الاجازة وأحكامها

بعد أن تكلمنا عن المجيز والمجاز نتكلم الآن عن الاجازة وهي التعبير عن الرضا بعقد الفضولي وامضائه بقول أو كتابة أو فعل فلا يعتد بالرضا الواقعي ما لم يعبر عنه قال صاحب الجواهر: «أما الاجازة ممن هي له فلا يكفي فيها السكوت مع العلم فضلاً عن الجهل بل ولا مع حضور العقد عند علمائنا واكثر أهل العلم أما الاكتفاء من البكر بالسكوت في الزواج فللقرينة» أي أن سكون لابكر يعد اجازة منها للعقد عند العرف لأن الحياء يمنعها من النطق .

وبديهة أن القول أوضح أساليب التعبير عن القصد وافضلها والكتابة اسلوب من اساليبه المتبعة عرفاً وكذلك الفعل كقبض المالك الثمن والتصرف فيه ونحو ذلك .

 

 

قال الشيخ الانصاري: «الاجازة من آثار سلطنة المالك على ماله.. فقولنا: له أن يجيز مثل قولنا له أن يبيع كلاهما راجع إلى أن له أن يتصرف ولو مات المالك لم يورث الاجازة وانما يورث المال الذي عقد عليه الفضولي فله أن يجيز بناء على جواز مغايرة المجيز والمالك حين العقد» .

وقال السيد اليزدي معلقاً على ذلك: «يعني أن جواز الاجازة ليس من الحقوق ـ حتى تورث ـ بل هو من الاحكام الشرعية فلا يتعلق به الارث لأن الحكم لا يورث ـ ثم قال ـ ان معنى كل من الحق والحكم معلوم ولكن تشخيص افرادهما وتمييز مواردهما في غاية الاشكال ولذا حكي عن بعض الفقهاء أن ذلك يميز النبيه بذوقه وليس له معيار كلي» .

 

 

اذا تحققت الاجازة بشروطها المطلوبة أخذ العقد آثار تماماً كما لو صدر عن الاصيل وهذه الشروط منها متفق عليه بين الفقهاء ومنها مختلف فيه وفيما يلي التفصيل:

1 ـ اتفقت كلمة فقهاء المذهب على أن الاجازة لا تصح إلاّ ممن هو أهل لابرام العقد. وتقدمت الاشارة إلى ذلك .

2 ـ اتفقوا ايضاً على انه يعتبر في تأثير الاجازة علم المجيز بركني العقد مفصلاً تماماً كما يشترط علم المتعاقدين بهما وبكلمة: ان حكم الاجازة هو حكم البيع ابتداء .

3 ـ اتفقوا على أن الاجازة يجب أن تكون موافقة للعقد المجاز في المثمن والثمن لأنهما ركنا العقد فاذا باع الفضولي دار زيد فلا معنى لاجازة بيع البستان واذا باع بألف فلا معنى لا جازة البيع بألفين أما إذا باع الفضولي دار زيد وبستانه معاً بألفقين فاجاز زيد بيع الدار فقط بألف قال الشيخ الانصاري: «الاقوى الجواز وللمشتري خيار تبعيض الصفقة ـ يأتي الكلام عن هذا الخيار في بابه ان شاء اللّه‏ ـ ومثله أيضاً اذا باع لزيد وعمرو فاجاز بيع احدهما دون الآخر» .

ولو باع الفضولي بشرط فاجاز المالك البيع مجرداً عن الشروط ينظر فان كان الشرط قيداً للمبيع ومن صفاته كما لو باعه ثوباً بشرط أن يكون من صنع الوطن واجاز المالك البيع دون هذا الشرط.. ان كان كذلك سقطت الاجازة لأن  المبيع شيء وتعلقت الاجازة بشيء آخر.. وخيار التبعيض هنا غير ممكن لوحدة الموضوع وان لم يكن الشرط قيداً للمبيع بل كان خارجاً عنه كما لو باع الفضولي هذا الثوب بشرط أن يخيطه المالك فاجاز المالك البيع دون الخياطة.. ان كان كذلك صح البيع والاجازة وقسط الثمن بالنسبة وثبت للمشتري خيار التبعيض لتعدد الموضوع ويعبر الفقهاء عن هذا النوع بانه التزام في ضمن التزام كما يعبرون عنه أيضاً بتعدد المطلوب .

4 ـ اختلفوا: هل يشترط في تأثير الاجازة أن لا يسبقها الرد من المالك بحيث اذا رد ثم أجاز تقع الاجازة لغواً؟.

ذهب الشيخ الانصاري إلى وجوب هذا الشرط لأن الرد في نظره إبطال للعقد والباطل لا يقبل الاجازة وادعى صاحب «بلغة الفقيه» الاجماع على ذلك .

وقال جماعة من الفقهاء منهم السيد اليزدي والشيخ الاصفهاني في حاشيتيهما على المكاسب والسيد الحكيم في نهج الفقاهة قالوا: ان الرد من المالك لا يبطل عقد الفضولي ولا يمنع من الاجازة وتأثيرها وذلك ان الذي يبطل العقد هو عدول الموجب عن ايجابه قبل قبول القابل أما القابل فله أن يرد ثم يقبل بعد الرد ما دام الايجاب قائماً واذا صح هذا بالقياس إلى القابل صح بالنسبة إلى المجيز بطريق أولى .

واستدلوا بما رواه محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه‏السلامأن أمير المؤمنين علياً عليه‏السلام قضى في وليدة باعها ابن سيدها وابوه غائب فاستولدها الذي اشتراها فولدت منه ولما جاء سيدها الأول خاصم الثاني إلى أمير المؤمنين وقال: وليدتي باعها ابني بغير اذني فقال الإمام عليه‏السلام: الحكم أن يأخذ الأول وليدته وابنها فناشده الثاني فقال له الإمام عليه‏السلام: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ البيع لك فلما رآه أبوه قال: أرسل ابني قال: لا واللّه‏ لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني فلما رأى ذلك أجاز البيع .

وقد اعترف الشيخ الانصاري بصحة هذه الرواية وظهورها بصحة الاجازة بعد البيع ولكنه قال: «ان هذا الظاهر مطروح أو مؤل».. ولم أروجهاً للطرح أو التأويل إلاّ قيام الاجماع على أن الاجازة لا اثر لها ما بعد الرد وهو غير قائم ولا موجود وعلى افتراض وجوده فليس بحجة لأن الاجماع عند الامامية انما يكون حجة متبعة اذا كشف يقيناً عن رأي المعصوم ومعنى هذا أنّه اذا احتملنا أن المجمعين استندوا إلى آية أو رواية أو قاعدة يسقط اجماعهم عن الاعتبار.. بداهة أن العلم بالكشف عن رأي المعصوم لا يجتمع مع احتمال العكس ونحن نظن أو نحتمل ـ ان لم نعلم ـ أن المجمعين الستندوا في حكمهم بعدم صحة الاجازة إلى الظن بأن عقد الفضولي يبطل مع الرد وبكلمة: ان مجرد الشك في أن الاجماع يكشف عن رأي المعصوم يسقطه من الاساس ويجعل وجوده وعدمه سواء ومن هنا لم يبق للاجماع عند الشيعة الامامية من مورد اللهم إلاّ اذا بلغ الحكم المجمع عليه من البداهة حد الضرورة الدينية كوجوب الصوم والصلاة ومعها لا حاجة إليه ولا إلى غيره من الأدلة لأن الدليل تفتقر إليه النظريات لا البديهيات .

5 ـ هل يجب على من له حق الاجازة أن يجيز أو يرد فوراً ولا يجوز له التأخير اذا علم بعقد الفضولي؟. ثم اذا ماطل ولم يجز أو يرد حتى تضرر الاصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي فما هو الحكم؟.

الجواب  :

لا دليل على وجوب الفور وسرعة المبادرة إلى الاجازة أو الرد بل الدليل الموجود يدل على العكس فان الظاهر من رواية محمد بن قيس المتقدمة أن الاجازة جاءت بعد الخصومة والمرافعة بل لا دليل على وجوب الاجازة أو الرد من الاساس لأن عقد الفضولي لا يوجب حقاً للاصيل على المالك ولا يلزمه بشيء ـ نريد بالاصيل الطرف الذي أجرى العقد مع الفضولي ـ بل له العدول عن العقد قبل أن يجيز المالك كما قال السيد اليزدي والشيخ الأصفهاني وعلى افتراض لزوم العقد على الاصيل كما يظهر من عبارة الشيخ الانصاري فان له حق الخيار في الفسخ دفعاً للضرر .

 

 

ليس من شك أن اجازة العقد شيء والاذن بقبض الثمن أو المثمن شيء آخر فاذا باع الفضولي مال الغير واجاز المالك فان هذه الاجازة لا تستدعي الاذن للفضولي بقبض الثمن بل يحتاج القبض إلى اذن مستقل عن الاجازة. ولو دفع المشتري الثمن للفضولي تبقى ذمته مشغولة به ويكون هو مسؤولاً عنه أمام المالك. وكذا لو اشترى الفضولي لغيره واجاز من له الشراء فانه لا يجوز للبائع أن يسلم المبيع للفضولي إلاّ باذن المجيز وبالاجمال ان اجازة العقد لا تدل على الاذن بالقبض من قريب ولا بعيد .

 

 

سبق أن محل الاجازة هو العقد وان العقد معها تتبعه جميع آثاره ومستلزماته باجماع القائلين بصحة عقد الفضولي واختلفوا في زمن هذه الآثار ومبدأ حدوثها واسنادها إلى العقد: هل تترتب عليه وتسند إليه من حين انشائه وصدوره من الفضولي بحيث تكون الاجازة اللاحقة تماماً كالوكالة السابقة وتسمى الاجازة في هذه الحال كاشفة لأنها تكشف عن ملك سابق الثبوت والتحقق أو أن الاجازة ناقلة للملك من حينها لا من حين العقد تماماً كما لو جرى العقد فى ظرفها؟ .

ذهب المشهور إلى أن الاجازة كاشفة لا ناقلة وقال جماعة منهم السيد اليزدي: بل هي ناقلة لا كاشفة .

ولا بأس بالاشارة إلى معاني الكشف كما جاءت في كتاب المكاسب وحواشيه.. المعنى الأول: أن الاجازة تكشف عن أن العقد المجاز كان سبباً تاماً لترتب الآثار عليه. الثاني: الكشف التقديري أي أن الاجازة تكشف أن المالك لو علم بعقد الفضولي لرضي به «فلو» هذه مقارنة للعقد منذ وجوده. الثالث: الكشف الانقلابي على حد تعبيرهم وفسروه بأن الاجازة تكشف عن أن العقد تحول وصار مؤثراً من الاول. الرابع: الكشف الحكمي أو التنزيلي بمعنى أن الاجازة تكشف عن وجود الملك حين العقد حكماً أو تنزيلاً لا حقيقة وواقعاً فالملك الحقيقي يحدث عند الاجازة ولكن آثاره تحدث عند العقد بالنظر إلى وجوده آنذاك حكماً. الخامس: ان تكون الاجازة شرطاً متأخراً يؤثر فيما قبله أما نوع هذا التأثير فهو الالتزام بآثار العقد منذ صدوره. وقال السيد اليزدي: «وهذا ظاهر المشهور واختاره في الجواهر صريحاً» .

أمّا الدليل على الكشف فهو أن اجازة العقد ليس معناها اجازة اللفظ مجرداً عن آثاره وإلاّ لم يجب الوفاء بالعقد لأن ما لا أثر له لا وفاء له وعقد الفضولي له آثاره ولكن لا يجب الوفاء بها لعدم الرضا فاذا رضي المالك واجاز تصبح لازمة له من حين صدوره فيكون الرضا شرطاً متأخراً وتأخره لا يضر اطلاقاً لأن امتناع تأخر الشرط عن المشروط والعلة عن المعلول.. انما هو في الاشياء الطبيعية والعلل الحقيقية أما في الاعتبارات الشرعية والعرفية فلا مانع من ذلك. وبتعبير آخر: «ان معنى الاجازة هو الرضا بمضمون العقد وليس مضمونه إلاّ انشاء نقل العوضين من حينه» .

 

 

ذكر الفقهاء ثمرات للفرق بين النقل وبين الكشف بالمعنى الذي ذهب إليه المشهور منها :

1 ـ أن النماء المنفصل لكل من المثمن والثمن والحاصل بين العقد والاجازة يكون للمنتقل إليه دون المنتقل عنه على القول بالكشف وبالعكس على القول بالنقل.. أجل هناك آثار تترتب على نوع خاص من الملك كما لو كان المشتري قد نذر أنّه اذا ملك هذه العين يفعل كذا فان النذر ينصرف إلى غير ما ملكه بالعقد الفضولي قبل الاجازة وكذا النظر إلى المرأة المعقود عليها فضالة فأنه أثر لغير العقد الفضولي حتى ولو حصل العلم بأن الاجازة ستقع حتماً .

2 ـ على القول بالكشف يجوز للطرف الاصيل الذي انتقلت إليه العين أن يتصرف بها اذا علم بأن الاجازة ستقع حتماً وان كان على شك منها فيمنع من التصرف بها لأن الاصل عدم وقوع الاجازة أما على القول بالنقل فلا يجوز له التصرف بالعين اطلاقاً حتى مع العلم بأن المالك سيجيز .

3 ـ على الكشف لا يجوز للاصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي أن يفسخ العقد ويعدل عنه قبل الاجازة وعلى النقل يجوز له ذلك .

4 ـ لو عقد الفضولي زواج امرأة على رجل حرمت على هذا الرجل اخت المعقود عليها على القول بالكشف لثبوت المصاهرة من طرفه ولا تحرم على القول بالنقل ويكون عقد الرجل على الاخت عدولاً عن عقده الذي اجراه مع الفضولي .

5 ـ لو مات الاصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي قبل الاجازة تنتقل العين التي جرى عليها العقد إلى الورثة باجازة المالك على القول بالكشف ويبطل العقد على القول بالنقل ولا يبقى للاجازة من موضوع .

6 ـ اذا تعلقت الزكاة بالعين في الزمن المتخلل بين العقد والاجازة فيجب اخراجها على من انتقلت إليه على القول بالكشف وعلى من انتقلت منه على التنقل .

7 ـ اذا حدث عيب بالعين في الفترة بين العقد والاجازة فلا يثبت خيار الرد بالعيب لمن انتقلت إليه ان قلنا بالكشف لأن العيب حدث في ملكه ويثبت له الخيار ان قلنا بالنقل لأنه حدث في ملك من انتقلت عنه .

8 ـ تحسب الايام الثلاثة في خيار الحيوان من حين العقد على الكشف ومن حين الاجازة على النقل .

9 ـ اذا كانت عين شراكة بين زيد وعمرو وباع الفضولي سهم زيد ثم باع عمرو سهمه لآخر ثم أجاز زيد بيع الفضولي تكون الشفعة حقاً لمن اشترى من الفضولي على الكشف ولزيد على النقل .

10 ـ اذا اشترى الاصيل عينا من الفضولي ثم باعها قبل الاجازة من آخر يصح هذا البيع على الكشف لأنه والحال هذه بيع في ملك ولا يصح على النقل لأنه بيع في غير الملك .