلام الدعاة في اليمن والبحرين واليمامة وبلاد غسان. وأسلم جمع من العرب والعجم خلال هذه الهدنة. بعد أن علموا أن ما قالته قريش في محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصد عن دعوته ما هو إلا كذب وبهتان وأن مرماه الشريف حقن الدماء وصلة الأرحام ودعوته هي توحيد الله الواحد القهار. وإذا كانت قريش هم أول من رفع السلاح للصد عن سبيل الله فإن اليهود بعد الهجرة لم تكن أيديهم بعيدة عن السلاح. فلقد قاموا بتوجيه معسكر الانحراف نحو السلاح وباركوا خطواته. وروت السيرة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة وأسلم أكثر الأوس والخزرج. تقبل اليهود فكرة المهادنة بينهم وبين المسلمين والتعاون المشترك لمصلحة الطرفين. وتعاهدوا مع النبي وكتب السيرة تحتوي على نصوص هذه المعاهدة التي وضعها النبي بينه وبين يهود المدينة وجوارها. ولكن اتجاه الإسلام وأهدافه التي تقوم على التآخي والعدالة والمساواة وتحريم الربا والغش والاستغلال. هذا الاتجاه الذي كان من أبرز سمات الإسلام. لم يتفق مع أماني اليهود ورغباتهم ونواياهم السيئة التي كانوا يبيتونها لجميع الناس. لا سيما وقد لمسوا أن محمدا لا يخدع ولا يستسلم لضغط من الضغوط مهما كان نوعها. وإلا يمكن أن يستغل لصالح فريق على فريق. ووجدوا أن الإسلام يغزو النفوس ويسيطر على العقول ويسير في شبه الجزيرة بسرعة غير عادية بالرغم من ضراوة خصومه ومواقفهم المتصلبة في وجهه. فلم يعد لهم من سبيل حسب تقديرهم إلا أن يقفوا موقف الحذر الذي يستغل الفرصة للوقيعة بخصمه.. وعلى امتداد هذه المدة أسلم بعض أحبارهم وصدقوا في إسلامهم.

 

كما تظاهر فريق منهم بالإسلام وأبطنوا الكفر والنفاق. وبدأ أكثر اليهود يستغلون المناسبات لإثارة الفتن ويسألون النبي عن أشياء بقصد تعجيزه والسخرية منه أحيانا. كما بدأوا يعملون من أجل إحداث فجوات بين المسلمين أنفسهم وانضم إلى اليهود جماعة من المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام وأسروا النفاق (13) وبدأ الكيد اليهودي يتسع شيئا فشيئا. وزجوا بنصارى نجران في ساحة الفتن فراحوا يبشرون بعقيدة المسيح الإله. وكان اليهود يطمعون في إشعال نار الحرب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الملك الذين يقولون بعقيدة المسيح الإله أو المسيح ابن الإله. وعلى الرغم من أن الوحي كان يفضح سياسات اليهود. إلا أنهم كانوا يتمادون في طغيانهم. ونقضوا عهودهم ومواثيقهم التي أبرموها مع رسول الله و اصطفوا أمام الدعوة على خندق واحد. الأمر الذي جعل السيف ضرورة لإفساح الطرق أمام الكلمة الحق التي تقيم الحجة على الناس أجمعين.

 

وتحركت قوات الإسلام لرد الاعتداء ودكت حصون اليهود في بني قريظة وخيبر. وبني إسرائيل يعلمون أن القتال في سبيل الله إذا حدث. فهو ضرورة تحتمها الفطرة ولأنهم ضد الفطرة. كان لا بد من حملهم على الكف عن الصد. لأن عملهم يفتح الأبواب لضربات الكون و فناء البشر. ومن أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام. من حمل السلاح دفاعا عن الفطرة. وكتب بني إسرائيل تشهد بذلك.

 

والقرآن يذكر طرفا من هذا. يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾(14).

 

لقد أزاحت طلائع الإسلام اليهود من الطريق عندما صدوا عن سبيل الله.

فراح تلاميذ اليهود يصفون الإسلام بالبربرية والوحشية ويصفون دعوته بأنها من أجل الامتلاك! إمتلاك أي شئ يغذي الأهواء. والتقط القردة في كل مكان ما قاله تلاميذ اليهود. وراحوا يصفون سيف الفطرة بالعدوان. في الوقت الذي يشيدون فيه بسيف عزرا الذي يبحث عن أرض الميعاد. تلك الأرض التي لا وجود لها إلا في عالم الطمس والقهقري.

 

2 - الصد بتراث الآباء:

في المدينة تاجر الانحراف بما بين أيديه من تراث الآباء. فاليهود راحوا يدعون أنهم أبناء إبراهيم وأن دينهم هو الدين الأحق. والنصارى الذين يقولون بألوهية المسيح ادعوا أن إبراهيم معهم وفي معسكرهم النصراني والمشركين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء. واستقروا في نهاية المطاف على قلوب اليهود وما تحتويه وبالجملة: لم تقف حملات التشكيك بعد الهجرة ففي الآيات المدنية شككوا في القرآن وفي الرسول بنفس الحجج التي نسفها لهم الوحي في مكة. والجديد في الأمر أن حججهم في المدينة كانت عليها بصمات أهل الكتاب مما يدل أن أهل الكتاب في هذه الآونة كانوا يتحركون ويبثون ثقافتهم على الأسماع بانتظام يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...﴾ (15) قال المفسرون: الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب. ويدل عليه المقابلة التي في الآية السابقة على هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ﴾ إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أن أهل الكتاب ألحقهم الله بقولهم بالمشركين والكفار من العرب وألحق المشركين والكفار بهم. فمن قبل اقتراح اليهود بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى عليه السلام. فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس. تشابهت قلوبهم (16).

 

وإذا كان المشركون قد التقطوا من اليهود أهواء آبائهم الأوائل وصدوا بها عن سبيل الله. فأن النصارى الذين أمسكوا بذيل بولس تاجروا أيضا ببضاعة بولس في عهد المدينة المنورة. والجدير بالذكر أن أهل الكتاب في العهد المكي كانوا يتحركون بصورة تكاد تكون خفية. أما في أيام المدينة فلقد برزوا كعضو مؤثر في عالم الصد عن السبيل وهذا يبدو واضحا في عدد الآيات التي كشفت حقدهم وحسدهم وعنادهم ففي المدينة فضحهم الوحي أما في مكة فكان الوحي يقص عليهم قصصهم ويبين لهم كثيرا مما اختلفوا فيه لعلهم يتوبوا إلى الله. وفي عهد المدينة خرجت من نجران قافلة ترفع لافتة المسيح الإله وسارت بهذه اللافتة على أرض التوحيد. وقص الوحي عليهم القول الحق في المسيح عليه السلام.

 

ولكنهم أبو إلا أن يمسكوا بتراث الآباء الذين يتقدمهم بولس. وأمام هذا الاصرار تلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (17) قال المفسرون: " الآيات نازلة في الإحتجاج ومتعرضة بشأن وفد نصارى نجران ". ومعنى الآية: إن مثل عيسى عند الله. أي وصفه الحاصل عنده تعالى. أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده. إن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم. وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكوينا بشريا من غير أب.

 

فالبيان بحسب الأحقية منحل إلى حجتين. تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عند المسيح عليه السلام:

إحداهما: أن عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه - خلقه بشر وإن فقد الأب. ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا.

 

وثانيهما: إن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى خلقه أن يقال بألوهيته بوجه. لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه. فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى عليه السلام أيضا لمكان المماثلة (18).

 

ولم ينصت حملة التراث للحجة الدامغة. ولم يكن هناك من سبيل إلا وضعهم أمام الموت. بمعنى أن يقف الأطراف ويتلاعنوا ليأخذ الله تعالى الظالم منهم وعلى هذا فالذي على الحق ليس له أن يخاف لأن الردع الإلهي إذا جاء سيأخذ خصمه. وكانت المبادرة بوضع الأطراف أمام الموت مبادرة إسلامية. قال الله تعالى لرسوله: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (19) قال المفسرون: المباهلة والملاعنة. وإن كانت في الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى. إلا أنها عمت الدعوة وشملت الأبناء والنساء. ليكون ذلك أدل على اطمئنان الداعي بصدق دعواه. وأنه على الحق. فالمجئ بالأبناء و النساء فيه أن قلب الإنسان يميل إليهم ويحبهم ويشفق عليهم. ويركب الأهوال والمخاطر في سبيل حمايتهم. ولذلك قدم البناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم. فالمجئ بالأولاد والأحباب فيه تحدي للباطل وبأن الحق واثق من النصر. والنصارى بقبولهم هذا التحدي فإنما يضعون الحاضر والمستقبل فداء الماضي لا يعرفون عنه من كتبهم شيئا وهم في شك مريب من أحداثه. باختصار كان قدومهم بالأطفال والنساء من أجل الدفاع عن تراث الآباء خسارة كبيرة لهم وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة للمباهلة. جاء رحال النصارى. وكان طرف المحجة عند رسول الله هو قوله: إن الله لا إله غيره وأن المسيح عيسى عبده ورسوله. أما الطرف الآخر من المحجة فكان عند النصارى وهو قولهم: إن عيسى هو الله. أو أنه ابن الله. أو أن الله ثالث ثلاثة. ولقد اتفقت الروايات وأصحاب التفاسير والتاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (20). وأخرج ابن جرير أنه لما نزلت الآية: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ﴾ الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين.

 

ودعا النصارى ليلا عنهم. فقال شاب منهم ويحكم أليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا. فانتهوا. وفي رواية أخرى قال لهم أسقف نجران: يا معشر النصارى إني أرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها. فلا تباهلوا فتهلكوا فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك.

 

وفي رواية قال كبيرهم: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال النبي: وما هو؟

قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح. فمهما حكمت فينا فهو جائز. فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية (21) وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران. ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير.

 

ولاضطرم عليهم الوادي نارا. ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر (22).

 

ثم دعا الإسلام أهل الكتاب إلى كلمة سواء. كلمة عدل يستوي فيها الإنسان صاحب الفطرة السوية وهي أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا شئ بل يفرد الجميع العبادة لله وحده لا شريك له. فإن رفض أهل الكتاب هذا فهم في طريقهم إلى عالم الطمس لا محالة. وفي حالة الرفض ينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم. إذ لا حجة على الحق وأهله. وأخبرهم الإسلام أن تمسكهم بإبراهيم وطريقته وهم في طريق القهقري لا يدل إلا على الغباء لأن العقل يحكم أن الطهر والنقاء لا مكان له في عالم الرجس والشياطين يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ / هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ / مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (23) قال المفسرون: ومحاجتهم في إبراهيم عليه السلام. بضم كل طائفة إياه إلى نفسها. كأن تقول اليهود: إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في كتابه منا. فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه. ثم تتبدل المحاجة إلى اللجاج والعصبية. فتدعي اليهود أنه كان يهوديا وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا. ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل. وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم. فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا. بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام. أو نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى عليه السلام. فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال: إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه.

 

والخلاصة 6 لقد تاجر الانحراف بالطهر والنقاء. فاليهود قالوا كان إبراهيم يهوديا. أما النصارى فنصرت إبراهيم. وقد جهلوا أن دين الله واحد. وهو الإسلام لله. واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل والأنبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان. لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان. لكل منهم موقعه فيما وضعه من جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام. وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية. هو اسم شعبة من شعب كمال ومراتب تمامه. أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام. الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما.

والأصل لا تنتسب إلى فرعه. بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه (24).

 

إن المتاجرة بورقة إبراهيم عليه السلام. كان الهدف منها الوقوف في وجه النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أعلن من يومه الأول أنه على خطى أبيه إبراهيم عليه السلام. لقد رفعوا الأوراق أمام العامة يقولون فيها أنهم الأحق بإبراهيم. وعندئذ قام القرآن بتعريتهم. كي يعلم الخاص والعام. أن المتاجرة بإبراهيم وبإرث إبراهيم من النيل إلى الفرات ما هو إلا من علم الدجل الذي يصل إليه كل من ركب طريق الطمس.

 

1- سورة آل عمران، الآية: 103.

2-  سورة النعام، الآية: 159.

3-  سورة الحج، الآيتان: 39 - 40.

4-  الميزان: 384 / 14.

5-  سورة البقرة، الآية: 190.

6-  الميزان: 61 / 2.

7-  سورة الأنفال، الآية: 60.

8-  سورة الأنفال، الآيات: 45 - 47.

9-  الميزان: 96 / 9.

10-  سورة الحج، الآية: 40.

11-  سورة التوبة، الآية: 39.

12-  سورة التوبة، الآية: 31.

13-  سيرة المصطفى / هاشم معروف ط دار التعارف.

14-  سورة آل عمران، الآية: 146.

15-  سورة البقرة، الآية: 118.

16-  الميزان: 263 / 1.

17-  سورة آل عمران، الآية: 59.

18-  الميزان: 212 / 3.

19-  سورة آل عمران، الآية: 61.

20-  الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل. وأورده ابن جرير في تفسيره وابن كثير (تفسير ابن كثير: 370 / 1.

21-  الميزان: 234 / 3.

22-  الميزان: 232 / 3.

23-  سورة آل عمران، الآيات: 65 - 67.

24-  الميزان: 353 / 3.

-------------------------

3 - الصد بالمنافقين:

بعد أن تآكل معسكر الانحراف في ميادين القتال وبعد ن حطم القرآن حجج أصحاب الأهواء وتجار التراث الذي ليس فيه من الله سلطان. لم يكن أمام معسكر الانحراف سوى ورقة النفاق. وهذه الورقة كانت شر ورقة بل وأمضى سلاح استخدم في عالم الصد. وذلك لأن المنافق يعيش بلسانه وسط المسلمين بينما ينبض قلبه فخيمة من خيام الانحراف التي يباركها الشيطان. فهو بلسانه دخل المساجد يصبح من المصلين له ما لهم وعليه ما عليهم. في نفس الوقت يحيط بقلبه غلالات الحقد والحسد وغلالات الأهواء المتنوعة التي تحمل بصمات سلف الانحراف في جميع الأجيال. لقد كانت ورقة النفاق التي استعملها معسكر الصد عن سبيل الله. تحمل بذرة ملعونة أنبتت شجرة ملعونة هي من أسوء أشجار معسكر الانحراف لأن المنافقين بملابس الإسلام قادوا أكثر من سبعين فريقا إلى النار. بعد أن قاموا بتأويل الآيات وفقا لأهوائهم. الأمر الذي أدى بهم في نهاية المطاف إلى اتباع سنن الذين من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. فشاركوهم الذل في الدنيا وفي الآخرة يشاركونهم. عذاب السعير يوم يكونوا في الدرك الأسفل من النار. والنفاق و إن كانت له معالم ضيقة في بداية الدعوة في مكة. إلا أنه في المدينة اتسع وكان المنافقون يقفون مع أعداء السلام بصورة من الصور على الرغم من وجودهم في الخندق السلامي. والقرآن الكريم فضحهم في أكثر من موضع. ولأن درب النفاق طويل ويحتاج بحثا منفصلا فإننا سنسلط الأضواء هنا على الخطوط الرئيسية للنفاق في صدر الإسلام. تلك الخطوط التي سد عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميع المنافذ في حياته. وعندما تغافل عنها المسلمون بعد مماته. انطلقت للتاجر الشعار الخالي من كل شعور.

 

(أ) المنافقين أعدى أعداء الحق:

تكرر ذكر المنافقين في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم. وقد أوعدهم الله في كتابه أشد الوعيد. ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم. وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

 

وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم. فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه. وناهيك فيهم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ (1) وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة. وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة. ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم.

 

كانسلالهم من الجند السلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا. وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد ضرار واشاعتهم حديث الإفك إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية حتى بلغ أمرهم في الفساد وتقليب الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2) إلى حيث هددهم الله تعالى بقوله: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا / مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ (3).

 

وأجهزة ومؤسسات النفاق عملت على خطوط الصد عن سبيل الله في كل موضع نظرا لاختفاء جنودها تحت اللافتة الإسلامية. وهذه الميزة جعلتهم يتسللون في كل مكان. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف بعضهم.

 

والبعض الآخر لا يعلمهم ولا يعلمهم إلا الله. يقول تعالى لرسوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (4) قال المفسرون: أي من القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون ﴿مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ﴾ أي مرنوا عليه ودربوا به. وقيل: مردوا على النفاق أي لجوا فيه وأبوا غيره. لا تعلمهم أنت يا محمد. وهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم نحن نعلمهم (5) فهذا الفريق الذي مرن على النفاق ودرب به ومارسه. حتى اعتاده. منه من أجاد التسلل بين الأحداث طمعا في الرئاسة والإمارة والعودة بروح القبيلة التي قضى عليها السلام بعد أن أرسى قاعدة إن أكرم الناس عند الله أتقاهم وهذا الصنف الذي وضع الإمارة أمام عينيه شق طريقه بالركوبة التي تنظم له الوصول إلى هدفه. ومن المنافقين أيضا من ارتد كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (6) وكتم الارتداد لا يحمل إلا السوء للأمة والمتدبر في حوادث آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتن الواقعة بعد رحلته يجد صورا عديدة تبدو فيها ملامح أولئك الذين دربوا ومرنوا على النفاق.

 

وطابور الانحراف الذي يحمل اسم النفاق ويعمل على خطوط الصد له هيئته وهيبته بين الناس. فالفريق وإن كان بينه الأخساء وأولاد الزنا إلا أنه يجمع بين دفتيه الشراف وأصحاب الصوت المسموع والكعب العالي. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (7) قال المفسرون: المراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء. إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه. وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ ذم لهم. والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة.

 

لكنهم كالخشب المسندة. أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون. وقوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ ذم آخر لهم. أي أنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة.

 

يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم. ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها وقوله: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ أي هم كاملون في العداوة. بالغون فيها. فإن أعدى أعداءك. من يعاديك وأنت تحسبه صديقك (8).

 

فالفريق الانحرافي لهم مواهب عديدة دربوا عليها ولم يستعملوها إلا في مواضعها. وما كانوا يحذروا إلا أن ينزل الله فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. ورغم حذرهم هذا إلا أن البعض منهم أقدم على أعمال من أجل عرقلة المسيرة.

 

واضعين في اعتبارهم أن اكتشاف حقيقتهم يذوب أثره بمجرد أن يحلفوا بالله أنهم ما فعلوا أو إنهم فعلوا هذا من باب اللهو. لقد كشفت آيات القرآن الكريم خطة المنافقين في استغلال القسم بالله للتمويه على جرائمهم في أكثر من سورة من سور القرآن منها قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ (9) قال المفسرون: ويحلفون بالله لكم أيها المؤمنون كذبا وباطلا خوفا منكم إنهم لمنكم في الدين والملة. وما هم منكم. أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم. بل هم أهل شك ونفاق يخافونكم يقولون بألسنتهم إنا منكم ليأمنوا فيكم فلا يقتلون (10) وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (11).

فتحت دثار القسم هذا أرادوا لجرائمهم في حق الفطرة أن تعبر. ولكن الوحي كان لهم بالمرصاد فكشف الجرائم وجعلهم عبرة يعتبر بها من أخذ بذيل آباء النفاق أولئك الذين تاجروا بآيات الله وبالمساجد وبكل شعار للإسلام بعد أن فرغوه من كل شعور وروح.

 

(ب) من جرائم المنافقين:

جرائم معسكر النفاق الذي تلحف بلحاف المسلمين لا تصب نتائجها إلا في صالح الذين كفروا بالإسلام ورسالته وذلك لأن المنافقين تربطهم بالذين كفروا أخوة الصد عن سبيل الله. وهذه الأخوة سجلها كتاب الله في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ...﴾ (12) لقد وضعهم الله تعالى في كتابه في خرمة واحدة مع الذين كفروا لأن أهدافهم واحدة. ولأن جرائم المنافقون في حق الفطرة عديدة فإننا نكتفي. بإلقاء الضوء على ما نرى أنه يفي بالغرض. وأول هذه الجرائم محاولة طابور النفاق اغتيال الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أفاضت كتب التفسير في وصف هذا الحدث. وقال بعض المفسرين في تفسير سورة التوبة أن اثني عشر رجلا (13) وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه وتبوك. فأخبر جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم. وعمار بن ياسر كان يقود دابة رسول الله. وحذيفة يسوقها. فقال لحذيفة: أضرب وجوه رواحلهم. فضربها حتى نحاهم. فلما نزل. قال رسول الله لحذيفة: من عرفت من القول؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله (ص): إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فنقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

 

وفي رواية "... وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه. وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها. فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوهم. فغضب رسول الله. وأمر حذيفة أن يراهم ويتعرف عليهم. فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها بالمحجن. وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبوا حين أبصروا حذيفة. وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس. وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله. فلما أدركه قال: أضرب الناقة يا حذيفة وامش أنت يا عمار.

 

فأسرعوا وخرجوا من العقدة ينتظرون الناس. فقال النبي: يا حذيفة: هل عرفت أحدا منهم؟ فقال: عرفت راحلة فلان وفلان. وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون. فقال رسول الله: هل عرفت ما شأنهم. ما يريدون؟ قال: لا يا رسول الله قال: فإنهم فكروا أن يسيروا معي حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها. فقال: أهلا ترأف بهم إذا جاءك الناس؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قتل أصحابه ثم سماهم بأسمائهم.

 

ومن المعلوم من سير الحوادث. أن المسألة إذا كانت تتعلق بكبار الصحابة. فلا ترد أسماؤهم صريحة فيها. ويأتي التعبير عنهم بفلان وفلان.

 

وكل مورد من هذا القبيل فهو يعني جماعة يخاف الراوي من التصريح بأسمائهم.

أما إذا لم يكن الحادث مع الكبار من الصحابة. فيأتي الاسم صريحا كما يبدو ذلك للمتتبع وسيأتي أمثلة ذلك فيما بعد وقصة المؤامرة في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث وذكر اليعقوبي في تاريخه بصورة مجملة وقال إن حذيفة كان يقول أنه يعرفهم بأسمائهم (14) وروي أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن عمار قال في الفريق الذي أراد اغتيال رسول الله: " أشهد أن الاثني عشر الباقين منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا " (15).

 

إن طابور النفاق الذي أعد خطة اغتيال رسول الله لم يكن ليقدم على مثل هذه الخطوة إلا بعد أن تأكد أن بين صفوفه العديد من الذين إذا قالوا استمع الناس لأقوالهم وإذا رآهم الناس أعجبتهم أجسامهم. فلو لم يكن الطابور على ثقة في كوادره وأنهم يتمتعون باللسان الطليق وبمقدرة على احتواء ما سيترتب عليه الحدث ما أقدموا على ذلك وخلاصة القول: لقد تحركوا لتنفيذ الجريمة من باب عدم الإيمان بالله والاستهزاء بآياته وانطلقوا في طريق الانحراف من أجل سد أبواب الطهارة عن الفطرة. ولكن الله تعالى ردهم ولم ينالوا شيئا. ووراء الجدران بدأوا يرتجفون خوفا من أن ينزل الله فيهم سورة تخبر المؤمنين بهم.

 

وأعدوا لهذا سيلا من الأعذار طمعا في النجاة. ووراء الجدر عاشوا حياة الظلام وإن كانوا تحت الشمس وحياة الخوف وإن كانوا بين الجند.

 

أما الجريمة الثانية التي نلقي عليها الضوء. فهي جريمة بناء المسجد الضرار. لقد أراد طابور الانحراف أن يشق الدعوة برموز الدعوة. ففي عصر الرسالة لم يكن في استطاعة هذا المعسكر سوى أن يقيم بنيانا تقام فيه الصلاة وتبث منه ثقافة تمهد لمجئ الروم. يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (16) قال المفسرون: إن الباعث لهم على هذا العمل. كان أمورا أربعة:

 

الأول: الضرار وهو المضارة أي إيصال الضرر.

والثاني: الكفر بالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق.

والثالث: التفريق بين المؤمنين. لأنهم أرادوا أن لا يحضروا في مسجد قباء. فتقل جماعتهم. ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم. فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

والرابع: قوله: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) (17).

 

هذه أعمدة مسجد طابور الانحراف. أعمدة هدفها الصد عن سبيل الله.

وبداية هذه العمل كما اتفق عليه أهل النقل: إن جماعة من بني عمرو بن عوف.

بنوا مسجد قبا. وسألوا النبي أن يصلي فيه. فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف. وهم منافقون. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا أبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم، ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز إلى تبوك. وسألوه أن يأتيه ويصلي فيه. ويدعو لهم بالبركة. فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة. فلما رجع النبي من تبوك نزلت الآيات. وروي أن أحد المنافقين وهو أبو عامر الراهب قد أمرهم ببناء هذا المسجد. وقد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما دخل النبي المدينة كان يشاغب عليه. وبعد أن فتح النبي مكة التجأ أبو عامر إلى الطائف. ولما أسلم أهل الطائف التحق ببلاد الشام وتنصر. وقد أرسل إلى المنافقين أن يتموا بناء المسجد ويجدوا في أمرهم. ووعدهم بأنه سيذهب إلى قيصر. ويحرضه على إرسال جيش قوي إلى المدينة للقضاء على محمد ومن معه من المسلمين. فكان المنافقون يتوقعون ذلك. ولكنه هلك قبل أن يتصل بملك الروم. ولما نزل الوحي على النبي.

 

وقص عليه حديث هذا المسجد أمر النبي بإحراقه وأن يتخذوه مكانا للأوساخ والنفايات.

لقد تظاهروا بالدين وتاجروا بالشعارات وبناء المساجد. لأغراض تخدم أعداء الدين. ويتخذون منها منطلقا للمؤامرة على الإسلام والمسلمين. فجهاز النفاق كان يعد العدة لاغتيال الرسول وهو في طريق العودة من تبوك. وفي نفس الوقت كان مسجدهم الضرار له مهمة أخرى في حال نجاة الرسول من القتل على طريق تبوك. لكنهم لم يربحوا هنا أو هناك. وفضحتهم بصماتهم هناك على صفحات التاريخ وفضحهم مسجدهم هنا حيث أصبح محلا للأوساخ والنفايات.

 

وفضح الله امتدادهم على مر الزمان. كما فضح الذين اتخذوا العجل من بعد موسى عليه السلام. فالذين اتخذوا العجل قال فيهم سبحانه: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ (18) قال المفسرون: الإشراب هو السقي. والمراد بالعجل. حب العجل. وضع للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل (19) لقد أشربوا العجل وناولوا كأسه لمن اتخذهم قدوة أو وقع هواه على هواهم أما الذين اتخذوا المسجد الضرار ففيهم يقول تعالى: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (20) قال المفسرون: أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع. أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدوا العجل حبه (21) لقد أتموا البناء وحلفوا بالله ما أرادوا ببنائهم إلا خيرا ورفقا بالناس والله يشهد أنهم لكاذبون فيما قصدوا وفيما نووا (22) لهذا جعلهم الله عبرة لمن أراد الاعتبار ولكي يتدبر في أحداثهم أولئك الذين يقيمون المساجد لأغراض لا تمت إلى الدين بصلة من الصلات. ويعلموا أن البناء الذي يفرق بين المسلمين ويدس على الإسلام ما ليس منه ويستند على أكتاف أعداء الله. هو في حقيقة الأمر امتداد للبناء الأول والقائمون عليه شربوا من إناء سلفهم الأول وإن لم يروهم.

 

ومن جرائمهم أيضا في صدر الإسلام تثاقلهم عن الجهاد وانسحابهم من المعركة بلا سبب. وعند حركتهم أثناء القتال قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (23) قال المفسرون: الخبال: هو الفساد واضطراب الرأي.

 

والإيضاع: الاسراع في الشر والخلال: البين. والبغي: هو الطلب. فمعنى يبغونكم الفتنة: أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة. والفتنة هي المحنة واختلاف الكلمة. وقوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي فيكم مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم.. وقيل: فيكم سماعون لهم: أي عيون يسمعون لهم الخبار وينقلونها إليهم (24).

 

فخط الصد الذي يحمل اسم النفاق يعمل من أجل اختلاف الكلمة في أشد الأوقات ولقد عمل من أجل تفرق الجماعة في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم وخذل النبي. وتثاقلوا بعد ذلك في أكثر من غزوة وأرادوا بهذا الخذلان أن تأكل الحرب المسلمين ولم يكتف معسكر النفاق بانسحابه من المعارك بل استعان بخط ثان يتجسس لحسابه ويدعو إلى الخلاف والخذلان عن الجهاد. وعلى الرغم من اختراق النفاق لأكثر من ساحة. إلا أن الله رد كيدهم فلم يلحقوا بالدعوة في عهد النبوة أي ضرر. ولم يستطيعوا النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم محاولاتهم العديدة لقضاء عليه. لم يستطيعوا هم أو غيرهم. لأن الله تعالى عصم رسوله منهم قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (25) وتحدى سبحانه الناس أن يكيدوا لرسول الله وأن يضروه إن استطاعوا ولن يستطيعوا فقال جل شأنه: ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ (26) لقد كانت عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة بذاتها على أجهزة الكيد التي تخدم خطوط الانجراف. فشلهم في كل مرة كان في حقيقة الأمر دعوة للتوبة والإيمان بالرسالة. ولكن أهل التذبذب والنفاق لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وتمادوا في طغيانهم ومكائدهم و سبحوا في التجاه المضاد لحركة الفطرة والكون. وهذه السباحة وهذا التوغل في الظلام جعلهم غرضا لضربات الكون.

 

وهذه الضربات كانت أيضا دعوة لهم كي يؤمنوا الإيمان الحق لكنهم لم يصححوا مسارهم نحو الاتجاه الصحيح يقول تعالى: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (27) قال المفسرون: اختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدة. وقال آخرون: بالسنة والجوع (28) ومعنى الآية: أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون. وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام مرة أو مرتين. فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية وهم لا يتوبون ولا يتذكرون. ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم. وأيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد (29).

 

وطابور النفاق الذي خرج من معسكر الانحراف ليسير بين المسلمين.

جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفقا لحركة الدعوة. فهو عليه الصلاة السلام كان يخشى أن يخرج معسكر الكفر بلافتات تقول بأن محمد يقتل أصحابه. فهذا القول في حد ذاته لن يكون بحال في صالح الدعوة وعلى الأخص في صدرها الأول. فالرسول جاهدهم وفقا لأمر الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ (30) وقال المفسرون: المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم. فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان وإن اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض (31).

 

والخلاصة: أن معسكر النفاق كان من أكبر الأخطار على الدعوة وعلى الفطرة الإنسانية. وتوعدهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا وبالدرك الأسفل من النار في الآخرة. وهذا المعسكر سيكون لأبنائه الذين ساروا على طريقه وراء راية المسيح الدجال. الذي أخبرت الأحاديث الشريفة بظهوره آخر الزمان. وتحت قيادة الدجال سيتجرعون الذل تحت ضربات عذاب الاستئصال. لأنهم في الحقيقة تلاميذ الشيطان الذين يضعون العراقيل على الصراط المستقيم.

 

1-  سورة المنافقون، الآية: 4.

2-  الميزان: 288 / 19.

3-  سورة الأحزاب، الآيتان: 69 - 61.

4-  سورة التوبة، الآية 101.

5-  ابن جري في تفسيره: 8 / 11.

6-  سورة المنافقين، الآية: 3.

7-  سورة المنافقين، الآية: 4.

8-  الميزان: 281 / 19.

9-  سورة التوبة، الآية: 56.

10-  ابن جرير في التفسير: 107 / 10.

11-  سورة التوبة، الآية: 96.

12-  سورة الحشر، الآية: 11.

13-  وفي رواية خمسة عشر رجلا.

14-  سيرة المصطفى / هاشم معروف: 633.

15-  مجمع الزوائد: 195 / 6.

16-  سورة التوبة، الآية: 107.

17-  ابن جرير في التفسير: 17 / 11.

18-  سورة البقرة، الآية: 93.

19-  الميزان: 123 / 1.

20-  سورة التوبة، الآية: 110.

21-  ابن كثير في التفسير: 391 / 2.

22-  ابن كثير في التفسير: 388 / 2.

23-  سورة التوبة، الآية: 47.

24-  ابن كثير في التفسير: 361 / 2.

25-  سورة المائدة، الآية: 67.

26-  سورة الأعراف، الآية: 195.

27-  سورة التوبة، الآية: 126.

28-  ابن جرير: 54 / 11.

29-  الميزان: 410 / 9.

30-  سورة التوبة، الآية: 73.

31-  ابن جرير: 126 / 10، الميزان: 339 / 6.

-----------------------------------

سادسا: عذاب في بطن الغيب:

في عهد الرسالة الخاتمة عمل طابور النفاق في الخفاء. وتوارى أهل الكفر وراء الجدر في انتظار الوقت المناسب الذي ينقضون فيه على طلائع النهار.

 

وعلى الرغم من ذلك لم يضربهم الله بالطوفان أو بالريح العقيم أو بالصيحة. كما ضرب سبحانه الأمم السابقة من قبل. وذلك لأن القافلة البشرية لها أجل. وهذا الأجل لا ينتهي بانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فرسول الله قام بتبليغ الرسالة عن ربه. وهذه الرسالة صالحة لقيادة القافلة البشرية حتى قيام الساعة. ومعنى أن العذاب لم يضرب جحافل الكفر ضربة الاستئصال في حياة الرسول. أن هذا العذاب مدخر في بطن الغيب. وله صورته وموعده ولا يعلمهما إلا الله تعالى. وآيات القرآن الكريم تصرح في أكثر من موضع بهذا العذاب الذي يحمله المستقبل. وذلك لعلم الله تعالى بما ستقترفه الأمة من آثام بعد تبليغ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة. فالأمة التي انحرفت عن كتاب الله واتبعت أبناء الطمس شبرا بشبر وذراعا بذراع لا بد وأن يطول عذاب المنحرفين منهم قبل يوم القيامة ليكون لهم ذل في الدنيا. قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (1) قال ابن كثير في التفسير: قال الحسن: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر.. وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ثم يردون إلى عذاب عظيم. وذكر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أسر إلى حذيفة بإثني عشر رجلا من المنافقين فقال: ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم. يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره وستة يموتون موتا (2). والعذاب المدخر في بطن الغيب ورد أيضا في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾ (3) قال المفسرون: أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت (4) وقيل: أي محالة سيقع بهم الذاب.

 

والدليل على أن عذاب الاستئصال مؤجل أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في آية من الآيات المدنية أن يصبر ولا يستعجل لهم. قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ (5) قال المفسرون: لا تستعجل لهم حلول العقوبة. كقوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ (6) وقال تعالى لرسوله أيضا في آية مدنية أخرى:

﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (7) قال المفسرون.: إن الله لا يعجل. فإن مقدار ألف سنة عند خلقه. كيوم واحد عنده. فالله تعالى لا يخاف الفوت حتى يعجل لهم بالعذاب.

 

بل هو سبحانه حليم. يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم. ثم يأخذهم فيما قدر لهم من الأجل. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. من هذا يبدو أن المد والإمهال قد فتح بابه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحتى الوقت المعلوم وإذا كان طابور الكفر والنفاق قد استعجل العذاب بعد هجرة النبي فإنه قبل الهجرة قد استعجل العذاب ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعو عليهم بالاستئصال لعلمه من ربه جل وعلا أن لكل أمة أجل. ومن الآيات. المكية التي سجلت عليهم استعجالهم للعذاب قوله تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ / أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ (8) قال المفسرون: أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر. وحينا من الزمان وإن طال. ثم جاءهم أمر الله. أي شئ يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم (9).

 

فهذه الآيات وأيضا الأحاديث الشريفة التي أخبر فيها النبي عن ربه بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما سترتكبه بعض فصائل الأمة من منكرات تقود إلى ملك عضوض وجبرية تنتج غثاء لا قيمة له يتبع سنن الذين من قبله شبرا بشبر وذراعا بذراع ويهرول من ورائهم على امتداد طريق الطمس هرولة الخادم المطيع. فهذا الإخبار بالغيب والذي ورد في أحاديث صحيحة يستقيم مع قول المفسرين بأن العذاب مدخر في بطن الزمان. ولا قيمة للرأي القائل بأن العذاب قد رفع عن هذه الأمة إكراما لها. وهل الذين يهرولون وراء سنن الذين من قبلهم ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه. لهم كرامة عند الله. ما لهم كيف يحكمون؟ هل للذين فرقوا دينهم وركبوا أعناق الأمة باسم الإسلام كرامة عند الله؟ كيف وقد برئ الله ورسوله منهم! إن الذين قالوا برفع العذاب ما أرادوا إلا تأصيل الشذوذ والانحراف. ولقد قطعوا بمقولتهم هذه شوطا كبيرا في عالم تغييب العقل وتوثين الوجدان وفقا لأطروحة الأماني الشيطانية. إن للإسلام شريعة وهذه الشريعة لا تجامل أحدا فمن أخذ بها نجا ومن تركها وراء ظهره ضربه الذل في الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم. أما كرامة من أخذ بذيول فقهاء الدجل وآباء الانحراف فلا وجود لها في الإسلام ولقد أخبر الله تعالى بأن الأخير الذي استمتع بما استمتع به رأس الانحراف الأول وخاصة فيما خاض فيه أصحاب خيام الانحراف والشذوذ. فهذا الأخير لا محالة سينال العقاب كما ناله الأوائل. ومن هذه الآيات قول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ / كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ / أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (10) قال المفسرون: ومعنى الآية والله أعلم. أنتم كالذين من قبلكم. كانت لهم قوة وأموال وأولاد بل أشد وأكثر في ذلك منكم. فاستمتعوا بنصيبهم. وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا. وخضتم كما خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وأولئك هم الخاسرون. وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران. ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم. ثم ذكر سبحانه بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين. فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق وعاد قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية. وثمود قوم صالح عذبهم بالرجفة. وقوم إبراهيم أهلك ملكهم وسلب عنهم النعمة. والمؤتفكات وهي قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها. فهذه الأقوام أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك. ولم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم.

 

لأنه بين لهم الحق والباطل. وميز الرشد من الغي والهدى من الضلال ولكن كان أولئك الأقوام والأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله (11) وقال ابن جرير في تفسير الآية: أخبرهم يا محمد أن يحذروا أن يحل بهم عقوبة الله مثل الذي حل بالذين من قبلهم. وقد سلك المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقهم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلهم وخاضوا كخوض تلك الأمم وذكر ابن جرير عن الربيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الآية - ﴿حَذِّرُكُمُ﴾ - الله - أن تحدثوا في الإسلام حدثا.

 

وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة. فقال تعالى في ذلك: ﴿فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ﴾ الآية. وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم. وأن الفتن عائدة كما بدأت " وذكر ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتأخذن كما أخذ الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحد من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه " قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن، ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾- إلى قوله تعالى - فاستمتعتم بخلاقكم " الآية (12) وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه قال. ما أشبه الليلة بالبارحة ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (13).

 

والخلاصة: إن العذاب قادم ولن ينجو منه إلا من سار على الصراط المستقيم. وبني إسرائيل الذين قتلوا الأنبياء لم يضربهم عذاب الاستئصال بعد.

 

ولكن لهم يوم سيصيبهم فيه هذا العذاب. ولن يكونوا وحدهم في هذا اليوم وإنما سيكون معهم الذين اتبعوهم وساروا على طريقتهم وشربوا معهم من أوعية الطمس التي ينبع ماؤها من نهر مخالف لنهر الفطرة. وأبناء الطمس وأتباعهم سينتظموا جميعا في جيش واحد هو جيش المسيح الدجال الذي سيهلكه الله بأيدي طلائع النهار في آخر الزمان.! ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين " قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون " (14) ولقد أجمع المفسرون على أن يوم الفتح في هذه الآية لم يحدث في الماضي وإنما هو في بطن الغيب (15).

 

سابعا: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:

ظل معسكر الانحراف يكيد للدعوة بكل قواه. ولم يعرقل كيدهم سير الدعوة. بل ظلت تفيض عليهم بالحجج التي تدعو إلى الإيمان. كانت الدعوة في جميع مراحلها تحمل كلمة الإخلاص وتعلن أن دين الله لا إكراه فيه. فمن رضي بالإسلام دينا فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ومن رفض هذا الدين وأغلق عليه بابه ولم يصد عن سبيل الله فبينه وبين سيوف الإسلام حاجزا. فإن تعدى هذا الحاجز فلا يلومن إلا نفسه. لم تكن الدعوة في أي يوم من أيامها تحمل أحقادا ولقد سجل التاريخ أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عفا يوم فتح مكة عن أصحاب الجرائم الكبيرة في حق الإسلام والمسلمين ومن هؤلاء أبو سفيان بن حرب الذي قاد العديد من المعارك ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنهم زوجته هند بنت عتبة التي شاركت يوم أحد في قتل حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ولم تكتف بقتله وإنما أكلت كبده. ومنهم وحشي قاتل حمزة جاء إلى النبي يطلب الأمان فأجابه لذلك. وروي أنه لم ينظر إلى وجهه.

 

ومنهم كعب بن زهير وكان شاعرا يهجو النبي وعند فتح مكة خرج هاربا منها.

وأخيرا عفا عنه النبي. وغير هؤلاء الكثير. وروي أن الرسول صلى عليه وآله وسلم قال لقريش يوم فتح مكة: يا معشر قريش إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس لآدم وآدم من تراب. ثم تلا قوله تعالى:!﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (16) ووجه حديثه إلى المكيين وسألهم. ماذا ترون أني فاعل بكم وما تظنون؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك. فقال إني أقول لكم ما قاله أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. اذهبوا فأنتم الطلقاء قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء على الرغم من أنهم لم يدخلوا في الإسلام.

 

ولقد قال لهم هذا ليجعلهم أحرارا في قبول العقيدة. وبعد هذا القول اطمأن المكيون على مصيرهم. فمنهم من أسلم وأخلص في إسلامه. ومنهم من وجد أن حياته لن تكون إلا بمهادنة الدعوة التي أقامت حجتها بالكلمة والسلاح. وجاء في شرح النهج عن. الواقدي. أن العباس بن عبد المطلب قال لأبي سفيان عند دخول النبي إلى مكة " إذهب فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله.

 

فخرج أبو سفيان مسرعا حتى دخل من كداء وهو ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. حتى انتهى إلى زوجته هند بنت عتبة.

 

فقالت: ما وراءك يا أبا سفيان؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد. وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن. فقالت: قبحك الله من رسول قوم. وجعلت تقول.

 

ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم. وأبو سفيان يقول: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم. فإني رأيت من الرجال والكراع والسلاح ما ليس لأحد به طاقة. إن محمدا في عشرة آلاف مقاتل أسلموا تسلموا. وجاء في رواية المبرد في الكامل: أن هند أمسكت رأسه وقالت لهم اقتلوه. وذكر البعض أن كبار المنافقين كانوا وقتئذ في دار أبي سفيان. وقول النبي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. كان ليعرفهم.

 

والخلاصة. فتحت طلائع النهار مكة ولم تسل فيها دما على الرغم من أنهار الدماء التي تسببت فيها قريش بعد هجرة النبي وكان فتح مكة مثلا في الرحمة والعفو والترفع عن الحقد والانتقام. مثلا شاخصا أمام العالم كله وأمام الأجيال في كل عصر وزمان وكان هذا العفو وهذه الرحمة دليلا على خسة النفاق وأهله.

 

ودعوة إلى طابور النفاق الذي دخل الإسلام خوفا أو طمعا. كي يصححوا نفوسهم بوضعها على الطريق الصحيح بعد أن شاهدوا وعلموا أن الإسلام لا يزرع خوفا وإنما يزرع حرية. وفي مجال هذه الحرية يختار الإنسان عقيدته على أن يمارسها بشروط الإسلام. لأن الإسلام دين الفطرة. ولا يسمح بثقافة تسير في طرقاته تبشر بغير ثقافة الفطرة. كان العفو والترفع عن الحقد والانتقام يوم فتح مكة دعوة إلى طابور النفاق كي يتعامل مع الدنيا على اعتبار أنها قنطرة إلى الآخرة. وعلى هذا لا بد لمن يأكل أن يأكل بشرف ولمن يأخذ أن يأخذ بشرف. ولكن طابور النفاق في مجمله لم يتذوق هذه المعاني السامية وأضمر في أعماقه جوعا وحقدا وانتقاما. ومارس عمليات الحفر لينتج في النهاية حفرا عديدة إذا وضعت بذرة في إحداها لا تنبت إلا مسخا وغثاء. وفي جميع الحالات النتيجة لصالح مراقب بني إسرائيل على طريق الطمس الذي يؤدي إلى نبي اليهود المنتظر والذي يسميه الإسلام بالمسيح الدجال. ويرى الباحث في السيرة النبوية أن طابور النفاق بعد فتح مكة نشطت خطواته. ويبدو هذا في أحداث غزوة حنين وغزوة تبوك والمسجد الضرار وكلها بعد فتح مكة.

 

ثامنا: من تعاليم النجاة:

على امتداد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. كان الوحي يرشد إلى صراط الله ويقيم الحجة على عباد الله. ويوم فتح مكة هدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنيان دين الشرك وكسر الأصنام ليجعل بذلك العقل والوجدان في حرية تامة كي يختارا العقيدة التي ترتضيها الفطرة. وأمام الفطرة وضعت الشرائع التي تبث الأمن والأمان وتعلن يأس الكفار من النيل من هذا الدين. وتدعو الفطرة أن لا موجب للخشية بعد يأس هؤلاء. وأن عليها أن تخشى الله الذي بيده مصير الأمور قال تعالى:! ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ (17) قال المفسرون: أي بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار مصون من الخطر المتوجه من قبلهم. وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم. وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة. ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي. ويومئذ يسلبهم الله نعمته وبغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس الجوع والخوف. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية من قوله:! فلا تخشوهم واخشون، فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم. ثم يرجع القهقري بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل، على أصول القضايا وأعراقها.

 

لقد وضعت الفطرة أمام الصفحة البيضاء وعلى امتداد الرسالة الخاتمة.

ولكن أعداء الحياة أعداء الفطرة عندما يئسوا من إحداث شرخ في جدار الشريعة نظرا لعظمة النص وبلاغته وقوة حجته. حالوا على امتداد التاريخ فصل المسلمين عن الإسلام. فبعيدا عن الإسلام يسهل عليهم نزالهم نظرا لتجريدهم من القوة التي عليها يرتكزون: ولقد ساعدهم في ذلك طابور النفاق في القديم وفي الحديث. فقديما كان يجلس داخل سور الأمة من يحب الدنيا ومن يحب الآخرة. فالذي يحب الدنيا عمل من أجلها. وقاده عمله إلى دائرة كفران النعمة التي عليها يترتب سلب الله لهذه النعمة والذي أحب الآخرة عمل من أجلها وقاده عمله إلى حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة حيث النعيم وجرعة ماء لا يظمأ بعدها أبدا. وهذا المشهد يصوره ويجسده حديث شريف يقول فيه النبي: - (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني. فلأقولن: أي رب. أصيحابي أصيحابي. فليقولن لي. إنك لا تدري بما أحدثوا بعدك " (18) وفي حديث رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا فرطكم على الحوض. ليرفعن إلي رجال منكم. حتى إذا أهويت لأناولهم. اختلجوا دوني. فأقول: أي رب أصحابي.

 

يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " (19) وفي رواية عند البخاري: " أنا على حوضي أنتظر من يرد علي. فسيؤخذ بناس من دوني. فأقول: أمتي. فيقول: لا تدري! مشوا على القهقري " (20) وعنده أيضا عن سهل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض. من ورده شرب منه. ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا. ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني. ثم يحال بيني وبينهم " (21) وفي رواية عند البخاري وابن ماجة. (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي. فيحلون على الحوض. فأقول: أي رب، أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك. إنهم إرتدوا بعدك على أدبارهم القهقري " (22) وفي لسان العرب القهقري: الرجوع إلى الخلف. وتقهقر: تراجع على قفاه.

 

وقال الأزهري في الحديث: (إنهم كانوا يمشون بعدك القهقري " معناه الارتداد عما كانوا عليه (*) باختصار اتبعوا سنن الذين من قبلهم وركبوا معهم طريق الطمس. وأحاديث القهقري التي سار أصحابها في الاتجاه المعاكس للفطرة كأصحابهم من الأمم السابقة الذين ساروا في طريق الطمس. أحاديث عديدة تجدها في كتب التفسير والحديث. ولما كان للنفاق خيمة داخل سور الأمة.

 

وهذه الخيمة تعمل على أهداف الأهواء التي تصب في وعاء بني إسرائيل في نهاية المطاف حدد الإسلام لأتباعه خطوطا لا يستطيع النفاق في حالة عمله منفردا أن يخترقها. ولا يمكن أن يخترقها أيضا في حالة عمله بتوجيهات من معسكر الكفر بجميع أعلامه. ومن هذه الخطوط خط تجنب الرجس وخط تجنب النجس.

 

1-  سورة التوبة:، الآية: 101.

2-  تفسير ابن كثير: 385 / 2.

3-  سورة الزخرف، الآية: 41.

4-  ابن كثير: 128 / 4 وتفسير البغوي: 399 / 7.

5-  سورة الأحقاف، الآية: 35.

6-  تفسير ابن كثير: 172 / 4.

7-  سورة الحج، الآية: 47.

8-  سورة الشعراء، الآيتان: 204 - 205.

9-  تفسير ابن كثير: 348 / 3.

10-  سورة التوبة، الآيات: 68 - 0 7.

11-  الميزان: 337 / 9.

12-  ابن جرير في تفسيره: 122 / 10.

13-  ابن كثير في تفسيره: 368 / 2.

14-  سورة السجدة، الآيات: 28 - 0 3.

15-  راجع كتابنا المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى.

16-  سورة الحجرات، الآية 130.

17-  سورة المائدة، الآية: 3.

18-  رواه مسلم في صحيحه عن أنس: 15 / 15.

19-  رواه البخاري عن عبد الله: (221 / 4 ورواه مسلم: 59 / 5 1.

20-  رواه البخاري عن أسماء: 421 / 2.

21-  البخاري: 421 / 2، الإمام أحمد (الفتح الرباني: 195 / 1).

22-  كنز العمال: 417 / 14.

-------------------------------------

1 - حصار الرجس:

الرجس هو البحيرة أو الخيمة التي تتلحف بها قلوب المنافقين. قال تعالى وهو يحذر منهم: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ / يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (1) والرجس هو ة القذر. والشئ القذر. والفعل القبيح.

 

والضلال. والعذاب (2) وقوله تعالى 10 فاعرضوا عنهم إنهم رجس " الآية أي: فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الأعذار. بل لأنهم رجس ينبغي ألا يقترب منهم. والقرآن الكريم حذر من أصحاب الرجس وطالب بالابتعاد عنهم في كثير من آياته. قال تعالى:!﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (3) قال المفسرون: الرجس هو القذر. والمعنى:

كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم. فيحول بينهم وبين غيرهم. فتتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر (4). وقال تعالى:! قال قد وقع عليكم من (*) لسان العرب: 365 / 376.

 

ربكم رجس وغضب) (5) قال المفسرون: الرجس هنا هو الأمر الذي إذا وقع على الشئ أوجب الابتعاد عنه. ولذا يطلق على القاذورات لأن الإنسان يتنفر ويبتعد عنه. ويطلق على العذاب. لأن المعذب يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب (6). وطابور الكفر والنفاق الذي اختار بحيرة الرجس ليعيشوا فيها ولم يرضوا بها بديلا. كان عقابهم من الله أنه سبحانه زادهم رجسا على رجسهم قال تعالى:! ­­﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (7) ومعنى الآية زادهم ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم. لأن السنة الإلهية تقضي بأن تجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود كما في قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(8).

 

من هذه الآيات نعلم أن المنافقين يسيرون على أرض الإسلام ولكن بنفوس تسبح في بحيرة ماؤها قذر. ونظرا لأن النفاق عمل سري في المقام الأول. حيث يدخل صاحبه الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل منه (9) كان الوحي يكشف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حركة هذا الطابور. فيتعامل معه وفقا لحركة الدعوة ومصلحة الإسلام وحتى لا يروج معسكر الكفر مقولة أن محمدا يقتل أصحابه. ولما كان النفاق لا يستطيع أن يحرز أي تقدم في دائرة الوحي التي تكشف رجسه. علق طابور النفاق أمله في وفاة رسول الله. ولما كان الإسلام هو دين الفطرة الخاتم. وهو ممتد بعد وفاة الرسول وحتى قيام الساعة. كان من عدل الله تعالى أنه حاصر دائرة الرجس بآيات باهرة. إذا أخذ بها المسلمون قطعوا الطريق أمام مناورات النفاق. وإذا لم يأخذوا بها فلا إجبار في دين الله. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي سبحانه الشاكرين. ولما كان النفاق في دائرة الرجس والسواد الأعظم من الناس لا يستطيع أن يميز المنافق من غيره بسهولة. لأن كلاهما عضو في الأسرة الإسلامية ويسير بشعار الإسلام حدد الله تعالى بيت من البيوت. وصرح في كتابه أنه تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبهذا واجهت دائرة الرجس التي حددها الله دائرة التطهير التي حددها الله. فمن أدلى بدلوه هنا أو هناك فهو في حقيقة الأمر يكتب لنفسه شهادة الهلاك أو شهادة النجاة. لأن الرجس هنا هو المقياس. والذي يعلم ما تخفيه القلوب هو الذي قال فرق هذا رجس وحول هذا تطهير. والذين أحاطهم الله بالطهارة جاء ذكرهم في سورة من السور المدنية (10) والآية التي ذكروا فيها من أعظم الآيات القرآنية وجميع آيات القرآن عظيمة. ففي الجزء الأول من الآية أمر الله تعالى نساء النبي أن يقرن في بيوتهن. وأمرهم بامتثال الأوامر الدينية وطاعة الله ورسوله. وبعد توجيه الخطاب لنساء النبي قال جل شأنه:! ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (11) فإذا كان الشطر الأول من الآية قد خص نساء النبي فمن هم الذين خصهم الشطر الثاني من الآية؟ والإجابة على هذا السؤال نجدها في الكتب الخاصة بالتفسير والحديث.

 

روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين أم سلمة أن النبي كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة (12) فيها خزبرة (13) فدخلت بها عليه فقال: " ادعي زوجك وابنيك " قالت: فجاء علي والحسين والحسن. فدخلوا عليه. فجلسوا يأكلون من تلك الخزبرة وهو على منامة له (14). على دكا من تحته كساء له خيبري.

 

قالت أم سلمة: وأنا أصلي في الحجرة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية:! ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾  قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به (15) ثم أخرج يده فألوى (16) بها إلى السماء ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: " إنك إلى خير إنك إلى خير " (17).

 

وحديث أم سلمة روي من طرق عديدة وذكره أصحاب التفاسير في تفاسيرهم (18) وقال ابن جرير الآية نزلت في فاطمة وعلي وأولادهما (19) ونظرا لأهمية الحدث وما سيترتب عليه كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يبث معرفته بين أزواجه من جهة وبين بقية المسلمين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة. وعليه مرط مرحل من شعر أسود. فجاء الحسن بن علي ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله.

 

ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (20) ولكي يحدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من هم أهل بيته. كانوا عندما يجتمعون لصلاة الفجر في مسجده. ينادي فاطمة وعلي وأولادهما ليسمع من في المسجد صيغة النداء. وهذا ما رواه الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول الصلاة يا أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾  (21) وعلى الرغم من هذا البيان الذي شهد به أمهات المؤمنين - أخرى عنده ليس فيها مجهول كما صرح بذلك عبد الملك في نفس الحديث. قال وحدثني أبو ليلى عن أم سلمة. ورواه أيضا ابن جرير من طرق كثيرة ليس فيها مجهول يعضد بعضها بعضا ورواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي (الفتح الرباني:238 / 18) - وجم غفير من الصحابة إلا أن هناك من أدخل نساء النبي ضمن الذين تقصدهم الآية. وقد رد الإمام الطحاوي على من قال بذلك. فقال: فإن (قال قائل) فإن كتاب الله يدل على أن أزواج النبي هم المقصودون بتلك الآية. لأنه قال قبلها في السورة التي هي فيها:! يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا - إلى قوله - الجاهلية الأولى " فكان ذلك كله يؤذن به لأنه على خطاب النساء. لا على خطاب الرجال. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ " الآية (فكان جوابنا) إن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله:! ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾" الآية.

 

خطاب لأزواجه. ثم عقب ذلك بخطابه بقوله تعالى:! إنما يريد الله " الآية. فجاء به على خطاب الرجال. لأنه قال فيه:! ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ وهكذا خطاب الرجال. وما قبله فجاء به بالنون وكذلك خطاب النساء. (فقلنا) أن قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ الآية. خطاب لمن أراده من الرجال بذلك.

 

ليعلمهم تشريفه لهم. ورفعة لمقدارهم أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآية المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى والأحاديث المروية دليل أيضا على أن هذه الآية في فاطمة وعلي وابناهما (22).

 

على هذا فالآية الكريمة خاطبت نساء النبي في شطرها الأول فقال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ووفقا لهذا النص الحكيم حدد الشرع حركة نساء النبي.

 

فأي حركة خارج هذه الدائرة تؤدي إلى فتن. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحذر أزواجه من طريق الفتن في أحاديث كثيرة منها حديث نباح كلاب الحوأب.

 

ومنها ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة. أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية. في الآخرة (23) - وزاد البخاري في روايته - ا فزعا. فقال سبحان الله ماذا أنزل الله من الفتن، قال المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في نومه ما سيقع بعده من الفتن. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) يعني: أزواجه. وإنما خصهم بالإيقاظ لأنهن الحاضرات. وأشار إلى موجب استيقاظ أزواجه. أي لا ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي. وقال الحافظ:

 

واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية. على أوجه.

أحدهما: كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى. عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا.

 

ثانيها. كاسية من نعم الله. عارية من الشكل الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله. وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك (24).

 

فالآية الكريمة في شطرها الأول حددت الخطى لأمهات المؤمنين. وفي شطرها الثاني حددت أين يكون العلم وطهارة الفكر الذي يقود الأمة نحو أهداف الله. ويبتعد بها عن دروب الذين في قلوبهم زيغ. الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ (25) وفي هذه الآية أخرج الترمذي عن أم المؤمنين عائشة إنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾  قال: (فإذا رأيتهم فاعرفيهم) (26) وقال في تحفة الأحوازي. أي واحذريهم خطاب لأم المؤمنين عائشة (27). وبعد أن جدد الله تعالى في كتابه دائرة الطهر كما بينا. أمر سبحانه المؤمنين أن يودوا قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لأنهم الطائفة التي يستحيل أن تكذب على النبي. كما أنهم لا يأخذون علومهم إلا من النبي. يقول تعالى لرسوله: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (28) ولقد ذهبوا في تفسير هذه الآية إلى كل مذهب. فقال البعض: أن الخطاب لقريش. والأجر المسؤول هو مودتهم للنبي لقرابته منهم.

 

وذلك لأنهم كانوا يكذبونه. فأمر الله تعالى رسوله. أن يسألهم. إن لم يؤمنوا به فليودوه. وهذا القول مردود - لأن معنى الأجر. إنما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر. فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه. فسؤال الأجر من قريش وهم كانوا مكذبين له كافرين بدعوته. إنما يصح على تقدير إيمانهم به.

 

لأنهم على تقدير تكذيبه والكفر بدعوته. لم يأخذوا منه شيئا حتى يقابلوه بالأجر.

وعلى تقدير الإيمان به - والنبوة أحد الأصول الثلاثة في الدين - لا يتصور بغض حتى تجعل المودة أجرا للرسالة ويسأل. وبالجملة لا تحقق لمعنى الأجر على تقدير كفر المسؤولين. ولا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم حتى يسألوا المودة - وقيل: المراد بالمودة في القربى مودة الأقرباء. والخطاب لقريش أو لعامة الناس وعلى هذا يكون المعنى: لا أسألكم على دعائي أجرا إلا أن تودوا أقرباءكم. وهذا القول أيضا غير مستقيم. لأن مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست مما يندب إليه في الإسلام. قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ (29) وسياق هذه الآية لا يلائم. كونها مخصصة أو مقيدة لعموم قوله تعالى:! ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ " أو إطلاقه حتى تكون المودة للأقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة. على أن هذه المودة الخاصة لا تلائم خطاب قريش أو عامة الناس. بل الذي يفيده سياق الآية. أن الذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله من غير أن يكون للقرابة خصوصية في ذلك. نعم هناك إهتمام شديد بأمر القرابة والرحم. لكنه بعنوان صلة الرحم وإيتاء المال. على حبه ذوي القربى لا بعنوان مودة القربى. فلا حب إلا لله عز وجل (30).

 

وقيل المراد بالمودة في القربى. مودة قرابة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. وهم عترته من أهل بيته عليهم السلام. وهذا هو القول المستقيم لورود روايات عديدة تؤيده. منها ما رواه ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق. قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال. أقرأت ال حم؟

 

قال: قرأت القرآن ولم أقرأ ال حم قال: ما قرأت: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قال: وإنكم لانتم هم؟ قال: نعم (31) وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسسند ضعيف عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم قال: (علي وفاطمة وولداها) ومن الروايات أيضا التي تؤيد قول القائل بأن ذو القربى هم أهل بيته. ما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم خليفتين (32). كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض. أو ما بين السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. وإنهما لا يتفرقا حتى يردا علي الحوض (33).

 

وهذا الحديث جعل الكتاب والعترة في رباط واحد. وأخبر أنهما لا يتفرقا حتى يردا علي الحوض. يوم يقال لطابور النفاق سحقا سحقا نظرا لارتدادهم بعد رسول الله - كما بينا في الأحاديث التي أوردناها فيما سبق. ولقد ذهب البعض في تحديد معنى العترة كل مذهب. راكبين في ذلك قوارب الجدل التي لا تظهر إلا عند البحث عن الصراط المستقيم. ولتحديد معنى العترة. نذكر ما ورد في لسان العرب وغيره. قال ابن الأثير: عترة الرجل أخص أقاربه. وقال ابن الأعرابي: العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه. وعترة النبي صلى الله عليه وسلم. ولد فاطمة البتول عليها السلام (34) وقال صاحب الفتح الرباني: وعترتي أهل بيتي وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (35) من هذا نعلم وفقا للكتاب والسنة أن دائرة الطهر دائرة معروفة ومحددة. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وآله يعلن على الملأ في كل مكان " أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه. وأحبوني بحب الله. وأحبوا أهل بيتي بحبي " (36) وقال. " لكل نبي عصبة ينتمون إليه إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " (37) ودائرة أهل البيت وإن كانت دائرة واسعة تضم أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه ومنهم سلمان الفارسي كما تضم أقاربه. إلا أن دائرة فاطمة وعلي عليهما السلام هي مركز الحركة التي تقود إلى أهداف الإسلام. ولذا أفاضت الأحاديث في الدعوة للالتفات من حولهم والتعلم منهم ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. " أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا. كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (38). بل أنه صلى الله عليه وآله وسلم قام بتذكير الأمة بهذا الأمر وهو على وشك الرحيل من الدنيا. فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (إني أوشك أن أدعى فأجيب (39) وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروني بم تخلفوني فيهما " (40) وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: " أما بعد.

 

ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين. أولهما كتاب الله تعالى. فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي - قالها ثلاثا (41).

 

ولما كان علي بن أبي طالب قطبا أصيلا في دائرة أهل البيت الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم أفاضت الأحاديث التي تحدد موضع قدم علي بن أبي طالب في هذه الدائرة. ومن هذه الأحاديث. عن زيد بن أرقم.

 

قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع. وترك غدير خم. أمر بدوحات فقممن. ثم قال: " كأني دعيت فأجبت. إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ثم قال. الله مولاي. وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي. فقال.

 

من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قال ابن كثير: تفرد به النسائي من هذا الوجه وقال الذهبي وهذا حديث صحيح (42) وعندما سئل أرقم: هل سمعت هذا من رسول الله؟ قال: ما كان في الدوحات أحدا إلا رآه بعينه وسمعه بأذنه (43) وروى ابن جرير عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله قال في هذا اليوم: " ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق وناره حق. وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: نشهد بذلك. قال اللهم إشهد. ثم قال: أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (44). وفي قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (45) اختلف المفسرون في مكان نزولها فمنهم من قال: إنها نزلت في مكة. وقال آخرون: نزلت في المدينة.

 

إلا أن أغلب الأحاديث الواردة في أسباب نزولها تظهر نزولها بالمدينة. وروى أبو الحسن الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول. رفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري. قال: نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ يوم غدير خم في علي بن أبي طالب. ورواه أيضا في فتح القدير عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري وكذلك في الدر المنثور للسيوطي.

 

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: نزلت هذه الآية في فضل علي بن أبي طالب. ولما نزلت هذه الآية. أخذ بيده وقال. " من كنت مولاه فعلي مولاه.

 

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب. أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي (46).

 

وحديث من كنت مولاه. روى الإمام أحمد. أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابيا. شهدوا به لعلي بن أبي طالب مما توزع أيام خلافته. وصرح بتواتر هذا الحديث العديد من العلماء. قاله المناوي في التيسير نقلا عن السيوطي وشارح المواهب اللدنية. وفي الصفوة للمناوي قال ابن حجر. حديث من كنت مولاه. " أخرجه الترمذي والنسائي. وهو كثير الطرق جدا وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد وأكثر أسانيدها صحيح أو حسن " (47). وكما أن حديث من كنت مولاه يحدد مكان علي بن أبي طالب داخل دائرة الأمة. فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (48). وفي رواية عند الإمام أحمد " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست ببني. أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " (49) وفي رواية عند ابن أبي عاصم: " أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي " (50).

 

فهذا الحديث يحدد أيضا أقدام علي بن أبي طالب داخل دائرة الأمة. ولقد رواه نيفا وعشرين صحابيا. وقال الحافظ الكتاني: هذا الحديث متواتر ولقد تتبع ابن عساكر طرقه في نحو عشرين ورقة (51). وهذا القول قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام عندما خرج إلى غزوة تبوك وكان قد ترك علي في المدينة. ومما يذكر أن حركة النفاق كانت قد نشطت في هذه الفترة فلقد هموا باغتيال الرسول عند عودته من تبوك كما شيدوا مسجدهم الضرار على أمل أن يقوم الرسول بالصلاة فيه بعد عودته في حالة نجاته من القتل. ولكن الله رد كيدهم كما ذكرنا من قبل. ومنزلة هارون من موسى بينها القرآن الكريم في أكثر من موضع.

 

ومنه قول موسى عليه السلام كما جاء في سورة طه: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي / وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي / كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾(52).

 

ومنزلة علي بن أبي طالب عليه السلام ومواقفه بجانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفاضت بها الأحاديث حتى قال ابن عباس: " ما أنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا وعلي أميرها وشريفها. ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان. وما ذكر عليا إلا بخير " (53) وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: " نزلت في علي ثلاثمائة آية " (54) وقال ابن عباس. (كان لعلي ثمان عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة " (55). وروي أن عمر علي بن أبي طالب يوم أسلم كان إحدى عشر سنة. على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه. وقد قيل ثلاث عشر سنة. وقيل سبع سنين. والثابت إحدى عشرة (56). وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخذ عليا من أبيه وهو صغير. في سنة أصابت قريشا وقحط نالهم. وأخذ حمزة جعفرا. وأخذ العباس طالبا. ليكفوا أباهم مؤنتهم ويخففوا عنه ثقلهم. وأخذ أبو طالب عقيلا لميله كان إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اخترت من اختار الله لي عليكم عليا " (57) ومنذ هذا الحين وعلي ينال تربيته على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد أن نزل الوحي روي عن ابن عباس قال: (أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد خديجة. علي " (58). ولما كانت فضائل علي بن أبي طالب أكثر من أن تحصى. فإننا سنورد هنا بعض الروايات التي تتعلق باختيار الله تعالى لعلي في أكثر من موضع ومن هذه المواضع.

 

ما أخرجه الترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليا يوم الطائف فانتجاه. فقال الناس. لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما انتجيته ولكن الله انتجاه " (59) وقال صاحب تحفة الأحوازي: وقوله ما انتجيته. أي ما خصصته بالنجوى. ولكن الله انتجاه. أي إني بلغت عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه على سبيل النجوى. فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته. وقال الطيبي. كان ذلك أسرار إلهية وأمورا غيبية جعله من خزانها (60) ومنها ما أخرجه أحمد عن زيد بن أرقم. قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أبواب شارعة في المسجد. فقال يوما: " سدوا هذه الأبواب إلا باب علي " فتكلم في ذلك الناس. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد. فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي. وقال فيه قائلكم. وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشئ فاتبعته " (61) وفي رواية عند الطبراني. (قالوا يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي. قال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها " (62) ومنها ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي. إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال. أين علي بن أبي طالب. وكان يشتكي عينيه. فتفل في عينيه وأعطاه اللواء (63). ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن علي قال. لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. دعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: أدرك أبا بكر. فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه. فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم. فلحقته بالجحفة وأخذت الكتاب منه. ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال. لا. ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (64). وفي رواية: (أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني، (65). وروي في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (66) عن ابن عباس قال. خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد.

 

وإذا مسكين يسأل. فدخل رسول الله فقال. " أعطاك أحد شيئا " قال: نعم قال. " من؟ " قال. ذلك الرجل القائم. قال: على أي حال أعطاكه؟ قال: وهو راكع. قال: وذلك علي بن أبي طالب. قال. فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك وهو يقول: " من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ". وهذا الحدث اتفق على نقله من غير رد. أئمة التفسير بالمأثور كأحمد والنسائي والطبري والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم من الحفاظ وأئمة الحديث. ومن المعلوم أن الزكاة لا تؤدى في الصلاة. ولكن الله تعالى خص علي بن أبي طالب بهذا. كي يكون تحديده خارجا للعادة من داخل الشرع الحنيف. كي تحفر صورة الحدث داخل الذاكرة.

 

فمن هذه الأحاديث يمكن للباحث أن يحدد موقع علي بن أبي طالب داخل دائرة أهل البيت وداخل دائرة الأمة. ففي أول الطريق يوم أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس في مكة. جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته عندما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(67) وقال لهم: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة. فابوا. فقال علي بن أبي طالب. أنا أواليك في الدنيا والآخرة. فقال: " أنت وليي في الدنيا والآخرة " (68) لقد كان علي وليه في أول الطريق وفي نهاية الطريق عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: " أنت وليي في كل مؤمن بعدي " (69) وفي رواية عن بريدة الأسلمي نحوه وفيها (فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي. وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي " (70) فموقع علي داخل دائرة الطهر هو موقع الولاية. ولا ولاية إلا بعلم. ولقد أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلم لعلي في أكثر من موضع منه ما قاله لفاطمة عليها السلام. " أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما " (71) وكان علي يقول: " والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت. وعلى من نزلت. إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا صادقا " (72) وكان يقول. " اسألوني قبل أن تفقدوني " (73) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: قد أجمع الناس كلهم إنه لم يقل أحد من الصحابة ولا أحد من العلماء هذا غير علي بن أبي طالب عليه السلام وفقه علي وغزارة علمه شهد به عمر بن الخطاب حين قال: " علي أقضانا " (74). فمن هذا وذاك لا يستغرب أن يكون عليا من دون الناس هو ولي المؤمنين بعد رسول الله. فهو حامل علوم رسول الله. وبالعلم وحده تبلغ الدعوة هدفها وتصل بالبشرية إلى أهداف الإسلام. كما وصف بأنه أعظم حلما والحلم مفتاح للصبر والصبر فيه نجاة للفطرة. والحليم لا يرفع سيفه إلا إذا كان آخر الدواء الكي ولم يكن العلم والحلم والشجاعة هي كل خصائصه وإنما زود الله تعالى عليا بمنقبة هي عين مهمته في مجابهة المنافقين فعن علي إنه قال. " عهد إلي النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " (75) وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن " (76) فهذه المنقبة أقامت جدارا بين الإيمان وبين النفاق. وبهذه المنقبة يكتمل البناء وتقوم الحجة بعد أن مهد الإسلام الطريق أمام الفطرة وحصنها من كل ما يتلفها. وذلك عندما حدد دائرة الأمان وسط الرقعة العريضة ومجمل القول. إن الله تعالى أتم نعمته. وحدد سبحانه دوائر الاختبار.

 

وفسرت السنة الشريفة هذه الدوائر ولا إكراه في دين الله. لقد كان حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال عظماء لا شك في إخلاصهم للدعوة. ولكن الله أوجد الإنسان على هذه الأرض ليختبره فيها. وعظماء الصدر الأول كانوا من الناس والله تعالى يقول. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ / وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ / أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ / مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ / وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (77) قال المفسرون: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم ء أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم. آمنا؟ إن الفتنة والامتحان سنة جارية لله وقد جرت في الذين من قبلهم وهي جارية فيهم ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان. فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم. فمن كان يرجو لقاء الله فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا. ومن جاهد فإن جهاده يعود نفعه إلى نفسه لأن الله غني عن العالمين.

 

وعظماء الصدر الأول لا ينكر فضلهم أحدا. ولكنهم عاشوا على رقعة من الأرض احتوت على كل أنماط بني الإنسان صالح وطالح وهذا وذاك يخضع لسنة الله الجارية من امتحان وفتنة. وفي عالم الفتن والابتلاء لا يعرف الرجل باسمه وإنما يعرف بالحق. فبالحق يعرف الرجال وليس بالرجال يعرف الحق. وهذه قاعدة قرآنية ذكرها الله في أكثر من موضع في كتابه. فالسامري كان وفقا لفقه الشعار من أصحاب موسى عليه السلام. ولكن حقيقته عرفت بمعايير الحق.

 

وصاحب النبأ (78) كان من أصحاب موسى فما أغنى عنه علمه عندما سلط الحق أشعته عليه. فالإنسان وجد على الأرض ليختبر ولقد زوده الله تعالى بجميع وسائل النجاة وأحاطه بجميع معالم الزينة والزخرف. فمن كان يرجو لقاء الله اجتاز الدنيا بسلام. ورجال الصدر الأول هم من بني الإنسان. منهم من أخذ بأسباب النجاة ومنهم من أحاط به الشقاء وقد ذكر القرآن أن منهم من في قلبه مرض ومنهم سماعون للمنافقين ومنهم من يسميه فاسقا ومنهم من تبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمله ومنهم من رضي الله عنه ومنهم من لم يرض عنه لأن الله لا يرضى عن الفاسق والمنافق ومن اتبع هواه إلى غير ذلك. وبالجملة: قال تعالى: (ش محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا - إلى قوله تعالى - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (79) قال المفسرون: قوله: (إ منهم) " أي لو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: (! ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (80) أو آمن أولا ثم أشرك وكفر كما في قوله: (! إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى - إلى قوله - ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) " (81) أو آمن ولم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك - ومن أهل الإفك من هو صحابي بدري وقد قال تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " (82) - فأمثال ذلك لا يشمله وعد المغفرة والأجر العظيم الذي وعد الله في صدر الآية. وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ " (83) قال المفسرون. والمعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله ولا يتضرر بذلك إلا نفسه. كما لا ينتفع بالإيفاء إلا نفسه لأن الله غني عن العالمين ولقد دلت الحوادث أن هناك من نكث بيعته.

 

فمثل هذا لا معنى للقول بأن له عند الله أجرا عظيما. وعلى هذا فإننا نقول إن تحديد الدوائر كان رحمة من الله تعالى بعباده. كي يجتازوا بحور الفتن والامتحان على سفن النجاة. وكما حاصر الإسلام دائرة الرجس التي يمثلها المنافقين.

حاصر أيضا دائرة النجس التي يمثلها الشرك وطابوره الطويل. فمن في دائرة النجس راقبوا من بعيد. بعد أن يئسوا من تدمير الصرح العظيم. راقبوا الأحداث في الداخل فلعل هذه الأحداث تأتيهم بإنسان جديد لوثه الرجس. فيلتقي الرجس مع النجس في منظومة واحدة تخطو في طريق الطمس والقهقري نحو غايات بني إسرائيل تلك الغايات التي يجلس على قمتها المسيح الدجال.

 

1-  سورة التوبة، الآيتان: 5 6 - 6 9.

2-  المعجم الوسيط: 330 / 1، المختار: 234.

3-  سورة الأنعام، الآية: 125.

4-  الميزان: 343 / 7.

5-  سورة الأعراف، الآية: 71.

6-  الميزان: 179 / 8.

7-  سورة التوبة، الآية: 125.

8-  سورة يونس، الآية: 100.

9-  لسان العرب: 4508.

10-  سورة الأحزاب، الآية: 33.

11-  البرمة / القدر.

12-  الخزبرة / لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء فإذا نضج ذر عليه دقيق.

13-  منامة / أي الدكة التي ينام عليها.

14-  أي غطاهم.

15-  أي رفعها.

16-  قال في الفتح الرباني الحديث في إسناده عند الإمام أحمد رجل لم يسم لكن له طرق.

17-  ابن كثير في التفسير: 484 / 3، البغوي في التفسير: 546 / 6، ابن جرير في التفسير: 5 / 20.

18-  ابن جرير: 5 / 20

19-  صحيح مسلم: ص 195 / 15 ط دار إحياء التراث العربي.

20-  رواه أحمد (الفتح الرباني: 203 / 22) ورواه الترمذي وقال حسن غريب وقال في تحفة الأحوازي أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ابن مردويه (تحفة الأحوازي: 9168).

21-  مشكل الآثار / الطحاوي دار صادر 0 338 / 1.

22-  رواه الترمذي وقال حديث صحيح (تحفة الأحوازي: 0 44 / 6) وقال في التحفة أخرجه أحمد والبخاري.

23-  تحفة الأحوازي شرح جامع الترمذي: ص. 44 / 6.

24-  سورة آل عمران، الآية: 7.

25-  أخرجه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود وابن ماجة: (343 / 8).

26-  تحفة الأحوازي: 342 / 8.

27-  سورة الشورى، الآية: 23 الآية مدنية والسورة مكية.

28-  سورة المجادلة، الآية: 22.

29-  الميزان: 5 4 / 18.

30-  ابن كثير في التفسير: 112 / 4، تفسير البغوي: 364 / 7.

31-  وفي رواية ثقلين - بدل - خليفتين.

32-  رواه أحمد وقال البيهقي إسناده جيد (الفتح الرباني: 105 / 22. وقال البغوي في تفسيره وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال في خطبته بغدير خم (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض " تفسير البغوي: 365 / 7.

33-  لسان العرب: ص 2796.

34-  الفتح الرباني 104 / 22.

35-  البغوي في التفسير وقال رواه الترمذي: 267 / 7.

36-  رواه الطبراني عن فاطمة. والحاكم عن جابر (كنز العمال: 14 / 12) وابن عساكر عن جابر: 8 9 / 12 كنز العمال.

37- قال البغوي في تفسيره رواه الترمذي وقال حسن غريب (البغوي: 267 / 7).

38-  يقصد موته صلى الله عليه وسلم.

39-  رواه الإمام أحمد وفي إسناده: عطية بن سعد. ضعفه الثوري. وحسن له الترمذي أحاديث. وفي التهذيب قال أبو حاتم وابن سعد ومع ضعفه يكتب حديثه (الفتح الرباني: 105 / 22).

40-  البغوي في التفسير 6500 / 5، سنن ابن عاصم 643 / 2.

41-  البداية والنهاية / ابن كثير: 509 / 2.

42-  البداية والنهاية: 209 / 5، سنن ابن عاصم: 644 / 2.

43-  ابن جرير (كنز العمال: 290 / 5).

44-  سورة المائدة، الآية: 67.

45-  الفخر الرازي في تفسيره: ص 48، 49 ح 12.

46-  نظم المتناثر من الحديث المتواتر / الحافظ الكتاني: ص 194.

47-  رواه الإمام مسلم في صحيحه: 174 / 15.

48-  رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 204 / 21).

49-  رواه ابن أبي عاصم وقالى الألباني صحيح الإسناد: 565 / 2.

50-  نظم المتناثر من الحديث المتواتر: ص 195.

51-  سورة طه، الآيات: 29 - 34.

52-  تاريخ الخلفاء / السيوطي: ص 160.

53-  تاريخ الخلفاء / السيوطي. ص 161.

54-  تاريخ الخلفاء / السيوطي: ص 161.

55-  مقاتل الطالبين / أبو الفرج الأصفهاني. ص 41.

56-  مقاتل الطالبين / أبو الفرج الأصفهاني: ص 41.

57-  رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 122 / 23) وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير حبة العري وقد وثق.

58-  رواه الترمذي حديث رقم 3810.

59-  تحفة الأحوازي شرح جامع الترمذي / المباركفوري ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة: ص 231 / 10.

60-  رواه أحمد (الفتح الرباني: 117 / 23) ورواه بطريق آخر من سعد بن مالك وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وإسناد أحمد حسن.

61-  الفتح الرباني: 123 / 21.

62-  أخرجه بألفاظ متعددة. أحمد. والبخاري ومسلم في فتح خيبر والترمذي في المناقب وابن سعد في الطبقات وابن هشام في السيرة.

63-  أخرجه أحمد (الفتح الرباني: 157 / 18) وقال صاحب الفتح. قال الهيثمي رواه عبد الله بن أحمد. وفيه محمد بن جابر السحيمي وهو ضعيف وقد وثق.

64-  أخرجه الإمام أحمد وقال في الفتح الرباني الحديث سنده صحيح وله شواهد كثيرة تعضده منها عند البخاري والإمام أحمد أيضا من حديث هريرة ومنها حديث أنس عن الترمذي وحديث ابن عباس عند الترمذي أيضا (الفتح الرباني 157 / 18).

65-  سورة المائدة، الآية: 55.

66-  ابن جرير في تفسيره 186 / 6.

67-  سورة الشعراء، الآية: 214.

68-  رواه أحمد وقال في الفتح الرباني. أخرجه الحاكم وأقره الذهبي (الفتح الرباني: 119 / 23).

69-  رواه أحمد وقال في الفتح الرباني. أورده الهيثمي بلفظ (أنت ولي كل مؤمن بعدي) وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزازي وهو ثقة وفيه لين. وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي والدارقطني وغيرهم (الفتح الرباني: 116 / 23).

70-  رواه أحمد وقال في الفتح الرباني أورده الهيثمي وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. (أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح. وقول الهيثمي معناه أن الطبراني رواه في الأوسط باختصار عن الكبير والإمام أحمد. ورجال الإمام أحمد ثقاة (الفتح الرباني 1170 / 23).

71-  رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني. وفيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم وغيره وبقية رجاله ثقاة (الفتح الرباني: 133 / 23).

72-  تاريخ الخلفاء: ص 173.

73-  تاريخ الخلفاء. ص 124، الحاكم في المستدرك: 466 / 2، الإصابة:

74-  قال في خت الخفاء: رواه البخاري وأحمد عن ابن عباس بلفظ " قال عمر علي أقضانا وأبي أقرؤنا) رواه الحاكم وصححه من ابن مسعود بلفظ كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي) كشف الخفاء: 184 / 1.

75-  رواه أحمد. ومسلم في كتاب الإيمان والترمذي في المناقب.

76-  رواه أحمد.

77-  سورة العنكبوت، الآيات: 2 - 6.

78-  ذكرنا قصته في الحديث عن بني إسرائيل.

79-  سورة الفتح، الآية: 29.

80-  سورة التوبة، الآية: 101.

81-  سورة محمد، ا لآيات: 25 - 30.

82-  سورة النور، الآية: 23.

83-  سورة الفتح، الآية: 10.

----------------------------------------

2 - حصار النجس:

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (1) وكل مستقذر نجس يقال.

رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس. وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون - ومعسكر الصد عن سبيل الله لا يسبح إلا في بحيرات من الرجس والنجس ولذا حذر القرآن الكريم من الاقتراب منه في مواضع عديدة. لأن الاقتراب فيه هلاك. لأنه الخيام في بحيرات الرجس والدنس يعلوها بريق الزينة. ومن دخلها لن يخرج منها إلا إلى عالم الغثاء والعالة. ويصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بطريقة أصحاب الخيمة التي يسيرون بها في الحياة. ولهذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (2) قال المفسرون: ونهى عن مودتهم حتى لا يتجاذب الأرواح والنفوس. فإن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية البنية على سعادة أتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية. والولاية في الآية هي، ولاية المحبة. وقوله تعالى:! بعضهم أولياء بعض " وذلك لتقارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم واجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق. واتحادهم على إطفاء نور الله. وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق. ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين. أن الإسلام يدعوهم إلى الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى. والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض.. ويرتد بعضه إلى بعض. يتولى اليهود النصارى وبالعكس.

 

ويتولى بعض اليهود بعضا. وبعض النصارى بعضا. فالمعنى: لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم. لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.! ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم ومنهم. غير سالك سبيل الإيمان وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم والله لا يهدي القوم الظالمين (3).

 

ونداءات القرآن باجتناب معسكرات الكفر عديدة. ومنها قول الله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ (4) قال المفسرون. أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا. توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلوهم على عوراتهم. فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شئ. أي ليس من حزب الله في شئ. إلا أن تتقوا منهم تقاة. أو تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم. وترفض قلوبكم ما هم فيه وعليه. ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم (5) وكما حذر القرآن من التعامل مع معسكر الكفر. حذر أيضا من التعامل مع معسكر النفاق الذي حمل على عاتقه عرقلة دعوة الفطرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أخرج ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس قال: هم المنافقون (6) وقال المفسرون: أي لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم. وجعل سبحانه البطانة مثلا لخليل الرجل. والبطانة هي ما يلي البدن الثوب. والله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا من الكفار أخلاء وأصفياء لما هم عليه من الغش والخيانة (7) ولما هم عليه من الاستكبار باتخاذهم الدين هزوا ولعبا. قضاء منهم بأن الدين ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شئ. إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (8).

 

لقد حاصر الإسلام دائرة النجس والرجس. التي حمل أصحابها معاول الهدم التي تحمل شعارات قابيل وجبابرة قوم نوح وعاد وثمود. وانطلقوا ليحاصروا الفطرة بثقافة أهل المؤتفكة وأصحاب الأيكة وزخارف فرعون. لقد حاصر الإسلام تلك الدائرة الواسعة التي تحتوي على دوائر الماضي وفي محاصرته لها تحذير لأتباع الرسالة الخاتمة. حتى لا يكون للناس على الله حجة.

 

3 - إتمام الحجة:

لم يكتف كتاب الله بحصار معسكر الكفر كله وتحذير المؤمنين منه. وإنما قضى الله أن العلم النافع يناله المؤمنون فقط. لذا أعلنت الشريعة الخاتمة أن المعارف الحقيقية تكون في متناول البشر عندما يصلح أخلاقه. وأن السعادة الحقيقية يصل الإنسان إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت. أما غير ذلك من معارف وزخرف فلا تصل بالإنسان إلى طريق الهلاك وما عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون من الإنسانية بعيد. ولما كان معسكر النفاق داخل البيت الإسلامي لا بد له من معارف ينطلق بها إلى عالم الفتنة. وإن معارفه سيستند فيها على كتاب الله بتأويل آياته بحيث ينتسخ دين الله وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ (9) قال المفسرون الزيغ هو الميل عن الاستقامة. والآية تكشف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه. وأن منهم من هو زائغ القلب يتبع المتشابه إبتغاء الفتنة والتأويل. ومنهم من هو راسخ العلم مستقر التلب يأخذ المحكم ويؤمن بالمتشابه. والمراد بابتغاء الفتنة في الآية طلب إضلال الناس ومعنى الآية:  يريدون بإتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله. وأمر آخر هو أعظم من ذلك. وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن. ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينسخ بذلك دين الله من أصله " (10) لما كان معسكر النفاق سيفرز الذين يتاجرون بالمتشابه. وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان " (11) فإن كتاب الله عزل هذا الصنف عن معارفه وهو قوله تعالى:﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ / فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ / لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (12) فمس الكتاب لا يقف عند الطهارة من الخبث أو الحدث عند مسك الكتاب باليد. بل ينطلق نحو تعريف أوسع. فإذا كانت الأيدي التي تمسه يجب أن تكون طاهرة فكذلك يجب أن تكون العقول التي تمسه طاهرة. ولأن عقول المنافقين ليس عليها مسحة من طهارة.

 

فإن الله قضى أن لا يصيبهم علم نافع. ليتخبطوا في عالم المتشابه الذي يقودهم إلى الهلاك ومن ورائهم الذين مضغوا علومهم. وفي قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون " قال المفسرون: مسه هو العلم به. والمطهرون هم الذين طهر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي وقاذورات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك وأدق وهو تطهير قلوبهم من التعلق بغير الله. وهذا المعنى من التطهير هو المناسب  للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث) (13).

 

إن داخل البيت الإسلامي فريقان: فريق دسه معسكر الانحراف والأهواء وفريق أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكتاب الله يقرأه هذا وذاك. ومس الكتاب عند فريق يقود إلى تأويل الكتاب بحيث لا يكون الإسلام إلا اسما ولا يكون القرآن إلا رسما. بينما يكون عند فريقا آخر مرشدا للبشرية ليس بها نحو أهداف الله. ولأن الرسالة الخاتمة لها أهداف. فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن كتاب الله بالعترة الطاهرة وأعلن أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. أما فريق اللاهدف واللاغاية فلقد أخبر النبي بأنهم عند الحوض سيقال لهم سحقا سحقا كما بينا من قبل. ولأن تأويل القرآن ووضعه في غير مواضعه وكذا إدعاء إنسان ما أنه أحق بالتأويل من الذين نص عليهم رسول الله بعد أمرا خطيرا تترتب عليه أمور خطيرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أكثر ما أتخوف على أمتي بعدي رجل يتأول القرآن. فيضعه على غير مواضعه. ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره " (14) لقد حاصر كتاب الله دوائر الرجس والنجس. وحذر من الاقتراب من هذه الدوائر. وأمر كتاب الله بالجماعة. ولا جماعة إلا بإمام مشهود له بالعلم من رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. " لا يقوم بدين الله. إلا من حاطه من جميع جوانبه " (15) وكما أن هناك جماعة يقودها إمامها إلى الجنة ففي البيت الإسلامي أيضا جماعات يقودها أئمتها إلى النار فعن حذيفة قال: سألت رسول الله (ص): هل بعد ذلك الخير من شعر؟ فقال: " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قلت: صفهم لنا؟ قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها. ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (16) في هذا الحديث كشف الستار عن أجهزة الصد والفتنة الذين يدعون إلى النار مستخدمين في ذلك رموز الإسلام.

 

وأمر عليه الصلاة والسلام بالالتزام بالجماعة والإمام ولا إمام إلا بكتاب الله. ولم ينكر على حذيفة قوله: " فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام " بل قدم الدواء لهذا الداء لعلمه أن هذا واقع لا محالة. فأمر باعتزال الفرق كلها. وأمر بالعض على أصل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء حتى يأتي الموت فيجده على ذلك. لقد قامت الحجة على الماضي والحاضر والمستقبل. ولا إجبار في دين الله في جميع الأحوال.

 

4 - يوم الخميس والرحيل:

على امتداد الرسالة كان صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث إلى القافلة البشرية. كما تحدث الأنبياء من قبل. فنادى بالعدل مبينا أن الإنسانية لم توجد ليأكل القوي فيها الضعيف. وإنما ليعيش هذا وذاك بإحساس أن كل منهما في حاجة إلى الآخر وأن فوق الجميع قوة الله القادر على كل شئ. وبهذه القوة يرزقون وبها يموتون ويبعثون يوم القيامة. وأنذر الجبابرة مبينا أن فناء الباطل بالحق. وأن الذي يخرج عن معيار التوازن قويا كان أو ضعيفا فإنه يطارد في الكون أمام الأمواج كقوم نوح أو أمام الرياح كقوم عاد أو تحت الصيحة كثمود أو تحت الظلة كأصحاب الأيكة إلى غير ذلك من عذاب الله الغير مردود. وعندما أتم الله رسالته أتى الإنسانية. بآخر أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما سدت جميع المنافذ التي يدخل منها الشيطان وأتباعه ليكون في هذا حجة على من يفتح نافذة للشيطان. تحت جلده أو داخل أسرته أو في مجتمعه الذي يعيش فيه. جاء وقت رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد روي أن دموعه كانت تجري كثيرا في آخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك لأنه كان يعلم من ربه الأحداث التي ستعصف بالأمة وتنتهي بالظالمين إلى عقاب الله المؤجل. كان يعلم أمورا روي أنه لم يرى بعدها ضاحكا حتى مات. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام حريصا رغم إتمام الحجة أن يحذر مما سيقع ليكون كل تحذير يضاف حجة فوق الحجة... لتعلم الإنسانية بعد ذلك أن الطريق يعج بالفتن وهذه الفتن لم تأت من نفسها. فيحذر كل عضو فيها أن يكون من صناعها وحتى لا يصيبه العذاب. والله لا يظلم الناس والعذاب الذي يراه الناس ما هو إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم. لقد كان النبي في أيامه الأخيرة يدفع العذاب بغرس التوحيد في النفوس والدعوة إلى الإعتصام بكتاب الله وسنته التي يبلغها عنه من لا يكذب عليه. والروايات عن أيامه الأخيرة صلى الله عليه وآله وسلم عديدة. منها روايات تتحدث عن بعث أسامة. حيث وضع النبي كل كبار الصحابة عدا عليا تحت قيادة أسامة بن زيد. وأمرهم بالخروج ولكن بعض الصحابة استصغروا أسامة في قيادة هذه الحملة العسكرية وطعنوا فيه. فقال لهم النبي: " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل " (17) قال في فتح الباري (18). كان الطاعن فيه من ينتسب إلى النفاق، وبعد أن قال رسول الله ذلك رفض ما ذهبوا إليه وطالبهم بالخروج. ومات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تخرج حملة أسامة. ولم تخرج هذه الحملة إلا في عهد أبي بكر. وروايات الطعن في أسامة واستصغاره رغم تعيين الرسول له. رايات كثيرة ترى في كتب التراجم والسير والحديث.

 

ومن روايات الأيام الأخيرة ما رواه الإمام أحمد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتابا لا يضلون بعده. فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها (19) وجاء في صحيح، البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال: هلم أكتب إليكم كتابا لن تضلوا بعده. قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع. وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت. واختصموا فمنهم من يقول. قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده. ومنهم من يقول ما قاله عمر. فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قوموا عني " (20) وروى الإمام مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟

 

ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إئتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر (21) وعند البخاري: (فقال إئتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدأ. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر " (22) وزاد البخاري وأحمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) (23).

 

وفي لسان العرب: يهجر هجرا. إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي. وهجر يهجر هجرا. بالفتح. إذا خلط في كلامه وإذا هذى (24) وقال ابن الأثير في النهاية: الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول (25). وأقر ابن الأثير كما في لسان العرب وفي النهاية بأن القائل هو عمر بن الخطاب. معتذرا بأن أقل ما يقبل في هذا المقام أن يكون قد قال: (أهجر) على سبيل الاستفهام.

 

ومما رواه الطبراني في هذا الحدث عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتابا لا تضلوا بعده أبدا. فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟

 

فقلت: إنكن صواحبات يوسف. إذا مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عصرتن أعينكن. وإذا صح ركبتن عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوهن فإنهن خير منكم) (26) وخلاصة أحاديث الصحيفة. إن ردود النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من حوله. لم تكن تحمل جانب من جوانب الرضا. فعندما قالوا حسبنا كتاب الله. وأكثروا اللغط والاختلاف قال. " قوموا عني) إن الرسول لا يقف على أرضية من اللغط والاختلاف. الرسول جاء ليتكلم وليستمع الناس. والرسول عندما يتكلم لا ينطق عن الهوى لهذا فرض الله تعالى على الناس طاعة النبي في جميع الأحوال -. وعندما قالوا: هجر. أو. أهجر.

 

قال: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) وأيضا ما قاله عن النسوة عندما قالوا: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟ قال: دعوهن فإنهن خير منكم. فجميع هذه الردود لا تحمل معنى من معاني الرضا على سير الأحداث ويؤيد هذا بكاء ابن عباس. يوم الخميس وما يوم الخميس؟ وذهب أكثر من باحث إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصر على كتابة الصحيفة التي لا يضلوا بعدها أبدا. لأن قولهم: " هجر) أو " أهجر " يمكن أن يكون مقدمة يشكك بها البعض فيما سيكتبه الرسول. بمعنى أن الرسول كتب ما كتب وهو في حالة لا تسمح له بذلك. والتشكيك مكتوب ربما يتعدى هذا المكتوب إلى مكتوب آخر تحت هذه الحجة. وقال آخرون: عندما أكثروا اللغط والاختلاف. علم أن الاختلاف واقع من بعده لا محالة كما أخبره ربه. ولذا اكتفى بما أقامه عليهم قبل ذلك من الحجج ورحل النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني صلى الله عليه وآله وسلم. رحل النبي الخاتم للمسيرة الشريفة التي تقدمها نوح وتوسطها إبراهيم عليهما السلام. ونشهد أنه قد أدى الأمانة. ونصح الأمة. وجاهد في سبيل الله حق جهاده. ونسأل الله أن يحشرنا تحت لوائه. وأن يسقينا من حوضه جرعة ماء لا نظمأ بعدها أبدا. والمؤمنين أجمعين. إنه سميع مجيب.

 

1-  سورة التوبة، الآية: 28.

2-  سورة المائدة، الآية: 51.

3-  الميزان 373 / 5.

4-  سورة آل عمران، الآية: 28.

5-  ابن جرير: 152 / 3.

6-  الدر المنثور / السيوطي: 66 / 2.

7-  ابن جرير: 40 / 4، الميزان: 3 / 386.

8-  سورة المائدة، الآية: 57.

9-  سورة آل عمران، الآية: 7.

10-  الميزان: 23 / 3.

11-  رواه ابن عدي (كشف الخفاء: 16 / 1).

12-  سورة الواقعة، الآيات: 77 - 79.

13-  الميزان: 137 / 19.

14-  رواه الطبراني في الأوسط (كنز العمال: 200 / 11).

15-  رواه أبو نعيم (كنز العمال 84 / 3).

16-  مسلم: 20 / 6.

17-  رواه البخاري في كتاب الأحكام.

18-  فتح البخاري: 180 / 13.

19-  رواه أحمد وقال رواه أحمد وفيه ابن بهيقة وفيه خلاف. وقال صاحب الفتح الرباني.

قلت: أي لأنه عن من في هذا الحديث وقالوا إذا عن ابن بهيقة فحديثه ضعيف وإذا قال حدثنا فحديثه صحيح أو حسن (الفتح الرباني: 136 / 21).

20-  صحيح البخاري: 271 / 4.

21-  صحيح مسلم 76 / 5.

22-  البخاري: 202 / 2.

23-  البخاري: 202 / 2، أحمد (الفتح: 234 / 21).

24-  لسان العرب: 5618 / 55.

25-  النهاية: 240 / 4.

26-  الطبراني في الأوسط (كنز العمال: 644 / 5).