الباب الثالث في إثبات النبي وصفاته

 (الفصل الأول)

 

نفت الأشاعرة وجوب البعثة بناءا على إنكار الوجوب العقلي وأوجبها الأوايل من حيث العقل العملي، ومشايخ المعتزلة لم تعمم وجوبها واتفقت المعتزلة في الجملة والإمامية مطلقا على وجوبها، والحق امتناع الخلو منها لاشتمالها على اللطف للانسان، وهو واجب على الله في كل آن فإن المواظبة على السمعيات مقربة من العقليات: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر(1)) ومشتملة على اللطف في السمعيات أيضا فإن العلم بدوام الثواب والعقاب الداعي إلى ما يوجبها مستفاد من النبي كما هو مذهب المرجئة، وأما المعتزلة القائلون بأن العلم بدوامهما عقلي فنقول فيه إنه لا يسقط لطيفة النبي، لأن العلم بتفاصيلهما سمعي، وذلك من أكبر الدواعي والصوارف.

____________

(1) العنكبوت: 45.

الصفحة 41   

إن قيل: لا تكون السمعيات إلطافا في العقليات إلا إذا علم المكلف كونها إلطافا وداعية وذلك منتف. قلنا: لا نسلم وجوب علمه بكونها إلطافا وداعية، إذ يجوز أن يعلم الله أن مجرد التكليف بها موجب للانقياد إلى تلك، على أن العقليات قد يتباعد زمانها كقضاء الدين، ورد الودايع، والقيام بجزاء الصنايع، فتقع الغفلة عن الله فلا بد من مذكر وهو السمعي.

إن قلت: لو كانت السمعيات لطفا لتقدمت على العقليات، لوجوب تقدم اللطف، ولو تقدمت لزمت الدور فإن السمعيات إنما تثبت بعد العلم بثبوت الخالق وما يتوقف عليه الارسال من صفاته. قلنا المتقدم هو العلم بالعقليات، و السمعيات لطف في العمل بها، على أنا نمنع تقدم العقليات في الخارج على السمعيات، وإنما تقدمت في الذهن عليها، فإن العقل لانغماره في الشهوات قد لا يتنبه لتلك المعارف ولا يهتدي لوجوهها، ومع الرسول بها وإيجابها يتنبه لها ويقرب من تحصيل طرقها فيكون النبي لطفا فيها، وأيضا فالقدرة على البعثة والداعي إليها حاصلان فتجب لاشتمالها على المصالح والصارف منتف لانتفاء وجوه المفاسد، و أيضا فاجتماع النوع ضروري وهو مجبول على التغالب، فيقع التجاذب، فيقع القتل فيقع العدم المناقض لمراد الخالق من الوجود فيجب رده إلى قانون مقبول هو الشرع والآتي به النبي المميز عنه بالمعجزة، فوجب النبي وله وجه يتلقى به الوحي الإلهي وآخر يخاطب به النوع الانساني، وليس لرعيته هذان الوجهان.

إن قلت: لم لا يكون لكل فرد ما للنبي، فيستغني عنه قلت: الارسال أعظم في تجليل المرسل مما ذكرت، إذ في عادة الملوك إرسال الرسل والحجاب والاحتجاب عن الرعية، ليعظم في أعينهم، ولذا أوصى المعلم الأول، أرسطاطاليس، الملك الإسكندر، بأن لا يظهر على الرعية إلا نادرا، فجرى الرب الحكيم على ذلك في إرساله لازدياد تعظيمه.

إن قلت: هذا يوجب خفض منزلته عند رسوله. قلت: للرسول نفس قدسية لا يتخيل سقوطه عنده.

الصفحة 42   

إن قلت: فلو جعل نفوسهم كذلك، كانوا كذلك، قلت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) وبهذا يسقط ما قيل إن اختصاصه بالرسالة، إما لأمر فيتسلسل، أولا لأمر، فترجيح بغير مرجح. قلنا: ذلك من العناية والمختار يرجح بلا مرجح.

(الفصل الثاني)

 

محمد رسول الله صلى الله عليه وآله لثبوت دعواه ومعجزاته بالتواتر المفيد للعلم لبلوغ مخبريه إلى حد تشهد العقول بصدقه وتحيل العادة الاجتماع لافترائه، وإلا علم بمكانه و زمانه خصوصا مع توفر دواعي الكفار على نقله، وخصوصا القرآن العزيز، فإنه تحداهم بمعارضته في قوله (فأتوا بسورة من مثله(1)) فلو قدروا عليه مع كونهم ذوي فصاحة وبلاغة، لم يعدلوا عنه إلى محاربته، وفيها بذل أنفسهم، والهبوط عن رياساتهم، إذ العاقل لا يعدل عن الأخف الأسهل وفيه الحجة، إلى الأشق الأثقل مع عدم الفائدة.

وقد نقل الإمام الطبرسي في احتجاجه أن ابن أبي العوجا، وأبو شاكر الديصاني، وابن المقفع، و عبد الملك البصري اجتمعوا عند البيت، يهزؤن بالحاج ويطعنون بالقرآن، وعينوا لكل واحد منهم ربعا من القرآن أن ينقضه، ويجتمعون في القابل وقد نقضوه كله، فلما اجتمعوا في القابل، قال ابن أبي العوجا:

أما أنا فمنذ افترقنا، فمفتكر في قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا(2)) فلم أقدر أضم إليها من فصاحتها مثلها فشغلتني عما سواه، وقال عبد الملك: و أما أنا فمفتكر في قوله تعالى: (إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له)(3). وقال أبو شاكر: وأما أنا فمفتكر في قوله تعالى: (لو كان

____________

(1) البقرة: 23.

(2) يوسف: 80.

(3) الحج: 73.

الصفحة 43   

فيهما آلهة إلا الله لفسدتا(1)) وقال ابن المقفع وكان أفصح أهل عصره: إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وإني مفتكر في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) الآية(2) لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الاتيان بمثلها، قال هشام: فبينما هم كذلك إذ مر بهم الصادق عليه السلام فقرأ: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(3)).

وقد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع (فاصدع بما تؤمر(4)) فسجد، وسمع آخر (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا) فقال: أشهد أن لا مخلوق يقدر على مثل هذا وسمع الأصمعي جارية تستغفر، فقال لها:، مم ولم يجر عليك قلم، فقالت شعرا:

 

أستغفر الله لذنبي كله   قتلت انسانا بغير حله(5)

مثل غزال ناعم في دله  فانتصف الليل ولم أمله(6)

 

فقال لها: ما أفصحك يا جارية؟ فقالت: أفصاحة بعد قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين(7)) فجمع تعالى في آية أمرين ونهيين و خبرين وبشارتين.

ولما أراد النابغة الاسلام، حين سمع صوت قارئ يقرء القرآن وعلم بفصاحته قال أبو جهل له: يحرم عليك الأطيبين.

وأخبر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة بذلك، في قوله: (فكر وقدر) إلى آخر الآية(8)).

____________

(1) الأنبياء: 22.

(2) هود: 44.

(3) الإسراء: 88.

(4) الحجر: 94.

(5) كذا في النسختين والظاهر: قبلت.

(6) ولم أصله، خ.

(7) القصص: 7.

(8) المدثر: 18.

الصفحة 44   

وقد نقل في وجه إعجازه وجوه أخر كالصرفة وغيرهما، فمن وفق لها وقف عليها، واعلم أن تواتر القرآن عيني، وغيره معنوي، مثل أخباره صلى الله عليه وآله بالمغيبات وانشقاق القمر، وتسبيح الحصا، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغيرها من المعجزات المشهورة، فإن كل فرد منها وإن نقل بالآحاد إلا أنها اشتركت في معنى واحد هو خرق العادة، وسيأتي في ذلك فصل مفرد إنشاء الله تعالى.

وأيضا فالأنبياء السالفون أخبروا به، ففي التوراة فارقليطا وفي الإنجيل المحنا، وفي خرايج الراوندي: في الإنجيل فارقليطا وايمشحا وهو محمد صلى الله عليه وآله.

وقال الشهرستاني في الملل والنحل أجمع أهل الكتاب على أن التوراة بشرت بواحد واختلافهم في تعيينه، أو في الزيادة عليه، وقد ثبت إعجاز القرآن وفيه:

(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية و الإنجيل(1)) وقال عيسى عليه السلام: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد(2)).

(الفصل الثالث)

* (في رد الاعتراضات على نبوة محمد صلى الله عليه وآله) *

 

1 - لا نسلم حصول العدد المعتبر في التواتر، إد كل عدد يمكن تواطيه على الكذب. قلنا: العلم الحاصل بذلك ضروري فلا يقدح فيه ما شككتم به.

2 - لا يحصل العلم بتواتر الخبر، إلا بعد العلم بالخبر، وأنتم بنيتم العلم به على كونه متواترا فيدور، قلنا بالمعنى الذي عقلتم حصول المجموعية، فاعقلوا مثله في حصول العلم، على أنه طعن في الضروري.

3 - لا نسلم استواء الطرفين والواسطة المعتبرة في الكثرة فلا تواتر، قلنا:

كل طبقة مع كثرتها نقلت عمن تقدمها مع كثرتها كثرة من تقدمها فحصل القطع بصدقها، على أن تكثر الطبقات لو حدث بعد عدمه لعلم زمان حدوثه، كما في

____________

(1) الأعراف: 156.

(2) الصف: 6.

الصفحة 45   

المذاهب المنتحلة، خصوصا مع توفر داعية الكفار إلى نقله.

4 - أصل التواتر الحس وهو قد يغلط كما غلط في صلب المسيح، قلنا:

تغليط الحس تشكيك في العلم الضروري فلا يسمع.

5 - يجوز ظهور القرآن على رجل غير محمد، فأخذه منه وادعاه لنفسه. قلنا:

فيه ما هو مختص به مثل (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه(1) ويوم حنين(2) إذ تصعدون ولا تلوون(3) عفى الله عنك لم أذنت لهم(4) إذ أخرجه الذين كفروا(5)) وإن الله صرف العرب عن معارضته، فلو كان باطلا أو كان مغصوبا، لزم أن يفعل الله ضد ذلك، لئلا يلزم المفسدة.

6 - يجوز أن يكون آيات التحدي من عنده فإنه لم يحفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله إلا قليل، وكانوا يعدون من حفظ البقرة والأنعام فقيها. قلنا: علم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله، وكان التشديد في حفظه أتم، حتى نازعوا في أسماء السور والتعشيرات، وإنما اشتغل الأكثر عن حفظه بالتفكر في معانيه وأحكامه، ولو زيد فيه أو نقص لعلمه كل عاقل وإن لم يحفظه، لمخالفة فصاحته وأسلوبه.

7 - أنكر ابن مسعود مع جلالته كون المعوذتين والفاتحة منه، قلنا: لا يقدح مقالته في تواتره لوحدته، ولأنه لم ينكر نزولها، بل أنكر كونهما متلوتين.

8 - حصول الاختلاف في القرآن والآيات المتعارضات، مثل التنزيه والتشبيه والجبر والاختيار وإضافة النسيان إلى الله وسلبه عنه وسؤاله عن الذنب وسلبه عنه وغير ذلك، وهذا كله يدل على عدم تواتره، لا في لفظه ولا في معناه. قلنا: القرآن

____________

(1) التحريم: 3.

(2) التوبة: 26.

(3) آل عمران: 153.

(4) التوبة: 44.

(5) التوبة: 41.

الصفحة 46   

آيات منزلة لقوله عليه السلام: (نزل القرآن على سبعة أحرف) والآيات التي ظاهرها التعارض، متأولة بما لا يخرجها عن الألفة، على أنه لو سلم الاختلاف، لم يدل على كونه من عند غير الله، لأنه لا نتيجة لاستثناء عين التالي، كما بين في المنطق.

إلا أن يقال استثناء عين التالي المساوي للمقدم يستلزم عين المقدم، مثل:

إن كان هذا انسانا فهو ناطق، قلنا: لا مساواة هنا لأن الاختلاف أعم من كونه من عند الله، أو من عند غيره، ولا دلالة لعام.

قالوا: فيه اختلاف أيضا في قوله: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري(1)) وليست الأعين في محل الذكر. قلنا: المراد أعين القلوب ولهذا يوصف بالعمى: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(2)) فإن عماها هو الذي يؤثر في الدين المانع من الاهتداء واليقين.

قالوا: كيف قال (أم عندهم الغيب فهم يكتبون(3)) وقد كانوا لا يكتبون بل هم أميون. قلنا: الكتب الحكم مثل: (وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس(4)).

قال الجعدي: وماذا بحكم الله إذ هو يكتب.

قالوا: فالتناقض في قوله في يونس: (فنبذناه بالعراء وهو مليم(5)) وفي قوله: (لولا أن تداركه رحمة من ربه لنبذ بالعراء(6) قلنا: المثبت النبذ مع السقم والمنفي النبذ مع الذم فلا تناقض.

9 - آيات التحدي لم تصل إلى الكل، لتباعد البلاد، ولا يلزم من عجز بعض عجز كل. قلنا: لا شك في وصولها إلى كل من يدعي الفصاحة، لأنه عربي وجزيرة العرب محصورة، ولا عبرة بغيرها لعدم عربيتها.

____________

(1) الكهف: 101.

(2) الحج: 46.

(3) الطور: 41.

(4) المائدة: 48.

(5) الصافات: 145.

(6) القلم: 49.

الصفحة 47   

10 - يجوز [ كون ] عدول العرب إلى الحرب عن المعارضة، لكونهم رأوا أنه أحسم للمادة. قلنا: يعلم كل عاقل أن أحدا لا يختار قتل الرجال وركوب الأهوال، على السهل من الكلام، وفيه فضيلة على سائر الأنام، وبهذا يجاب عما قيل: إنما تركوا معارضته لقلة اهتمامهم به، ولهذا نسبوه إلى الجنون، ونسبوا الكلام إلى السحر، ونهوا عن استماعه لئلا يأخذ بقلوبهم.

11 - فاجأهم بالخوف فاشتغلوا بالحرب عنها، قلنا استمر ثلاثة عشر سنة ينذرهم بغير حرب ويأتيهم بالآيات ويطلب منهم المعارضات.

12 - يجوز كونهم اعتقدوا خطبهم وأشعارهم أفصح من بلاغته فقلت رغبتهم في معارضته. قلنا: كل من نظر فيه وفيها علم غلبته لها، ولما سمع ابن الزبعرى قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم(1)) قال: لأخصمن محمدا فجاء إليه، وقال: إن الملائكة والمسيح عبدوا! فقال صلى الله عليه وآله: أوما علمت أن (ما) لم يكن لمن يعقل(2) فالمراد الأصنام ونحوها فانقطع.

13 - القرآن ليس بحادث، فلا يكون خارقا للعادة، فلا يكون معجزا.

قلنا: هذا يرد على الأشاعرة، وأما القائلون بحدوثه فلا، على أن لهم أن يقولوا:

يكفي ظهوره عليه دون غيره وإن كان قديما.

14 - البلاغة في الناس متفاوتة، فلعل محمدا صلى الله عليه وآله أبلغ من غيره، فأتى به و لم يتهيأ مثله لغيره، قلنا: جرت العادة من الحكيم في خلقه بأن لا يمنحهم من البلاغة ما يتفاوتون فيه كثيرا، فلما زادت بلاغة القرآن عليهم جدا وعجزوا عنه وعن ما يقاربه، علم أنه ليس منه عليه السلام، فلهذا آمن فصحاؤهم مثل: قيس وكعب و مدحه الأعشى، بقصيدة أولها:

 

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا   وبت كما بات السليم مسهدا

نبي يرى ما لا ترون وذكره      أغار لعمري في البلاد وأنجدا

 

____________

(1) الأنبياء: 98.

(2) لمن لا يعقل، خ.

الصفحة 48   

فلم يزالوا به حتى عدلوه عنه، وآمن به لبيد وترك الشعر تعظيما للقرآن وقيل: له ما فعلت بقصيدتك: (عفت الديار محلها ومقامها؟) فقال لهم: أبدلني الله بها البقرة وآل عمران.

15 - يجوز كون ترك المعارضة للجهل بطريقتها لا للعجز عنها. قلنا: بل طريقها كان معروفا عندهم مسلوكا لهم، وهم دهاة العرب وذكاتها، وقد عارض امرء القيس عقله للعجز عنها إن قيل: أخطأوا طريقها كما أخطأوه في عبادة الأصنام، قلنا:

طريق عبادتها الدلالة التي لم يجز(1) الخطأ فيها، وطريق المعارضة الضرورة فيمتنع الخطاء فيها.

قيل: وفي القرآن أقاصيص ولم يكونوا من أهلها قلنا: وفيه غيرها فلم لم يأتوا بمثلها وقد كان عندهم الكتابيون وكانوا أهل قصص، فلم لا تعلموها وقد طلبوا أخبار رستم واسفنديار، وحاولوا أن يعارضوا بها.

إن قيل: منعهم الحياء والورع. قلنا: كيف ذلك وقد أظهروا عداوته وشتمه وقذفه وهجوه.

إن قيل: فلعلهم لم يتفكروا فيعلموا أن المعارضة أنجع وأنفع، قلنا، لا، فإن ذلك مركوز في بداهة العقول.

16 - يجوز ترك المعارضة مع الداعي إليها، لأنه غير ملجأ، قلنا: لا بد من وقوعها قطعا لتوفر الدواعي إلى فعلها، لما فيها من تخفيف التكليف، بل عدمه بالكلية، حتى قيل إنهم تيقنوه، فلما استثقلوا التكليف جحدوه.

17 - يجوز وقوع المعارضة ولم تنقل، قلنا فالنبي لم يمنع أحدا منها مع توفر الدواعي إليها.

18 - القارئ آت بالمثل فهو معارض. قلنا: لا، فإن من أنشد قصيدة لغيره لا يسمى معارضا له ومن ثم جعل أبو الهذيل الحكاية نفس المحكي، لئلا يكون معارضا ونبطله أن المحكي معدوم فلا يعاد.

____________

(1) يجوز الخطاء، خ.

الصفحة 49   

19 - الإخبار بالغيب يقع من المنجم والمرتاض، قلنا: إنما يحكون ما يقع غالبا بالعادة، أو بالأمور الكلية، ولو كان مدعي النبوة منهم وجب على الله إبطال مقالته منعا للاستفساد.

20 - باقي المعجزات أمور عظيمة، لو وقعت لتواترت وإلا فلم لا تكون المعارضة وقعت وما تواترت، قلنا: اكتفي بالقرآن عن تواتر غيره.

21 - المعجز يلزم منه السفسطة لأن فيه انقلاب البحر دما معجزة لنبي.

قلنا: لا سفسطة لأن وقوعه نادر.

22 - يجوز صدور المعجز من غير الله، إما لمزاج خاص، أو لاطلاع صاحبه على بعض الخواص، أو يحصل من الأفلاك، فإنها عند بعضهم أحياء ناطقة، أو من الكواكب، أو من الجن، أو من الملائكة. قلنا: عند الأشاعرة لا فاعل إلا الله وعند المعتزلة يجب عليه منع أولئك من التمكين لإبطال الافساد، فالاخلال به قبيح. وبهذا يندفع جواز خلق المعجز، لا للتصديق، بل هو لطف لمكلف آخر أو إجابة لدعوة انسان آخر، أو معجزة لنبي آخر، أو ابتلاء لتحصيل الثواب، كما في إنزال المتشابهات، أو ابتداء عادة، أو تكرير عادة متطاولة، أو إرهاص. قلنا:

نعلم قطعا انتفاء جميع هذه التوهمات لما يتعلق بتخصيص محمد صلى الله عليه وآله به وما له فيه من الحالات.

23 - يجوز كون فاعل هذا المعجز شيطانا لقدرة الجن على ما يعجز الإنس.

قلنا: يجب على الله منعه لما فيه من الفساد، على أنه لو كان من الشيطان لفعل لكل كذاب، ولأن الشيطان لا يريد عبادة الرحمن، لما يترتب على النبوات من طاعة الملك الديان، وفي خلق المعجز إرادة ذلك فيتنافيان.

24 - يلزم من نبوة محمد البداء، وهو على الله محال، قلنا: للبداء معنيان:

بداء ندامة وهذا على الله تعالى محال، لأن فيه ظهور حال الشئ بعد خفائه، و بداء خلق، ويعتبر بحسب المصالح، وهذا من الله جايز واقع، وقد أورد ابن بابويه

الصفحة 50   

في الدر النضيد، أخبارا جمة عن الصادقين عليهم السلام، بالحث على اعتقاد البداء بهذا المعنى.

قالوا: القبيح لا يؤمر به، والحسن لا ينسخ لقبح نسخه.

قلنا: قد نسخت الشرايع قبل موسى وفي شرع موسى أيضا كما ذكرتم وأرد فيه. قالوا: إن بين موسى دوام شرعه امتنع نسخه لامتناع كذبه، وإن بين عدمه وجب نقله ولم ينقل، وإن لم يبين أحدهما، عمل به مرة لا أزيد وهو محال.

قلنا: بين انقطاعه، ولم ينقل لعدم تواتركم بواقعة بخت نصر، حيث أفناكم على أن في تواتركم البشارة بعيسى ومحمد، فإن فيها: (إن قدرة الله قد أقبلت من طور سيناء، وهو جبل موسى، وأشرقت من طور ساعير، وهو مقام عيسى، و أطلعت من جبل فاران وهو جبل مكة) وقد جاء في التورية أن إبراهيم أسكن ولده إسماعيل ببرية فاران، وسيأتي بقية الكلام في ذلك مرتبا إنشاء الله تعالى.

(الفصل الرابع)

* (في عصمة الأنبياء) *

 

وهو لطف يفعله الله تعالى بهم، لا يختارون معه فعل المعصية وترك الطاعة مع قدرتهم، واتفق الإمامية على اتصافهم بها عن كل نقيصة من أول عمرهم والفضيلية من الخوارج جوزوا ذنوبهم، واعتقدوا أن كل ذنب كفر فجوزوا كفرهم وقال بعض الفضيلية بجواز أن يبعث نبي مع أنه سيكفر، ومنع بعضهم ذلك، ولكن قال: بجواز بعث من كان كافرا قبل البعث، وهو منقول عن ابن فورك، ولكن قال إنه لم يقع، وقال بعض الحشوية بوقوعه وذهب أكثر أهل السنة إلى جواز الكبيرة عليهم قبل البعثة، وجوز من عدى الإمامية الصغيرة مطلقا، ثم اختلفوا، فقال بعضهم سهوا وخطاء لا عمدا وقال بعضهم مطلقا.

وأما تحريف الأحكام، والخيانة فيها، وإفتاء الرعية، فالجمهور منهم

الصفحة 51   

على عدم جواز ذلك مطلقا عليهم، وبعضهم أجازه سهوا منهم، وربما استندوا في ذلك إلى ظواهر آيات تدل على ذلك، وهي أوهام كاذبة قد علم جوابها من التنزيهات وغيرها. والدليل على العصمة مطلقا أن عدمها في وقت ما يناقض المقصود من بعثهم، وهو امتثال أمرهم الذي لا يتم إلا بالوثوق بقولهم المسبب عن العلم بعدم صدور الذنب عنهم، ولو جوزوا معصيتهم، جوزوا تزيدهم ونقصهم في مأموراتهم ولو صدر الذنب عنهم لهبطوا عن منازل العوام، لعلو قدرهم ولردت شهادتهم لآية:

(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(1)) وذلك يناقض قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(2)) ولأن معصيتهم تقتضي وجوب أذاهم، ونبوتهم تقتضي تحريمه فلا يجتمعان، فمتى ثبتت المعصية انتفت النبوة وبالعكس، ولأنه لا يجب اتباعهم إلا بعد العلم بصدقهم، ومع تجويز عصيانهم لا نعلم بصدقهم، بل في ذلك التنفر عنهم.

إن قيل: إن أكثر الناس لم يتنفر عنهم مع اعتقادهم عدم عصمتهم، قلنا:

الذنب إذا حصل منهم لا يوجب ترك قولهم بالكلية، فإن العصمة لما كانت مقربة غير موجبة للاتباع، كان عدمها غير موجب للامتناع. فقبول المجوزين لعدم عصمتهم لا يقدح في أن عصيانهم مفسدة، وحينئذ، فالعصمة واجبة.

إن قيل: فالصغاير منهم لا توجب التنفر عنهم لوقوعها مكفرة، قلنا هذا بناء على التحابط، وهو باطل، ولأن الصغاير لا يميزها أكثر الناس من الكبائر فينفروا بسببها مطلقا، ولا يعرف الأكثر تكفير الصغاير فلا يزول التنفر، فلا يحصل النفع بالتنذير على كل تقدير، فقبح الله قوما أضافوا إلى نبيهم ما تنفر؟

منه عقولهم، ويبرؤون منه لو نسب إليهم، فنسبوه إلى عدم الغيرة والأنفة، حيث روى مسلم والبخاري، أن عائشة وضعت خدها على خده وتفرجت على السودان

____________

(1) الحجرات: 6.

(2) الحشر: 7.

الصفحة 52   

وهم يلعبون في مسجده [ بأمره ] وسيأتي ذلك في باب الطعن في رواة أحاديثهم، قال النيلي:

 

مهلهل المسكين لا عقل له      روى بجهل خبرا لو ركله

وهو لعمري خبر ما أبطله        تبا لمن يرويه ما أجهله

قال أتى الأسود يلهو بها يوما وقد ثارت له قسطله

وأقبل الطهر على كتفه  زوجته عايشة المفضله

وقال للناس: تنحوا لكي          تنظر ما الله لنا خوله

إن كان هذا سنة فيكموا فحققوا عن هذه المسأله

واحتملوا أزواجكم مثله وفرجوها إن أتت منهله

لعله كان لها عاشقا      يغتنم الفرصة في العيطله

 

وفي مسند أحمد بن حنبل أنه خرج في سفر فسابق عائشة فسبقته تارة وسبقها أخرى، وفي الباب الثالث من كتاب النكاح من إحياء العلوم للغزالي، روي أنه كان يسابقها في العدو، فيحسن من مقام النبوة أن يعدو معها برجله كالأطفال و كان يسابقها في العدو، فيحسن من مقام النبوة أن يعدو معها برجله كالأطفال و الجهال، وكيف ينقل هذا على وجه التصديق به، وفيه تسخيف عقل نبيه، و سيأتي في الباب الخامس عشر ما أضافوه إلى نبيهم في صحاح أخبارهم.

(الفصل الخامس)

* (في طرف من معاجزه صلى الله عليه وآله) *

 

1 - تبعه سراقة بن مالك إلى المدينة ليظفر به، فلما قرب منه غاصت قوائم فرسه في أرض صلبة، فعلم أن ذلك أمر سماوي فناداه: ادع إلى ربك وذمة الله علي أن أدفع عنك فدعا له فخلص جواده.

2 - أخذ أبو جهل صخرة ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وآله فلصقت بكفه، فسأله الدعاء له، فدعا فطلقت فطرح الصخرة.

 

 

 

 

الصفحة 53   

3 - أخبر أهل مكة بقدوم عيرهم ويقدمه جمل أورق، فكان، وهذا من الله إذ لو كان من غيره لم يدر لعله يتأخر أو يتقدم غيره.

4 - مسح على شاة أم معبد فدرت ولم تكن درت قبل ذلك بسنة.

5 - دعا شجرة يابسة فجاءت فأومأ إليها فأورقت.

6 - شكا عسكره في تبوك فناء زادهم فأخذ فضلة من تمر، ووضع يده فيها فأكلوا منها وملؤا أوعيتهم بها، وشكوا إليه العطش، فوضع يده في ركوة فشرب الجميع منها.

7 - سأله قوم من عبد قيس غلامة في غنمهم، فغمز بأصبعه في أصل آذانها فابيصنت وبقي ذلك إلى اليوم، معروف في نسلها.

8 - أتاه رجل من جهينة تقطع من الجذام، فبصق في ماء كان في قدح فمسح به فبرأ.

9 - جاء رجل من بني سليم وفي كمه ضب، وقال لا أؤمن بك حتى يؤمن هذا الضب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أنا؟ قال: أنت رسول الله فآمن الرجل.

10 - برسالته وقالت: ما ملكني سواه.

11 - لما فتح النبي خيبر، كان في سهمه حمار أسود فكلم النبي وكلمه فقال خرج من نسل جدي ستون حمارا لم يركبها إلا نبي، أنا آخرهم وأنت آخر الأنبياء، فسماه اليعفور، فلما قبض النبي، أتى إلى بئر لابن أبي التيهان فتردى فيها وكانت قبره.

12 - اغتم النبي من الكافرين، فأمره جبرائيل أن يدعو شجرة فجاءته من بعيد، فقال النبي: حسبي.

13 - أمر أعرابيا بالاسلام، فقال: هل من شاهد؟ فنطقت شجرة برسالته فأسلم الأعرابي.

14 - أخذ كفا من حصى، فسبح في يده، فصبه في يد علي فسبح في يده.

الصفحة 54   

15 - دعا لعمه العباس وأولاده بالستر من النار. فقالت حيطان البيت آمين.

16 - لما ضم النبي صلى الله عليه وآله عليا وولديه وفاطمة تحت الكساء، أتاهم جبرائيل بطبق، فيه رمان وعنب، فسبح العنب والرمان عند أكل كل واحد منهم.

17 - قطع أبو جهل يد معاذ بن عفرة، فبصق عليها النبي صلى الله عليه وآله فألصقها فعادت.

18 - لما قصد فتح خيبر، اعترضه نهر عميق، فعبر الجيش على الماء ولم تبتل أرجلهم.

19 - دعا للفضل بن العباس أن يذهب الله جنبه وشحه ونومه، فذهبوا.

20 - لما أسر عمه العباس طلب منه فداء، فقال: لا مال لي، قال: فالذي أودعته لزوجتك قبل أن تخرج تقسمه في أولادك؟ فقال: ما علم به غيري وغيرها إعلم أنك رسول الله.

21 - أخبر عليه السلام أن ملك السحاب سلم عليه، فاستسقاه، فأخبر أصحابه أنهم يسقون يوم كذا فكان كذلك.

22 - بعث كسرى فيروز الديلمي، يأتيه بالنبي، فقال إن ربي أمرني أن آتيه بك، فقال عليه السلام: إن ربي أخبرني أن ربك قتل البارحة، فكان كذلك.

23 - قال عن زيد بن صوحان: يسبق منه عضو إلى الجنة، فقطعت يده بنهاوند، في سبيل الله.

24 - وطئ أعرابي ناقة له وأتى إلى النبي ليخبره بحملها، فقال لعلي أخبره، فمسح على جرانها، فنطقت أنه واقعها في موضع كذا، فأسلم الأعرابي.

25 - ندرت عين أبي قتادة في أحد، فردها النبي صلى الله عليه وآله فكانت لا تعرف من الأخرى لحسنها وضوئها.

26 - سأله قوم من اليهود أن يجيئ إليه الجبل، فتباعد عنه، فجاءه مسرعا.

27 - أخبر الثقفي بأنه أراد أن يسئله عن فضل وضوئه وصلاته، فقال: نعم جئت لذلك.

الصفحة 55   

28 - أخبر الأنصاري أنه أراد أن يسئله عن حجته وعمرته، فقال: نعم جئت لذلك.

29 - شكا زيد بن حارثة، قلة ماء بئرهم في الصيف، ففرك حصاة، وقال ألقها فيها، ففعل فكثر ماؤها.

30 - شكا المسلمون إليه في غزوة فناء الماء، فأتي بفضل ماء، فوضع أصابعه فيه ففار حتى ارتوى منه ثلاثون ألفا من الناس، واثنا عشر ألف جمل، واثنا عشر ألف فرس، فهذه نبذة يسيرة من دلايله عليه السلام، أخذناها من خرايج الراوندي وغيره وتركنا أشياء منها خوف الإطالة بها، وقد ذكر الزمخشري في كتابه أنه عليه السلام:

أوتي نحو ثلاثة آلاف آية.

إن قيل: لم لا يكون ما أخبر به من صناعة الزرق، فإن الشعراني منهم كان حاضر الجواب معروفا بكثرة الإصابة، حتى قال المنجمون: إن مولده ونجمه اقتضى ذلك، وهو باطل، وإلا لسرى إلى كل عالم وصانع بأن يكون نجمه اقتضى علمه.

قلنا: الإخبار بالغائبات المستقبلة بخلاف الزرق، فإنه للأمور الموجودة الغائبة.

(الفصل السادس)

* (يذكر فيه شئ من البشارة به في الكتب الماضية) *

 

ففي السفر الأول من التورية: نزل الملك على إبراهيم وبشره بإسماعيل أنه يلد اثني عشر عظيما، إن قيل ليس في هذا ذكر النبوة فجاز كونه ملكا، قلنا:

لا يبشر الله تعالى خليله بملوك الكفر في ولده.

وفيها: أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر بفاران. وفي كتاب حيقوق:

[ أنه ] سيد يجئ من اليمن، ومقدس من جبل فاران، يغطي السماء بهاؤه، ويملأ الأرض نورا.

الصفحة 56   

وفي كتاب حزقيل: إني مؤيد بني قيدار بملائكة. وقيدار جد العرب و قد أيد الله نبيه بالملائكة في بدر وغيرها، وقال دانيال: ستنزع في قسيك اغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد.

وفي كتاب شعيا: يظهر في الأمم عبد لي لا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصم، هو نور الله الذي لا يطفى، حتى تثبت في الأرض حجتي.

وفي مزمور آخر: إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا، والإكليل مثل الرياسة والإمامة، ومحمود هو محمد.

وفي الإنجيل قال المسيح للحواريين: أنا ذاهب وسيأتيكم الفارقليط، روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له من ربه، وفي حكاية يوحنا عن المسيح: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، يسوسكم بالحق ويخبركم بالغيوب.

وفي حكاية أخرى: إني سائل ربي أن يبعث لكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد. وفي موضع آخر: يشهد لي كما شهدت له.

وفي الإنجيل: قال عيسى: إن الاليا متوقع على أذيالي، وروي أنه كان أحمد متوقع، فغيروه إلى اليا، وكأن اليا هو علي، قيل وإنما ذكره لأنه قدام النبي صلى الله عليه وآله في كل حرب واسم محمد بالسريانية مشفح والشفح الحمد، فإذا كان الشفح الحمد فمشفح محمد.

وفي التورية: أحمد عبدي المختار مولده مكة وهجرته طابة.

ومما أوحى الله إلى آدم: من ولدك إبراهيم، أجري على يده عمارة بيتي تعمره الأمم، حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين، أجعله من سكانه وولادته.

قال الراوندي في خرائجه: إن الله حفظ اسم محمد صلى الله عليه وآله لم يسم به أحدا قبله صيانة ليعرف به، كما فعل في إبراهيم عليه السلام وغيره، وهذا لا يناقض ما قيل:

إن رجالا في الجاهلية سميت محمدا، فعن سراقة بن خثعم قال: قدمنا الشام فأشرف

الصفحة 57   

علينا راهب وقال: من أين؟ قلنا من مضر، قال: سيبعث فيكم رجل اسمه محمد فرجعنا فولد لكل منا غلام فسماه محمدا.

وروي أن تبع بن حسان قتل من يهود يثرب جماعة، فقال له شيخ منهم أتى عليه مائتان وخمسون سنة: إنك لا تقدر على خراب هذه القرية، قال: ولم؟

قال: لأنه يخرج من هذه البنية - يعني البيت الحرام - نبي من ولد إسماعيل فكف عن القتل، فمضى إلى مكة وكسى البيت وأطعم الناس.

تذنيب:

يفرق بين المعجزة والحيلة، أن المعجزة غايتها الدعاء إلى الله سبحانه و تزداد ظهورا مع الأزمان، والحيلة تفتقر إلى الآلات ويطلع على أنه لا حقيقة لها مع الأزمان، والمعجزة لا يمكن معارضتها، بخلاف الحيلة، والحيلة لها معلم ومرشد بخلاف المعجزة، والمعجزة تظهر على من يعرف بالصلاح والسداد، والحيلة على من يعرف بالمزاح والفساد، والمعجزة دالة على صدق الصادق والرب قادر عليها فتجب في حكمته، فلو ادعى النبوة من ليس بصادق وجب أن يمنعه من المعجزة ومن الحيلة المشبهة بها، بل ربما يظهر المعجزة على العكس، كما في مسيلمة.

وقد ذكر ابن زكريا الطبيب أمورا في مقابلة المعجزات، كصب زرادشت الصفر المذاب على صدره.

قلنا: إنما وضع أولا على صدره طلاء معروفا بطلاء الجلق وهو دواء يمنع من إحراق النار.

قال: للأشياء طبائع وخواص كحجر المغناطيس وباغض الخل، إذا ألقي في إناء الخل لم ينزل إليه، والزمرد يسيل عين الأفعى، فلا يمكن الحكم على ما يدعونه معجزا، إلا بعد الإحاطة بجميع جواهر العالم وعرفان قوى الخلق كلهم، وذلك موقوف على جوب البلدان وطول الأزمان.

قلنا: في المعاجز ما لا يمكن فعله بحيلة ولا طبيعة ولا قوة كإحياء الموتى و

الصفحة 58   

الإخبار بالمغيبات وبما تكن الصدور، ثم نقول: إذا فرضنا سارت الجبال وكدرت النجوم ونشرت الأموات، يلزم أن لا يعرف أن ذلك من الخالق تعالى، إلا بعد ما ذكره وهو معلوم البطلان، فظهر أنه يجب النظر في الأمر الخارق للعادة، و إن لم [ نكن ] نسر في البلاد ونعرف أحوال العباد، وما عارض به لا يلتفت إليه، وقد ذكر أبو إسحاق أن واحدا وضع الزمرد الفائق فوق رأس قصبة وقربه من عين الأفعى فلم تسل.

(الفصل السابع)

* (في مقالات المنكرين للنبوات الطاعنين على المعجزات) *

 

قالوا: في القرآن: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا(1)) وقد قتل يحيى ونشر زكريا وقتل الكافرون كثيرا من الأبرار وذلك خارج في الاشتهار إلى حد يمتنع فيه الانكار.

قلنا: السبيل المنفي هو السبيل بالحجة لا بالغلبة، ويحيى وغيره كانت لهم الحجة وذلك معنى (ليظهره على الدين كله(2)).

قالوا: قوله (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله(3) وقد تزوج فقراء فلم يزدادوا إلا فقرا. قلنا: الغنى من الفقر إلى النكاح أو خرج مخرج الأغلب.

قالوا: (والله يعصمك من الناس(4)) وقد كسرت رباعيته وشج رأسه.

قلنا: المراد العصمة من القتل.

قالوا: " ادعوني أستجب لكم)(5) وقد مضت الدهور ولم يستجب. قلنا:

____________

(1) النساء: 140.

(2) البراءة: 34. والفتح: 28. والصف: 9.

(3) النور: 32.

(4) المائدة: 70.

(5) المؤمن: 60.

الصفحة 59   

تقديره أستجب إن رأيت مصلحة، أو معناه أعبدوني آجركم أو فيه إطلاق العام و إرادة الخاص.

قالوا: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون(1)) فكيف يرجع في إثبات نبوته إلى أهل الكتاب وهم عنده يكتمون الحق ويذهبون عمدا عن الصواب.

قلنا: أراد الله دلالتهم على صدقه بإقرار عدوه وذلك أن الجاهلية كانت تميل إلى أهل الكتاب، وتعدلها على أنفسها، وفي التورية والإنجيل صفات محمد صلى الله عليه وآله من أنصف منهم شهد له بها.

قالوا: تدعون لمحمد علم الغيب وقد أخبر بأشياء وظهر الأمر بخلافها، فقال:

إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، وقد وجدنا قياصر بعده متعددة. قلنا: لما مزق كتابه، قال. مزق الله مملكته، فكان ذلك، وكتب إلى قيصر آخر ولم يمزقه فدعى بثبات مملكته فكان، فنحمل قوله: فلا قيصر بعده، أي على صفة ممزق الكتاب.

قالوا: قال صلى الله عليه وآله: شهرا عيد لا ينقصان وقد وجدنا فيها النقصان. قلنا: قال ذلك لسنه بعينها، فكان كما قال، أولا ينقصان(2) معا وإن نقص أحدهما أولا ينقص أجر من صامهما.

قالوا: قال: لا ينقص مال من صدقة، ووجدنا النقص مع الصدقة، قلنا:

المراد البركة أو لا ينقص ثوابه.

قالوا: اشتهر حسن يوسف، فكيف قال في إخوته: (فعرفهم وهم لهم منكرون(3) وكيف ينكر من يتفرد بهذا الجمال. قلنا: لا يبعد جهلهم به لتغييره إلى الكهولة والملوكية ويحتمل أن يكون ينكرون بمعنى يزيلون الانكار، مثل: (إن الساعة

____________

(1) النحل: 43. والأنبياء: 7.

(2) وذيله كما في أبي داود: رمضان وذو الحجة. راجع سننه ج 1 ص 542 و لفظ البخاري ج 1 ص 327: شهران لا ينقصان شهرا عيد رمضان وذو الحجة.

(3) يوسف: 58.

الصفحة 60   

آتية أكاد أخفيها(1)) أي أزيل خفائها.

قالوا: تواتر في النصارى قتل عيسى وصلبه وفي كتابكم: (وما قتلوه وما صلبوه(2)) قلنا: أخبار النصارى ترجع إلى أربعة، فلا تواتر لهم ولا عصمة فيهم على أنه يجوز أن يخبروا عن الشبيه كما قال تعالى: (ولكن شبه لهم).

قالوا: قال: في نسائكم أربع نبيات وفي كتابكم: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم(3)) قلنا النبي غير الرسول وأيضا فالرسول يطلق على جبرائيل وعلى الغراب، لقوله تعالى: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض(4)) وقد قيل هنا إن الأربعة: سارة وأخت موسى ومريم وآسية، بعثوا لولادة فاطمة عليها السلام.

قالوا: (قال فرعون يا هامان ابن لي صرحا(5)) وقد كان فرعون قبل هامان بزمان.

قلنا: لا ينكر أن يسمى انسان آخر في زمان فرعون بهامان.

قالوا: في كتابكم (وما علمناه الشعر(6)) وفي كتابكم وزن الشعر، فهو شعر، فمن ذلك: (وجفان كالجواب وقدور راسيات(7)) ومنه (فيخزيهم و ينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين(8)) وزنه من الشعر:

 

ألا حييت عنا يا مدينا   تحيينا وإن كرمت علينا

 

قلنا: بل كان النبي يعاف قول الشعر، ليخلص قلبه ولسانه للقرآن، و يصون الوحي عن شبهة الشعر، قال أبو عبيدة: هو كلام وافق وزنه وزن الشعر ولا يلزم كونه شعرا لعدم القصد إليه ولأنه يقرنه بأمثاله وقليل من الكلام إلا ويوزن بوزن الشعر.

قالوا: قال يوم حنين: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. وقال: غير

____________

(1) طه: 15.

(2) النساء: 156.

(3) الأنبياء: 7.

(4) المائدة: 34.

(5) المؤمن: 36.

(6) يس: 69.

(7) السبأ: 13.

(8) البراءة: 15.

الصفحة 61   

الإله قط لا ندينا ولو عبدنا غيره شقينا، وقال لما دميت أصبعه: هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. قلنا: سلف ما يصلح جوابا عنه.

قالوا: ويجوز كون ما ظهر على يده سحرا. قلنا: السحر يعارض والمعجزة لا تعارض، ولو فتح باب السحر لجاز أن يقال في كل عالم بل في كل صانع:

أنه ساحر. على أن السحر علم يتمكن به من إحداث ما لا يقدر عليه مثله، وقد كان علما ثم انقطع لما أحرق المسلمون كتب الأكاسرة المصنفة فيه من الفلاسفة.

تذنيب:

قالت الفلاسفة: النبوة جعلت لتقرير الشريعة التي هي سياسة الدنيا ومن ثم كل من لازم الشرعيات تهذبت أخلاقه وحسنت أفعاله وتقدس في نفسه و أقبل بفكره على زهده ورمسه، ونظر بعين بصيرته فعرف الرب وما يفاض عنه بعنايته، فالشرعيات ألطاف في العقليات. وهذا خيال منهم لأن أهل كل دين يحدث ذلك في عبادهم و أكابرهم من الصابية والرهبان والأحبار وعباد الأوثان فإنهم يجدون أنفسهم خائفة مستحية من أوثانهم أن يقدموا على رذائل الأفعال و قبايح الأقوال، فالقائلون من الفلاسفة بالنبوات، رجعوا بها إلى هذا الباب، وقد عرفت ما فيه من الذهاب عن الصواب، لأنا حينئذ لا نعرف النبي المختار، من الرهبان والأحبار، ونحكم بصحة الأديان المتناقضة، وهذه مقالة داحضة.

(الفصل الثامن)

 

محمد رسول الله خاتم الأنبياء لقوله تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين(1)). ولقوله صلى الله عليه وآله بعد ثبوت صدقه لعلي عليه السلام:

(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وبالجملة فذلك معلوم بالضرورة من دينه عليه السلام.

____________

(1) الأحزاب: 40.

الصفحة 62   

وقالت الخرمية: بعده أنبياء لقوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(1)) وهذا لفظ مستقبل. قلنا: قد أتى المستقبل بمعنى الماضي: (يريد الله أن يخفف عنكم(2). إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(3) يريدون أن يبدلوا كلام الله(4)) على أن في الآية إضمارا أي يأتكم نبأ رسل كانوا من قبلكم وكانوا يقصون دلالاتي وقد أنزلت عليكم، فمن عمل بها فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويؤيد ذلك، الآية التي بعدها (والذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها أولئك أصحاب النار) ولو سلم كونها للاستقبال حقيقة، فقد خصها النبي بقوله: لا نبي بعدي وتخصيص الكتاب بقوله جايز.

قالوا: فآية (وخاتم النبيين) يدل على أن بعده أنبياء لأن الخاتم في المعتاد هو في الوسط كختم الكتاب في وسطه. قلنا: خاتم بكسر التاء هو الآخر، مثل:

ختامه مسك، وهذا خاتم هذا الأمر، وعلى قراءة عاصم بفتح التاء فمعناه الذي جمع الجميع مفرغ من أمره، فأجرى خاتم بالفتح مجرى المصدر.

قالوا: قوله تعالى: (أرسلنا رسلنا تترى(5)) أي لا تنقطع قلنا أرسلنا لفظ ماض فيجب حمل تترى على معنى الماضي وإلا خرب النظم ولو كان تترى معناه لا تنقطع لزم إنكار المعاد، إذ فيه تنقطع الرسل إجماعا، وأيضا فقد نقلت أعلام النبي وفيها لا نبي بعدي، فإن صدقوا بها بطل ما قالوه، وإن طعنوا في نقلها لزمهم الطعن في كل من نقل معجزة لنبي، وإن قالوا: لو كان الخبر صحيحا لعرفناه.

قلنا: لم تنظروا فيه إذ بهذا يتفصل عن اليهود والنصارى لما قالوا: لو كانت معاجز محمد صحيحة لعرفناها.

____________

(1) الأعراف: 34.

(2) النساء: 27.

(3) الأحزاب: 33.

(4) الفتح: 15.

(5) المؤمنون: 44.