الكثرة ليست علامة على الصواب

قيل له: لم يقرهم على ذلك جميع المسلمين، ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين، وإن كان الراضي بذلك منهم الجمهور، والمؤثر في العدد هم الأكثرون، وليس ذلك علامة على الصواب، بل هو في إلا غلب دليل على الضلال، وقد نطق بذلك القرآن، قال الله تعالى: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }(2).

وقال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }(3).

وقال تعالى: { وأن أكثركم فاسقون }(4).

وقال تعالى: { وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }(5).

وقال تعالى: { وما آمن معه إلا قليل }(6) في آيات يطول بإثباتها الكتاب. 

____________

 (3) سورة يوسف 12: 106.

(4) سورة المائدة 5: 59.

(5) سورة ص 38: 24.

(6) سورة هود 11: 40.

 

الصفحة 43   

على أن هذا القول، وإن كان حجة فيما ذكرناه، فالوجود شاهد به لصحته على ما وصفناه، ألا ترى أن أكثر الخلق على مرور الأيام والأوقات(1) عصاة لله تعالى، والقليل منهم مطيعون له على الاخلاص، والجمهور الأكثر منهم جهال على كل حال، والعلماء قليل يحصرهم العدد بلا ارتياب، وأهل التصون(2) والمروءة من بين الخلق أفراد، وأهل المناقب في الدين والدنيا آحاد، فيعلم بذلك أن الأكثر لا معتبر بهم في صحيح الأحكام.

وبعد: فإنه لم يتمكن قط متملك(3) إلا وكان حال الخلق معه حالهم مع أبي بكر وعمر وعثمان، وهذه عادة جارية إلى وقتنا هذا وإلى آخر الزمان، ألا ترى إلى اجتماع الأمة(4) على متاركة(5) معاوية بن أبي سفيان حين ظهر أمره عند مهادنة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

 

وسكوت الكافة عنه وهو يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر، ويقنت عليه في الصلوات، ويضرب رقاب المسلمين على الولاية له، ويجيز على البراءة منه بالأموال.

وكذلك كانت حالهم مع يزيد لعنه الله، وقد قتل الحسين بن

____________

(1) في أ: على مرور الأزمات، وفي ح، م: على مرور الأوقات.

(2) التصون: حفظ النفس من المعائب " أقرب الموارد - صون - 1: 671 ".

(3) في ب، م: ملك.

(4) (الأمة) ليس في ب.

(5) المتاركة: المسالمة، والمصالحة. " أقرب الموارد - ترك - 1: 76 "، وفي ب، ح، م: مشاركة.

 

الصفحة 44   

علي عليه السلام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وحبيبه وقرة عينه ظلما وعدوانا، وسبي أهله ونساءه وذراريه(1)، وهتكهم بين الملأ، وسيرهم على الأقتاب في الفلوات، واستباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله في وقعة الحرة(2)، وسفك دماء أهل الإيمان، وأظهر الردة عن الإسلام، فلم يجاهره أحد من الأمة بنكيرة، وأطبقوا على إظهار التسليم له والائتمام به، والاتباع له والانقياد.

ولم يزل الأمر يجري في الأمة(3) بعد يزيد لعنه الله مع الجبارين من بني أمية ومروان على ما وصفناه، وكذلك كانت صورتهم على عهد آدم عليه السلام وإلى وقت من سميناه، ومن بعدهم إلى الآن، وإنما ينظر الناس إلى من حصل له الاتفاق في الرئاسة والسلطان، وينقادون له كما ذكرناه، ويجتنبون خلافه على ما بيناه، سواء كان من الله أو من الشيطان، أو كان عادلا في الرعية أو كان ظالما من الفجار.

بل قد وجدنا الجمهور في كثير الأحوال يتحيزون(4) عن أولياء

____________

(1) في أ: وذريته.

(2) وقعة الحرة: حدثت في أيام يزيد بن معاوية في سنة (63 ه)، وكان أمير الجيش فيها مسلم بن عقبة، وسموه لقبيح صنيعه مسرفا، حيث قدم المدينة ونزل (حرة وأقم) - شرق المدينة - فخرج أهل المدينة لمحاربته فكسرهم، وقتل من الموالي ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، ومن الأنصار ألفا وأربعمائة، وقيل ألفا وسبعمائة، ومن قريش ألفا وثلاثمائة، ودخل جنده المدينة فنهبوا الأموال وسبوا الذرية واستباحوا الفروج، وأحضروا أعيان المدينة لمبايعة يزيد بن معاوية، " مروج الذهب 3: 69 والكامل في التاريخ 3: 63 ".

(3) (يجري في الأمة) ليس في ب.

(4) في ب، م: يحترزون، وتحيز عنه: تنحى.

 

الصفحة 45   

الله تعالى، ويخالفون أنبياءه، ويسفكون في العناد لهم الدماء، ويطبقون على طاعة أعداء الله عز وجل، ويسلمون لهم على الطوع والإيثار، وربما اتفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل من الجماعة الرضا به والاتباع، فانقادت الأمور له على منيته فيها والمحاب، واختلفت(1) على العادل المستحق الكامل الحكيم العالم(2)، واضطربت عليه الأمور، وكثرت له المعارضات، وحصلت في ولايته الفتن والمنازعات، والخصومات والمدافعات(3).

وقد عرف أهل العلم ما جرى على كثير من أنبياء الله صلى الله عليه وآله من الأذى والتكذيب، والرد لدعواهم، والاستخفاف بحقوقهم، والانصراف عن إجابتهم، والاجتماع على خلافهم، والاستحلال لدمائهم.

فأخبر الله تعالى بذلك فيما قص به(4) من نبأهم في القرآن، فكان من الأتباع للفراعنة والنماردة وملوك الفرس والروم على الضلال، ما لا يحيل(5) على ذي عقل ممن سمع الكتاب، ليعلم بما شرحناه أنه لا معتبر في الحق بالاجتماع، ولا معتمد في الباطل على الاختلاف، وإنما مدار

____________

(1) في أ، ب، ح: واختلف.

(2) (العالم) ليس في ب، ح، م.

(3) في م: المرافعات.

(4) في أ: بهم.

(5) في أ: لا يحل.

 

الصفحة 46   

الأمر في هذين البابين على الحجج والبينات، لما وصفناه من وجود الاجتماع على الظلال، والاختلاف والتباين في الهدى، والصواب بما بيناه، ولا سبيل إلى دفعه إلا بالعناد.