الباب التاسع فيما جاء في النص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله

الصفحة 298 

فيما جاء في النص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله المستلزم لإبطال إمامة المتقدم عليه، ويندرج فيه شئ من كلام الله سبحانه لشدة الملازمة بينهما وهو قسمان جلي وخفي: فالجلي مثل قوله صلى الله عليه وآله: سلموا عليه بإمرة المؤمنين، هذا خليفتي عليكم اسمعوا له وأطيعوا، والخفي مثل حديث الغدير والمنزلة وربما علم مدلوله بالاستدلال الموجب لليقين وموافقة المخالف على نقله وتلقي الأمة له بقبوله وهو أمور كثيرة نذكر منها نبذة يسيرة من طريق الخصم أولا ليكون ألزم للحجة وأثبت للنفس على المحجة، وفيه نصوص وسيأتي بعدها فصول.

فالنصوص:

منها: ما أخرجه ابن الأثير في جامع الأصول قال وأخرجه الترمذي قال:

قال النبي صلى الله عليه وآله: رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار، وهو عليه السلام دار عن بيعة الأول بيقين فتكون مبائنة للحق بدعوة سيد المرسلين، وليس لأحد أن يقول: لا يلزم من الدعاء وقوع المدعو به. للزوم رد دعاء النبي صلى الله عليه وآله ولا يقول بذلك إلا الغوي، ولأنه صلى الله عليه وآله لا يدعو إلا بالإذن له في الدعاء لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى).

ومنها: ما أخرجه الملا في المجلد الخامس من الوسيلة فيما خص به علي من حديث الغدير نادى النبي صلى الله عليه وآله الصلاة جامعة وأخذ بيد علي وقال: ألست بأولى من كل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله: هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فلقيه عمر بعد ذلك وهنأه بأنه مولى كل مؤمن ومؤمنة.

قالوا: لفظ المولى يشتمل على العتق والنصرة وغيرهما فلا تتعين ولاية

الصفحة 299 

المؤمنين بها، قلنا: تالي الخبر يبني على مقدمة وفي مقدمته ولاية النبي صلى الله عليه وآله على المؤمنين، ولأن صاحب الوسيلة ذكر ذلك فيما يختص بأمير المؤمنين ولو أريد غيره لشاركه كثير من المسلمين ولو أريد ما قالوه من نصرته لم يكن عمر ناصرا لهم بحكم تهنيته.

إن قيل: إن عليا كان له مبالغة في النصرة دون عمر وغيره فليكن الاختصاص لأجلها لا لعدم المشاركة في أصلها. قلنا: مبالغته معلومة لكل أحد فالنص عليها بعد ذلك في مثل الحر الشديد، وما أتى عليه من التوكيد، يجري مجرى إيضاح الواضحات، ولا شك أن ذلك من أعظم العبثات.

وقد قيل: إن ذلك الحديث من وضع ابن الراوندي ولو كان صحيحا أو صريحا لاحتج به ولما عدل عنه علي عليه السلام يوم الشورى إلى ذكر فضائله من سبقه إلى الاسلام، وإفنائه الطغام، ومبيته على فراش خير الأنام، وتجهيزه لرسول الملك العلام، وتخصيصه بالأسهام بأنه أحب الخلق إلى الله تعالى في خبر الطائر المشوي عنه عليه السلام إلى غير ذلك مما ذكر من صفات الاكرام. قلنا: إنما عدل عن ذكر النص لوجهين:

1 - لو ذكره فأنكروه حكم بكفرهم حيث أنكروا متواترا.

2 - إنهم قصدوا في الشورى الأفضل فاحتج عليهم بما يوجب تقديمه في زعمهم.

قالوا: طلب العباس مبايعة علي دليل عدم النص. قلنا: إنما طلبها لما جعلوها طريقا فأراد أن يسبقهم إلى بيعته بما يلتزمون بصحته.

قالوا: طلب علي بيعة أصحابه دليل على عدم نصه قلنا: الخلافة حقه فله التوصل إليها بما يمكنه.

قالوا: بويع أبو بكر ولم يدع أحد لعلي نصا. قلنا: جاء من وجوه ذكره البخاري والإصفهاني وغيرهم.

قالوا: طلبت الأنصار منهم أميرا ومنهم أميرا فلا نص. قلنا: علي لم يحضرهم

الصفحة 300 

فيدعيه بل كان مشغولا بمصيبة النبي صلى الله عليه وآله فسارع غيره إلى فرجة خلافته وما أحسن قول بعضهم في يوم السقيفة:

 

حملوها يوم السقيفة أثقالا       تخف الجبال وهي ثقال

ثم جاؤوا من بعدها يستقيلون   وهيهات عثرة لا تقال

 

قالوا: جهل الأول والصحب الوصية لعلي. قلنا: فكيف نقلوها في صحاحهم عن النبي وإنما ذلك لجحودهم بعد عرفانهم كما قال تعالى في الكفار: (و جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا))(1) وسيأتي تكميل ذلك في رد الشبهات والمعترفون بوجود حديث الغدير وهم الجل والجمهور كما ستعرفه في كتبهم طعنوا بما هو أوهن من بيت العنكبوت في دلالته لما لم يتمكنوا من الطعن في متنه.

فرواه أحمد بن حنبل في مسنده بطريق ثمانية: علي بن أبي طالب، والبراء ابن عازب، وزيد بن أرقم، وشعبة، وأبي الطفيل، وبريدة، والفضل، وعبد الله ابن الصقر، ورواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسنده بطريق ثمانية أيضا رباح، و زاذان، وابن أرقم بطريقين، وسعيد بن وهب، وشعبة، والبراء، وعبد الرزاق.

وأورده أحمد ابن عبد ربه في الجزء التاسع والعشرين من كتاب العقد، و أورده مسلم في الجزء الرابع من صحيحه على حد ثمان قوائم من أوله وذكره الثعلبي في مواضع من تفسيره وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين من أفراد مسلم وذكره رزين العبدري في الجزء الثالث من الجمع بين الصحاح الستة وفي سنن أبي داود السجستاني وصحيح الترمذي.

ورواه في المناقب في اثني عشر طريقا الفقيه الشافعي علي بن المغازلي وقال:

حديث صحيح رواه مائة نفس وهو ثابت لا أعرف له علة تفرد علي بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد. هذا آخر كلامه.

وأسنده في كتاب الخصائص محمد بن علي النظنزي الذي قال فيه محمد بن النجار

____________

(1) النمل: 14.

الصفحة 301 

أنه نادرة الفلك وكان أوحد أهل زمانه، ورواه ابن إسحاق، وابن مردويه، وابن أبي شيبة، وابن الجعد، وشعبة، والأعمش، وابن عباس، وابن الفلاح، وابن البيع، وابن ماجة، والبلاذري، والإصفهاني، والدارقطني، والمروزي، و الباقلاني، والجويني، والخركوشي، والسمعاني، والشعبي، والزهري، و الأقيلشي، والجعابي، واللالكاني، وشريك القاضي، والنسائي، والموصلي من عدة طرق وابن بطة من ثلاثة وعشرين طريقا، وصنف فيه المهلبي كتابا و ابن سعد كتابا والشجري كتابا والرازي كتابا وهؤلاء كلهم من أهل المذاهب الأربعة.

 

شعر

فأنت الإمام بما قد رووه         وأنت الوصي وأنت الخليفة

ومن لا يدين بما قد رووه       يخالف جهد الدين الحنيفة

 

أما غيرهم فجماعة كثيرة أيضا منهم ابن عقدة أورده من مأة وخمسين طريقا وأفرد له كتابا، وأبو جعفر الطوسي من مأة وخمسة وعشرين طريقا، ورواه صاحب الكافي عن الجعابي في كتاب نخب المناقب برواة عدتهم سبعة وثمانون نفسا.

وقال محمد بن شهرآشوب: سمعت الهمذاني يقول: أروي هذا على مائتين وخمسين طريقا. وقال: جدي سمعت الجويني يقول: شاهدت مجلدا ببغداد في رواة هذا الخبر مكتوب عليه المجلد الثامنة والعشرون ويتلوها التاسعة والعشرون وقال برهان الدين القزويني: إنه سمع ذلك من بعض أصحاب أبي حنيفة، و أسنده في الشافي بما يزيد على مائة إسناد.

ومنهم الشيخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فقد أورده من نيف وسبعين طريقا وأفرد له كتابا سماه كتاب الولاية.

منها: بإسناده إلى زيد بن أرقم لما نزل النبي صلى الله عليه وآله بغدير خم في حر شديد أمر بالدوحات فقممت ونادى: الصلاة جامعة فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال إن الله تعالى أنزل إلي: (بلغ ما أنزل إليك [ من ربك ] وإن لم تفعل فما بلغت

الصفحة 302 

رسالته والله يعصمك من الناس وقد أمرني جبرائيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد واعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام بعدي.

فسألت جبرائيل أن يستعفيني من ربي لعلمي بقلة المتقين، وكثرة المؤذين لي واللائمين، لكثرة ملازمتي لعلي وشدة إقبالي عليه، حتى سموني أذنا فقال تعالى فيهم: (الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) ولو شئت أن أسميهم وأدل عليهم لفعلت، ولكني بسترهم قد تكرمت، فلم يرض الله إلا بتبليغي فيه.

فاعلموا معاشر الناس ذلك فإن الله قد نصبه لكم إماما وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا فإن الله مولاكم وعلي إمامكم ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة لإحلال إلا ما حلله الله وهم، ولا حرام إلا ما حرمه الله وهم، فصلوه فما من علم إلا وقد أحصاه الله في ونقلته إليه.

لا تضلوا عنه، ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب الله على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على الله أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذابا نكرا أبد الآبدين فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

قولي عن جبرائيل عن الله (فلتنظر نفس ما قدمت لغد) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلا من أنا آخذ بيده، شائل بعضده، ألا وقد أديت، ألا وقد بلغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت.

إن الله قال، وأنا قلت عنه، لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره، ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبته صلى الله عليه وآله وقال:

معاشر الناس! هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي، اللهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي: (اليوم أكملت

الصفحة 303 

لكم دينكم) بإمامته فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة (فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) إن إبليس أخرج آدم من الجنة مع كونه صفوة الله الحسد، فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم، وتزل أقدامكم في علي نزلت سورة والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ووصى بالحق و الصبر.

معاشر الناس! آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. النور من الله في ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي.

معاشر الناس! سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وإن الله وأنا بريئان منهم إنهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، و سيجعلونها ملكا واغتصابا، فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان، ويرسل عليكما شواظ من نار، ونحاس فلا تنتصران.

معاشر الناس! عدونا كل من ذمه الله ولعنه، وولينا كل من أحبه الله ومدحه.

ثم ذكر صلى الله عليه وآله الأئمة من ولده، وذكر قائمهم، وبسط يده وأوصاهم بشعائر الاسلام، ودعاهم إلى مصافقة البيعة للإمام، وقال: إن ذلك بأمر الملك العلام.

معاشر الناس! قولوا أعطيناك على ذلك عهدا من أنفسنا وميثاقا بألسنتنا و صفقة بأيدينا نؤديه إلى من رأينا وولدنا، لا نبغي بذلك بدلا وأنت شهيد علينا، و كفى بالله شهيدا.

قولوا ما قلت لكم، وسلموا على علي بإمرة المؤمنين، وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فإن الله يعلم كل صوت، وخائنة كل عين، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.

قولوا ما يرضى الله عنكم، وإن تكفروا فإن الله غني عنكم.

الصفحة 304 

فعند ذلك بادر الناس بقولهم: نعم سمعنا وأطعنا على ما أمر الله ورسوله بقلوبنا وكان أول من صافق النبي صلى الله عليه وآله وعليا أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير و باقي المهاجرين وباقي الناس إلى أن صلى الظهرين في وقت واحد وامتد ذلك إلى أن صلى العشائين في وقت واحد واتصل ذلك ثلاثا.

وبالجملة فهذا أمر لشهرته لا يحتاج الولي إلى إثباته لمن جحد، ولا يستطيع المولي نفيه وإن جهد، وقد فهم كل من حضر ذلك المشهد السني، ما أراده النبي صلى الله عليه وآله لعلي فلا يخرجه إلى التأويل سوى الغبي الغوي.

وفي رواية ابن مردويه وهو من أعيانهم إنهما لم يفترقا حتى نزلت (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) الآية فقال النبي صلى الله عليه وآله الله أكبر على كمال الدين وتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي بن أبي طالب وروى نزولها فيه أبو نعيم أيضا.

قالوا: لو دل على الإمامة لكان إماما في حياة النبي صلى الله عليه وآله لإطلاق الخبر ولعموم ولاية النبي الأوقات، فكذا هنا. قلنا: الاطلاق لا يقتضي العموم، وقد قال تعالى (المؤمنون بعضهم أولياء بعض) وذلك في بعض الأحوال وبعض الأزمان، وقد علم كل أحد أن الخليفة لا يكون حال حياة من نصبه، بل بعد ذلك، فلم يجب تصرفه في حياته بالأمر والنهي.

إن قيل: فإذا خرج عن عمومه حال الحياة، فليحرج ما بعدها إلى آخر ولاية عثمان، قلنا إنما أخرجنا من العموم حياة الموصي للعرف أما بعدها فلا رافع للعموم.

إن قيل: لولا ثبوت عموم الولاية لبطل قول عمر أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، قلنا: التهنية في الحال تقتضي ثبوت الاستحقاق في الحال لا ثبوت الأمر والنهي في الحال.

وقد استأذن حسان بن ثابت في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقول فيه فأذن له فقال:

 

 

 

 

الصفحة 305 

 

يناديهم يوم الغدير نبيهم         بخم وأسمع بالنبي مناديا

بأني مولاكم نعم ووليكم         فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني         رضيتك من بعدي إماما وهاديا

 

وقد أسند ذلك إلى حسان سبط [ ابن ] الجوزي في الخصائص والفقيه حميد في المحاسن.

قالوا: ذلك لواقعة زيد بن حارثة حين قال له علي عليه السلام: تنازعني وأنا مولاك فشكى زيد ذلك إلى النبي فقال صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه. قلنا:

مات زيد قبل الغدير بسنتين كما أخرجه في جامع الأصول فلما لزمتهم بذلك الفضيحة إلى القيامة، نقلوا واقعة زيد إلى أسامة، وللقرينة الحالية من النزول في الهاجرة، وإقامة الرحال، والمقالية من الخطبة والتحريص وإثبات الولاية لنفسه أولى بمنع ذلك الاحتمال.

وحكى سبط [ ابن ] الجوزي في الباب الثالث من كتاب خواص الأئمة عن كتاب سر العالمين للغزالي حين أورد الغزالي حديث الغدير وبخ بخ عمر قال: هذا رضى وتسليم، وولاية وتحكيم، وبعد ذلك غلب الهوى، وحب الرئاسة، وعقود البنود، وازدحام الجنود، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون انتهى كلامه وفيه تبصرة لذي بصيرة.

على أنه لو كان المراد واقعة زيد لم يحتج علي في الشورى بخبر الغدير في جملة فضائله بل كانوا قالوا وأي فضيلة لك في ذلك؟ وإنما هو لكذا وكذا، و لأن تهنئة عمر تبطل ذلك، ولو سلم أن السبب ذلك لكن جاز أن يعم كغيره من الآيات التي نزلت على أسباب ثم عمت.

إن قيل: فإذا كان معنى (مولى) فرض الطاعة فأطلقوه على الأب والمستأجر؟

قلنا: لا مانع منه لغة لولا أغلبية الاستعمال عرفا فإن الوالد أولى بتدبير ابنه و المستأجر أولى باستعمال أجيره.

الصفحة 306 

قال الجاحظ: من كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت وليه فعلي وليه شركه فيه سعد بن معاذ. قلنا: هذا خلاف الاجماع إذ لم يسغ لبشر أن يقول كل من كان الرسول أولى به فسعد أولى به. وإن أريد النصرة فلا يصح أن يقال كل من كان النبي ناصره فسعد ناصره.

اعترض المخالف بمنع صحة الحديث ودعوى العلم الضروري به ممنوعة لمخالفتنا قلنا: قد شرط المرتضى في قبول الضروري عدم سبق شبهة تمنع من اعتقاده وهو حق فإن اعتقاد أحد الضدين يمنع من اعتقاد الآخر والمخالف تمكنت في قلبه الشبهة فمنعته من ذلك.

قالوا: نجد الفرق بينه وبين الوقائع العظام. قلنا: يجوز التفاوت في الضروريات.

قالوا: لم ينقله مسلم والبخاري والواقدي، قلنا: عدم نقلهم لا يدل على بطلانه ولو نقلت الرواة كل خبر لم يختلفوا في خبر أصلا.

قالوا: لم يكن علي حاضرا يوم الغدير، بل كان في اليمن. قلنا: نقل حضوره كل من نقل الخبر ويعضده شعر حسان وبخبخة عمر.

قالوا: فنحن نقلنا تواتر فضائل الشيخين. قلنا: لا يلزم من ذكر الفضيلة فيهما ليستميلهما ثبوت إمامتهما كما ذكر فضائل غيرهما.

قالوا: نقلنا أخبارا في خلافتهما. قلنا: نجزم بردها لمناقضتها ما تواتر لعلي وامتناع التناقض في حديث النبي صلى الله عليه وآله.

إن قالوا: ليس الحكم بثبوت نقيضكم وحذف نقيضنا أولى من العكس.

قلنا: نحن وأنتم نقلنا نقيضا فما وقع فيه الخلف أولى بالحذف.

قالوا: لم يكن لكم كثرة تفيد التواتر ابتداء. قلنا: لا نسلم عدمها، على أنكم شاركتمونا فيها وليس كل مقبول مشروط بالكثرة كالمحتف بالقرائن.

قالوا: وليس لكم أن تسندوا صحة هذا الخبر إلى الاجماع لاعتبار الإمام فيه عندكم، فلو أثبتم الإمام فيه عندكم لزم الدور. قلنا: هو من المتلقى بالقبول

الصفحة 307 

الموجب للجزم به، ونقله المخالف مع شدة معاندته، فالاجماع معتبر به فيما بعد ثبوته.

قالوا: يجوز أن يعلم الإمام كذبه ويكتمه للخوف من إظهاره.

قلنا: مرادنا بالاجماع إطباق الخلق عليه وقد وقع فعلمت صحته ولأنه إن كان الحق كذبه فلا خوف على الإمام في إظهاره لموافقته طبع الجمهور المنكرين له إذ كان يريحهم من التعسف في تأويله.

قالوا: قلتم احتج به في المناشدة ولا نعلم صحة ذلك قلنا: علمت بالضرورة كما علم أصل الخبر.

قالوا: يجوز أن لا تصل المناشدة به إلى كل الصحابة، ولو وصلت لا نكره كلهم أو بعضهم. قلنا: لا يشك في حضور المعتبرين من الصحابة يوم الشورى وإذا لم ينكره أحدهم مع طمعهم في الإمرة فبالأولى أن لا ينكره غيرهم.

قالوا: قد يحصل الانكار ولم ينقل. قلنا: هو من الوقائع العظام فتتوفر الدواعي إلى نقلها لو وقعت.

قالوا: يجوز منهم ترك الانكار تقية. قلنا: لا يتصور خوف الأمير من قوم قليلين، وأراهم ما خافوا عند سلبه لمنصبه، مع اطلاعهم على موجبه.

قالوا: قلتم: مقدمة الخبر وهي (ألست أولى منكم بأنفسكم) تدل على الإمامة في تاليه، فنحن نمنع وصول المقدمة، قلنا: كل من نقله نقلها.

قالوا: لم يذكرها علي في الشورى، قلنا: لا نسلمه، وعدم نقلها عنه لا يدل على عدمها منه، ولجواز تركها للغناء عنها.

قالوا: ولو قالها فلا دلالة فيها على بناء تاليه عليها، لحسن التوكيد والاستفهام بعد، فإن من قال عند جماعة: (عبدي زيد حر) حسن الاستفهام منهم أن يقولوا وقت إشهادهم: أي عبيدك تريد؟ وحسن منه أن يقول عبدي الذي هو زيد.

قلنا: نمنع حسن الاستفهام إلا للغافل، ونمنع حسن التوكيد لامتناع فهم غير المذكور.

الصفحة 308 

قالوا: لا يدل لفظة (مولى) على (أولى) لأن مفعل موضوعه لغة للحدث وأفعل موضوعة للتفضيل.

قلنا: إن مفعل مع وضعها للحدث لا تنفي؟ غيرها، وإلا لما أطلقت على باقي معاني مولى كالمعتق وغيره، وقد أجمع أهل اللغة على اشتراكها فيها، ولو وضعت مفعل للحدث لغة لا يمتنع وضعها للتفضيل عرفا.

على أن المبرد والفراء وابن الأنباري وغيرهم ذكروا أنها بمعنى أفعل التفضيل.

قالوا: لم يذكرها الخليل وأضرابه بمعنى أفعل التفضيل. قلنا: لا نسلم عدم ذكره، وعدم وجدانكم لا يدل على عدمه.

قالوا: الأصل عدمه. قلنا: فلا يلزم من عدمه بطلان نقل غيره، لجواز التسهل في تركه، والاكتفاء بنقل غيره، أو تركه لشهرته، على أنه لو صرح بإنكاره لم يبطل لكونه شهادة على نفي فكيف مع سكوته.

قالوا: من ذكره من أهل اللغة في التفسير ذكره مرسلا لم يسند إلى أصل قلنا: اكتفوا بإرساله لظهور الرواية.

قالوا: لو كان (مولى) بمعنى (أولى) لصح أن يقترن بإحداهما ما يقترن بالأخرى وليس كذلك إذ لا يقال مولى من فلان كما يقال أولى منه.

قلنا: لا نسلم أن كل لفظة ترادف الأخرى، يصح أن يقترن بها ما يقترن بالأخرى، فإن صحة الاقتران من عوارض الألفاظ لا من لوازمها، فإن الأوتاد والجبال مترادفة ويقال ضربت الوتد وسرت في الجبل دون العكس فيهما.

قالوا: أهل اللغة قسمان قسم حملها على معنى القرب كما يقال فلان يلي كذا أي قريب منه، وقسم حملها على جميع معانيها فمن قال بحملها على معنى واحد منها، وهو ولاية النصرة خرق الاجماع.

قلنا: لا نسلم الحصر في القسمين، فإن منهم من جعلها للقدر المشترك، على أنا لا نسلم إجماع القسمين على ذلك، ومعنى القرب غير مراد هنا وإلا كسر لام

الصفحة 309 

المولى، على أنه وإن احتمله، فما حملناه عليه وهو الإمارة أكثر فائدة ترجح قالوا: إن دلت مقدمته على أولوية التصرف، دلت مؤخرته على النصرة في قوله صلى الله عليه وآله: (وانصر من نصره). قلنا: لا يتبادر إلى الذهن إلا ولاية التصرف فإنه غير لائق إلا بسلطان له أولياء وأعداء وخذال وأنصار.

قالوا: قد كان الغدير بعد عام الفتح فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يبين به لمن هو قريب الاسلام عظم منزلة علي، ليذهب ما في نفوسهم من الحقد له، لقتله أقاربهم.

قلنا: لم يشك أحد من المسلمين وغيرهم في عظم منزلته من رسوله، لقيام الدين بسيفه دون غيره، فلم يحسن من النبي صلى الله عليه وآله مع شدة الحر، تعريف ما يعترف كل أحد به.

قالوا: إمامته عندكم ثابتة بالنص الجلي فلا فائدة بعده بالنص الخفي.

قلنا: لم يكن النص الجلي بمثل هذا الجمع العظيم، فقصد النبي صلى الله عليه وآله شهرته لقرب وفاته منه، فصار إظهاره مضيقا عليه، لمسيس الحاجة إليه.

قالوا: في القرآن لفظة أولى لغير الولاية (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه(1)) وفي العرف التلامذة أولى بالأستاذ، والرعية أولى بالسلطان.

قلنا: ذلك لا ينافي ما قلناه إذ معناه الذين اتبعوا إبراهيم أولى بالتصرف في خدمته دون غيرهم، وكذا الآخران.

وبالجملة فاللفظة لا تحتمل غير ما فهم منها الحاضرون، ولو تركت هذه الاعتراضات، وخلي العاقل عن النظر فيها، لم يفهم سوى ما ذكرناه، والماء الصافي إذا خضخض في منبعه تكدر، وإذا ترك صفا، فكذا في هذه ونحوها وبالله العصمة من ذلك، وهذه الوجوه وإن تكررت ألفاظها فإنما هي للاستيناس بها.

إذا شعرت بهذا الباب، فلنورد فيه شيئا مما شعرت أولوا الألباب فقال علي عليه السلام:

____________

(1) آل عمران: 68.

الصفحة 310 

 

أنا البطل الذي لن تنكروه        ليوم كريهة أو يوم سلم

وأوجب لي ولايته عليكم        رسول الله يوم غدير خم

 

وقال كميت:

 

ويوم الدوح دوح غدير خم      أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها  فكم لك مثلها خطبا منيعا

ولم أر مثل ذاك اليوم يوما       ولم أر مثله حقا أضيعا

 

وروي أن ابن الكميت رأى النبي صلى الله عليه وآله في المنام فقال أنشدني قصيدة أبيك!

فلما وصل إلى هذا بكى بكاء شديدا وقال صلى الله عليه وآله: صدق أبوك رحمه الله، إي والله لم أر مثله حقا أضيعا.

وقال عمرو بن العاص:

 

وضربته كبيعته بخم     معاقدها من الناس الرقاب

هو النبأ العظيم وفلك نوح       وباب الله وانقطع الخطاب

 

وقال الزاهي:

 

من قال أحمد في يوم الغدير له بالنقل عن خبر بالصدق مأثور

قم يا علي فكن بعدي لهم علما          واسعد بمنقلب في البعث محبور

مولاهم أنت والموفي بأمرهم   نصا بوحي على الأفهام مسطور

وذاك أن إله الحق قال له         بلغ وكن عند أمري خير مأمور

فإن عصيت ولم تفعل فإنك ما بلغت أمري ولم تصدع بتذكير

 

وقال الصاحب:

 

وقالوا: عليا علا قلت لا فإن العلى بعلي علا

وما قلت فيه بقول الغلا ة ولا كنت أحسبه مرسلا

ولكن أقول بقول النبي  وقد جمع الخلق كل الملا

ألا إن من كنت مولى له          يوالي عليا وإلا فلا

 

الصفحة 311 

وقال أبو الفرج:

 

تجلى الهدى يوم الغدير عن الشبه       وبرز إبريز البيان عن الشبه

وأكمل رب العرش للناس دينهم         كما نزل القرآن فيه فأعربه

وقام رسول الله في الجمع جاذبا          بضبع علي ذي التعالي على الشبه

وقال ألا من كنت مولى لنفسه  فهذا له مولى فيا لك منقبه

 

وقال الملك الصالح:

 

ويوم خم وقد قال النبي له       بين الحضور وشالت عضده يده

من كنت مولى له هذا يكون له مولى أتاني به أمر يؤكده

من كان يخذله فالله يخذله       أو كان يعضده فالله يعضده

 

وقال الجوهري:

 

أما أخذت عليكم إذ نزلت بكم غدير خم عقودا بعد أيمان

وقد جذبت بضبعي خير من وطئ       البطحاء من مضر العليا وعدنان

وقلت والله يأبى أن أقصر أو     أعفي الرسالة من شرح وتبيان

هذا علي لمولى من بعثت له    مولى وطابق سري فيه إعلاني

هذا بن عمي ووالي منبري وأخي        ووارثي دون أصحابي وإخواني

محل هذا إذا قايست من بدني  محل هارون من موسى بن عمران

 

وقال السيد الحميري:

 

وقال في الناس النبي الذي      كان بما قيل له يصدع

فقام مأمورا وفي كفه    كف علي لهم تلمع

رافعها للناس أكرم بها  كفا وبالكف التي ترفع

من كنت مولاه فهذا له  مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا

 

وذكر ذلك في إحدى وعشرين موضعا من شعره ومنها:

 

قد قال يوم الدوح خير الورى   بوجهه للناس مستقبل

من كنت مولاه فهذا له  مولى فلم يرضوا ولم يقبلوا

 

الصفحة 312 

 

لكن تواصوا لعلي الهدى         أن لا يوالوه وأن يخذلوا

 

وقال العوني:

 

حتى لقد قال ابن خطاب له     لما تنوص(1) من هناك وقاما

أصبحت مولاي ومولى كل من صلى لرب العالمين وصاما

 

وقال أبو تمام:

 

ويوم الغدير استوضح الحق أهله         بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر

أقام رسول الله يدعوهم بها      ليقريهم عرف وينهاهم نكر

يمد بضبعيه ويعلم أنه  ولي ومولاكم فهل لكم خبر

 

وقال أبو نواس(2):

 

قام النبي بها يوم الغدير لهم     والله يشهد والأملاك والأمم

حتى إذا أنكر الشيخان صاحبها باتت تنازعها الذئبان والرخم

وصيرت بينهم شورى كأنهم    لا يعلمون ولاة الأمر أين هم

تالله ما جهل الأقوام موضعها    لكنهم ستروا وجه الذي علموا

 

وقال محسن بن داود:

 

فيما نظرت إلى كلام محمد     يوم الغدير وقد أقيم المحمل

من كنت مولاه فهذا حيدر       مولاه لا يرتاب فيه محصل

نص النبي عليه نصا ظاهرا       بخلافة غراء لا تتأول

 

وقال غيره:

 

وسماه مولى بإقرار من لو اتبع الحق لم يجحد

فملتم بها حسد الفضل منه      ومن يك مولى الورى يحسد

 

فهذه نبذة من أقوال العلماء والشعراء، وكل خبير نحرير غني عن تطويل

____________

(1) أي شمخ برأسه وتنحى، ويحتمل أن يكون (تقوض) من تقوض الصفوف بمعنى تفرقت.

(2) أبو فراس، خ.

الصفحة 313 

وتحرير، فلورود ذلك على مرور الأزمان في علي لا يمكن جحده العدو الغوي ويؤكد إيمان الولي الوفي.

وبالجملة لو أمكن إنكار هذا الحديث، لم يعلم صحة كل حديث، وقد روى أن يوم الغدير شهد فيه لعلي ستون ألفا وقيل ستة وثمانون ألفا من الأمصار والقبائل المتفرقات، وإذا بلغ الخبر دون هذا انتظم في سلك المتواترات، فالمرتاب فيه ممن طبع على فؤاده، جزاء لانحرافه عن الحق وعناده.

وقد ذكر الرازي والقزويني والنيشابوري والطبرسي والطوسي وأبو نعيم أنه لما شاع ذلك في البلاد، أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله هذا شئ منك أم من الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: والله إنه من أمر الله تعالى فولى يريد راحلته، فقال حينئذ: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فرماه الله تعالى بحجر على هامته فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله تعالى حينئذ: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع(1)).

وروى معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام أن رجلا قال: إنما هو شئ يتقوله فأنزل الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين)(2).

وفي الحديث أنه لما نص على علي بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا: يا رسول الله الناس قريبوا عهد بالاسلام، ولا يرضوا أن تكون النبوة فيك، والإمامة في علي ابن عمك، فقال صلى الله عليه وآله: ما فعلته برأيي فأتخير فيه، ولكن الله أمرني به وفرضه علي، قالوا: فأشرك معه رجلا من قريش لئلا تخالف الناس عليك، فنزلت: (لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين(3)). ونحوه خبر آخر عن الصادق عليه السلام.

____________

(1) المعارج: 2.

(2) الحاقة: 46.

(3) الزمر: 65.

الصفحة 314 

وعن أبي الحسن الماضي عليه السلام وعن الباقر عليه السلام أن ابن هند قام وتمطى وخرج مغضبا، وقال: والله لا نصدق محمدا على مقالته، ولا نقر لعلي بولايته فهم النبي صلى الله عليه وآله بقتله فقال له جبرائيل عليه السلام: (لا تحرك به لسانك لتعجل به(1)) وأنزل الله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله(2)) يعنون: اجعل لنا أئمة دون علي فهذا كله حسدا منهم لعلي الأطهر، وما تخفي صدورهم أكبر.

وقد روى أبان بن تغلب أن الصادق عليه السلام قال: إن أبا بكر وعمر هزا رأسهما وقالا: لا نسلم له أبدا فسمعهما رجل فأعلم النبي صلى الله عليه وآله بذلك، فأحضرهما فأنكرا قولهما، فنزلت قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر - إلى قوله - فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما(3)) قال الصادق عليه السلام: والله توليا وماتا وما تابا. وروي عن الباقر عليه السلام نحو ذلك.

ومن هذا وغيره استحقا العذاب واللعن في الدنيا والآخرة، كما قال و فعل الحارث الفهري وقد أسلفناه.

وفي المقنع أن سالما مولى أبي حذيفة، وأبا عبيدة لما رأيا النبي صلى الله عليه وآله رافعه قال بعضهم: انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون، فنزلت (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين(4).

تذنيب:

إن قيل: إن الإمامة إن كانت ركنا في الدين، فقد أخل لله ورسوله بها

____________

(1) القيامة: 16.

(2) يونس: 15.

(3) براءة: 75.

(4) القلم: 52.

الصفحة 315 

قبل يوم الغدير، إذ فيه أنزل: (اليوم أكملت لكم دينكم(1)) ولزم أن من مات قبل ذلك، لم يكن مؤمنا لفوات ركن من إيمانه، وفيه تأخير البيان عن [ وقت ] الحاجة، وإن لم تكن ركنا لم يضر تركها.

قلنا: هي ركن من بعد موت النبي صلى الله عليه وآله لقيامه مقامه، فلا تأخير عن الحاجة ولا شك أن دين النبي صلى الله عليه وآله إنما تكمل تدريجا بحسب الحوادث، أو أنه كمل قبل فرض التكليف، والميتون قبل الغدير كمل الدين لهم بالنبي صلى الله عليه وآله، والخطاب للحاضرين، وليس فيه تكميل الدين لغيرهم.

على أن النبي صلى الله عليه وآله نص على علي في مواضع شتى في مبدأ الأمر، وسيأتي شئ منها في آخر هذا الباب.

تذنيب آخر:

قد سلف [ أن ] لفظة مولى مرادفة للأولى، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: ألست أولى، ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي له مولى، وقال الله تعالى: (النار مولاكم)(2) وذكر ذلك أبو عبيدة وابن قتيبة ولبيد في قوله: (مولى المخافة خلفها وأمامها(3)) والأخطل في قوله) فأصبحت مولاها من الناس كلهم)(4) وذكر ذلك القول في كتاب معاني القرآن وابن الأنباري في كتاب مشكل القرآن.

وقد روي أن ابن مسعود قرأ: (إنما مولاكم الله ورسوله)(5) وقد فهم كل من حضر أن المراد بالمولى الإمامة، ولو أراد غيرها لما أقرهم النبي صلى الله عليه وآله عليها إذ نوهوا في أشعارهم بها، وكذا القيام في ذلك الحر الشديد، والتهنئة والبخبخة وقد استعفى النبي صلى الله عليه وآله ثلاثا فلم يعفه، وخاف أن يقتله الناس، فبشره بالعصمة منهم.

____________

(1) المائدة: 3.

(2) يريد قوله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) في سورة الحديد: 15.

(3) أوله: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه.

(4) وبعده: وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا.

(5) يريد قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله في المائدة: 58.

الصفحة 316 

سؤال: كيف يستعفي وهو لا ينطق عن الهوى، فكأن الله أمره بشئ و أمره بالاستعفاء منه.

جواب: لا محال في ذلك، وتكون الفائدة فهم الحاضرين شدة التأكيد من الرب المجيد، ليعلمهم أنه لا بدل له ولا عنه محيد، ويماثله ما فعله النبي صلى الله عليه وآله من إرساله لأبي بكر بسورة براءة وذلك بأمر الله لعموم الآية ثم أمره الله بعزله لينبه به على عدم صلاحه، ولو لم يبعثه أولا لم يكن فيه من التأكيد، ما كان في بعثه وعزله، وأما لفظ (ألست) فهي للتقرير والايجاب، منه:

 

ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

 

وفي يوم الغدير نصب موسى يوشع وعيسى شمعون وسليمان آصف فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله أن ينصب فيه عليا وهذا يسقط كل ما يهولون به من أنه أراد غير معنى الإمامة.

تذنيب آخر:

قال الجوزي لأبي هارون الخارجي أمروا - الناس - بخمسة فعملوا بأربع:

الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وتركوا الخامسة وهي الولاية لعلي قال الخارجي وإنها لمفترضة؟ قال: نعم، قال الخارجي: فقد كفر الناس إذا قال فما ذنبي أنا؟

ومنها قوله صلى الله عليه وآله حين خرج إلى تبوك فقال المنافقون: إنما خلفه استثقالا به، فلحقه فأخبره فقال صلى الله عليه وآله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ولا يرتاب عاقل أن منزلة هارون من موسى أعظم من غيره من أصحابه، فكذا علي من النبي صلى الله عليه وآله فهو أولى بالإمامة من غيره.

وقد أخرج صاحب جامع الأصول في صحيح النسائي عن علي عليه السلام (كان لي من النبي صلى الله عليه وآله منزلة لم تكن لأحد) ولو عرف النبي صلى الله عليه وآله مسد غيره عنه مما عساه يعرض من أعدائه في المدينة، لاستخلف غيره، ولو عرف مسد غيره في غزواته، لاستخلفه دائما ولو علم في تبوك حربا لم يتركه.

الصفحة 317 

قيل لابن الجوزي: هل جرى في تبوك قتال؟ فقال: فقدت الحرب الشجاع فمن يقاتل؟

فلما استخلفه في آخر مرة ولم يعزله عمت خلافته الأيام والأنام، وهذا أقوى من استدلالهم على خلافة أبي بكر بصلاته لو ثبتت.

قالوا: إنما كان قول النبي صلى الله عليه وآله ذلك فيه تسلية له، فلا يدل على خلافته قلنا: لا، بل ذلك دال على فضيلته، فلا وجه لتخصيصه بتسليته، ولئن سلم فهو دليل على عظم شفقته، لكبر منزلته الموجبة لاستحقاق إمامته، وأنتم جعلتم قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر: لا تحزن، دليلا على كبر منزلته.

قالوا: استخلف على المدينة ابن أم مكتوم أحد عشر مرة وهو لا يصلح للإمامة لكف بصره، قلنا كفى بعلي شرفا توليته وعزل غيره، ولولا أن الله أراد لعلي إبراز فضيلته، لم يذكر الناصب عزل غيره في حجته.

 

وإذا أراد الله نشر فضيلة          طويت أتاح لها لسان حسود

 

قالوا: هارون مات قبل موسى، فلم يكن له إمامة بعده، فكذا علي بعد النبي صلى الله عليه وآله. قلنا: دلالته على أفضلية علي عليه السلام توجب الخلافة له بعد النبي صلى الله عليه وآله ولو عاش هارون لكان خليفة له إذ لو عزله لكان لانحطاط منزلته ولا موجب لها.

ولا يلزم من نفي خلافة هارون لمانع الموت نفي خلافة المشبه به، فإن قال أحد لوكيله (أعط زيدا كذا إذا حضرك وأنزل عمرا منزلته) فإذا لم يأت زيد لم يمنع عمرو، وقد عاش علي بعد النبي صلى الله عليه وآله فهو خليفة له.

وقول النبي صلى الله عليه وآله: لا نبي بعدي دال على أنه يفارق هارون في هذه الخصلة وإلا لخلا الاستثناء عن الفائدة.

قالوا: أخوة موسى لهارون بالقرابة، وليست أخوة النبي صلى الله عليه وآله لعلي بالقرابة فكيف يشبه به، قلنا: لا شك أنه من المجاز لأجل المشاكلة، وهو مشهور قال تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها(1)) والمقصود

____________

(1) الزخرف: 48.

الصفحة 318 

المشاكلة في الأوصاف المستحسنة فإن قولهم زيد كالأسد يقتضي المناسبة في أعلى الرتب، لا أن يكون له ناب وذنب.

قالوا: لم يحصل من خلافة هارون إلا الفتنة العظيمة بعبادة العجل، ومثله في خلافة علي حيث قامت الفتن بقتال الفرق الثلاث، حتى وهن الاسلام، وطعنت الأعداء فيه بمسئ الكلام، فلم لا يكون التشبيه لهذه الوصمة الواقعة في الأنام.

قلنا: ليس وقوع الفتنة عند خلافة هارون بسبب هارون، وإن كانت عندها وقد أضاف الله في الوحي الإلهي زيادة الرجس إلى السورة، والنفور إلى النبي صلى الله عليه وآله وإنما حصلت بالسامري وقد قال هارون (إنما فتنتم به(1)).

ولو كان ذلك هو المراد لم يكن في قول النبي صلى الله عليه وآله تسلية لعلي لأنه حينئذ إعلام له بأنه سبب المحنة، وموجب الفتنة.

وأي رذيلة في قتال الفرق الثلاث، وقد بشره النبي صلى الله عليه وآله بها، ومدحه عليها، فقد نقل الفراء في كتابه شرح السنة مسندا إلى الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا؟ قال: لا، قال عمر: أنا. قال: لا، ولكن خاصف النعل وكان علي عليه السلام يخصف نعل النبي صلى الله عليه وآله.

وأخرج البخاري قول النبي صلى الله عليه وآله: طوبى لمن قتلهم وقتلوه، وأخرج صاحب الوسيلة في المجلد الخامس دخول علي على النبي صلى الله عليه وآله في منزل أم سلمة وقوله لها: هذا علي أخي، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وعيبة علمي ومحيي سنتي يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعدي، اسمعي يا أم سلمة واشهدي لو أن رجلا عبد الله ألف عام ثم لقيه وهو يبغض عليا وعترته [ أ ] كبه الله على أم رأسه في النار.

ونقل خطيب دمشق الشافعي عن الشافعي: أخذ المسلمون قتال المشركين

____________

(1) طه: 90.

 

 

 

 

الصفحة 319 

من النبي صلى، الله عليه وآله وقتال البغاة من علي عليه السلام.

وأخرج أيضا قتاله الفرق الثلاث صاحب شرح السنة مسندا إلى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وأخرجه نظام الدين الشافعي في شرح الطوالع، وابن حنبل في مسنده.

فقد بان لك أن قتاله لهم حسنة وأنه تمهيد للدين في زمان ولايته، كما كان في ابتدائه، وكل من أخرج الحديث أخرجه في فضائله والمعاند الشقي يقول: إن الدين وهن بتوليته، فما أحسن قول بعضهم:

 

إذا محاسني اللاتي أمن بها      صارت ذنوبا فقل لي كيف أعتذر

 

على أنا نرجع ونقول: النبي صلى الله عليه وآله ذكر حديث المنزلة في عدة مواطن آخرها ما أكده له في خروجه إلى تبوك، وذكره ابن حنبل في مسنده عن الخدري وعن سعد بن أبي وقاص بطريقين.

وذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل بطرق آخر والحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الثامن من المتفق عليه من طرق عدة، والبخاري في الربع الأخير من الجزء الرابع من صحيحه، وفي الجزء الخامس أيضا في الكراس السادس ومسلم في صحيحه في أول الجزء الرابع، وعلى حد كراسين في آخره منه.

ومجاهد في تفسيره والنطنزي في خصائصه والخطيب في تاريخه، والعكبري في فضائله وابن التلاج وابن المغازلي وعلي بن الجعد والتنوخي - حتى أن التنوخي وأحمد بن سعيد صنفا كتابين في طرقه - وابن عبد ربه في عقده والجوزي في تحقيقه وفي الجزء الثالث من أجزاء ثلاثة من الجمع بين الصحاح الستة وفي صحيح أبي داود والترمذي وذكر ابن حنبل أيضا أنه قال له ذلك يوم إيخائه له.

فهذه أخبار أئمة القوم واضحة، وأعلام الحق اليقين عليها لائحة، وهي لفساد اعتقادهم فاضحة، ورواه من الصحابة والقرابة نحو من ستة وعشرين ذكرهم التنوخي في كتابه وأسانيده وابن قرطة في مراصد عرفانه.

الصفحة 320 

قالوا: لفظة (بمنزلة) تقتضي واحدة فلا تعم إذ لو أراد أكثر لقال منازل.

قلنا: الاستثناء معيار العموم إلا الشركة في النبوة والأخوة من الأبوين، وبقيت الخلافة، وفرض الطاعة، وشد الأزر.

ولأن الأمة بين قائلين فمنهم من قال: أراد جميع المنازل، ومنهم من قال:

خرج على سبب، فلا يعم.

قلنا: قد صح في الأصول أن السبب لا يخص، على أن المسبب المذكور غير معلوم بالتواتر، فلا يقصر الخبر المتواتر في عدة مواضع عن سبب مظنون فذهب ما يهولون به من أن خلافته تختص بالمدينة فإنه متى كان إماما على البعض كان إماما على الكل إذ لا قائل بجمع إمامين.

تذنيب:

قيل: ابن أم مكتوم(1) كان يصلي بالناس، فلا عموم لخلافة علي على المدينة فضلا عن غيرها. قلنا: إنما أراد الله أن يفضح المخلفين عن النبي صلى الله عليه وآله بجعل الأعمى الذي لا يتحرز من النجاسات وغيرها إماما لهم، ونزه عليا عن كونه إماما لهؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، فلا يظن بذلك في إمامته إلا الملحدون.

إن قيل: استثناء النبوة، يتبعه استثناء الخلافة، لأن هارون إنما كان خليفة لكونه نبيا، فإذا خرجت النبوة خرج ما يقتضيه وهو الخلافة.

قلنا: لا نسلم التبعية، ولهذا لو صرح النبي صلى الله عليه وآله بقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى في خلافته إلا أنك لست بنبي) لم يكن مناقضا، ولو خرجت الخلافة من النبوة كان مناقضا.

إن قيل: إنه شبه خلافة علي بخلافة هارون، ولم تحصل الخلافة لهارون بعد الموت، فالتشبيه بها دليل نفيها.

قلنا: لا ملازمة لحصول مانع الموت في الأولى دون الثانية، فإن من أوصى إلى غيره حصل له في حياته استحقاق تصرفه بعد وفاته.

____________

(1) ابن أم كلثوم خ.

الصفحة 321 

إن قيل: القيام بأمر أمة موسى كان واجبا على هارون، من حيث الشركة في النبوة، وقوله (اخلفني)(1) توكيد لذلك، لا أنه خليفة حقيقة.

قلنا: لا خلاف بين الأمة أنه كان خليفة، وظاهر [ لفظ ] (اخلفني) ينافي أنه ليس خليفة حقيقة، إذ لا يقال للشخص (اخلفني في مصالحك).

إن قيل: فلعل لفظ (اخلفني) حكاية من الله عن موسى، لا نفس كلام موسى، فلا يدل ظاهره على الخلافة. قلنا: لو كان كذلك لم يفهم بحكايته عن موسى شيئا، إذ يجوز طلبه وزارته وشركته، حكاية عن الفضلاء تقتضي ذلك.

على أنا نقول وإن كان شريك موسى في النبوة، جاز اختصاص موسى بإقامة الحدود وغيرها، فليكن استخلافه لها.

إن قيل: فقوله (اخلفني) أمر لا يقتضي التكرار قلنا: المراد بيان أهلية هارون للخلافة واستحقاقه لها، وهو حاصل بذلك.

إن قيل: قوله (لا نبي بعدي) معناه لا نبي بعد نبوتي، وهارون لم يكن له منزلة النبوة بعد موت موسى، فكأن النبي استثنى ما ثبت من منزلة هارون و هو النبوة حال حياة موسى، فيكون لعلي الخلافة حال حياة النبي خاصة.

قلنا: بل لفظة (بعدي) حقيقة فيما بعد الوفاة، فإن من قال لغيره (أنت وصيي تتصدق على الفقراء بعدي) فهم منه بعد الوفاة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وآله منزلة هارون من موسى في زمانها بل التشبيه بين المنزلتين لا بين أوقاتهما، فكأنه قال أنت مني بمنزلة هارون من موسى بعدي إلا أنه لا نبي بعدي واستغنى بالبعدية الثانية عن الأولى، وهذا من أفصح الكلام ولو صرح بقوله (بعد وفاتي) أو (في حياتي وبعد وفاتي) لم يكن خارجا عن الاستقامة.

إن قيل: الخبر دال على نفي خلافة علي لأنه شبهه بمن لا خلافة له. قلنا:

لا يصح التشبيه بالمسلوب، إذ لا يحسن أن يقال: فلان مني بمنزلة فلان في كونه

____________

(1) الأعراف: 141.

الصفحة 322 

ليس أخي ولا وكيلي، على أن ذلك أورده أئمة القوم في فضائله، فلو أراد نفي الخلافة، تنافى الأمران.

إن قيل: فهارون لو بقي بعد موسى لم يتجدد له منزلة لم يكن حال حياة موسى، فكذا علي لم يتجدد له منزلة بعد النبي لم تكن حال حياة النبي صلى الله عليه وآله وقد علمنا أنه لم يكن إماما في حياة النبي فكذا بعده.

قلنا: لا يمتنع أن يكون إماما حال حياة، وإن لم نسمه بها لعدم تصرفه على أنه يجوز خلافة علي بإحدى شقي خلافة هارون وهو ما بعد الوفاة. لمانع هو الحياة، فإن من قال لغيره: (أنت مني بمنزلة وكيلي) يقتضي كونه بمنزلته في المستقبل دون الماضي.

قالوا: لو أراد الإمامة لقال: بمنزلة يوشع. قلنا: اقتراح الأدلة فاسد، إذ يلزم أن يقال لكل من استدل بأمر هلا استدللت بغيره، فالدليل على هارون كاف عن يوشع بن نون، وخلافة يوشع لا تعلم صحتها لأنها من نقل اليهود وقد قيل إنه كان نبيا، وكانت الخلافة في أولاد هارون ولأن النبي أراد أن يثبت لعلي جميع منازل هارون من الاستخلاف حال الحياة وبعد الوفاة.

على أن النبي صلى الله عليه وآله إنما ذكر هارون لورود القرآن به المزيل للشبهة فيه بخلاف يوشع إذ ليس ذلك حاصلا ليوشع بن نون.

على أن ابن جبر في نخبه وعلي بن مجاهد في تاريخ أسند إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام عند وفاته: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى.

قال الجاحظ: لا يجوز أن يستثني ما لا يملكه وهو النبوة مما يملكه وهو الخلافة. قلنا: بلى ولأنه لا يملك الخلافة بل هي من الله أيضا وإنما استثنى النبوة لئلا يتوهم الشركة فيها كهارون.

قالوا: الخبر يوجب إمامته في حال حياة النبي، قلنا: الظاهر ذلك لولا الاجماع، فيبقى على مقتضاه بعد وفاته صلى الله عليه وآله.

قالوا: فيحمل على ما بعد عثمان. قلنا: لم يقل به أحد لأن المخالف أثبتها

الصفحة 323 

له بعد عثمان بالبيعة، والمؤالف بالنص من الله ورسوله، وهي له بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل.

قالوا: فرجوع النبي إلى المدينة يقتضي عزله. قلت: ليس الرجوع عزلا عادة كيف ذلك وقد يجتمع الخليفة والمستخلف في البلد الواحد، ولأن الحضور لم يكن عزلا إلا مع شرطه، ولم ينقل أحد أن النبي شرط ذلك لعلي.

تذنيب:

لما بغض عبدة العجل هارون ومن معه، سموهم رافضة، فأجري ذلك الاسم على شيعة علي عليه السلام لمناسبته لهارون وشيعته، وهموا بقتل هارون، فكذلك العمران واطئا خالدا على قتل علي فبعثت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر خادمتها تقول له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فقال عليه السلام: رحمها الله ومن يقتل الطوائف الثلاث قبل ذلك، فندم أبو بكر وأطال الجلوس، ثم نهاه فرأى علي السيف مع خالد، فقال له: أو كنت فاعلا؟ قال خالد: إي والله، قال علي عليه السلام: كذبت أنت أجبن خلقه، لست من ذلك، أما والله لولا سبق به القضاء لعلمت أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا.

ثم قال عليه السلام أفبعد قول النبي: (من كنت مولاه فعلي مولاه - أنت مني بمنزلة هارون من موسى)؟ قال: نعم. فقبض على صدره فرغا كالبكر(1) وانساغ في المسجد ببوله.

فاجتمع الناس ليخلصوه فقال الأول: والله لو تمالأ عليه أهل الأرض لما استنقذوه، ولكن نادوه بحق صاحب هذا القبر، ففعلوا فخلى عنه وقال عليه السلام:

لو عزمت على ما هممت به لشققتك شقين.

روى ذلك الحسن بن صالح، ووكيع، وعباد عن أبي المقدام عن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سفيان وابن جبير ووكيع وكان ذلك سيئة

____________

(1) أي ضج وصاح.

الصفحة 324 

لم تتم وأسند نحو ذلك العرفي إلى الصادق عليه السلام.

وأسند العرفي إلى خالد بن عبد الله القسري قال على المنبر: لو كان في أبي تراب خيرا ما أمر أبو بكر بقتله، وهذا يدل على كون الخبر مستفيضا، ولولا وصية النبي صلى الله عليه وآله لكان علي بالقبض على رؤوس أعدائه، وضرب بعضها في بعض حتى ينشر دماغها مليا.

[ وفي رواية أبي ذر أنه عصر حلقه بين الوسطى والسبابة حتى صاح صيحة منكرة ] وفي رواية البلاذري شاله بهما، وضرب به الأرض فدق عصعصه، فأحدث مكانه، وبقي يقول: هما والله أمراني، فقال عبد اللات لزفر: هذه مشورتك المنكوسة قال ابن حماد في ذلك:

 

تأمل بعقلك ما أزمعوا  وهموا عليه بأن يفعلوه

بهذا فسل خالدا عنهم   على أي ما خطة وافقوه

وقال الذي قال قبل السلام       حديثا رووه فلم ينكروه

حديثا رواه ثقات الحديث       فما ضعفوه وما عللوه

أتى ابن معاوية في الصحيح     وركى الرواة الذي أسندوه

 

هذا، وقد أسلفنا نصوصا في الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه عند قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما(1)) وغيره.

نكتة:

اتصاف علي عليه السلام بهذه المنازل، ليس سلبيا ولا نقيض الاتصاف، فهو ثبوتي فمحله ليس غير علي برواية الفريقين، فقد بان الحق من المين، لكل ذي قلب وعين، وفي ذلك قال علي بن الحسين، وقد سمع من يقدم الشيخين:

 

فمن شرف الأقوام يوما برأيه    فإن عليا شرفته المناقب

وقول رسول الله والحق قوله     وإن رغمت منه أنوف كواذب

 

____________

(1) البقرة: 124.

الصفحة 325 

 

بأنك مني يا علي معالنا كهارون من موسى أخ لي وصاحب

 

وقال الحماني:

 

وأنزله منه على رغمة العدى    كهارون من موسى على قدم الدهر

فمن كان من أصحاب موسى وقومه     كهارون لا زلتم على طلل الكفر

 

وقال منصور:

 

رضيت حكمك لا أبغي به بدلا لأن حكمك بالتوفيق مقرون

آل الرسول خيار الناس كلهم    وخير آل رسول الله هارون

 

ومنها قوله صلى الله عليه وآله يوم الدار: (أنت أخي ووصيي وخليفتي) لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين(1)) فجمع النبي صلى الله عليه وآله منهم أربعين رجلا وقال: قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، من يوازرني؟ قال ذلك ثلاثا وعلي يقوم في كل مرة ويقول: أ؟ ا ذكر ذلك الفراء في معالمه وهو بهذا الفن أعلم الصحابة، و الثعلبي بإسناده في تفسيره، وغيره من طرق كثيرة.

وقد ذكر ابن حنبل في مسنده قول النبي صلى الله عليه وآله لسلمان: وصيي ووارثي علي بن أبي طالب، وأسنده إلى ابن عباس أيضا وإلى علي عليه السلام أيضا وذكره ابن إسحاق في كتابه وأبو رافع والشيرازي والخركوشي ورواه الطبري في موضعين من تاريخه والجرجاني في صفوته وابن جبر في نخبه.

وفي مناقب ابن المغازلي: لما انقض الكوكب في دار علي قال النبي صلى الله عليه وآله من انقض في داره فهو الوصي بعدي، قالوا: غوي في حب علي، فنزلت (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى)(2).

وفي مجمع البيان للإمام الطبرسي أخبر السيد أبو الحمد عن الحاكم الحسكاني عن جماعة تاسعهم الضحاك ابن مزاحم أنه لما رأت قريش تقديم النبي عليا قالوا:

فتن به، فنزلت (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون(3)).

____________

(1) الشعراء: 214.

(2) النجم: 1 و 2.

(3) القلم: 6.

الصفحة 326 

وقال البخاري ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا، وقال صاحب الوسيلة عن بريدة لكل نبي وصي ووارث، وعلي وصيي ووارثي، وذكر في الوصية أيضا أن الوصية من خصائص علي.

وفيها أيضا: اختارني نبيا واختار عليا وصيا، وفيها عن أنس قال النبي صلى الله عليه وآله: إن خليلي، ووزيري، وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب.

قال الحميري:

 

وقيل له أنذر عشيرتك الأولى  وهم من شباب أربعين وشيب

فقال لهم إني رسول إليكم      ولست أراني عندكم بكذوب

وقد جئتكم من عند رب مهيمن         جزيل العطايا للجزيل وهوب

فأيكم يقفي مقالي وأمسكوا     فقال ألا من ناطق مجيب

ففاز بها منهم علي وسادهم      وما ذاك من عاداته بغريب

 

وقال أيضا:

 

ويوم قال لهم جبريل قد علموا أنذر عشيرتك الأدنين إن نذروا

فقام يدعوهم من دون أمته      فما تخلف عنه منهم بشر

ومنهم آكل في مجلس جذعا   وشارب ملء عس وهو محتقر

فصدهم عن نواحي قصعة شبع فيها من الحب صاع فوقه الوذر

فقال يا قوم إن الله أرسلني       إليكم فأجيبوا الله وادكروا

فأيكم يجتبي قولي ويؤمن بي  أني نبي رسول فانبرى عذروا

فقال تبا أتدعونا لتلفتنا  عن ديننا ثم ثاب القوم واشتمروا

من ذا الذي قال منهم وهو أحدثهم      سنا وخيرهم في الذكر إن سطروا

آمنت أنك قد أعطيت نافلة     لم يعطها أحد جن ولا بشر

وإن ما قلتها حق وإنهم إن لم يجيبوا فقد خابوا وقد خسروا

ففاز منهم بها والله أكرمه         فكان سباق غايات إذا ابتدروا

 

الصفحة 327 

ومع هذه الشهرة ينكر الواسطي الغوي رواية نصب النبي في يوم الدار لعلي عليه السلام قال: لأنه عليه السلام أمر في الآية بإنذار الأقربين لا بطلب من يوازره فكيف يخص واحدا منهم دون الباقين.

قلنا: قد أنذرهم ثم خص بطلب الوزارة واحدا منهم، زيادة في ترغيبهم لوفور علمه أن الرسالة يسارع إليها كل منهم، ولا منافاة بين إنذارهم وطلب الوزارة من بعضهم.

قال: الايصاء والاستخلاف على قوم، لا يكون إلا بعد انقيادهم، وهم كانوا حينئذ بخلاف ذلك.

وكيف يليق من النبي تحكيم واحد عليهم، ويقول: استمعوا له وأطيعوا وهم حينئذ لم يسمعوا للنبي ولم يطيعوا وهل هذا إلا كالمثل المضروب، فمن قال لآخر: أعطني دينارا بعلامة أن استادي طلب منك فلسا فلم تعطه.

قلنا: النبي لا ينطق عن الهوى، وإنما فعل ذلك بوحي من الله تعالى، ولا منافاة بين أن ينذرهم ثم يقول هذا خليفتي عليكم، وأما ذكر (اسمعوا وأطيعوا) فمختلف منهم، فإن نازع في اختلافه أحد قلنا له قد أنكرت أصل الرواية الواردة به، و حيث عارض بالمثل قول النبي صلى الله عليه وآله فهو بإثمه يبوء، قال تعالى (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء(1)) فقد تبع رؤساء الشياطين الذين حذر العلماء عنها طلاب اليقين، شوائب الطبيعة، ووساوس العادة، ونواميس الأمثلة.

قال: ذكر صاحب المعالم عن علي عليه السلام أن الرواية التي فيها ذكر الوصية لعلي مرسلة وليس فيها ذكر الانذار المطابق للآية، فهي مضادة لها، وذكر ثلاث روايات عن غيره مسندة وخالية عن ذكر الوصية فهن معارضات لها.

قلنا: تقرر في الأصول قبول الزيادة، وقد جاز العمل بالمرسل إذا علم من طريق آخر أنه مسند كمراسيل ابن المسيب، وقد جاء في صحيح البخاري مراسيل

____________

(1) النحل: 60.

الصفحة 328 

وعدم ذكر الانذار لا يدل على عدم المطابقة للآية، فلا معارضة في تلك الروايات للرواية.

ومن العجب أنه يضعف قول أصحابه طلبا للشبهة ونحن لا نذكر قول أصحابنا طلبا للزوم الحجة.

قال: رويتم أن عليا لم يزل مسلما أو أسلم قبل يوم الدار، وهو المأمور بجمع العشيرة الكفار، فلا معنى لإجابته إلى الموازرة، والخطاب ليس له مع بلاغته، بل للكفار.

قلنا: أما أنه لم يزل مسلما، فلا معنى لاختصاصنا به إذ أجمع المسلمون عليه وجاءت روايات الخصم فيه، قال الزمخشري في كشافه قال النبي: صلى الله عليه وآله سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، و مؤمن آل فرعون. ورواه صاحب الوسيلة وزاد: أكرمهم وأفضلهم علي بن أبي طالب وبهذا يندفع قولهم إن أبا بكر صديق لأنه أول من صدق، وقد سبقه علي وخديجة وورقا وغيرهم.

قوله: لم يحسن جوابه بالموازرة إذ لم يتناوله الخطاب، قلنا: فقد رويتم قول النبي صلى الله عليه وآله يوم الخندق: من يبرز إلى عمرو بن [ عبد ] ود ويكون جاري في الجنة فلم يجبه أحد، فقام علي فقال له: إنه عمرو، فقال علي: وإن كان عمرا، فقد أجاب ولم يتناوله الخطاب.

وقد ذهب أكثر المحققين إلى أن إبليس لم يكن من الملائكة، وتناوله الأمر بالسجود، لأجل حضوره فيهم، وجاز أن كلام علي بالموازرة ابتداء لا جواب قول النبي، فلا منافاة للبلاغة.

قال: شرط الوصية والاستخلاف، الجزم بهما، لا تعليقهما بشرط يوجد ولا يكونان إلا لمعين، والنبي صلى الله عليه وآله قال: من يوازرني؟ فلا تعيين، قلنا: ذلك وعيد بالوصية، فلا يشترط الجزم بالوعيد، ولا التعيين، ولم تحصل الوصية لأحد في حال الخطاب، بل لعلي خاصة بعد الجواب.

الصفحة 329 

قال: فلو أجابه أكثر من واحد جاز أن يقع الشقاق، قلنا: جاز أن يكون الله تعالى أمره بذلك مع علمه بعدم قبولهم، ويكون فعل النبي صلى الله عليه وآله توكيدا عليهم كما أمره بإنذار كفار مع علمه بعدم إيمانهم.

قال: إجابة واحد تنفير الباقين، قلنا: لا تنفير مع الانقياد التام، وعندكم أن الله يفعل لا لغرض، فلم نفيتموه هنا.

قال: جمعهم يقتضي ترغيبهم، فطلب الوزارة من بعضهم يقتضي تزهيدهم، فلا فائدة في جمعهم، قلنا: إيمانهم يرغبهم فيه بما يعمهم، وهو قوله جئتكم بخير الدنيا والآخرة ونحوه.

قال: الوصية هي الاستخلاف، فكيف عطفه عليها. قلنا: لا ترادف إذ بينهما عموم من وجه، ولو سلم الترادف جوزنا العطف مثل (صلوات من ربهم ورحمة(1)) على أن كتبهم قد نطقت بالوصية فإذا سلم الترادف التزم بالاستخلاف.

قال: علي كان مؤمنا فلا معنى لوزارته في ذلك اليوم. قلنا: أليس كل مؤمن خليفة.

قال: إن كان غرض النبي صلى الله عليه وآله الوصية لأحدهم استحال أن يكون لعلي ويلزم تحصيل الحاصل إن كان الغرض ثبوتها لعلي. قلنا: قد يكون الغرض لهم ولم يقع وقد أراد شيئا ولم يقع، ويجوز أن يكون الغرض إظهار أن الوصية لعلي لجواز التأكيد مرة بعد مرة.

قال: من الحاضرين من آمن كالعباس، وقد بايع أبا بكر. قلنا: قد تركها أولا فجاز وقوعها تقية.

قالوا: رواية الاستخلاف لم ترد إلا من علي فهو متهم، قلنا: قد جاءت من طرقكم عن ابن حنبل، والبراء بن عازب وغيرهما، وليس ذلك شهادة بل رواية ولم يفرق أحد بين الروايتين لنفسه وغيره، بعد ثبوت عدالته، فضلا عن الثابتة

____________

(1) البقرة: 157.

الصفحة 330 

بآية التطهير وغيرها، ومن طرقهم رواية جامع الأصول عن النبي صلى الله عليه وآله علي مع الحق والحق معه، وغيرها في مصابيح الفراء وغيره وقد شهدت عائشة لأبيها بصلاته وجعلوها سببا لخلافته.

قال: إن سلمت الرواية، اقتضت كونه خليفة على العشيرة، قلنا: لا قائل بالفرق، ويلزم اجتماع إمامين، ولم يقل به أحد، ولهذا قال عمر للأنصار (سيفان في غمد لا يجتمعان) ولا يلزم من تخصيصهم بالانذار تخصيصهم بالاستخلاف إذ أحدهما غير الآخر.

قال: كان علي صبيا فإسلامه غير معتبر ولا بالتبعية لأصلية الكفر من أبويه، والاستخلاف لا يكون إلا للبالغ. قلنا: لم يشترط أحد من المسلمين البلوغ في استخلاف الله ورسوله، وقد قال تعالى (وآتيناه الحكم صبيا(1)) وقال (ففهمناها سليمان(2)) وقد كان حينئذ ابن أحد عشر سنة، وعند أصحابنا أن عليا أسلم و هو ابن خمسة عشر سنة أو أربعة عشرة، وروى الخمس عشرة العاقولي منهم في شرحه للمصابيح، وروى الأربعة عشرة منهم شارح الطوالع، وقد ذكر البخاري عن المغيرة قال: احتلمت وأنا ابن اثنى عشر سنة.

ولأن النبي صلى الله عليه وآله دعاه إلى الاسلام صبيا فلو لم يكن يحكم بإسلامه، لزم العبث في دعائه، وإن لم يكن بدعائه كان إسلامه من خصائصه، لكمال عقله حال صغره دون غيره، وقد عرف أن التكليف العقلي لم يشترط فيه البلوغ الشرعي وقد أخرج صاحب الوسيلة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين قبل أن يسلم بشر.

وأخرج أبو نعيم في حليته قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: لك سبع خصال لا يحاجك أحد فيهن يوم القيامة، أنت أول المؤمنين بالله إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم

____________

(1) مريم: 11.

(2) الأنبياء: 79.

الصفحة 331 

بأمر الله، وأرأفهم بالرعية، وأقسمهم بالسوية، وأعلمهم بالقضية، وأعظمهم يوم القيامة مزية.

فقد مدحه على سبق إيمانه، ودل على عظم شانه، والمعاند يقول لا يحكم بإيمانه، مع انتشار ذلك في كتب إخوانه، وقد سلف ذلك في الفصل الثاني والعشرين من الباب السابع مستوفى، اخترنا هنا إيراد طرف منه فإن لكل مقام مقالا.

قوله: (لكفر أبويه) مردود بما أخرجه صاحب كتاب بشائر المصطفى أن أمه فاطمة بنت أسد انشق لها ظهر الكعبة، فدخلت إليها وولدت عليا فيه، فلما خرجت قالت: فضلت على آسية ومريم، بدخول البيت الحرام، والأكل من ثمار الجنة، دون كثير من الأنام، وهتف بي هاتف سميه عليا فهو علي والله العلي شققت له اسما من اسمي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام عن بيتي، ويؤذن فوق ظهره، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه.

هذا وقد ربت أمه النبي صلى الله عليه وآله ورأت كراماته حال صغره، والنبي بقميصه كفنها، ونزل بنفسه إلى قبرها، وشفع إلى الله فيها، وكان ذلك من دلائل إيمانها وأما أبوه فربما تمسك في كفره بقوله تعالى (وهم ينهون عنه وينأون عنه(1)) قيل: المراد أبو طالب ينهى عن أذى النبي وينأى عنه، فلا يؤمن به، والمخالف يزعم أن لفظ الجمع لا يطلق على الواحد، حيث قالوا (الذين يقيمون الصلاة(2)) هو علي، وهنا يطلقه على أبيه.

وفي تفسير الثعلبي أن قريشا تنهى أبا طالب عن نصر النبي صلى الله عليه وآله وكلامه في الذب عنه مشهور، حتى أتوه بعمارة بن الوليد يتخذه خادما عوضه، فقال: ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أربيه وأغذوه، وأعطيكم ابني تقتلونه، رواه الواقدي وغيره ثم قام إليه وأنشأ الأبيات الآتية.

____________

(1) الأنعام: 26.

(2) المائدة: 58.

الصفحة 332 

قال الزمخشري في كشافه: الكناية للكفار، لأن قوله تعالى (ومنهم من يستمع إليك(1)) فيهم فالعطف عليهم، ونحوه قال القطب في حاشية الكشاف قال: ولأن الأبيات المنقولة عنه تنافي وصفه بما سلف في الآيات، من الصفات المذمومة، والأبيات هذه:

 

والله لا يصلوا إليك بجمعهم    حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة         وأبشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح  ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه       من خير أديان البرية دينا

 

وقد اتفق على نقلها مقاتل والثعلبي وابن عباس وابن دينار وزاد أهل الضلال فيها بيتا ظلما وزورا إذ لم يكن في جملتها مسطورا:

 

لولا الملامة أو حذاري سبة     لوجدتني سمحا بذاك مبينا(2)

 

والعجب من صاحب الكشاف كيف ضمه إليها، ولم يتنبه لمنافاته لها، و إذا أخذ الله قوما بما يظلمون أتاح لبهم تناقض الكلام، من حيث لا يعلمون.

وحث أخاه حمزة على نصره، فقال:

 

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن  جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا

 

وحض النجاشي على نصرة النبي صلى، الله عليه وآله فقال:

 

ليعلم مليك الحبش أن محمدا  وزير لموسى والمسيح بن مريم

أتى بهدي مثل الذي أتيا به      وكل بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم         بصدق حديث لا حديث المترجم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا       فإن طريق الحق ليس بمظلم

 

____________

(1) المائدة: 25.

(2) قوله (مبينا) حال من قوله (سمحا) أي لولا مخافة قريش ومعرتهم لوجدتني أعلن بالاقرار، وهذا يقتضي بمفهومه أن الإيمان كامن في قلبه لم يبرزه لأجل التقية ليتمكن بذلك من حفظ النبي صلى الله عليه وآله. كما؟ لا يخفى.

 

 

 

 

الصفحة 333 

وقد أخرج صاحب الوسيلة في المجلد الخامس، قوله في النبي:

 

ألا بلغا عني على ذات بيننا      قصيا وخصا من قصي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا     نبيا كموسى خط في أول الكتب

أليس أبونا هاشم شد أزره       وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب

 

وهل يصف هذا العالم الشاعر بالكفر إلا كافر، وهم لما أخرجوا النبي صلى، الله عليه وآله من قوله تعالى (وسيجنبها الأتقى الذي(1)) الآية لأن عليه تربية أبي طالب وهي نعمة تجزى، والتربية سبيل، وقد نفى الله سبيل الكافرين على المؤمنين لزم ذلك إيمان أبي طالب.

إن قلت: فيلزم على هذا أن يكون أبو طالب مؤمنا قبل مبعث النبي. قلت:

نعم كان على دين إبراهيم، وقد تمدح به في قوله: نحن آل الله في كعبته، لم يزل ذلك على عهد إبراهيم، وسيأتي ذلك في التذنيب إن شاء الله تعالى عن قريب.

وفي مسند أحمد بن حنبل لما مرض للموت بعث إلى النبي صلى، الله عليه وآله ادع لي ربك أن يشفيني فإنه يطيعك وابعث إلي بقطف من الجنة فأرسل إليه: إن أطعت الله أطاعك. فقد اعترف لله بوجوده، ووجود جنته، وقبول دعاء نبيه.

إن قالوا: قوله إن أطعت الله أطاعك دل على أنه لم يكن طائعا قلنا: بل هو ترغيب في الاستمرار مثل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله(2)) فلا يدل ذلك أيضا على ترك الدعاء له، وقد نقل إيمانه الحافظ القدسي في سيرة النبي وفي تفسير الثعلبي أنه قال لابنه علي: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال:

آمنت بالله ورسوله، قال إن محمدا لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه.

وفي الجمع بين الصحيحين من أفراد البخاري من مسند عبد الله بن عمر ذكرت قول الشاعر حين استسقى:

 

[ وأبيض يستسقى الغمام بوجهه         ثمال اليتامى عصمة للأرامل ]

 

____________

(1) الليل: 17.

(2) النساء: 135.

الصفحة 334 

 

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحميته    ودارأت عنه بالذرى والكلاكل

فما زال في الدنيا جمالا لأهلها  وشين على الأعدا وزين المحافل

حليما رشيدا حازما غير طائش يوالي إله الخلق ليس بما حل

وأيده رب العباد بنصره وأظهر دينا حقه غير باطل

ألم تعلموا أن ابننا غير مكذب   لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

وأبيض يستستقى الغمام بوجهه          ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاك من آل هاشم    فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا   ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله       ونذهل عن أبنائنا والحلائل

 

ففي هذا عدة شواهد على إيمانه، يظهرها من سبره، على من جحده وستره وإنما حداهم على جحدهم قصدهم مشاركة علي لأصحابهم في بعض رذائلهم ولاغرو في ذلك، وقد سب ألف شهر على منابرهم، لم يكن فيهم من يغار للاسلام بمنابزتهم وقد ألف كتاب في الحجة على الذاهب، إلى تكفير أبي طالب، فيه:

 

ولولا أبو طالب وابنه    لما مثل الدين يوما وقاما

فهذا بمكة آوى وحامى وهذا بيثرب سام الحماما

وما ضر مجد أبي طالب          جهول لغى وبصير تعاما

 

وقد أخرج ابن مسكويه وغيره افتخار علي بأبيه، وتفضيله على أبي سفيان واعترف له معاوية بذلك وأخرج الكراجكي في كتابه كنز الفوائد قول العباس للنبي صلى، الله عليه وآله ما ترجو لبي طالب؟ قال: رحمة ربي.

وقد عاب المحدثون على مسلم والبخاري حيث أخرجا في كتابيهما حديث المسيب في وفاة أبي طالب(1) مع أنه لا راوي له غير أبيه شدة حرصهما على تكفير أصل علي عليه السلام حسدا له والفرقة تتمحل كفر أبي طالب، كما تمحلت إيمان محاربي علي الثابت كفرهم بقول النبي صلى، الله عليه وآله: (حربك حربي). وقد رووا قول النبي

____________

(1) راجع صحيح البخاري ج 2 ص 326.

الصفحة 335 

صلى الله عليه وآله: ما قال أحد لأحد كافر إلا باء به أحدهما.

قالوا: نزل فيه: (إنك لا تهدي من أحببت(1) قلنا: لا بل هي لكل كافر كيف ذلك وقد نزلت يوم حنين وهو بعد موت أبي طالب بست سنين وأشهر ولو نزلت الآية فيه، وفيها أن النبي يحبه، دلت على إيمانه لأنه صلى الله عليه وآله نهاه الله تعالى عن محبة الكفار في قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله(2)) وقد قيل معنى (ولكن الله يهدي من يشاء) أن هدايتنا لأبي طالب يا محمد، سبقت دعوتك له، وفي هذا أن أحدا لم يدركه في فضيلته إن كان الله تعالى بنفسه متوليا لهدايته.

قالوا: نزل فيه (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين(3)) قلنا: ذكر صاحب جامع الأصول، وصاحب التقريب موت أبي طالب قبل الهجرة ونزول الآية سنة تسع منها، والنبي صلى، الله عليه وآله لا يستغفر لمن مات على كفر لإخبار القرآن بتخليده مع نفي الهوى عن نطقه.

قالوا: لم ينقل له صلاة حتى يحكم بإيمانه، قلنا: عدم العلم بها لا يدل على عدمها على أن عدمها لا يوجب كفر تاركها.

قالوا: حرصه النبي على الاسلام عند موته، وحرصه أبو جهل على دين الأشياخ، فكان آخر كلامه أنه على دين الأشياخ عبد المطلب ثم مات.

قلنا: لا بل نقل رؤساء الاسلام أنه جمع أهله وأوصاهم بمحمد ونصرته، و أخبرهم بتملكه، وأنه جاء بأمر عظيم عاقبته الجنان، والأمان من النيران، و قال: لو كان في أجلي فسحة لكفيته الكوافي، ودفعت عنه الدواهي، فهذا الذي هو يجب اعتماده، لا ما ذكروه لمناقضته لأقواله وأشعاره.

قالوا: كتب الأولاد الأول إلى المنصور يرد عليهم الملك، وافتخروا بأشياء

____________

(1) القصص: 58.

(2) المجادلة: 22.

(3) براءة: 114.

الصفحة 336 

منها أن أبانا أبا طالب أخف أهل النار عذابا وفي قدميه نعلان يغلى منهما دماغه فكتب:

 

دعوا الأسد تربغ في غابها        ولا تدخلوا بين أنيابها

سلبنا أمية في دارها     فنحن أحق بأسلابها

 

قلنا: هذا كذب صريح، وكيف يفتخر برجل كافر يعذب بنوع من العذاب والشعر الأول المذكور للمعتز وهو بعد المنصور بثمانية وستين سنة سيما ذكره صاحب المنتظم في المجلد الثامن والخبر لم يروه سوى المغيرة بن شعبة، وهو عندكم فاسق مشهور بالزنا وبعداوة بني هاشم، وهو الذي حث عائشة على حرب علي عليه السلام بالبصرة.

ومن أحاديث كتاب الحجة أن رجلا قال لعلي: أبوك يعذب في النار فقال له: مه والله لو شفع أبي في كل مذنب لشفعه الله كيف ذلك وأنا قسيم الجنة والنار، وقال الرضا عليه السلام: إن لم تقر بإيمان أبي طالب، لكان مصيرك إلى النار.

وزوجته فاطمة بنت أسد مؤمنة صالحة، لم تزل عنده حتى مات، مع نهي الله رسوله في غير آية أن [ تبقى ] مؤمنة عند كافر.

وعن الأئمة عليهم السلام أن النبي صلى، الله عليه وآله قال: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة يعني أبا طالب لأنه كفله صلى، الله عليه وآله.

وقد أخرج في جامع الأصول أنه لما مات أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى، الله عليه وآله أن اخرج، فقد مات ناصرك، ولما نثروا الكروش عليه، غضب أبو طالب وخرج إلى الأبطح ونادى بعد جمع الناس: من أرى فعل بمحمد هذا وقد خرست الألسن من هيبته، فلم يجبه أحد فدفع كرشا إلى عبيدة فلطخ بها شواربهم ثم حلف برب البيت لئن أقمتم على إنكاركم لأفعلن بكم أشد من هذا، فجاؤه بالفاعل فنكل به، و أطاف به بلد مكة ثم قطعه قطعا ورماه بينهم.

فهذه جمل من رواية المخالف وغيره، تمنع ملأ تقول بكفره وتجمع بكفر من قال بكفره، ولو كانت مدافعته لا تدل على إسلامه، لا تدل مدافعة جيوش النبي

الصفحة 337 

على إسلامهم إذ لم ينقل تلفظهم بكلمة الاسلام ولا فعل أكثرهم لصلاة ولا صيام ولا يخفى ما في ذلك من الاهتضام.

وقد ذكر الدينوري الحنبلي في غاية السؤول أن أبا طالب حدث عن أبيه أنه قال: إن من صلبي لنبيا ولوددت أني أدركته [ ولو أدركته ] لآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمنوا به.

تذنيب:

نعني بإيمان أبي طالب الولي إيمانه بالنبي الأمي صلى، الله عليه وآله لأنه قد كان في ابتدائه على دين إبراهيم، معترفا بالرب القديم، وقد أخرج صاحب روضة الواعظين أن فاطمة بنت أسد حضرت مولد النبي صلى، الله عليه وآله فأخبرت أبا طالب بما رأت من حضور الملائكة وغيره من العجائب، فقال: أنتظرك تأتين بمثله فولدت عليا عليه السلام بعد ثلاثين سنه.

وعن ابن بابويه أن أبا طالب نام في الحجر حول البيت، فرأى في منامه بابا انفتح من السماء، ونزل منه نور شمله فأتى راهب الجحفة يقص عليه، فقال له:

 

أبشر أبا طالب عن قليل بالولد الخالي عن المثيل

[يا آل قريش اسمعوا تأويلي]   هذان نوران على السبيل

كمثل موسى وأخيه السؤل

 

فرجع أبو طالب فرحا وطاف بالكعبة، وهو يقول:

 

أطوف لله حوالي البيت أدعوه بالرغبة محي الميت

بأن يريني السبط قبل الموت    أغر نوريا عظيم الصوت

مصليا يقتل أهل الجبت وكل من دان بيوم السبت

 

ثم نام في الحجر ثانية فرأى كأنه ألبس إكليلا من ياقوت، وسر بالأمن عبقر، وكأن قائلا يقول له: يا أبا طالب! قرت عيناك، وظفرت يداك، وحسنت رؤياك، فأنى لك بالولد، ومالك البلد، وعظيم التلد، على رغم الحسد، فانتبه فرحا وطاف قائلا:

الصفحة 338 

 

أدعوك رب البيت والطواف     دعاء عبد بالذنوب واف

تعينني بالمنن اللطاف   والولد المحبو بالعفاف

وسيد السادات والأشراف

 

ثم نام في الحجر فرأى عبد مناف قائلا: ما يبطئك عن بنت أسد، فانتبه فنكحها، وطاف بالكعبة قائلا:

 

قد صدقت رؤياك بالتعبير       ولست بالمرتاب في الأمور

أدعوك رب البيت والنذور      دعاء عبد مخلص فقير

فأعطني يا خالقي سروري       بالولد الحلاحل الذكور

يكون للمبعوث كالوزير          يا لهما يا لهما من نور

قد طلعا من هاشم البدور        في فلك عال على النحور

فيطحن الأرض على الكرور    طحن الرحى للحب بالتدوير

إن قريشا بان بالنكير    منهوكة بالغي والثبور

وما لها من موئل مجير من سيفه المنتقم المبير

وصنوه الناموس بالشفير         حسامه الخاطف للكفور

 

ومن شعره فيه:

 

يكلم نبي جاء يدعو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله      إذا كان في يوم فليس بمسلم

 

ومنه:

 

أخلتم بأنا مسلمون محمدا       ولما تقاذف دونه ونراجم

أمين محب للعباد مؤمن         بخاتم رب قاهر للخواتم

يرى الناس برهانا عليه وهيبة   وما جاهل في فعله مثل عالم

نبي أتاه الوحي من عند ربه     فمن قال لا تقرع بها سن نادم

 

ومنه:

 

فلا تحسبونا مسلمين محمدا    لذي غربة فينا ولا متقرب

 

الصفحة 339 

 

فلا والذي تحدي إليه قلائص  لا دراك نسك من منى والمحصب

نفارقه حتى نفرق حوله          وما بال تكذيب النبي المقرب

 

ولما قام عثمان بن مظعون يدعو قريشا إلى اتباعه ضربه سفهاؤها ففقأوا عينيه فنهض أبو طالب في أمره وأخذ بحقه فقال:

 

أمن تذكر دهر غير مأمون       أصبحت مكتئبا إني لمحزون

أمن تذكر أقوام بذي سفه        يغشون بالظلم من يدعو إلى دين

ألا يرون أقل الله خيرهم         أن غضبنا لعثمان بن مظعون

 

إلى قوله:

 

أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب    على نبي كموسى أو كذي النون

 

وقال يحثه على إظهار دعوته:

 

لا يمنعنك من حق تقوم به     أيد تصول ولا أضعاف أصوات

فإن كفك كفي إن مننت بها     ودون نفسك نفسي في الملمات

 

ومنه:

 

زعمت قريش أن أحمد ساحر  كذبوا ورب الراقصات إلى الحرم

 

ومنه:

 

وقد حل مجد نبي هاشم         فكان النعايم والعترة

وخير بني هاشم أحمد  رسول الإله على فترة

 

ومنه:

 

لقد أكرم الله النبي محمدا        فأكرم خلق الله في الناس أحمد

 

ومنه:

 

إن ابن آمنة النبي محمد          عندي بمنزلة من الأولاد

 

ومنه:

 

صدق ابن آمنة النبي محمد      فتميزت غيظا به وتقطعوا

إن ابن آمنة النبي محمد          سيقوم بالحق الجلي ويصدع

 

الصفحة 340 

ومنه:

 

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر فبعد مناف سرها وصميمها

وإن حصلت أشراف عبد منافها بني هاشم أشرافها وقديمها

وفيهم نبي الله أعني محمدا      هو المصطفى من سرها وكريمها

 

فهذا اعتراف أبي طالب بتصديق نبيه، ووزارة علي وليه، ولعل قعوده يوم الدار عن البيعة في جملة عشيرته إنما كان لعلمه السابق من اختصاص ابنه بوزارته لما تلوناه عليك من أشعاره وإشارته.

تذنيب آخر:

إيمان أبي طالب بالله سبحانه مسطور في كتب العلماء، وتعاليق الأدباء فمن [ ثبوته و ] شعره فيه:

 

مليك الناس ليس له شريك     هو الجبار والمبدي المعيد

ومن فوق السماء له بحق        ومن تحت السماء له عبيد

 

ومنه:

 

لا تيئسن لروح الله من فرج     يأتي به الله في الروحات والدلج

فما تجرع كأس الصبر معتصم  بالله إلا أتاه الله بالفرج

 

وأما سبب كتمان إيمانه برسول الله صلى، الله عليه وآله، فإنه كان مطاعا في قومه، وهم على إنكار نبوته، فلو أظهر لهم إيمانه لخالفوه فلم يتم غرضه من نصرته، وتدبير أمره، وتمهيد قاعدته، ولأشركته قريش في عداوته وخصومته، فلم يقبل شيئا من مقالته، فكان يحضر مجالسهم، ويظهر لهم أنه منهم، وهو مع ذلك يشوب منه الفعل والكلام، بتصديقه عليه السلام.

ولهذا أنشد شعرا يستعطف فيه أبا لهب بالرحم، ليخدعه به حيث رأى منه النهي عن قتل النبي خوف عموم الفتنة، فكان بإظهار كفرانه كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، وكأهل الكهف وغيرهم كتموا إيمانهم عن قومهم، وليس كتمان الإيمان خوفا بمخرج عنه حقيقة، وإلا لكان من شهد بالله بإيمانه كافرا بكتمانه.

الصفحة 341 

تذنيب آخر:

قالوا بكفر أبوي النبي لقول قريش، لا نرغب من ملة عبد المطلب. قلنا:

نقل باطل، فقد روى الثعلبي في التفسير (وتقلبك في الساجدين)(1) أن محمدا لم يلده إلا نبي أو وصي نبي أو مؤمن، وقال أبو عمر الزاهد منهم في كتاب الياقوت قال النبي لعلي عليه السلام: لم أزل أنا وأنت نركض في الأصلاب الطاهرة، إلى عبد الله وأبي طالب لم تدنسنا الجاهلية بأرجاسها وسفاحها.

وأخرج الكراجكي قول عبد المطلب لأبرهة: إن لهذا البيت ربا يدفع عنه وتمدح بكونه على ملة إبراهيم، وقد سلف.

وظاهر قوله تعالى (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا(2)) أنه خطاب للنبي صلى، الله عليه وآله مع قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين(3)).

وفي كتاب البشائر مسندا إلى الصادق عليه السلام أن الله أوحى إلى النبي صلى، الله عليه وآله أني قد حرمت النار على ظهر وضعك، وبطن حملك، وحجر كفلك، وثدي أرضعك.

قالوا: قال الله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان(4)) فمن أين لأبويه إيمان؟ قلنا: يلزم من هذا تكفيره بالتبعية لكفرهما، وهو خلاف الاجماع من علماء الاسلام، والإيمان المنفي هو العبادة الشرعية، (وما كان الله ليضيع إيمانكم(5)) أي صلاتكم إلى البيت المقدس.

وقد ذكر جماعة أنه كان قبل النبوة على دين إبراهيم، والحق أن تعبده بإلهام الرب الحكيم.

قالوا: زعمتم أن عليا دحى أصنام قريش عن الكعبة، وعبد الله من أكابرها فمن أين علمتم منه عدم عبادتها؟ قلنا: علمناه من الأدلة التي أسلفناها.

____________

(1) الشعراء: 219.

(2) أسرى: 24.

(3) براءة: 114.

(4) الشورى: 52.

(5) البقرة: 143.

الصفحة 342 

قالوا: تولد النبي من كافر كإبراهيم من آزر. وتولد منه كافر ككنعان من نوح، قلنا: لا خلاف بين النسابين أن اسم أبي إبراهيم تارخ.

قالوا: نطق القرآن بأنه آزر. قلنا: قيل كان عمه وقيل خاله، وقد نطق القرآن بكونهما أبوين (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسماعيل)(1) وإسماعيل عم يوسف (ورفع أبويه على العرش)(2) والمراد أبوه وخاله.

قالوا مجاز. قلنا: يجب إليه المصير، حذرا من التنفير.

وأما تولد كافر من النبي فلا محال فيه وقد قيل إن كنعان كان لنوح ربيبا ولم يكن ابنا.

وروي عن الحسن ومجاهد أنه ولد على فراشه، وهذا بالإعراض عنه حقيق قال ابن عباس ما زنت امرأة نبي قط.

____________

(1) يوسف: 38 والآية هكذا: (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) فليس فيها وجه للاستشهاد بها والآية التي يستشهد بها العلماء لذلك هو قوله تعالى في سورة البقرة: 134 (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا).

(2) يوسف: 100.