النقد والنسيئة

من معاني النسيئة التأخير ومنه انسأ اللّه‏ أجلك أي أخره ومنه قوله تعالى: إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكُفرِ فانه اشارة إلى ما كان يفعله العرب من تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غيرها من الشهور والاشهر الحرم أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.. ومعنى انسأ البيع أخر ثمنه .

وسبق في فصل شرط العوضين أن الثمن والمثمن ركنان لعقد البيع وان احدهما اذا كان مجهولاً بطل العقد ونتكلم في هذا الفصل عن الثمن باعتبار التعجيل والتأخير وان التأجيل مع عدم ضبطه يستدعي الجهل والغرر .

 

 

قسم كثير من الفقهاء البيع باعتبار تأجيل كل من المثمن والثمن وتعجيله إلى

أربعة أقسام :

الأول: أن يكون كل منهما معجلاً. ويصح بالاتفاق .

الثاني: أن يكون كل منهما مؤجلاً كبيع الدين بالدين ويسمى أيضاً بيع الكالي بالكالي ومعناه لغة المراقبة والمناسبة هنا أن كلا من الغريمين يرتقب صاحبه من أجل دينه وهذا القسم باطل اجماعاً ونصاً ومنه قول الإمام عليه‏السلام: لا يبيع الدين نسيئاً واما نقداً فليبعه بما شاء .

الثالث: أن يكون المثمن حالاً والثمن مؤجلاً وهو بيع النسيئة الذي نحن بصدده ولا ريب في صحنه .

الرابع: أن يكون المثمن مؤجلاً والثمن حالاً وهو بيع السلف وهو جائز بالاتفاق ويأتي الكلام عنه .

 

 

سئل الإمام الصادق عليه‏السلامعن رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثم افترقا؟. قال: وجب البيع والثمن اذا لم يكونا شرطاً فهو نقد .

وقد جاء هذا على وفق العرف وعليه يكون قول الإمام عليه‏السلامارشاداً لما عليه الناس لا تأسيساً لشيء جديد ولم يختلف اثنان من الفقهاء في أن العقد اذا تجرد من قيد التأجيل جاز للبائع أن يطالب المشتري بالثمن اذا بذل له المثمن وللمشتري أن يطالب بالمثمن اذا بذل له الثمن .

واذا قال: بعتك بشرط أن تعجل الثمن ولم يعين امداً خاصاً كان قد التعجيل تأكيداً وتوضيحاً لاطلاق العقد عند المشهور فاذا عجل المشتري الثمن فذاك وإلاّ انتظر البائع ثلاثة أيام فيما لا يسرع إليه الفساد وبعدها يتخير بين الفسخ والامضاء كما سبق في خيار التأخير .

 

 

قال صاحب مفتاح الكرامة ص 427 من مجلد المتاجر: «قد تدعو الحاجة إلى الانتفاع بالمبيع معجلاً واستغناء مالكه عنه وحاجته إلى الثمن مؤجلاً فوجب أن يكون ـ الثمن مؤجلاً ـ مشروعاً تحصيلاً لهذه المصلحة الخالية من المبطلات ولا نعمل فيه خلافاً وعليه دلت الروايات» .

ويشترط في الأجل :

1 ـ أن ينص عليه صراحة لأنه على خلاف ما يقتضيه اطلاق العقد .

2 ـ ان يذكر التأجيل في متن العقد أو قبله على شريطة أن يتفق عليه المتعاقدان ثم ينشئا العقد على اساسه ولا أثر لذكر الاجل بعد انعقاد العقد وتمامه لأن وقوع العقد مجرداً عن قيد التأجيل يستدعي تعجيل الثمن فذكر الاجل بعده يكون وعداً بتأجيل المعجل ولا يجب الوفاء بالوعد عند الفقهاء قال صاحب الجواهر في آخر باب البيع وهو يتكلم عن الدين قال: «لو أجل الحال بعد العقد لم يتأجل.. ولكن يستحب الوفاء به لأنه وعد.. ولا فرق عندنا ـ أي عند فقهاء الإمامية ـ في عدم لزوم تأجيل الحال بين أن يكون مهراً أو ثمن بميع أو غيره». ونقلنا عنه مثل ذلك في فصل الشروط فقرة «تقدم الشرط» .

3 ـ أن يضبط الأجل بما لا يقبل الزيادة والنقصان كاسبوع أو شهر أو سنة واذا كان مجهولاً كأيام أو حتى ينزل المطر باطل الشرط والعقد لأن للأجل قسطاً من الثمن في نظر العرف فالجهل به جهل بالثمن يستدعي الغرر في البيع .

ويجوز التنجيم وهو أن يقسط الثمن اجزاء معلومة على أوقات معينة فيبيع بعشرة ـ مثلاً ـ على أن يدفع 5 أول تموز من هذه السنة و13 أو آب والباقي أول أيار واذا تأخر المشتري عن دفع قسط في وقته فلا تحل بقية الاقساط ([1]) واذا اشترط البائع ذلك على المشتري كما هو المعروف اليوم بطل البيع من رأس لأن الثمن والحال هذه يصير مجهولاً ولا يعلم: هل هو قسط واحد أو أقساد والجهل والترديد يستدعي الغرر المبطل للبيع تماماً كالثمن المردد بين المؤجل بكذا أو المعجل بكذا ويأتي البيان عنه في الفقرة التالية .

ولا تحديد لطول الأجل وقصره فيجوز إلى الساعة وإلى عشرين سنة ولا يجوز إلى دقيقة أو ألف سنة لأنه أشبه بالسفه واللغو في نظر العرف ولأن الدين يصير حالاً بموت المدين .

وتسأل: لقد روي عن الإمام عليه‏السلامأن رجلاً قال له: اني أبيع أهل الجبل بتأخير سنة؟. قال: بعهم. قال الرجل: إلى سنتين؟. قال بعهم. قال: ثلاث سنين؟ قال الإمام عليه‏السلام: لا يكون لك شيء أكثر من ثلاث سنين.. وهذا صريح بأن الأجل في الثمن لا يمتد أكثر من سنين ثلاث .

واجاب الفقهاء عن هذه الرواية ونظائرها بأن الغرض منها الارشاد والنصيحة خشية أن يضيع المال بطول الامد وليس المراد بها التحريم وفساد المعاملة .

وهذا الحمل غير بعيد لأن الظاهر من قوله عليه‏السلام: «لا يكون لك» أن المال يذهب ويضيع بالتأجيل الطويل .

وقال الشيخ الانصاري وغيره من الفقهاء: اذا كان الوقت معيناً في الواقع ومجهولاً لدى المتعاقدين يبطل العقد ومثال ذلك أن يؤجله إلى عيد المولد النبوي الشريف من هذه السنة مع جهل الاثنين بضبطه ومعرفته على التعيين .

والحق أنّه يصح ما دام ذلك معلوماً لدى الناس ويمكن معرفته بسهولة فهو اشبه بمن يشتري على عيار البلد ونقده أو على ما اشترى فلا لأن المعيار للبطلان وعدم الجواز هو وجود الغرر ولا غرر في شيء من ذلك في نظر العرف .

___________________________________

[1] ذهب المشهور إلى أن شرط التأجيل في الدين لا يجب الوفاء به وعليه فلا موضوع للتنجيم من الاساس وتكلمنا عن ذلك مفصلاً في الجزء الرابع فصل الدين فقرة «العقد» واخترنا وجوب الوفاء بشرط التأجيل .

 

 

ذهب المشهور بشهاهدة صاحب الحدائق إلى أن من باع بثمن حالاً وبأكثر مؤجلاً بطل البيع ومثاله أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقداً وبعشرين إلى أجل معين وكذا لو فاوت بين أجلين فقال: بعتك بعشرة إلى شهر وبعشرين إلى شهرين لأن الترديد بين صفقتين: أحدهما نقد والأخرى دين يستدعي الغرر والابهام بل هو الابهام بالذات تماماً كما لو قال: بعتك هذا الكتاب أو ذاك .

 

 

اتفقوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر وصاحب مفتاح الكرامة على أن من ابتاع شيئاً بثمن مؤجل وقبضه من البائع جاز له أن يبيعه قبل حلول الأجل من بائعه الاول وغيره بجنس الثمن وبغيره مساوياً أو زائداً أو ناقصاً حالاً أو مؤجلاً على شريطة أن لا يكون البائع الاول قد اشترط في نفس العقد على المشتري أن يبيعه اياه لأنه يستلزم المحال وقد بيّنا وجه الاستحالة في فصل الشروط فقرة «غير محال» وان قول من قال: ابيعك هذا بشرط أن تبيعني اياه تماماً كقوله: اعطيك هذا بشرط أن تعطيني اياه .

ويدل على ذلك أن الإمام الصادق عليه‏السلامسئل عن رجل يبيع المتاع نسيئة فيشتريه من صاحبه الذي باعه منه؟. قال: نعم لا بأس .

وسئل ولده الإمام الكاظم عليه‏السلامعن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل؟. قال: اذا لم يشترط ورضيا فلا بأس .

ومن طريف ما قرأت وأنا اتتبع مصادر هذه المسألة أن صاحب الحدائق بعد أن نقل هذه الرواية وثانية في مضمونها قال: ان هاتين الروايتين تدلان على فساد شرط الباع على المشتري أن يبيعه الشيء الذي باعه له ولا حاجة إلى التعليل بأن هذا الشرط يلزم منه المحال ثم قال صاحب الحدائق: والسبب في هذه التعليلات ان الفقهاء الذين ذكروها قاصرو النظر عن تتبع الروايات واخبار أهل البيت عليهم‏السلام.

فرد عليه صاحب مفتاح الكرامة بقوله: ان صاحب الكفاية ذكر الروايتين فما ذكرته غير لائق .

 

 

سبق أن من اشترى بثمن مؤجل وتسلم المبيع فله أن يبيعه ممن شاء وكيف شاء ونتكلم الآن عمن ابتاع شيئاً ولم يقبضه فهل له أن يبيعه قبل قبضه أو لا؟.

وما من شك أن الاصل يقضي بأن للمشتري حق التصرف في المبيع حتى ولو لم يتسلمه من البائع لأنه ينتقل إلى ملكه بمجرد انعقاد العقد سواء في ذلك المكيل والموزون وغيرهما وسواء أكان البيع بربح أو بخسارة أو تولية أي كما اشتراه.. ولكن جماعة من الفقهاء منهم الشيخ الانصاري قالوا: يجوز ذلك في غير المكيل والموزون من الطعام أمّا فيهما فلا يجوز إلاّ أن يبيعها توليه تماماً كما اشترى من غير ربح ولا خسران وعلى هذا فما عليه تجاز هذا العصر من بيع الحبوب والدقيق والسكر والقهوة والشاي

قبل قبضها باطل وأكل للمال بالحرام إلاّ اذا باعوا كما اشتروا من غير زيادة ونقيصة.. واستدل هؤلاء المانعون بقول الإمام عليه‏السلام: اذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلاّ تولية فان لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه .

وذهب المشهور من متأخري الفقهاء والشيخ المفيد وصاحب الشرائع من المتقديمن ([2]) إلى جواز البيع وصحته اطلاقاً مكيلاً كان أو موزوناً واجابوا عن الرواية بأن المراد منها الكراهة دون التحريم وبطلان البيع جمعاً بينهما وبين ما دل على الجواز. فقد روى جميل بن دراج عن الإمام عليه‏السلامفي الرجل يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه؟. قال: لا بأس.. ويدل على هذا الجمع رواية ثلاثة لأبي بصير قال: سألت الإمام الصادق عليه‏السلامعن رجل اشترى طعاماً ثم باعه قبل أن يكيله؟. قال: لا يعجبني أن يبيع كيلا أو وزناً قبل أن يكيله أو يزنه إلاّ أن يوليه فلا بأس .

فان لفظ لا يعجبني ظاهر في الكراهة وكل مكروه جائز .

_______________________________________

[2] جرت عادت المؤلفين أن يقسموا الفقهاء إلى متقدمين ومتأخرين بحسب العصر والزمن ويريدون بالمتقدمين من تقدم على عصر العلامة الحلي المتوفى سنة 726 هـ أمّا المتأخرون فيبدأون بالعلامة .