مسألة أخرى: إثبات أن حديث " اقتدوا باللذين من بعدي " موضوع

الصفحة 219 

 

مسألة أخرى

 

فإن قالوا: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لأصحابه: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "(1)؟

أليس هذا نص منه على إمامتهما، وإيجاب على الأمة جميعا فرض طاعتهما، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه من التقدم على أمير المؤمنين، وصحة خلافتهما؟!

جواب

قيل لهم: هذا حديث موضوع، والخلل في سنده مشهور، والتناقض في معناه ظاهر، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.

فأما خلل إسناده: فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير(2)، عن

____________

(1) مسند أحمد بن حنبل 5: 382 و 385 و 399 و 402، سنن ابن ماجة 1: 37 / 97، سنن الترمذي 5: 609 / 3662، مستدرك الحاكم 3: 75. مصابيح السنة 4: 162 / 4742 و 218 / 4889.

(2) قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 3: 33: كان فاسقا جريئا على الله، وهو الذي قتل عبد الله بن يقطر رسول الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل.. وكان مروانيا.

=>

 

الصفحة 220 

ربعي بن حراش، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان، وتارة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب.

فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرب إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرشا، ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء، فمن ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته، فوجه القضاء على أخيها تقربا إليها، وطمعا فيها، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه، فقال فيه هذيل الأشجعي(1):

 

أتاه وليد بالشهود يقودهم        على ما ادعى من صامت المال والخول

يسوق إليه كلثما وكلامها        شفاء من الداء المخامر والخبل

فما برحت تومي إليه بطرفها    وتومض(2) أحيانا إذا خصمها غفل

 

____________

<=

وقال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته، وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جدا. أنظر ترجمته في الجرح والتعديل: 5: 360، تهذيب التهذيب 6:

411، سير أعلام النبلاء 5: 438.

(1) هو هذيل بن عبد الله بن سالم بن هلال الأشجعي، شاعر كوفي معروف، وله هجاء في ثلاثة من قضاة الكوفة: عبد الملك بن عمير، الشعبي، ابن أبي ليلى. أنظر جمهرة أنساب العرب: 249، الأعلام للزركلي 9: 72.

(2) أومضت المرأة: سارقت النظر. " الصحاح - ومض - 3: 1113 ".

 

الصفحة 221 

 

وكان لها دل وعين كحيلة        فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل

فأفتنت القبطي حتى قضى لها  بغير قضاء الله في المال والطول

فلو كان من في القصر يعلم علمه        لما استعمل القبطي فينا على عمل

له حين يقضي للنساء تخاوص(1)      وكان وما منه التخاوص والحول

إذا ذات دل كلمته بحاجة        فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل

وبرق عينيه ولاك لسانه          يرى كل شئ ما خلا سخطها خبل(2)

 

ثم الذي عزاه إليه هو ربعي بن حراش عند أصحاب الحديث من المعدودين في جملة الروافض المستهزئين على أبي بكر وعمر(3)، وإضافته إليه - مع ما وصفناه - ظاهرة البطلان، مع أن المشهور عن حذيفة بن اليمان في أصحاب العقبة يضاد روايته هذا الحديث عنه.

وأما روايته عن حفصة بنت عمر بن الخطاب فهي من البرهان على فساده، ووجوب سقوطه في باب الحجاج، لأن حفصة متهمة فيما ترويه من فضل أبيها وصاحبه، ومعروفة بعداوتها لأمير المؤمنين عليه السلام، وتظاهرها ببغضه وسبه والاغراء به، والانحطاط في هوى أختها عائشة بنت أبي بكر في حربه والتألب عليه، ثم لاجترارها بما يتضمنه أفضل وجوه النفع إليهما به، وقد سلف(2) كتاب في هذا المعنى ما يستغنى به

____________

(1) تخاوص: غض من بصره شيئا، وهو في كل ذلك يحدق النظر كأنه يقوم سهما. " لسان العرب - خوص 7: 31 ".

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 62.

(3) أنظر تاريخ بغداد 8: 433.

(4) زاد في ب: منا.

 

 

الصفحة 222 

عن الإطالة في هذا المقام، والله ولي التوفيق(1).

فصل

 

على أنه لو ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله لأوجب عصمة أبي بكر وعمر من الآثام، وقضى لهما بالكمال، ونفى السهو والغلط عنهما على كل حال، وذلك أن فرض الاقتداء بهما يوجب صواب الفاعل له عند الله تعالى، وأن علمه في ذلك واقع موقع الرضا، فلو لم يكونا معصومين من الخطأ لا يؤمن منهما وقوعه، وكان المقتدي بهما فيه ضالا عن الصراط، وموقعا من الفعل ما ليس بصواب عند الله تعالى، ولا موافق لرضاه، كما أن الله تعالى لما فرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وأمر بالاقتداء به، كما أمره بالاقتداء بمن تقدم من أنبيائه عليهم السلام، حيث يقول: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }(2) أوجب عصمته صلى الله عليه وآله كما أوجب عصمة من تقدم من الأنبياء عليه السلام، ولم يجز في حكمته فرض الاقتداء بمن ذكرناه مع ارتفاع العصمة منهم لما بيناه.

وفي الاجماع أن أبا بكر وعمر لم يكونا معصومين عن الخطأ، وإقرارهما على أنفسهما بذلك أظهر حجة على اختلاف الخبر وفساده كما ذكرناه.

____________

(1) أنظر الشافي 2: 306 - 311، تلخيص الشافي 3: 32، الصراط المستقيم 3: 144 - 146.

(2) سورة الأنعام 6: 90.

 

الصفحة 223 

فصل آخر

 

مع أن التباين بين أبي بكر وعمر في كثير من الأحكام يمنع من فرض الاقتداء بهما على كل حال، لاستحالة اتباعهما فيما اختلفا فيه، ووجوب خلاف أحدهما في وفاق صاحبه، وخلاف صاحبه في اتباعه.

وقد ثبت أن الله تعالى لا يكلف عباده المحال، ولا يشرع ذلك منه صلى الله عليه وآله، وإذا بطل وجوب الاقتداء بهما في العموم لما بيناه، لم يبق - إن سلم الحديث - إلا وجوبه في الخصوص، وذلك غير موجب للفضل فيهما، ولا مانع من ضلالهما ونقصهما، وهو حاصل في مثل ذلك من أهل الكتاب، ولو فاق المسلمين لهم في خاص من الأقوال مع كفرهم وضلالهم بالإجماع، فبان بما وصفناه سقوط الحديث وفساد معانيه على ما قدمناه.

فصل آخر

 

على أن أصحاب الحديث قد رووه بلفظين مختلفين، على وجهين من الأعراب متباينين: أحدهما الخفض، وقد سلف قولنا بما بيناه، والآخر النصب، وله معنى غير ما ذهب إليه أهل الخلاف.

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما دعا الأمة إلى التمسك بكتاب الله تعالى، وبعترته عليه وعليهم السلام، حيث يقول: " إني مخلف فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(1). وكان عالما بما أوحى الله تعالى إليه، أن أول

____________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث الصحيحة المتواترة، تنتهي سلسلة أسانيده إلى جماعة من.

أجلة الصحابة، رواه في صحيح مسلم 4: 1883 / 36 و 37، سنن الترمذي 5: 662 / 3786 و 663 / 3788، سنن الدارمي 2: 431، سنن البيهقي 2: 148 و 7: 30 و 10: 114، مسند أحمد 3: 14 و 17 و 26 و 59 و 4: 366 و 371، مستدرك الحاكم 3: 109 و 148.

 

الصفحة 224 

ناقض لأمره في ذلك وعادل عنه هذان الرجلان، فأراد عليه السلام تأكيد الحجة عليهما، بتخصيصهما بالأمر باتباع الكتاب. والعترة بعد عمومها به، ودخولهما في جملة المخاطبين من سائر الناس، فناداهما على التخصيص لما قدمناه من التوكيد في الحجة عليهما، فقال: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر " وكانا هما المناديين بالاتباع دون أن يكون النداء إليهما على ما شرحناه.

وليس بمنكر أن يبتدئ بالأمر بلفظ الجمع لاثنين، أو بلفظ الاثنين للجمع اتساعا، كما يعبر عن الواحد وليس فيه من معاني الجمع قليل ولا كثير بلفظ الاثنين أو الجمع، قال الله عز وجل: { هذان خصمان اختصموا في ربهم }(1).

وقال { وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب - إلى قوله - خصمان بغى بعضنا على بعض }(2).

وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به الناصبة من الحديث، ولم يبق فيه شبهة، والحمد لله.

____________

(1) سورة الحج 22: 19.

(2) سوره ص 38: 21، 22.