المقبوض بالعقد الفاسد

اعتاد فقهاء المذاهب ان يتعرضوا لحكم المقبوض بالعقد الفاسد بعد ان ينتهوا من الكلام عن صيغة العقد وكان الأولى ان يأتي متأخراً في الترتيب عن شروط المتعاقدين والمحل المعقود عليه لأن الفساد قد يكون من جهة الصيغة نفسها وقد يكون لفوات الاهلية في المتعاقدين أو المحل. ولكن قد اخذنا على انفسنا ان نرتب فصول هذا الكتاب وبحوثه على منهج الفقهاء بخاصة كتاب المكاسب للشيخ الانصاري لاهتمام العلماء به تدريساً وشرحاً وتعليقاً ومهما يكن فان الفقهاء تكلموا عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد يعنوان «قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». ويتكفل هذا الفصل بيان معنى القاعدة وعكسها والدليل عليها والمهم من احكامها .

 

 

العقد الصحيح هو الذي استجمع كل الشروط المعتبرة فيه كتوارد الايجاب والقبول على معنى واحد وبلوغ المتعاقد ورشده وأهلية العوضين للتمليك والتملك ومتى توافرت الشروط بشتى أنواعها تم العقد وترتبت عليه الاحكام والنتائج التي قررها الشارع لانعقاده فاذا تبايع اثنان بالعقد الصحيح وتقابضا الثمن والمثمن فلكل منهما أن يتصرف في المقبوض كيف شاء وتنفذ فيه تصرفاته دون اسنثناء واذا تلف في يده فعليه وحده النقص والخسارة حيث تنتقل إليه ملكية المقبوض كسائر أملاكه .

واذا عرفنا العقد الصحيح فقد عرفنا العقد الفاسد وأنّه الذي لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة ولا يترتب عليه أي أثر من الآثار الشرعية ([1]) فاذا تبايعا وتقابضا بالعقد الفاسد بقي المقبوض على ملك مالكه الأول ولا ينفذ شيء من تصرفات الثاني فيه اطلاقاً كما لو لم يكن هنا لك عقد من الاساس .

وبتعبير ثانٍ ان المشتري اذا قبض المبيع بعقد صحيح ـ مثلاً ـ ثم تلف في يده بآفة سماوية أو غيرها يكون هو الضامن له أي يذهب من ماله ولا يحق له الرجوع بشيء على البائع لأنه انتقل منه إلى ملك المشتري وكذلك اذا تلف في يده وكان قد اشتراه بعقد فاسد فانه يكون ضامناً له ويذهب من ماله هو لا من مال البائع مع التلف سواء أتلف بسبب منه أو من غيره لما سنذكره من الأدلة على الضمان في فقرة: «الدليل» وحيث ان العين مضمونة عليه وقد تعذر ردها بالذات لمكان التلف وجب رد بدلها وعوضها من المثل أو القيمة حتى مع عدم التعدي والتفريط تماماً كالغاصب إلاّ في الاثم والمؤاخذة وكذا يجب على البائع أن يرد الثمن المسمى للمشتري ان كان قائماً أو بدله ان كان قد تلف وهذا هو المعنى المراد من قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده .

وتقول: ماذا تصنع بالاذن المقارن للعقد الفاسد؟ فان مقتضاه عدم ضمان القابض إلاّ مع التعدي والتفريط .

ولنا أن نجيب أن الاذن والرضا لم يحصلا على كل تقدير بل بناء على صحة العقد فاذا فاسد الاساس كان الفرع مثله .

ولم يفرق الشيخ الانصاري في وجوب الضمان بين أن يكون كل من القابض والدافع عالمين بالفساد أو جاهلين أو جهل أحدهما دون الآخر لعموم النص والفتوى. ومراده بالنص احترام مال المسلم كما يأتي وبالفتوى قول الفقهاء بالضمان بدون تفصيل وتقييد.

___________________________________________

[1] ان ثبوت المهر والنسب والعدة مع الزواج الفاسد ليس من آثار عقد هذا الزواج بل من آثار الواقعة المادية وهى الوط‏ء بشبهة لأن النكاح الشرعي يشمل الشبهة والزواج الصحيح .

 

 

ومما ذكرناه في بيان معنى ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده يتضح معنى العكس وهو ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ولذا قال السيد اليزدي: «وقد علم من بيان معنى الاصل معنى العكس فلا حاجة إلى التكرار». ومع ذلك نقول بايجاز: ان كل عقد صحيح لا يوجب ضماناً فان الفرد الفاسد منه لا يوجبه أيضاً كالهبة فكما أن العين الموهوبة بهبة صحيحة لا يضمن الموهوب له شيئاً للواهب فكذلك أيضاً لا يضمن له شيئاً اذا قبضها بهبة فاسدة وذلك أن الواهب قد سلط الموهوب له على ماله مجاناً فيكون والحال هذه غير مسؤول عن شيء على تقدير الصحة فلا يكون مسؤولاً أيضاً على تقدير الفساد .

وبديهة أن هذا يتم اذا كان الواهب أهلاً للتصرف ومالكاًللعين الموهوبه‏لأن البحث انما هو في المعاملة التي لها فردان: أحدهما صحيح والآخر فاسد أما التي ليس لها إلاّ فرد فاسد فقط كهبة القاصر أو غير المالك فهي اجنبية عن البحث والضمان فيهامؤكد بالاتفاق .

الدليل  :

واستدل الفقهاء على قاعدة «ما يضمن» بأدلة :

أولاً: بقاء كل من العوضين على ملك صاحبه الأول اذا المفروض أن سبب التمليك والتملك وهو العقد فاسد فيكون المسبب مثله .

ثانياً: الاجماع بشهادة صاحب مفتاح الكرامة والجواهر وبلغة الفقيه وغيرهم قال الأول: طفحت بذلك عبارات الفقهاء وقال اثاني: بلا خلاف اجده بل الاجماع على ذلك بقسميه. وقال الثالث: الاجماع على القاعدة مستفيض .

ثالثاً: الحديث النبوي المشهور: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي». وهو عام لكل يد يصدق عليها أنّها قد أخذت سواء أكان ما أخذت عيناً أو منفعة .

رابعاً: قول الإمام الصادق عليه‏السلام: احترام مال المسلم كاحترام دمه. وقوله: لا يحل مال امرى‏ء إلاّ عن طيب نفس. وقوله: لا يذهب حق أحد باطلاً .

خامساً: قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضمان التي استنبطها الفقهاء من قول الإمام الصادق عليه‏السلام: من اضر بطريق المسلمين فهو له ضامن .

 

 

اذا كان للعين المقبوضة بالعقد الفاسد منافع استوفاها القابض فعليه ضمانها عند المشهور تماماً كالعين لأنها تبع لها وتشملها جميع الأدلة المتقدمة في ضمان العين.

وتقول: ان ضمان المنفعة لا يجتمع مع ضمان العين الحديث: «الخراج بالضمان» أي ان استحقاق الخراج ـ وهو المنفعة ـ يكون في مقابل تحمل الخسارة .

الجواب  :

أولاً: ان الحديث ضعيف للجهل بحال الراوي .

ثانياً: انّه خاص فيما اذا كان الضمان بسبب مشروع ويدل على ذلك مورد الحديث وهو أن شخصاً اشترى عبداً من آخر وبعد أن استخدمه وجد فيه عيباً قديماً فخاصم البائع إلى النبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ و سلمفقضى برده على البائع فقال: يا رسول اللّه‏ قد اشتغل غلامي. قال النبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ و سلم: «الخراج بالضمان» أي لو هلك العبد في يد المشتري تحمل تبعة هلاكه هذا إلى أن الاخذ بعموم الحديث يستدعى أن تكون منافع المغصوب للغاصب لأنه ضامن للعين المغصوبة فيكون خراجها له ولا قائل بذلك .

 

 

لقد أطال الشيخ الأنصاري الكلام في المثلي والقيمي مع العلم بأن هذين اللفظين لم يردا في آية أو رواية .

وتسأل: ان الفقيه لا يهتم إلاّ بالاحكام الشرعية وموضوعاتها واذا لم يكن للفظ المثل والقيمة عين ولا اثر في كلام الشارع فلماذا اهتم الفقهاء بهما وبتفسيرهما هذا الاهتمام .

الجواب  :

أجل ولكن ورد في كلام الشارع لفظ الضمان والاداء والوفاء ومعنى ضمان الشيء ووفائه هو الخروج عن المسؤولية بارجاعه بالذات ان كان قائماً أو ارجاع بدله ان كان تالفاً والبدل في نظر العرف هو المثل أو القيمة فهما وان لم يردا في كلام الشارع إلاّ أنهما يتصلان وثيقاً بما جاء في كلامه .

ومعنى المثلي أن تتساوى افراده في الصفات والآثار والثمن بحيث اذا اختلط فردان منه أو أكثر لا يمكن التمييز بينهما كالحبوب والنقود من صنف واحد ونسخ الكتاب من طبعة واحدة والاقلام واذرع القماش من معدن واحد ومعمل واحد. أما القيمي فبالعكس فلا تتساوى افراده في الصفات والآثار والثمن ـ في الغالب ـ كالحيوانات والدور والاشجار.

وللسيد كاظم اليزدي في حاشيته على المكاسب تعليقاً على المثلي والقيمي عظيم الفائدة حيث نبه إلى أن المثلي قد يصير قيمياً والقيمي مثلياً وننقله بالحرف لوضوحه قال: «المثلي ما له مماثل في الأوصاف والخصوصيات والقيمي ليس كذلك وهما يختلفان بحسب الازمان والبلدان والكيفيات فان الثوب وان كان معدوداً من القيمي إلاّ أنّه في مثل هذا الزمان يوجد الكثير من اصنافه التي تأتي من بلاد الافرنج فيكون مثلياً وهكذا الكتاب المطبوع وما عده العلماء مثلياً او قيمياً انما هو بالنسبة الى الموجود في بلادهم وزمانهم. ومن ذلك يظهر ان لا اعتبار باجماعهم على كون الشيء الفلاني مثلياً أو قيمياً لأنهم لم يستندوا في أقوالهم إلى دليل شرعي فلو كان الموجود في زماننا على خلاف ما ذكروه لا تجب متابعتهم» .

وتجدر الاشارة بهذه المناسبة إلى أن القول بتبديل الاحكام بتبدل الازمان انما يصح بالقياس إلى الموضوعات التي علق الشارع أحكامه بها وترك أمر تحديدها إلى العرف كما هي الحال في المثلي والقيمي ولا تمس الاحكام الشرعية ومبادءها الاساسية من حيث هي لا من قريب ولا من بعيد وعقدنا فصلاً خاصاً لهذا الموضوع في كتابنا «أصول الاثبات في الفقه الجعفري .