القبض

ذكر الشيخ الأنصاري ثمانية أقوال في معنى القبض وبعضها تعمق في البديهات والبعض منها تعقيد للواضحات.. ولكن الفقهاء كلهم أو جلهم على وفاق أن ليس للشارع اصطلاح خاص في معنى القبض واذا جاء في كلامه ما يشعر بالتحديد فهو ارشاد إلى المعنى العرفي الذي يرجع في حقيقته إلى تنفيذ العقد وفي الكثير من كتب فقه الإمامية والقوانين الوضعية تعاريف صحيحة صريحة بهذا المعنى فقد جاء في كتب مفتاح الكرامة مجلد المتاجر ص 696: «القبض في حقيقته التخلية والتخلية هي رفع يد البائع عن المبيع والاذن للمشتري بالقبض مع عدم المانع بحيث يسهل عليه قبضه بسرعة عرفاً». وفي كتاب البيع للسنهوري المجلد الاول ص 588 طبعة 1960: «أن يوضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته والانتفاع به دون مانع».. وهذا عين ما جاء فى مفتاح الكرامة .

وقال الشيخ الانصاري: «قبض كل شيء بحسبه» أي أن القبض يختلف بحسب طبيعة المقبوض فاذا كان المبيع ارضاً تركها البائع للمشتري يفعل بها ما يشاء واذا كان داراً أخلاها من امتعة وسلمه مفاتيحها على شريطة أن لا يكون مانع يمنعه من التصرف بالعين المقبوضة حين القبض وان كان المبيع منقولاً كالحيوان والثوب والطعام يتحقق القبض برفع يد البائع عن المبيع واستيلاء المشتري عليه أمّا العد في المعدود والكيل في المكيل والوزن في الموزون فانها وسيلة لتعيين المبيع ومعرفته وليست من معنى القبض والتسليم في شيء .

ثم ان كان المبيع في حيازة المشتري قبل البيع فان دفع الثمن للبائع فلا حاجة لاذنه بالقبض سواء أجازه باذن البائع من قبل أو من غير اذنه لأن البيع مع قبض الثمن اذن بقبض المبيع ومع عدم دفع الثمن لا بد من الاذن بالقبض ويحق للبائع انتزاع المبيع منه اذا لم يأذن .

 

 

اذا اشترط البائع تأخير التسليم إلى أمد معين فلا يحق للمشتري أن يطالبه بالمبيع قبل مضي الأوان وكذا اذا اشترط المشتري تأجيل الثمن واذا لم يؤقت التسليم بأمد معين وجب على البائع أن يبادر إلى تسليم المبيع اذا كان المشتري قد دفع الثمن أو باذلاً له ويتم التسليم بالتخلية في غير المنقول وفي المنقول برفع يد البائع عنه واستيلاء المشتري عليه سواء أنقله من مكانه أو لم ينقله ومتى تم ذلك خرج المبيع من عهدة البائع وصار في عهدة المشتري وكذا حال البائع بالنسبة إلى الثمن .

وتقلو: لقد روي أن الإمام الصادق عليه‏السلامسئل عن رجل اشترى متاعاً من آخر وتركه عنده فسرق المتاع من مال من يكون؟. قال الإمام عليه‏السلاممن مال صاحب المتاع حتى يقبض المبتاع ويخرجه من بيته أي من بيت البائع وهذه الرواية صريحة بأنه لا بد من النقل في المنقول وان مجرد الاستيلاء غير كافٍ .

وقد أجاب الشيخ الانصاري عن ذلك بقوله: «ان الاخراج من البيت كناية عن الاخراج من سلطة البائع ورفع يده عن المبيع ولا ينبغي خفاء ذلك على المتأمل في الاستعمال العرفي» .

واذا تشاحا فحبس البائع المثمن حتى يقبض الثمن وحبس المشتري الثمن حتى يقبض المثمن اذا كان كذلك او دعا الثمن عند أمين يثقان به أو يثق به الحاكم الشرعي فان تسلم المثمن دفع الامين الثمن إلى البائع وان امتنع البائع عن التسليم مع بذل المشتري للثمن اجبره الحاكم ومع تعذر التنفيذ بالقوة يرد الثمن إلى المشتري ويتخير بين الفسخ والامضاء وان حبس المشتري الثمن وبذل البائع المثمن نفذ الحاكم على المشتري بالقوة ومع تعذر التنفيذ كان البائع بالخيار ان شاء فسخ وان شاء انتظر مترقباً الفرص .

واذا قبض المشتري المبيع قبل أن يدفع الثمن فان كان باذن البائع صح القبض وإلاّ فللبائع انتزاعه منه لأن له تمام الحق في حبس المبيع في قبالة حبس الثمن صح القبض حتى ولو كان قهراً عن البائع وكذلك الحال بالقياس إلى البائع له أن يستولي على الثمن من غير رضا المشتري ان كان قد سلم المثمن وإلاّ فلا بد من رضا المشتري.. وبالايجاز أن من نفذ الالتزام يجوز له أن ينفذه على الطرف الآخر دون رضاه ومن لم ينفذ الالتزام عن نفسه فبالأولى أن لا ينفذه على غيره قال الشيخ الانصاري: «ان صحة القبض تكون بأحد أمرين: امّا أن يسلم ما في يده لصاحبه فله حينئذ أن يأخذ ما في يد صاحبه ولو من غير اذنه وامّا أن يأذن صاحبه بالقبض سواء أسلّم هو او لا» .

ثم ان للقبض احكاماً كثيرة تترتب عليه نعرض طرفاً منها فيما يلي ملخصاً عن كتاب المكاسب وكتاب الجواهر مع ابداء الملاحظات ان كان لها من موجب .

 

 

تقدم أكثر من مرة بخاصة في الفصل السابق أنّه قد ثبت بالنص والاجماع أن المبيع اذا تلف أو حدث فيه حدث قبل قبضه فهو من مال البائع غير أن الفصل السابق خاص بأحكام الخيار وتلف المبيع في زمن الخيار وفي هذا الفصل نتكلم عن القبض واحكامه بوجه عام وأظهر مسائله النتائج المترتبة على هلاك المعقود عليه قبل القبض وبعده .

أمّا الهلاك بعد القبض فانه من مال المشتري سواء أكان الهلاك بقوة قاهرة أو بغيرها لا باعتباره مالكاً فحسب بل لأنه المالك المسيطر على العين إلاّ اذا كانت حيواناً أو غيره بشرط الخيار للمشتري وتلفت في يده قبل انتهاء أمد الخيار إذ يكون التلف والحال هذه من مال البائع الذي لا خيار له كما تقدم في الفصل السابق فقرة «ضمان البيع» .

أمّا اذا كان الهلاك قبل القبض والتسليم لسبب لا بد للمشتري فيه فهو من مال البائع لحديث: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه». وليس السر في ذلك ما قاله الفقهاء القدامي والجدد: العقد ينفسخ قبل الهلاك آناما وانما السر ـ على ما نحسب ـ ان البائع قد تعهد اثناء العقد أن يسلم المبيع للمشتري بجميع مقوماته وصفاته تماماً كما كان حين العقد وبهذا يكون المبيع في عهدة البائع حتى يسلمه إلى المشتري وعليه يمكن القول: ان تلف المبيع قبل القبض كان الحكم على وفق الاصل يعمل به حتى ولو لم يرد فيه نص .

على أن التوجيه الذي ذكرناه يلتقي مع توجيه الفقهاء لأن الالتزام بتسليم المبيع يصبح مستحيل التنفيذ بعد التلف ومتى استحال تنفيذ العقد انفسخ قهراً ولكن لا قبل التلف آناما كما قال الفقهاء ولا حين التلف بل يكشف التلف عن بطلان العقد من الاساس لعدم القدرة على التسليم وقد ذكرنا في فصل شروط العوضين فقرة «القدرة عند الاستحقاق» أن القدرة عند العقد مع العجز عن التسليم حين الاستحقاق لا تجدي شيئاً في صحة العقد.

 

 

قسم الفقهاء الضمان إلى قسمين: ضمان معاوضة وضمان يد ويريدون بضمان اليد الضمان بالمثل والقيمة فالغاصب والمستام ([1]) والمستعير المفرط كل هؤلاء ضمانهم ضمان يد أي أن العين اذا تلفت في يد احدهم فعليه بدلها الواقعي من المثل أو القيمة.

أمّا ضمان المعاوضة فيريدون به أن العوضين اللذين كانا محلاً للتعاقد اذا تلف احدهما عنه مالكه الاول وقبل أن يسلمه للمتعاقد الثاني يكون ضامناً له ولكن بعوضه المسمى لا ببدله الواقعي من المثل أو القيمة ـ مثلاً ـ اذا اشترى زيد كتاباً من عمرو بقلم فبمجرد انعقاد العقد ينتقل الكتاب إلى زيد والقلم إلى عمرو فلو افترض أن الكتاب تلف بعد العقد وقبل تسليمه لزيد يكون ضمانه على عمرو ولكن لا بمثله أو قيمته بل بالقلم الذي وقع عوضاً عن الكتاب وكذلك اذا تلف القلم قبل أن يستلمه عمرو ومعنى هذا بحسب النتيجة أن وجود العقد وعدمه سواء . وبهذا يتضح أن ضمان البائع للمبيع التالف قبل قبضه انما هو ضمان معاوضة لا ضمان يد وانه ليس للمشتري أن يرجع على البائع ويطالبه بعوض المبيع من المثل أو القيمة كما أنه لا يعقل أن يسقط الضمان عنه لأنه اسقاط للساقط أو ايجاب لما لم يجب على حد تعبير الفقهاء .

_______________________________________

[1] المستام هو الذي يأخذ الشيء المعروض للبيع بقصد الاختبار ليشتريه: فاذا تلف في يده ضمنه لصاحبه بالمثل أو القيمة حتى مع عدم التفريط لقاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدي أمّا اذن البائع له بالقبض فهو مشروط ضمناً بأن التلف على القابض اطلاقاً ويأتي الكلام عنه في باب الغصب ان شاء اللّه‏ واشرنا إليه في كتاب أصول الاثبات في الفقه الجعفري فصل اليد والضمان فقرة «المقبوض بالسوم» .

 

 

اذا نقصت قيمة المبيع السوقية قبل قبضه كما اذا اشتراه بعشرة وكانت هذه قيمته حين التعاقد وقبل القبض هبطت بما لا يتسامح به عرفاً بحيث لو كان الهبوط قبل العقد لما تم البيع بالثمن المسمى اذا كان كذلك يبقى الالتزام على ما كان ولا يحق للمشتري أن يفسخ ولا أن ينقص من الثمن كما أن البائع لا يحق له أن يفسخ أو يزيد على الثمن ان ارجحت القيمة قبل القبض . واذا تلف بعض المبيع ينظر: فان كان التالف يمكن بيعه منفرداً كما او اشتر قطيعاً من الغنم فتلف بعضه انفسخ العقد بالنسبة إلى التالف مع ما يقابله من الثمن لانه مبيع تلف قبل قبضه ويثبت الخيار للمشتري بين فسخ العقد لتبعيض الصفقة وبين امضاء البيع بالقياس إلى الباقي بحصته من الثمن قال الشيخ الانصاري: «لا اشكال ولا خلاف في ذلك» .

وان كان الهالك وصفاً للمبيع بحيث لا يمكن بيعه منفرداً كعين الدابة ولون الثوب تخير المشتري بين الفسخ أو الامضاء مع المطالبة بالارش على ما هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب المسالك. وبعد أن ابدى الشيخ الانصاري ملاحظاته على القائلين بالارض قال: «ومع ذلك فقول المشهور لا يخلو من قوة» .

نماء المبيع التالف  :

اذا تجدد للمبيع نماء بعد العقد وقبل التلف فهل يكون للمشتري أو للبائع؟.

قال صاحب الجواهر: «لا خلاف بناء على حصول الملك بمجرد العقد في أنّه اذا حصل نماء للمبيع كان ذلك للمشتري لأنه من التوابع لملكه فان تلف الاصل قبل قبضه سقط الثمن عن المشتري وله النماء لأن التحقيق أن العقد ينفسخ من حين التلف لا من أصله» .

وتكرر مضمون هذه العبارة في كتب الفقة ومنها المكاسب والمسالك ومفتاح الكرامة.

والحق أن النماء للبائع لا للمشتري لما سبق من أن القدرة على التسليم شرط لصحة العقد والمفروض عدمها فيكون العقد باطلاً من أصله والغريب أن جميع الفقهاء ومنهم صاحب الجواهر والمكاسب والمسالك ذكروا أن القدرة على التسليم شرط لصحة العقد ولكنهم ذهلوا هنا عما قالوه هناك ولم يتذكروا إلاّ تبعية النماء للملك... والعصمة للّه‏ ([2]) .

_______________________________________

[2] ذاكرت أخاً فاضلاً بهذا فقال عن الفقهاء: ان مرادهم من شرط القدرة على التسليم القدرة حين العقد وبعده بأمد يمكن فيه التسليم والفرض هنا أنّه مضى من الوقت أكثر من ذلك وجوابنا أنّهم اطلقوا القول بأن القدرة تعتبر عند التسليم ولم يفصلوا بين الوقت القصير والطويل .

 

 

اذا كان كل من العوضين من غير النقود كما لو تبادلا عيناً بعين شخصية على سبيل المقايضة أو وقعت العين مهراً أو عوضاً عن خلع أو منفعة أو على صلح عما في الذمة وما إلى ذلك ثم تلفت قبل قبضها فحكمها حكم تلف المبيع قبل قبضه تذهب من مال مالكها الاول قال الشيخ الانصاري: «تلف الثمن المعين قبل القبض كتلف المبيع المعين في جميع ما ذكر ـ ثم قال ـ وهل تلحق العوضات في غير البيع بالبيع في هذا الحكم؟.. نعم ذكر الفقهاء في الاجارة والمهر وعوض الخلع ضمان العين لو تلفت قبل القبض.. ويظهر من كتاب التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر أنّه من المسلمات» .

 

 

اذا لم يشترط تأجيل الثمن أو المثمن وجب التسليم في الوقت الذي يتم فيه العقد واذا لم يعين مكان التسليم وكان المعقود عليه من الاعيان المنقوطة فمكان التسليم هو مكان العقد فاذا وجد فيه فذاك وإلاّ فعلى مالكه الاول نقله إليه مثمناً كان أو ثمناً واذا كان المكيل والموزون مثمناً فاجرة الكيل والوزن على البائع وان كان ثمناً فعلى المشتري والمعيار أن كل ما يعود إلى المثمن فنفقته على البائع وكل ما يعود إلى الثمن فعلى المشتري .

أمّا أجرة السمسار فعلى من يأمره فان أمره المشتري فاجرته عليه لا على البائع وكذلك البائع .

 

 

1 ـ اذا كان المبيع مما يكال أو يوزن أو يعد أو ما اشبه كصفحات الكتاب وما إلى ذلك مما يقبل النقصان وبعد أن قبضه المشتري رجع على البائع وقال: وجدته ناقصاً وانكر البائع ذلك فان كان قد حضر المشتري الكيل والوزن ورأى المبيع وتسلمه بنفسه من البائع فالقول قول البائع اذا لم يكن للمشتري بينة لأنه لما شاه وقبض بنفسه كان ذلك منه بمنزلة الاعتراف بوصول حقه إليه كاملاً فاذا ادعى النقصان بعد ذلك كان اشبه بمن انكر بعد أن أقر .

واذا لم يحضر المشتري الكيل والوزن ولم يقبض بنفسه كما لو أرسل البائع المبيع مع أحد المستخدمين عنده فالقول قول المشتري بيمينه اذا لم يكن للبائع بينة لأن الاصل عدم وصول حقه إليه وهذا التفصيل هو المشهور بين الفقهاء وعن كتاب الرياض أنهم مجمعون عليه .

2 ـ اختلفا في قدر الثمن فقال المشتري: بعتني بثمانية وقال البائع: بعشرة فان كان المبيع قائماً فالقول قول البائع بيمينه اذا لم يكن للمشتري بينة وان كان المبيع هالكاً فالقول قول المشتري مع عدم البينة للبائع قال صاحب الجواهر: هذا هو المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة والدليل أن الإمام الصادق عليه‏السلامسئل عن رجل يبيع الشيء فيقول المشتري هو بكذا بأقل مما يقول البائع؟. قال الإمام: القول قول البائع مع يمينه اذا كان الشيء قائماً بعينه .

ولولا عمل الفقهاء بهذه الرواية واعتمادهم عليها لكان القول قول المشتري اطلاقاً لأن الاصل عدم الزيادة في الحالين .

3 ـ اذا قال المشتري للبائع: اشتريت منك ثوبين بدرهم وقال البائع: بل ثوباً واحداً بدرهم فالقول قول البائع لأن أحد الثوبين متفق على أنّه محل البيع والثاني مختلف فيه والاصل بقاؤه على ملك مالكه الأول حتى يثبت العكس وهكذا كل اختلاف وقع على الأقل أو الأكثر يؤخذ بقول من يقول بالأقل إلاّ ما خرج بالدليل لأنه موضع اليقين من اتفاقهما والزائد مشكوك فلا يثبت إلاّ بالبينة .

واذا اختلفا في تعيين المبيع فقال البائع: بعتك الثوب وقال المشتري: بل ذاك الثوب كانا متداعيين أي أن كان منهما مدعٍ ومنكر في آن واحد يدعي ما ينفيه خصمه وينكر ما يثبته فان لم تكون بينة تفصل بين الطرفين حلف كل على نفي ما يدعيه

الآخر لا على اثبات ما يدعيه هو لأن المدعي يكلف بالبينة لا باليمين ومتى تحالفا سقطت دعوى كل منهما على الآخر تماماً كما تسقط اذا دعى ابتداء على شخص أنّه باعه أو اشترى منه فانكر المدعى عليه وحلف فتسقط الدعوى واذا سقطت دعوى الاثنين ينفسخ العقد حتماً لاستحالة تنفيذه .

وكذا اذا اتفقا أن البيع كان بالنقد الاجنبي لا بنقد البلد واختلفا في تعيينه فقال البائع: بعتك بالجنية وقال المشتري: بالدولار فانهما يتحالفان ويبطل البيع من رأس أمّا اذا قال احدهما: كان البيع بنقد البلد وقال الآخر: بالنقد الاجنبي فالقول قول الأول .