معركة الأحزاب

  .: معركة الأحزاب :.

 

مقدمة:

إنّ أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام، هي (معركة الأحزاب) تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة انعطاف في تأريخ الإسلام، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين، وكان ذلك النصر مفتاحاً للانتصارات المستقبلية العظيمة، فقد انقصم ظهر لأعداء في هذه الغزوة، ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.

 

إنّ حرب الأحزاب - وكما يدلّ عليها اسمها - كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار هذا الدين.

 

لقد أشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود (بني النظير) الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا (قريش) بحرب النّبي (ص)، ووعدهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير، ثمّ أتوا قبيلة (غطفان) وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.

 

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة (بني أسد) و(بني سليم)، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد، ويقتلوا النّبي (ص)، ويقضوا على المسلمين، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.

 

برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه:

لقد كانت (حرب الأحزاب) آخر سعي للكفر، وآخر سهم في كنانته، وآخر استعراض لقوى الشرك، ولهذا قال النّبي (ص): (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) عندما تقابل أعظم أبطال العدوّ، وهو عمرو بن عبد ودّ، وبطل الإسلام الأوحد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، لأنّ انتصار أدهما على الآخر كان يعني انتصار الكفر على الإيمان، أو الإيمان على الكفر، وبتعبير آخر: كان عملاً مصيرياً يحدّد مستقبل الإسلام والشرك، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد انهزامهم في هذه المواجهة العظيمة، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائماً.

 

لقد أفل نجم الأعداء، وانهدمت قواعد قوّتهم، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبي (ص) قال: بعد نهاية غزوة الأحزاب (الآن تغزوهم ولا يغزوننا)

 

عدد جيش الإسلام وجيش الكفر:

ذكر بعض المؤرّخين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب، ويقول (المقريزي) في (الإمتاع) إنّ قريشاً أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل، وألف وثلاثمائة فرس، وألف خمسمائة من الإبل، ونزلت عند حافّة الخندق، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران، وجاء (بنو فزارة) بألف، وكلّ من (بني أشجع) و(بني مّرة) بأربعمائة، والقبائل الأخرى أرسلت عدداً من الرجال، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.

 

في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.

 

على كلّ حال، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوماً، وقيل خمسة وعشرين يوماً، وعلى بعض الرّوايات شهراً.

 

ومع أنّ العدوّ كان متفوقاً على المسلمين من جهات مختلفة، إلا أنّه خاب في النهاية كما قلنا، رجع إلى دياره خالي الوفاض.

 

حفر الخندق:

حفر الخندق قد تمّت -كما نعلم- بمشورة (سلمان الفارسي)، وكانت هذه المسألة أسلوبا دفاعياً معتاداً في بلاد فارس آنذاك، ولم يكن معروفاً في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم، وكان يعتبر ظاهرة جديدة، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهمية عظيمّة، سواء من الناحية العسكرية، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.

 

ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه، فقد ذكر المؤرّخون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضاً كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.

 

إضافةً إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفاً وغرضاً لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.

 

وأما من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره باثني عشر ألف ذراع (ستة آلاف متر) استنادا إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبي (ص) كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعاً من الخندق، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين - طبقا للمشهورة- بلغ ثلاثة آلاف رجل.

 

ولابدّ من الاعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمراً مضنياً وجهداً، خاصة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الأخرى.

 

ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد استغرق مدة لا يستهان بها، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر، وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تم قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.

 

نزل علي (ع) التاريخي لعمرو وبن عبد ودّ:

من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة علي (ع) لبطل معسكر العدوّ العظيم (عمرو بن عبد ودّ).

 

إنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للاشتراك والمساهمة في هذه الحرب، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة، ونوفل، وضرار.

 

لقد استعدَّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية، ولبسوا عدّة الحرب، واستطاعوا اختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيقة فيه، كانت بعيدة نسبياً عن مرمى الرماة المسلمين، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين، وكان أشهرهم (عمرو بن عبد ودّ).

 

فتقدّم وقد ركبه الغرور والاعتداد بالنفس، وكانت له خبرة طويلة في الحرب، ورفع صوته طالباً من يبارزه.

 

لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب، ولمّا لم يجرؤا أحد من المسلمين على قتاله اشتدَّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين، فقال: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة، أو يدفعني إلى النار؟

 

وهنا أنشد أبياته المعروفة:

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذا جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز

 

فأمر النّبي (ص) عند ذاك أن يخرج إليه رجل ويبعد شّره عن المسلمين، إلا أنّ أحداً لم يجب رسول الله (ص) إلا علي بن أبي طالب (ع)، فقال النّبي (ص): (إنّه عمرو)، فقال علي (ع)(وإن كان عمرواّ) فدعاه النّبي (ص) وعممه، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار، ثمّ دعا له فقال: (اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).

 

فمشى علي (ع) إلى الحرب وهو يرتجز:

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

 

وهناك قال النّبي (ص) كلمته المعروفة (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه).

 

ضربة أفضل من عبادة الثقلين:

فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين علي (ع) إلى الإسلام أوّلاً، فأبى، ثمّ دعاه إلى اعتزال الحرب، فرفض ذلك، واعتبره عاراً عليه، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلاً، فغضب عمرو وقال: ما كنت أحسب أحداً من العرب يدعوني إلى مثل ذلك، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياً (ع) على رأسه، فتلقاها علي (ع) بمهارة خّاصة بدرعه، إلا أنّ السيف قدّه وشج رأس علي (ع).

 

هنا استعمل علي (ع) أسلوبا خاصاً، فقال لعمرو: أنت بطل العرب، وأنا اُقا تلك، فعلام حضر من خلفك؟

 

فلمّا التفت عمرو، ضربة علي (ع) على ساقه بالسيف، فسقط عمرو إلى الأرض، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون إنّ عليا (ع) قد قتل بسيف عمرو، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بانتصار علي، ورأوا فجأءةً علياً (ع) يرجع إلى معسكره رويداً رويداً والدم ينزل من رأسه، وعلى شفتيه ابتسامة النصر، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب الميدان.

 

لقد أنزله مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم، وهزمتهم نفسياً هزيمة منكرة، وخابت آمالهم في النصر والظفر، لذلك قال رسول الله (ص) في حقّها: (لو وزن اليوم عملك بعمل جميع اُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق من المسلمين، وإلا وقد دخله عزّ يقتل عمرو).

 

وقد أورد العالم السنّي المعروف (الحاكم النيسابوري) هذا القول، لكن بتعبير آخر: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة) (1).

 

والغاية من هذا الكلام واضحة، لأنّ كلاً من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهراً، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبي (ص)، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة، وببركة تضحية الإمام (ع) تجذرّ الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين، وبناءً على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.

 

جثة عمرو:

أمّا المشركون فقد أرسلوا رسولاً منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم – وربما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم اُحد - فقال النّبي (ص): (هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى)!

 

وهناك موقف يستحقّ الذكر والانتباه، وهو: أن أخت عمرو ولمّا وصلت إلى جسد أخيها، ورأت أن علياً (ع) لم يسلبه درعه الثمينة قالت: ما قتله إلا كفؤ كريم.

 

نعيم بن مسعود وبثّ الفُرقة في جيش العدوّ!

جاء (نعيم) إلى النّبي (ص) وكان قد أسلم لتوّه، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه، فقال: أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك، فقال له النّبي (ص): (إنّما أنت فينا رجل واحد، فخدل عنّا ما استطعت، فإنّما الحرب خدعة).

 

فانطلق نعيم وبخطّة رائعة، وأتى يهود بني قريظة، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية، فقال لهم: إنّي لكم صديق، وأنتم تعلمون ذلك، فقالوا: صدقت، ونحن لا نتّهمك أبداً، فقال: إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنّما قريش وغطفان بلادهم غيرها، وإنما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً، فقالوا: قد أشرت برأي، فقبل بنو قريظة قوله.

 

ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّياً، فقال: يا معشر قريش، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه: أنّه لا يرضيك عنّا إلا أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك، فقالوا: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم فلا تعطوهم رجلاً واحداً واحذروا.

 

ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته، فقال: تعملون حسبي ونسبي، وأنا أودّكم، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي، فقالوا: نعلم ذلك، فقال: لكم عندي خبر فاكتموه عليّ، فقالوا: نفعل، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.

 

فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا: إنّ الكراع والخفّ قد هلكا وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

 

فأجابهم اليهود: إنّ غداً السبت، وهو يوم لا نعمل فيه، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً.

 

فلمّا بلغ ذلك قريشاً وغطفان قالوا: والله لقد حذّرنا هذا نعيم، فبعث إليهم أبو سفيان: إنّا لا نعطيكم رجلاً واحداً فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا، وإن شئتم فاقعدوا.

 

ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا: هذا والله الذي قال لنا نعيم، فإنّ في الأمر حيلة، وهؤلاء لا يريدون القتال، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّدا.

 

فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الاختلاف بينهم، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد، قلعت خيامهم، وكفأت قدورهم.

 

لقد اتّحدت هذه العوامل، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب.

 

قصّة حذيفة:

جاء في كثير التواريخ أنّ (حذيفة اليماني) قال: والله، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلاّ الله، وفي ليلة من الليالي - بعد أن وقع الاختلاف بين جيش الأحزاب - قال رسول اللهً (ص): (ألا رجل يأتينا بخبر يجعله الله رفيقي في الجنّة).

 

 

قال حذيفة: فو الله ما قام ممّا بنا من الخوف والجوع، فلمّا رأى النّبي (ص) ذلك دعاني، فقلت: لبّيك، قال: (اذهب فجيء بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع)، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا يطمئن لهم قدر، فإنّي كذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يا معشر قريش، لينظر أحدكم من جليسه لئلاّ يكون هنا غريب، فبدأت بالذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقلت: حسناً.

 

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يا معشر قريش- والله - ما أنتم بدار مقام، هلك الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء، ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلا بعد ما ركبها.

 

فقلت في نفسي: لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول الله (ص): (لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع) وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخير وحسب، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر، فقال النّبي (ص): (اللهمّ أنت منزل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم).

 

معركة الأحزاب في القرآن الكريم:

يقول القرآن الكريم في هذه الحادثة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

 

إنّ المراد من ﴿وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾ والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو (الملائكة) التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة، ولكن إنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم.

 

ويقول القرآن الكريم تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾.

 

وإنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان.

 

ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة، وقد حانت نهاية عمر الإسلام، وأنّ وعود النّبي (ص) بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقا.

 

من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض.

 

هنا كان الامتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما يقول سبحانه: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (2).

 

من الطبيعي أن الإنسان إذا أحيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الابتلاء، بل كان ستظهر عليه آثار الاضطراب والتزلزل، وكثيراً ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكرياً لا يستطيعون الاستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح اضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يداً بيد.

 

وأحد شواهد هذا القلق والاضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين- وكان على رأسهم (عمرو بن عبد ودّ) - نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة واعتداد بالنفس كبير، فقالوا: هل من مبارز؟

 

سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزئ بالجنّة والآخرة، وكان يقول: أيّها المسلمين ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟

 

إلا أن السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته واستهزائه ودعوته للبراز، ولم يجرؤ أحد على مناجزته، ألاّ علي بن أبي طالب (ع) الذي هبّ لمبارزته، وحقّق نصراً كبيراً للمسلمين.

 

نعم.. أنّ الحديد يزداد صلابةً وجَودةً إذا عرض على النار، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة.

 

المنافقون في عرصة الأحزاب:

فار تنوّر امتحان حرب الأحزاب، وابتلى الجميع بهذا الامتحان الكبير العسير، ومن الواضح أنّ الناس الذين يقفون ظاهراً في صفّ واحد في الظروف العادية، ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة، وهنا أيضا انقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواصّ المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.

 

 

والخلاصة: فإنّ كلّ واحد قد أظهر أسراره الباطنية وما ينطوي عليه هذه القيامة العجيبة، وفي يوم البروز هذا.

 

رأيت قصور إيران والروم واليمن:

خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق، اصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول، فـأخبروا النّبي (ص) بذلك، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة، وأخذ المعول، فضرب الحجر أول ضربّة قوية فانصدع قسم منه وسطح منه برق، فكبّر النّبي (ص) وكبّر المسلمون.

 

ثمّ ضرب الحجر ضربة أخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون، وأخيراً ضرب النّبي ضربته الثالثة، فتحطّم الباقي من الحجر وسطح برق، فكبّر النّبي (ص) ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير،...

 

فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقال (ص) (أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ أمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ أمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا) فاستبشر المسلمون.

 

فنظر المنافقون إلى بعضهم البعض وقالوا: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (3).

 

أعذار المنافقين:

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى بيان حال طائفة أخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين، فمن جانب يقول عنهم: واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار: يا أهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقّفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾.

 

وخلاصة الأمر أنّكم لا تقدرون على عمل أيّ شيء في مقابل جحفل الأعداء اللجب، فانسحبوا من المعركة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبنسائكم وأطفالكم إلى ذلّ الأسر، وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.

 

ومن جانب آخر: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾

 

والمنافقين بتقديمهم هذه الأعذار كانوا يريدون الفرار من ساحة الحرب واعتزال القتال واللجوء إلى بيوتهم.

 

وجاء في رواية: أنّ طائفة (بني حارثة) أرسلوا رسولاً منهم إلى النّبي (ص) وقالوا: إنّ بيوتنا غير مأمونة، وليس هناك بيت من بيوت الأنصار يشبه بيوتنا وندافع عن نسائنا وأولادنا فأذن لهم النّبي.

 

فبلغ ذلك (سعد بن معاذ) كبير الأنصار، فقال للنبي (ص): لا تأذن لهم، فإنّي اُقسم بالله أنّ هؤلاء القوم تعذّروا بذلك كلّما عرضت لنا مشكلة، إنّهم يكذبون، فأمر رسول الله (ص) أن يرجعوا. (4)

 

ويشير القرآن إلى ضعف إيمان هذه الفئة، فتقول: إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كلّ جانب وصوب واستولى عليها، ثمّ دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إلية: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾.

 

من المعلوم أنّ أناسا بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدوّ ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم.

 

ثمّ يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة، فيقول: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا﴾ وعلة فإنهم مسئولون أمام تعهدهم.

 

وبعد أن أفشى الله سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم، بل الفرار من ميدان الحرب، يجيبهم بأمرين:

 

الأول: أنّه يقول للنّبي (ص): (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (5).

 

ألم تعلموا أنّ كلّ مصائركم بيد الله، ولن تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة الله وقدرته ومشيئته: ﴿قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.

 

فئة المعوّقين:

أشار القرآن إلى وضع فئة أخرى من المنافقين الذين اعتزلوا حرب الأحزاب، وكانوا يدعون الآخرين أيضاً إلى اعتزال القتال، فقالت: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (6).

 

ونقرأ في رواية: أنّ أحد أصحاب النّبي (ص) جاء من ميدان حرب الأحزاب إلى داخل المدينة لحاجة، فرأى أخاه قد وضع أمامه الخبز واللحم المشوي والشراب، فقال له: أنت في هذه الحال تلتذّ ورسول الله مشغول بالحرب، وهو بين الأسنّة والسيوف؟!

 

فقال أخوه: يا أحمق! ابق معنا وشاركنا مجلسنا، فو الذي يحلف به محمّد إنّه لن يرجع من هذه المعركة! وسوف لن يدع هذا الجيش العظيم الذي اجتمع عليه محمّداً وأصحابه أحياء!

 

فقال له الأوّل: أنت تكذب، واُقسم بالله لأذهبنّ إلى رسول الله (ص) وأخبره بما قلت، فجاء إلى النّبي (ص) وأخبره بما جرى.

 

إنّهم لن يؤمنوا:

يضيف القرآن الكريم إنّ الدافع لكلّ تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو أنّهم بخلاء: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ لا في بذل الأرواح قي ساحة الحرب، بل هم بخلاء حتّى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق، بل ويبخلون حتّى في المساعدة الفكرية، بخلاً يقترن بالحرص المتزايد يومياً!

 

وبعد تبيان بخل هؤلاء وامتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار، تتطرّق الآية إلى بيان صفات أخرى لهم والتي لها صفة العموم في كل المنافقين، وفي كلّ العصور والقرون، فيقول: ﴿فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾.

 

فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي، ولم يستندوا إلى عماد قويّ في الحياة، فإنّهم يواجهون الموت.

 

ثمّ يضيف: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.

 

 

ويشير في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء، والتي هي في الواقع أساس كلّ شقائهم وتعاستهم، فقال: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ لأنها لم تكن منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي.

 

﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾:

من شدّة خوفهم ورعبهم، فقد خيّم عليهم كابوس مخيف، فكأنّ جنود الكفر يمرّون دائماً أمام أعينهم وقد سلّوا السيوف ومالوا عليهم بالرماح!

 

إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير، ظنّاً أنّ جيوش الأحزاب قد عادت!

 

ثمّ يضيف: ﴿وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾ أي منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية، فيختفون هناك ويتتبّعون أخباركم و﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ﴾ فيسألون لحظة بلحظة من كل مسافر آخر الأخبار لئلا تكون الأحزاب قد اقتربت منهم، وهم مع ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائماً!!

 

ويضيف في آخر جملة: وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان، بل بقوا معكم: ﴿وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ (7).

 

فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنهم أناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم!

 

وحتّى هذا القدر المختصر من العمل لم يكن لله أيضاً، بل هو نتيجة الخوف من ملامة وتقريع الناس، وللتظاهر والرياء، لأنّه لو كان لله لكانوا يقفون ويثبتون في ساحة الحرب ما دام فيهم عرق ينبض.

 

دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب:

يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخططاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، وقد تقدم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق المعوّقين عن الجهاد.

 

ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.

 

ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرم (ص)، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (8).

 

فإنّ النّبي (ص) خير نموذج لكم، لا في هذا مجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاً من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.

 

إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلاً عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والاطمئنان الروحي لركابها.

 

إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.

 

يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والاستعداد اللازم.

 

ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح، وانتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن اكتشاف الطريق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.

 

نعم... إنّه أسمى مقتدي، وأحسن أسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كلّ الميادين.

 

وصف المؤمنين:

ويشير القرآن إلى فئة خاصّة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبي (ص) من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به، وهو التضحية في سبيل دينه حتى النفس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فيقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ... ﴾ من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (9).

 

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية:

يروي العالم المعروف (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) - وهو من علماء السنة - بسند عن علي (ع) أنّه قال: (فينا نزلت ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ فأنا -والله- المنتظر وما بدّلت تبديلاً، ومنّا رجال قد استشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء).

 

 

1- مستدرك الحاكم، الجزء3، صفحة23.

2- الأحزاب، 11-9.

3- الأحزاب، 12.

4- (يثرب) هو الإسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النّبي (ص)، وبعد هجرته أصبح اسمها تدريجاً (مدينة الرّسول)، ومخفّفها المدينة.ولهذه المدينة أسماء عديدة، ذكر لها الشريف المرتضى (رحمة الله عليه) أحد عشر اسما آخر إضافةً إلى هذين الاسمين، ومن جملتها: طيبة وطابة، وسكينة، والمحبوبة، والمرحومة، والقاصمة. ويعتمد البعض أنّ (يثرب) اسم لأرض هذه المدينة.

وجاء في بعض الرويات أنّ النّبي (ص) قال: (لا تسمّوا هذه المدينة يثرب) وربّما كان ذلك بسبب أنّ يثرب في الأصل من مادّة (يثرب) (على وزن حرب) أي اللوم، ولم يكن النّبي (ص) ليرضى مثل هذا الاسم لهذه المدينة المباركة.

وعلى كلّ حال فإن الخطاب المنافقين لأهل المدينة بـ (با هل يثرب) لم يكن خطاباً عشوائياً، وربّما كان الباعث إعلان عدم إعترافهم بالإسلام واسم مدينة الرّسول، أو أن يعودا بأهلها إلى مرحلة الجاهلية!

5- الاحزاب، 17-13.

6- الاحزاب، 18.

7- الاحزاب، 20-19.

8- الأحزاب، 21.

9- الأحزاب، 23.