الاحتكار

اتفق المسلمون كافة على تحريم الاحتكار كفكرة للنص و«القبح العقلي المستفاد من ترتب الضرر على المسلمين وكون الحرص مذموماً عقلاً ومنافاته للمروءة ورقة القلب المأمور بهما» كما قال صاحب الجواهر .

لقد فرّع شيخ الطائفة في عصره مبادى‏ء دينية واحكاماً شرعية على المروءة ورقة القلب كتحريم الاحتكار وتوفي هذا الشيخ العظيم سنة 1266 هـ حيث لا قنبلة ذرية ولا هيدروجينية ولا اسلحة جهنمية... ووددت لو يعيش في هذا العصر ليرى «المروءة ورقّة القلب» عند الغرب المستعمر..

وبغض النظر عن المروءة ورقة القلب فان لدينا اكثر من قاعدة شرعية توجب تحريم الاحتكار منها: «لاضرر ولا ضرار ودفع المفسدة أولى من جلب المصلحة بخاصة اذا كانت المفسدة عامة والمصلحة فردية والأهم مقدّم على المهم ان كان هناك مهم ووجوب الاحتفاظ بالنفس المحترمة قال صاحب المسالك المعروف بالشهيد الثاني باب الاطعمة والأشربة: «ان كان المضطر إلى الطعام قادراً على المحتكر قاتله فان قتل المضطر كان مظلوماً وان قتل صاحب الطعام  فدمه هدر».. ومنها كل ما كان سبباً تاماً للحرام فهو حرام وقد اثبتت التجارب والأيام ان الاحتكار سبب تام للاستعمار والحروب واستعباد الشعوب وازهاق الارواح بالملايين واشاعة الرعب والخوف في النفوس ([1]) بثمنه لم يكن كفارة لما صنع.. وبهذا يتضح أن حكم المحتكرين الذي يغطون سوءاتهم بالبذل على الجهات العامة ان حكم هؤلاء عند اللّه‏ تماماً كحكم مربية الايتام.. وجاء في نهج البلاغة ان الإمام قال في عهده للاشتر: فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به فى غير اسراف.. إلى غير ذلك مما لا يبلغه الاحصاء .

___________________________________________

[1] قرأت اليوم في جريدة الاخبار المصرية تاريخ: 9 / 6 / 1965 ان رصيد المخزون النووي يكفي لتدمير كوكبنا وان المخصص من هذا المخزون لكل انسان على وجه الارض اكثر من 80 طناً من المواد المتفجرة.. مع العلم بأن ثلثي البشرية الآن فريسة الجوع والمرض والتخلف .

 

 

هل يحرم احتكار جميع ما تحتاجه الناس من مأكل وملبس ومشرب وأدوات أو يختص التحريم بالطعام فقط أو بنوع خاص منه كالحنطة والشعير والتمر والزبيب ـ كما قيل ـ ؟

والذي يظهر من صاحب الجواهرى في كتاب التجارة: ان الفقهاء متفقون على تحريم احتكار كل شيء يضطر إليه الناس مهما كان نوعه دون استثناء وانهم اختلفوا فيما لم تبلغ الحاجة إليه حد الاضطرار وهذه عبارته بالحرف: «الاحتكار محرم في كل جنس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة ويضطرون إليه ولا منجوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيره من غير تقييد بزمان دون زمان ولا أعيان دون أعيان ولا انتقال بعقد ولا تحديد بحد بعد فرض حصول الاضطرار بل الظاهر تسعيره حينئذ بما يكون مقدوراً للطالبين ـ يريد المستهلكين ـ اذا تجاوز المحتكر الحد في الثمن بل لا يبعد حرمة قصد الاضرار بحصول الغلاء ولو مع عدم حاجة الناس ووفور الأشياء بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء وحبه وان لم يقصد الاضرار ـ انتبه لقوله بمجرد قصد الغلاء وحبه الذي يقتضي أن كل من لديه شيء وأحب ارتفاع ثمنه فقد ارتكب محرماً. ثم قال صاحب الجواهر ـ وانما الكلام أي الاختلاف بين الفقهاء في حبس الطعام انتظاراً به غلو السعر من أجناس التجارة مع حاجة الناس وعدم وصولهم إلى حد الاضطرار» .

ومعنى هذا أنّه متى بلغت الحاجة حد الاضطرار إلى الشيء حرم احتكاره مهما كان نوع ذلك الشيء أمّا إذا لم تبلغ الحادة حد الاضرار فقد اختلف الفقهاء في أنّه هل يحرم احتكار كل شيء تحتاجه الناس أو أن المحرم هو احتكار الطعام فقط أو نوع خاص منه كالحنطة والشعير والتمر والزبيب كما قيل بأن هذه يحرم احتكارها اطلاقاً حتى مع عدم الاضطرار إليها أمّا غيرها فيحرم احتكاره مع الاضطرار..

والحق أن الاحتكار حرام من حيث هو كمبدأ عام وقاعدة كلية تماماً كالربا لا لشيء إلاّ لمجرد حاجة الناس إلى الشيء المحتكر سواء أبلغت الحاجة حد الضرورة أم لم تبلغ هذا الحد أما ذكر الحنطة والشعير والتمر والزبيب والزيت في بعض روايات أهل البيت عليهم‏السلامفانه منزل على الغالب وشدة الحاجة  إلى هذه في ذلك العصر ولا

يصلح ذكرها ابداً لتقييد القاعدة العامة التي ثبتت بالأدلة القطعية المشار إلى طرف منها آنفاً.. بل ان بعض الروايات صريحة في ذلك فقد روى الحلبي عن الامام الصادق عليه‏السلامأنّه قال: ان كان في المصر طعام غيره فلا بأس.. وفي رواية صحيحة أخرى أنّه قال: انّه كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس.. ومعنى هذا أنّه اذا تضايق الناس ففي الاحتكار بأس. وجاء في كتاب المكاسب أن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة والقاضي وصاحب الوسيلة وصاحب الدروس قالوا: إن الأظهر أن تحريم الاحتكار مع حاجة الناس أي أن علة التحريم هي حاجة الناس من حيث هي ثم قال صاحب المكاسب معلقاً على ذلك: «فهو جيد» .

ونقول نحن للفقهاء الذين خصصوا تحريم الاحتكار بالحنطة والشعير والتمر والزبيب نقول لهم: يلزمكم على هذا أن احتكار النفط والكهرباء غير محرم مع العلم بأن الحياة اليوم تستحيل بدونهما.. وأيضاً يلزمكم أن يكون احتكار السلاح ومنعه عمن يريد الدفاع عن نفسه حلال لا بأس به.. ثم أي ضرر اليوم في احتكار التمر والزبيب؟.. واعتقد أن المستعمر لو اطلع على هذه الفتوى لركع وسجد وكتبها بأحرف من نور واشاعها واذاعها في كل قطر ما دامت تحرم عليه احتكار التمر والزبيب وتبيح له احتكار الحديد والفولاذ والذهب الاسود والاصفر.. وبالتالي فان الجمود على حرفية النص في مثل هذه الموارد هو طعن في الدين وشريعة سيد المرسلين .

 

 

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن للحاكم ونائبه وعدونل المسلمين مع تعذر الوصول إلى الحاكم ان يجبر المحتكر على عرض سلعته في الاسواق. ويشهد له ما جاء عن الإمام الصادق عليه‏ السلام أن الطعام نفذ في عهد رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله ‏و سلم فأتاه المسلمون وقالوا: يا رسول اللّه‏ قد نفذ الطعام ولم يبق منه إلاّ شيء عند فلان فمره يبع الناس فصعد المنبر وحمد اللّه‏ وأثنى عليه ثم قال: يا فلان ان المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفذ إلاّ شيئاً عندك فاخرجه وبعه .

أما تسعير السلعة بما يراه الحاكم فقد نقل الشيخ الانصاري في المكاسب عن كتاب المقنعة أن للحاكم أن يسعر بما يراه من المصلحة وأيضاً نقل صاحب كتاب المكاسب عن العلامة وولده فخر المحققين والشهيد ان الحاكم يسعر على المحتكر ان اجحف في الثمن لنفي الضرر. وقال صاحب الجواهر ما نصه بالحرف: «نعم لا يبعد رد المحتكر مع الاجحاف في الثمن كما عن ابن حمزة والفاضل والشهيد الثاني وغيرهم لنفي الضرر. لأنه لولا ذلك لانتفت فائدة الاجبار إذ يجوز أن يطلب المحتكر ما لا يقدر الناس على بذله ويضر بحالهم والغرض رفع الضرر» .

ونحن لا نشك أن ولاية الحاكم العادل على حماية المصالح العامة ورعايتها تشمل التسعير بما فيه مصلحة الجميع البائع والمستهلك تماماً كما تشمل اجبار المحتكر على العرض والقول بأنّها تشمل الولاية على الاجبار دون التسعير تحكم ما دام الهدف واحداً وهو دفع المفسدة وقد يستأنس لذلك بهذا الحديث: «مجاري الأمور والاحكام بأيدي العلماء» .

ونختم هذا الفصل بما جاء في كتاب الوسائل من أنّه في احدى السنين انقطع الطعام عن المدينة المنورة وكان الناس يشترون طعامهم يوماً بيوم فقال الصادق عليه ‏السلام لبعض خدمه: كم عندنا من الطعام؟. قال: ما يكفينا اشهراً. قال: أخرجه وبعه. فقال الخادم: ليس في المدينة طعام. قال الإمام عليه‏السلام: بعه. فلما باعه قال له: اشتر مع الناس يوماً بيوم.. وأيضاً جاء في الوسائل أن أهل المدينة أصباهم قحط حتى ان الرجل الموسر كان يخلط الحنطة بالشعير ويأكله وكان عند الإمام الصادق عليه‏السلامطعام جيد فقال لخادمه: اشتر لنا شعيراً فاخلط بهذا الطعام وبع القمح فإنّا نكره أن نأكل جيداً ويأكل الناس رديئاً.. اللّه‏ اعلم حيث يجعل رسالته وصلى اللّه‏ على النبي وآله الأبرار الأطهار .