فصل في أبطال ما طعن به على ما حكاه من طرقنا في وجوب النص

الصفحة 13   

قال صاحب الكتاب: " أحد ما يعتمدون عليه ما تقدم القول فيه من أن الإمام لا بد أن يكون حجة، ومستودعا للشريعة يحفظها ويقوم (1) [ بأدائها، فلا بد من أن يكون معينا يتميز من غيره ] (2) وذلك لا يكون إلا بنص أو معجز، وربما قالوا: إذا كان يقوم بمصالح الدين التي لا بد منها من إقامة الحدود وما أشبهها (3) فلا بد من عصمته، ولا يكون كذلك إلا بالتعيين ".

قال: " وكل ذلك * مما تقدم الكلام عليه * (4) والجواب عنه لأنهم إذا بنوا النص عليه وقد بينا فساد التعلق به فيجب أن لا يصح إثبات النص من جهة العقل... " (5).

____________

(1) " يقوم " ساقطة من المغني والشافي وقد اقتضاها السياق.

(2) ما بين المعقوفين ساقط من الشافي وأعدناه من المغني.

(3) عند المقابلة بين ما في المغني والمنقول عنه هنا يظهر أن كلمة " وما أشبهها " إجمال من المرتضى للمذكور هناك لأن الذي في " المغني " هكذا: (يقوم بمصالح الدين التي لا بد منها من إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وقسمة الفئ والغنيمة، وجباية الخراج، إلى غير ذلك، فلا بد أن يكون معصوما لا يزل ولا يضل، ولا يكون ذلك إلا بالتعيين الذي لا يكون إلا بنص أو معجز إلى سائر ما يشاكل ذلك مما قدمناه وكل ذلك) الخ.

(4) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(5) المغني 20 ق 1 / 103.

الصفحة 14   

يقال له: قد تقدم كلامنا على ما ظننت أنه مفسد لما حكيته عنا، وكشفنا من بطلانه بما لا يدخل على منصف شبهة، فإذا كنت متعمدا في دفع استدلالنا بما حكيته على ما قدمته وقد بينا فساده بما تقدم فقد سلم ما تطرقنا به إلى وجوب النص وخلص من كل شبهة.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم وربما قالوا: لا بد لمن يكون إماما أن يكون على حال وصفة لا طريق للاجتهاد فيها، فلا بد من أن يكون بنص، وربما ذكروا في هذه الصفة كونه معصوما إلى سائر ما تقدم، والجواب عنه قد سلف ".

قال " وربما ذكروا غيره، بأن يقولوا: لا بد من أن يكون عالما بجميع الأحكام حتى لا يشذ عليه (1) شئ منها وإلا لزم ذلك أن يكون قد كلف القيام بما لا سبيل له إليه (2) ويحل ذلك محل تكليف ما لا يطاق فلا بد من نص عليه، لأنه لا طريق للمجتهدين إلى معرفة ذلك من حاله، لأنه إنما يعلم ذلك من حاله في استغراق المعلوم (3) من يعرف هذه العلوم أجمع لم تصح لهم معرفته، ولأن معرفة ذلك لا تصح إلا بامتداد الأوقات، وبالتجربة والامتحان، فإذا لم يكن وقوف أحد من الأمة عليه لم يجز أن يكلف الاجتهاد في ذلك فلا بد من النص " (4).

قال: " ثم يقال لهم: أمن جهة العقل تعلمون إن كونه عالما بجميع هذه الأحكام من شرط كونه إماما، أو بالسمع؟ فإن قالوا:

____________

(1) غ " لا يشذ منه ".

(2) الضمير في " له " للإمام، وفي " إليه " لما يكلف القيام به.

(3) غ: " هذه العلوم ".

(4) المغني 20 ق 1 / 104.

الصفحة 15   

بالسمع قيل لهم: إنما نكلمكم في طريقة العقل * فكيف يصح أن تلجأوا إلى السمع الذي يجري مجرى الفرع للعقل * (1)، والذي إذا ثبت لم يدل على أن قضية العقل تقتضيه [ لأنه قد ثبت بالسمع ما كان يجوز في خلافه ] (2) فلا بد من أن يقولوا: إنا علمنا ذلك بالعقل، فيقال لهم:

 

وأي دليل في العقل يقتضي ما ذكرتموه مع علمنا بأنه قد يجوز أن يقوم بكل ما فوض إليه على حقه وإن لم يكن عالما بجميع الأحكام " (3).

يقال له: أما الذي يدل على وجوب كون الإمام عالما بجميع الأحكام فهو أنه قد يثبت أن الإمام إمام في سائر الدين، ومتول للحكم في جميعه، جليله ودقيقه، ظاهره وغامضه وليس يجوز أن لا يكون عالما بجميع الدين والأحكام، وهذه صفته لأن من المتقرر عند العقلاء قبح استكفاء الأمر وتوليته من لا يعلمه، وإن كان لمن ولوه واستكفوه سبيل إلى علمه، لأن المعتبر عندهم كون المولى عالما بما ولي ومضطلعا به ولا معتبر بإمكان تعلمه وكونه مخلى بينه وبين طريق العلم لأن ذلك وإن كان حاصلا فلا تخرج ولايته من أن تكون قبيحة إذا كان فاقدا للعلم بما فوض إليه.

يبين ما ذكرناه أن الملك إذا أراد أن يستوزر بعض أصحابه ويستكفيه تدبير جيوشه ومملكته فلا بد أن يختار لذلك من يثق منه بالمعرفة والاضطلاع حتى أنه ربما جربه في بعض ما يشك فيه من حاله، وفيما لا يكون واثقا بمعرفته به واضطلاعه عليه، وليس يجوز أن يفوض أمر وزارته، وتدبير أموره وسياسة جنده إلى من لا علم له بشئ من ذلك، لكنه ممن يتمكن من التعلم والتعرف ولا حائل بينه وبين البحث والمسألة

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(2) ما بين المعقوفين معاد من المغني.

(3) المغني 20 ق 1 / 104.

الصفحة 16   

ومتى استكفى الملك من هذه حاله، يعني فقد العلم والاضطلاع كان مقبحا مهملا لأمر وزارته واضعا لها في غير موضعها، واستحق من جميع العقلاء نهاية اللوم والإزراء عليه، وهذا حكم كل واحد منا مع من يستكفيه مهما من أموره فإنه لا يجوز أن يفوض أحدنا ما يريد أن يصنعه إلى من لا معرفة له بتلك الصناعة، لكنه يتمكن من تعرفها وتعلمها وكل من رأيناه فاعلا لذلك عددناه في جملة السفهاء، ولا فرق فيما اعتبرناه بين فقد المستكفي للعلم بجميع ما أسند إليه وبين فقده للعلم ببعضه، لأن العلة التي لها قبح العلماء (1) ولاية الشئ من لا يعلم جميعه هي فقده للعلم بما تولاه، وهذه العلة قائمة في البعض لأنه إذا كان حكم البعض حكم الكل في الولاية والاستكفاء ففقد المولى للعلم بالبعض كفقده للعلم بالكل، وليس يشك العقلاء في أن بعض الملوك لو ولى وزارته أو كتابته من لا يعلم أكثر أحكام الكتابة والوزارة أو شطرها (2) لكان حكمه في فعل القبيح حكم من ولى وزارته من لا يعلم شيئا منها، وكذلك القول في الكتابة، وليس تجري الولاية والاستكفاء مجرى التكليف، فإن تكليف الشئ من لا يعلم إذا كان له سبيل إلى علمه حسن وولايته واستكفاء أمره من لا يعلمه قبيح وإن كان المولى متمكنا من أن يعلم، وللفرق أيضا بين الأمرين مثال في الشاهد لأن أحدنا يحسن منه أن يكلف بعض غلمانه (3) أو أحد أولاده علم بعض الصناعات إذا كان متمكنا من الوصول إلى العلم بها، ولا يحسن منه أن يوليه صناعة ويجعله رئيسا فيها وقدوة وهو لا يحسنها، أو لا يحسن أكثرها.

____________

(1) خ " العلماء والحكماء ".

(2) شطر الشئ نصفه، والمراد هنا القيام ببعضها.

(3) خ " غلمانه وخدامه ".

الصفحة 17   

ومما يوضح ما ذكرناه أن اعتذار من عدل عن ولاية غيره أمرا من الأمور بأنه لا يعلمه ولا يحسنه واضح، واقع موقعه عند العقلاء، كما أن اعتذاره في العدول عنه بأنه لا يقدر على ما عدل فيه عنه أيضا صحيح واضح، فلولا أن ولاية الشئ من لا يعلمه قبيحة غير جائزة لم يحسن الاعتذار بأنه لا يحسن ولا يعلم كما لا يحسن الاعتذار بغير ذلك مما لا تأثير له في قبح الولاية كالهيئة والخلقة، وليس لأحد أن يقول إن الإمام إمام فيما علمه من الأحكام دون ما لم يعلمه، ويطعن بذلك فيما اعتمدناه لأن الإجماع يمنع من ذلك ولا خلاف في أن الإمام إمام في سائر الدين وإن اختلف في تأويل معنى الإمامة.

وإنما بنينا الكلام في الدلالة على وجوب كونه عالما بجميع الأحكام على كونه إماما في سائر الدين، ولو جاز أن يكون إماما في بعض من الدين دون بعض لم يجب عندنا أن يكون عالما بالبعض الذي ليس هو إماما فيه، ومما يدل أيضا على ذلك أن الإمام قد ثبت كونه حجة في الدين، وحافظا للشرع بما تقدم من الأدلة، فلو جوزنا ذهاب بعض الأحكام عنه لقدح ذلك في كونه حجة من وجهين.

أحدهما: إنا لا نأمن أن يكون ما ذهب عنه من أمر الدين ولم يكن عالما به مما اتفق للأمة كتمانه، والإعراض عن نقله وأدائه، لأنا قد دللنا فيما مضى من الكتاب على جواز ذلك عليها، وإذا كنا إنما نفزع فيما يجوز عليها من الكتمان إلى بيان الإمام واستدراكه عليها فمتى جوزنا على الإمام أن يذهب عنه بعض الأحكام ارتفعت ثقتنا بوصول جميع الشرع إلينا، وهذا قادح في كون الإمام حجة بلا شك.

والوجه الآخر: أن تجويز ذهاب بعض الدين عنه، وإشكال بعض

الصفحة 18   

الأحكام عليه منفر عن قبول قوله والانقياد له، وما ينفر عن قبول قوله قادح في كونه حجة، وليس لأحد أن يقول: إن تجويز ما ذكرتموه غير منفر فيجب أن تدلوا على كونه منفرا وما تنكرون على من قال لكم: إن الذي ذكرتموه لو كان منفرا لوجب أن لا يصح ممن جوزه على الإمام قبول قوله والانقياد له، وفي العلم بأن من جوز ما ذكرتموه يصح أن ينقاد له ويمتثل أمره دلالة على بطلان ما اعتبرتموه، لأنا لم نعن بالتنفير ما يمنع من قبول القول، ويرفع صحة الانقياد، وليس هذا مراد أحد من المحصلين (1) بذكر التنفير في المواضع التي يذكر فيها، والذي أردناه أن رعية الإمام لا يكونون عند تجويزهم عليه الجهل ببعض الدين وشطره في السكون إلى قوله والانقياد له، والانتهاء إلى أوامره. إذا لم يجوزوا ذلك عليه، واعتقدوا أنه عالم بجميع ما هو إمام فيه، فمن ادعى أنه لا فرق بين الحالين فيما يقتضي السكون والقرب من القبول كان مكابرا لعقله ومن ادعى أنهم في الحالين معا يصح منهم القبول والانقياد ولا ينكر وقوعهما من جهتهم كان محقا لأنه غير طاعن على كلامنا لأنا لم نرد بالتنفير دفع الإمكان والصحة، وإنما أردنا ما ذكرناه على أنه لو أخرج ما ذكرناه من أن يكون منفرا وقوع القبول ممن جوزه لأخرج تجويز الكبائر على الأنبياء قبل حال النبوة وفي حالها من أن يكون منفرا وقوع تصديقهم والعمل بشرائعهم ممن جوزها فإذا كان ذلك غير مخرج لتجويز الكبائر من حكم التنفير الذي هو أن المكلفين لا يكونون عنده من السكون إلى قول النبي على الحد الذي يكونون عليه إذا أمنوها ووثقوا ببرائته منها فكذلك القول فيما حكمنا به من حصول التنفير عمن جوز عليه الجهل بأكثر الدين لأنا لم نعن به إلا ما عناه من جعل تجويز الكبائر منفرا عن الأنبياء عليهم السلام، ويدل أيضا على

____________

(1) المراد بالمحصلين طلاب العلوم وهو مصطلح حادث.

الصفحة 19   

كون الإمام عالما بجميع الأحكام ما ثبت من وجوب الاقتداء به في جميع الدين، وليس يصح الاقتداء في الشئ بمن لا يعلمه، وليس للمخالف أن يقول: إنا نقتدي به فيما يعلمه دون ما لا يعلمه لأنا قد بينا من قبل أنه إمام في جميع الدين وأن ثبوت كونه إماما في جميعه يقتضي كونه مقتدى به في الكل، وإذا ثبت بما ذكرناه وجوب كونه عالما بكل الأحكام استحال اختياره، ووجب النص عليه، لأن من يقوم باختياره من الأمة لا يعلم جميع الأحكام، فكيف يصح أن يختار من هذه صفته؟

فأما حوالة صاحب الكتاب في أول ما حكيناه من كلامه في هذا الفصل على ما سلف له في إبطال كون الإمام معصوما، فما أحالنا عليه قد بينا بطلانه، واستقصينا الكلام عليه عند نصرتنا الأدلة في وجوب عصمة الإمام.

فأما قوله فيما حكاه عنا من الاستدلال: " وإلا أدى ذلك إلى أن يكون قد كلف القيام بما لا سبيل له إليه، ويحل محل تكليف ما لا يطاق " فإنا لا نعتمد على ما ظنه ولا نلزمه إياه أيضا بل الذي يؤدي إلى ذلك إليه من الفساد وفعل القبيح هو ما ذكرناه في صدر كلامنا هذا وأشبعناه.

وقد بينا أن العقلاء يستقبحون استكفاء الأمر من لا يعلمه وإن كان له إلى علمه سبيل، وليس إذا لم يقبح هذا الفعل من حيث كان تكليفا لما لا يطاق لا يجب قبحه، لأن جهات القبح كثيرة من جملتها تكليف ما لا يطاق، وقد يجوز أن يكون ما لم يقبح لهذا الوجه يقبح لغيره.

فأما قوله " أمن جهة العقل علمتم أن كونه عالما بجميع الأحكام من شرط كونه إماما أو بالسمع؟ ".

فقد بينا في الفصل المتقدم أن كون الإمام عالما بجميع الأحكام ليس

الصفحة 20   

من صفاته التي لا بد منها في العقل لأن العقل كان يجوز أن لا تقع العبادة بشئ من الشرائع فكيف يجعل من شروط كونه إماما في العقل ما يجوز في العقل ثبوته وانتفاؤه معا، وليس تجري هذه الصفة مجرى العصمة لأن تلك يجب كون الإمام عليها في العقل وقبل الشرع وبعده، غير أنا وإن لم نجعل كونه عالما بجميع الأحكام من الشروط العقلية في الإمامة، فإنا بعد العبادة بالشرائع، وثبوت كون الإمام إماما في جميع الدين نعلم بدليل العقل وقياسه أنه لا بد من أن يكون عالما بجميع الأحكام من الوجوه التي ذكرناها.

فإن أراد صاحب الكتاب بإضافة ذلك إلى العقل ما ذكرناه أولا فقد بينا إنا لا نجعل هذه الصفة من الشرائط العقلية الواجبة لتجويز العقل ارتفاع العبادة بالشرائع، وإن كان المراد ما ذكرناه ثانيا فليس يمنع من إضافته إلى العقل بمعنى إنا نعلم بالعقل وأدلته بعد استقرار الشرائع وجوب كون الإمام عالما بجميعها.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا كيف يصح أن يقوم بذلك والقيام بالعمل لا يصح إلا مع العلم؟

قيل لهم: بأن يستدل حالا بعد حال ويجتهد فيعرف ما ينزل من النوازل التي يلزمه الحكم فيها وبأن يرجع في كثير منها (1) إلى الرأي والاجتهاد كالجهاد وغيره، وقد يجوز أيضا أن يقوم بذلك على حقه بأن يراجع العلماء ويستشيرهم فيحكم بما ثبت عنده من أصح الأقاويل، وقد يجوز أيضا من جهة العقل أن يكلف القبول من العلماء، وأن يحكم بذلك كما يقول كثير من الناس في حكم الحاكم وكما نقوله [ فيما كلف به كثير من

____________

(1) غ " من ذلك ".

الصفحة 21   

الناس ] (1) في باب الفتوى، وقد يجوز أيضا أن يستدرك علم ما فوض إليه [ من الأحكام ] (2) بالرجوع إلى أخبار الآحاد أو إلى قول الأمة التي قد ثبت أنها حجة (3)، وقد يجوز أن يكلف فيما فوض إليه أن ما علمه يحكم فيه وما لم يعلمه يتوقف فيه لأن جميع الذي ذكرناه مما يجوز في العقل ورود التعبد (4) به.... " (5).

يقال له: هذا كلام من يظن إنا إنما قبحنا ولاية الإمام وهو لا يعلم جميع الأحكام من حيث لم يكن له إلى العلم بها سبيل، وقد بينا أن وجود السبيل في هذا الموضع كعدمها إذا كان العلم بما أسند إلى المولى مفقود أو أنه لا بد من قبح هذه الولاية مع فقد العلم، فلا حاجة بنا إلى الكلام على ما عددته من وجوه العلم التي يجوز أن يرجع الإمام إليها، لأنه لو ثبت في جميعها أنه طريق إلى العلم، وموصل إلى المعرفة بالأحكام لم يخل بما اعتمدناه فكيف وأكثر ما أوردته لا يوصل عندنا إلى علم بكنه (6) ولا إلى ظن صحيح.

وقد قدمنا الفرق بين التكليف والولاية، فليس لمتعلق أن يتعلق به.

ثم يقال له: فأجز قياسا على ما ذكرته أن يستكفي بعض حكماء ملوكنا أمر وزارته وتدبير مملكته، من لا يعلم شيئا من أحكام الوزارة

____________

(1) التكملة من " المغني ".

(2) ما بين المعقوفين من المغني.

(3) غ " قد ثبت بالدليل أنه حجة " فعليه يكون الضمير إلى " قول الأمة " وعلى ما في المتن الضمير إلى الأمة ".

(4) غ " التعبير به ".

(5) المغني 20 ق 1 / 105.

(6) كنه الشئ: نهايته، ومنه قولهم: أعرفه كنه المعرفة.

الصفحة 22   

وشروطها أو لا يعلم جلها وجمهورها (1) ويحسن ذلك منه من حيث كان الوزير متمكنا من أن يسأل عما يحتاج إليه أهل المعرفة ويستفيد منهم حالا بعد حال، ويعدل عن أن يوليها من يثق منه بالمعرفة والهداية (2) ولا يحتاج في العلم بشروط الوزارة وأحكامها إلى استزادة واستفادة مع أن أوصافهما وأحوالهما فيما يظن بهما متساوية إلا فيما ذكرناه فإن أجاز هذا وقف موقفا لا يشك جميع العقلاء في قبحه وطولب بالفرق بين ما أجازه وبين سائر ما يرجع في قبحه إلى العقلاء فإنه لا يجد فرقا وإن منع منه.

قيل له: وآي فرق هذا وبين ما أجزته في الإمام والعلة التي تطرقت إلى حسن ولايته مع فقده للعلم بالأحكام حاصلة فيما عارضناك به؟ وهي إمكان التعرف والتعلم.

فإن قال: ليس يشبه ما أجزته في الإمام ما عارضتم به، لأنني لم أجز أن يولى الإمامة من لا يعلم الأحكام، ويعدل بها عمن يعلمها، وإلزامكم تضمن هذا الوجه.

قيل له: لا بد من جواز ذلك على مذهبك لأنه ليس من شروط الإمامة عندك كونه (3) عالما بجميع الأحكام، كما أنه ليس من شروطها عندك أن يكون أفضل الأمة وأكثرهم ثوابا، وإذا لم يكن ما ذكرناه شرطا جاز أن يعدل عمن حصل فيه إلى غيره بعد أن يكون ذلك الغير ممن يتمكن من التعرف والتوصل لأن هذا هو الشرط عندك دون الأول.

فإن قال: إنما قبح من الملك أن يولي وزارته من لا يعلمها ويسند

____________

(1) أي جلها، ومنه جمهور الناس: أي جلهم.

(2) خ " والكفاية ".

(3) كون الإمام، خ ل.

 

 

 

الصفحة 23   

أمر كتابته إلى من لا يحسنها، وإن كان لهما إلى التعرف سبيل من حيث كان في ذلك ضرر عليه وتفويت لمنافعه لأنه لا بد أن يستضر بما يتأخر من تدبير أمر مملكته، ويتمادى من تنفيذ أموره، وليس هذا حكم الإمامة لأن الأحكام التي يتولاها الإمام لا ضرر على الله تعالى في تأخرها ولا على أحد، وإذا كانت العبادة بها في الأصل غير واجبة بالعقل فتأخرها أولى بأن يجوزه العقل.

قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، لأنه لو كان قبح هذه الولاية التي قدرناها يرجع إلى استضرار الملك، وفوت منافعه لوجب أن يحسن منه ولاية من ذكرنا حاله على بعض من لا يدخل عليه ضرر في تأخر أمر تدبيره، ولا يلحقه معه شئ من فوت منافعه، وليس هذا التقدير بمستبعد، لأنا نعلم أن رعايا الملك قد تختلف أحوالهم فيما يمس الملك من أمورهم فيكون فيهم من يستضر بتأخر أمر تدبيرهم وسياستهم، وفيهم من لا يكون هذا حكمه وإذا كان جميع العقلاء يستقبحون هذه الولاية وإن لم يعد منها ضرر على الملك كاستقباحهم الأولى (1) علمنا أنه لا معتبر بالضرر (وأنه ليس) (2) علة القبح (3) فقد علم المستكفي بما فوض إليه.

وبعد، فلو قبح ما ذكرناه في الشاهد لما يعود به من الضرر لوجب أن لا يستقبحه من العقلاء إلا من علم بحصول الضرر فيه على المولي، ولوجب أن يكون استقباحهم له من كثرة ما يعود به من الضرر عليه أكثر، ولومهم عليه أعظم حتى يكون الاستقباح تابعا للضرر يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، وكل هذا مما يعلم خلافه، على أنه لا فرق

____________

(1) وهي قبح توليه من يعود الضرر بولايته على المولي.

(2) التكملة لاستقامة المعنى.

(3) في الأصل " وأن علة القبح " ولا يستقيم المعنى إلا بحذف " وإن ".

الصفحة 24   

بين من جعل قبح استكفاء الأمر من لا يعلمه ولا يضطلع به راجعا إلى ما يعود به من الضرر وبين المجبرة إذا ادعت أن جميع القبائح كالظلم والكذب وتكليف ما لا يطاق إنما استقبحها العقلاء في الشاهد لما يلحق فاعلها من الضرر أما باستحقاق العقاب، أو باللوم والتهجين من العقلاء، وتطرقت بذلك إلى حسنها من فعل الله تعالى من حيث لم يجز عليه الاستضرار.

فأما قولك: " يجوز أن يكلف القبول من العلماء كما يقال في الفتوى، ويقوله كثير من الناس في حكم الحاكم " فإن العامي إنما يسوغ (1) في العقل أن يكلف القبول من غيره من حيث لم يكن متوليا للحكم فيما جهله ولا منصوبا للقضاء فيه، فجاز أن يرجع فيما لا يعلمه إلى غيره، لأن ذلك فرضه، وليس هذا حكم الإمام لأنه الحاكم في سائر الدين، والمنصوب للقضاء في جميعه، ولو كان (2) بمنزلة العامي في سقوط ولاية الحكم عنه لجاز أن يتساوى منزلتهما في التعبد بالرجوع إلى العلماء.

فأما الحاكم فليس يجوز أن يجهل شيئا مما نصب للحكم فيه ومن نصب حاكما لا معرفة عنده بالحكم كان سفيها وكل ما يجهله الحكام المتولون من قبل الإمام فهو خارج من ولايتهم، وموقوف على حكم الإمام أو حكم غيره ممن له معرفة به.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا لو جاز في الإمام ما ذكرتم لجاز في الرسول مثله.

قيل لهم: إنا نجيز من جهة العقل كثيرا مما ذكرناه بأن يتعبده الله

____________

(1) خ " إنما ساغ ".

(2) خ " ولو كان يجوز له ما يجوز للعامي ".

الصفحة 25   

تعالى في الأحكام بأن يجتهد أو بأن يحكم بما تقرر عنده في عقله أو بأن يتوقف في كثير من ذلك إلى ما شاكله وإنما نمنعه الآن لا لأن العقل (1) كان لا يجوز التعبد به بل لأن الدلالة في الشرع دلت على خلافه... " (2).

يقال له: إذا أجزت ذلك في الرسول كإجازتك إياه في الإمام كان الكلام في الأمرين عليك واحدا، وما ذكرنا من الأدلة المتقدمة يتناول الخلاف في الموضعين لأن الرسول إذا كان حاكما في سائر الدين، وإماما في جميعه وجب من كونه عالما بالأحكام ما أوجبناه في الإمام.

فأما قولك: " يحكم بما تقرر في عقله ويتوقف في مواضع "، فإن أردت أنه يفعل ذلك فيما لله تعالى فيه حكم مشروع نصبه للحكم به وجعله الإمام فيه، فهذا مما لا يجوز وهو الذي بينا فساده بكل الذي تقدم، وإن أردت أنه يتوقف أو يرجع إلى العقل فيما ليس فيه حكم مشروع نصب حاكما به وممضيا له بل العبادة فيه هي التوقف أو الرجوع إلى العقل فهذا مما لا نأباه لأنا إنما نوجب أن يعلم جميع الأحكام المشروعة التي جعل إماما فيها وحاكما بها مما لا حكم فيه، أو فيه حكم ليس من جملة الشرع الذي هو إمام فيه لأهله خارج عما أوجبناه والى معنى هذا الجواب نرجع إذا سئلنا عن سبب ما روي من توقف النبي صلى الله عليه وآله في بعض الأحكام كقصة المجادلة وما أشبهها لأن الذي يتوقف صلى الله عليه وآله فيه لم يكن له حكم في شرعه فيجب علمه به وفرضه فيه هو ما صنعه عليه السلام من التوقف وانتظار الوحي وليس هذا حكم ما أنكرناه

____________

(1) في الأصل " في العقل " وأصلحنا العبارة عن " المغني ".

(2) المغني 20 / 1 / 105.

الصفحة 26   

من فقد علم الإمام بالأحكام المشروعة المبينة (1) التي هو إمام فيها.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإنه يقال لهم: أيجب في حكمة العقل (2) أن لا يقع من الإمام الخطأ فيما يقوم به، فإن قالوا بذلك لزمهم أن يكون عالما بالأمور الباطنة مما يرفع إليه كما يكون عالما بالأحكام لأنهم إن لم يقولوا بذلك فلا بد من تجويزهم الغلط عليه ثم ذكر إقامة الحد على من يكذب عليه الشهود، وأخذ المال من زيد ودفعه (3) إلى عمرو وهو لا يستحقه.

قال: " وهذا يوجب عليهم أن يكون عالما بالغيب وسائر أحوال الناس، وعلى هذا الوجه ألزمهم شيوخنا أن يكون الإمام عارفا بالصنائع والحرف إلى غير ذلك مما يصح الترافع (4) فيه... " (5).

يقال له: كيف ظننت أن العلم ببواطن الأمور ومغيبها يجري مجرى ما أوجبناه من العلم بالأحكام أو ما علمت إنا إنما أوجبنا إحاطة الإمام بالأحكام من حيث كان لله تعالى حكم مشروع في الحوادث أوجب عليه إمضاءه، وجعله حاكما به وإماما فيه، فهل لله تعالى في باطن الحوادث حكم يخالف للظاهر شرعه، وواجب على الإمام العمل به؟ وكيف عددت من جملة الغلط في الحكم إقامة الحد على من لا يستحقه وأخذ المال ممن هو في الباطن برئ الذمة منه؟ وأي غلط في ذلك وهو حكم الله في

____________

(1) خ " التي هي إليه وهو ".

(2) غ " في حكم العقل ".

(3) غ " يدفع ".

(4) غ " مما يصح وقوع الشرائع فيه ".

(5) المغني 20 ق 1 / 105 و 106.

الصفحة 27   

هذه الحوادث الذي أوجب على الإمام إقامته وإمضاءه دون الباطن الذي لا عبادة على الإمام فيه؟

ثم يقال له: أليس جائزا عندك في العقل أن يكون لله تعالى حكم أو أحكام في الشريعة بينها ودل عليها لا يعلمها الإمام؟ فلا بد من بلى لأنه في تعاطي نصرة هذا المذهب.

فيقال له: فهل لله تعالى حكم في بواطن الحوادث تعبد الإمام به أو غيره؟ كأنه مثلا تعبد بمعرفة كون المشهود عليه مستحقا للحد على الحقيقة وأن الشهود صادقون في شهادتهم. فإذا قال: لا، قيل له: فكيف ألزمت من أوجب علم الإمام بالأحكام المشروعة أن يعلم ما لا شرع فيه ولا عبادة به وإنما كان يلزم كلامك على سبيل المناقضة أن لو كان الله تعالى قد تعبد في الباطن بعبادات وأحكام وأوجبت على الإمام العمل بها، وأجزنا عليه أن لا يعلمها (1) مما لم نجزه، والفرق بين ما أنكرناه وأجزناه واضح.

فإن قال: فأنا أقول أيضا: إن حكم الله تعالى فيما لا يعلمه الإمام وفرضه عليه هو الاجتهاد والاستدلال.

قيل له: ليس الاستدلال هو الحكم المتعبد بإمضائه بل الاستدلال هو الطريق إلى الحكم، والحكم في نفسه غير الطريق إليه، فإذا كان حكم الله تعالى في الحادثة التحريم أو التحليل، والإمام حاكم في جميع الدين فلا بد من أن يكون عالما بالحكم نفسه لا بالطريق إليه وإلا أدى إلى جواز ما ذكرناه مما يستقبحه العقلاء.

____________

(1) الضمير في " يعلمها " للإمام.

الصفحة 28   

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن كل ذلك يلزمهم في الأمراء فيقال لهم فيجب إذا كانوا يقومون بهذه الأمور أن يكونوا عالمين بكل الأحكام للوجه الذي ذكرتم، وأن لا يجوز أن يرد التعبد باختيار أمير وحاكم لا يكون بهذه الصفة، وبطلان ذلك يبين فساد ما تعلقوا به، فمن هذا الوجه ألزمهم شيوخنا في أمراء الإمام أن يكونوا عالمين بكل ما يعلمه الإمام... " (1).

يقال له: ليس أمراء الإمام وحكامه بولاة في جميع الدين، وليس إليهم الحكم في جميع ما يحكم فيه الإمام، ولو كانوا بهذه الصفة للزم فيهم ما أوجبناه في الإمام، وكيف يكونون حكاما في جميع الدين وقد يلزمهم في كثير من الحوادث والنوائب مطالعة الإمام والرجوع إلى حكمه فيها، ويكون محظورا عليهم الاستبداد بإمضائها دونه والذي يجب في الأمير والحاكم أن يكون كل واحد منهما عالما بما أسند إليه، وقصرت ولايته عليه، ولهذا ما يكون للإمام في البلد الواحد خلفاء جماعة فيكون بعضهم خليفة له على تدبير الجماعة والحرب وسد الثغور، وبعضهم على الخراج وجباية الأموال، وبعضهم على الأحكام والقضاء بين الناس، ويجوز أيضا أن يكون له على الأحكام الشرعية جماعة من الخلفاء يختص واحد بولاية الحكم في الجزء الذي يحسنه من الشريعة ويقوم به، وكل هذا مما لا يمكن أن يكون في الإمام مثله، لأن ولايته عامة غير خاصة، وهو إمام في الكل وحاكم في الجميع، فالذي يجب على قياس قولنا في الإمام أن يكون الأمير أو الحاكم عالما بما تولاه وفوض إليه، وهكذا نقول على أن الأمراء لو وجب فيهم العلم بسائر الأحكام مثل الإمام لم يستحل حصول ولايتهم بالاختيار، ولم يجب النص عليهم على الحد الذي ذكرناه في الإمام لأنا إنما

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 106.

الصفحة 29   

أحلنا اختيار الإمام مع كونه عالما بكل الأحكام من جهة أن المتولي لاختياره من الأمة لا يعلم جميع الأحكام، فلا يصح منهم اختيار من هذه صفته، والإمام يعلم سائر الأحكام فيجوز أن يختار من يعلمها، ويفرق بين العالم بها وبين من ليس بعالم بالامتحان، لأنه عالم بها وبوجهة المحنة فيها.

وأكثر ما يمكن أن يقال هاهنا إن اختيار من يعلم كل الأحكام يطول ويتمادى ولا يضبط لاتساع الأحكام وتفرعها، ويمكن من ينصر هذه الطريقة أن يقول إن الأحكام وإن كثرت فقد ثبت بالدليل أن لله تعالى في كل شئ منها حكما مبينا إما بنص مجمل أو مفصل وقد يجوز أن يحيط بذلك عالم واحد، وكما يجوز أن يحيط به فيجوز أن يمتحن فيه بالمسألة عن جملة جملة وإن كانت مشتملة على فروع كثيرة وأحكام في أعيان لا تحصى، فإن ذلك لا يبعد على العالم بما يمتحن فيه لا سيما إذا كان معصوما موفقا وإن بعد على غيره، على أن المحنة لو تطاولت وتمادى زمانها واستبعدت لهذا الوجه لم يخل بما أردناه بالكلام، لأن غرضنا بيان أن الوجه الذي منه يستحيل اختيار الإمام ويجب النص عليه غير حاصل في الأمراء ليبطل بذلك قولك صاحب الكتاب: " فيجب أن يكون الأمراء عالمين بكل الأحكام وأن لا يجوز أن يرد التعبد باختيار أمير وحاكم للوجه الذي ذكرتم "، وما ذكرناه أولا أقوى وأولى بأن يعتمده.

قال صاحب الكتاب: " ويلزمهم على هذا الوجه أن يكون الإمام أفضل حالا في العلم من الرسول لأنه لا شك أنه عليه السلام لم يكن يعرف كل الأحكام بل كان الوحي ينزل عليه حالا بعد حال وأنه لم يكن يعرف بواطن الأمور فقد ثبت عنه عليه السلام أنه كان يحكم بالظاهر ويتولى الله تعالى السرائر وأنه يقضي بنحو ما يسمع وأنه إذا قضى بشئ لواحد لم يحل له أن يأخذه إذا علم خلافه إلى غير ذلك مما روى عنه في

الصفحة 30   

هذا الباب، وكل قول يؤدي إلى أن الإمام أعلى رتبة من الرسول وجب فساده... " (1).

فيقال له: كيف يلزم أن يزيد الإمام في العلم على الرسول والإمام مستمد من الرسول، وما حصل له علمه من أحكام الدين فعنه أخذه، ومن جهته استفاده؟

فأما معرفة الرسول بالشئ إذا نزل به الوحي بعد أن لم يكن عارفا به فلان ذلك قبل نزول الوحي لم يكن من شرعه ولا من جملة ما هو إمام فيه على ما تقدم في كلامنا، غير أنه بعد تكامل الشرع ونزول الوحي بجميع الأحكام لا يجوز أن يكون غير عارف ببعضها، وكما أن الرسول قبل تكامل الشرع لم يكن عنده العلم بسائر الأحكام كذلك الإمام قبل حال إمامته لم يكن عالما بالأحكام، وإنما يجب في النبي والإمام معا العلم بما كانا إمامين فيه، ومتعبدين بالحكم به، فما لم يكن مشروعا خارج عن هذا وكذلك الأحوال التي تتقدم حال الإمامة.

فأما العلم بالبواطن فمما لا يجب في النبي صلى الله عليه وآله ولا في الإمام على ما قدمناه. وقد فرقنا بينه وبين العلم بأحكام الحوادث الظاهرة بما لا يخفى على متأمل.

قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: إنما جاز في الرسول أن يعلم ذلك حالا بعد حال لأمر يرجع إلى تمكنه من الوحي وتوقعه له، وليس كذلك حال الإمام لأن الوحي عنه منقطع فلا بد من أن يكون في ابتداء أمره مستغرقا للعلوم (وأن يكون أول أمره كأمر الرسول) (2)، قيل لهم:

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 106.

(2) التكملة بين المعقوفين من المغني.

الصفحة 31   

فما الذي يمنع في الإمام أن يرجع في الأحكام التي تعرض (1) حالا بعد حال إلى ما ذكرناه من تعرف الأخبار، أو إلى قول الأمة، أو إلى طريقة الاجتهاد، لأن كل ذلك مما يجوز التعبد به عقلا فسبيلها سبيل انتظار الوحي فجوزوا ذلك، بل جوزوا أن يلزمه الرجوع فيما لا يعلم إلى طريقة العقل، أو يلزمه التوقف عند الشبهة،... " (2).

يقال له: ليس نرتضي السؤال الذي حكيته، ولا نسألك عن مثله، فقد تقدم القول في النبي صلى الله عليه وآله، والسبيل الذي من أجله جاز أن يتوقف في بعض الأحكام، وبينا أنه بعد تكامل شرعه لا يصح أن يذهب عنه العلم بشئ من الأحكام، كما لا يصح ذلك في الإمام إذا استقرت إمامته، ولم يمنع من أن يكون الإمام غير عارف ببعض الأحكام من جهة أنه إذا لم يعلمها لم يكن له سبيل إلى علمها، بل من حيث دللنا على أنه لا يحسن أن يكون واليا للحكم في جميع الدين وهو لا يعلم بعضه، وضربنا له الأمثال الواضحة فلو ثبت في جميع ما ذكرته أنه طريق للعلم (3) ووصله إلينا لم يخل بصحة كلامنا.

وقولك: " جوزوا أن يلزمه الرجوع فيما لا يعلمه إلى طريقة العلم، أو يلزمه التوقف " فقد مضى تقسيمنا له، وأنك إن أردت به رجوعه إلى العقل، أو توقفه فيما لله تعالى فيه حكم مشروع يلزمه القيام به من حيث كان إماما فيه، وحاكما به ليس هو التوقف، ولا الرجوع إلى العقل، فذلك غير جائز لما تقدم، وإن أردت بما ألزمته من التوقف أو الرجوع إلى العقل أن يستعملهما الإمام فيما لا حكم لله تعالى فيه، ولا

____________

(1) غ " تعترض ".

(2) المغني 20 ق 1 / 107.

(3) إلى العلم، خ ل.

الصفحة 32   

فرض على الإمام سوى التوقف أو الرجوع إلى العقل فقد أجبناك إلى جواز ذلك، وبينا أنه خارج عما أنكرناه.

قال صاحب الكتاب: " لأنه إذا جاز (1) عندكم أن يكون الإمام قائما في الزمان، ويصير ممنوعا من إقامة الحدود والأحكام، وسائر ما فوض إليه فما الذي يمنع مع تمكنه من أن يتوقف في بعض ذلك، وإنما نذكر هذه الأمور من جهة العقل فليس لأحد أن يعترض علينا بورود السمع بخلافه، (2)... ".

يقال له: بين ولاية الإمام وهو لا يعرف الأحكام التي تولاها، وجعل حاكما بها، وبين ولايته وهو عالم بها، مع تجويز أن يمنع من إمضائها، ويحال بينه وبين إقامتها فرق واضح لا يذهب على المتأمل، لأن ولايته مع الجهل بما تولاه تلحق بموليه غاية الذم لما دللنا عليه من قبل، وليس هذا حكم ولايته مع معرفته بما أسند إليه، واضطلاعه به، وإن منع من تنفيذ الأحكام وإقامتها، لأن الذم في هذه الحال راجع على المانع للإمام مما تعبده الله تعالى بإقامته، ولا لوم على موليه وجاعله إماما، والمثال الذي ضربناه فيما تقدم يفرق - أيضا - بين الأمرين، لا يقبح من الحكيم من الملوك أن يرد أمر وزارته إلى من يثق منه بالمعرفة والغناء (3) وإن جوز أن يحول بعض رعاياه بين وزيره وبين كثير من تدبيره وتصرفه، ويقبح منه أن يوليه وهو لا يعلم أحكام الوزارة ولا يحسنها (4).

قال صاحب الكتاب: " ويقال لهم: أليس قد ثبت عنه عليه

____________

(1) غ " إذا كان "..

(2) المغني 20 ق 1 / 107.

(3) الغناء - بالفتح والمد - النفع.

(4) ولا يحسن منها شيئا، خ ل.

الصفحة 33   

السلام وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنهما وليا من أخطأ وزل عن الطريق؟ فلا بد من الاقرار بذلك لتواتر الخبر به،... فيقال لهم: فإذا جاز ذلك ولا يوجب فسادا فما الذي يمنع من أن لا يكون الإمام عالما بالأحكام، ويجتهد فيما يتولاه؟ لأنه إذا جاز أن يجتهد فيمن (1) يوليه، ويجوز عليه (2) الغلط فيه جاز أن يجتهد فيما يتولاه، وإن جاز ذلك مع الغلط ولو منع العقل من أحدهما لوجب أن يمنع من الآخر،... " (3).

يقال له: أما خطأ من تولى من قبل الرسول صلى الله عليه وآله، ومن قبل الإمام بعده فظاهر في الرواية، ولو لم يكن أيضا ثابتا بالرواية لكنا نجوزه، ولا نمنع منه، غير أنه لم يثبت أن خطأهم كان عن جهل بما تولوه، بل جائز أن يكونوا تعمدوا ما فعلوه من الخطأ، وذلك هو الصحيح المقطوع عليه عندنا، لأن الإمام لا يجوز أن يولي الأمر من لا يعرفه، ويعلم أحكامه، وإن جاز أن يوليه فتعمد الخطأ فيه.

وقولك: " فما الذي يمنع من أن لا يكون الإمام عالما بالأحكام " فالمانع مما ألزمته قد تقدم وتكرر، وخطأ الولاة من قبله تعمدا (4) جائز لما بيناه من قبل من أن عصمتهم غير واجبة.

وقولك: " لأنه إذا جاز أن يجتهد فيمن يوليه، ويجوز الغلط فيه جاز أن يجتهد فيما يتولاه وإن جاز الغلط " (5) مبني على ظنك أن الإمام

____________

(1) غ " فيما ".

(2) " الغلط " و " عليه " ساقطتان من المغني.

(3) المغني 20 ق 1 / 107.

(4) " تعمدا " حال من الولاة.

(5) لا يخفى أن المرتضى اختصر كلمة القاضي كما هو عادته أحيانا عندما يستعرض كلام القاضي بعد إيراده جملة.

الصفحة 34   

اجتهد فظن أن الذي ولاه عالم بما أسنده إليه، ولم يكن كذلك لوقوع الخطأ منه، وأن الغلط جرى عليه في ذلك، وهذا ظن بعيد لا يرجع إلى حجة ولا إلى شبهة لأنا قد بينا أن الذين أخطأوا من الولاة كانوا عالمين، وإنما تعمدوا الخطأ ولم يتم على الإمام غلط في أمرهم، فليس يجب ما ألزمتنا عليه من جواز الغلط على الإمام في اجتهاده فيما يتولاه، على أن إلزامك مباين في الظاهر لتقديرك لأنه ليس يجب إذا ولى الإمام من وقع منه الخطأ أن يكون هو نفسه غير عالم بالأحكام، وإنما يجب أن يتبع هذا الالزام ذلك التقدير إذا ثبت أن الذين وقع منهم الخطأ من ولاته لم يتعمدوا الخطأ، بل كان منهم عن جهل، أو ارتفاع علم، ولم نرك قررت (1) ذلك، ولو قررته لما أجبناك إليه، ولطالبناك بتصحيح دعواك فيه.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: أليس قد ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يرجع في تعرف الأحكام إلى غيره نحو ما ثبت عنه في المذي (2) ونحو ما ثبت عنه من رجوعه في موالي صفية (3) عند

____________

(1) قدرت خ ل.

(2) مسألة المذي مروية في كتب الحديث مثل صحيح البخاري 1 / 71 في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، وصحيح مسلم 1 / 247 في كتاب الحيض، وفي غير الصحيحين أيضا وإجمالها: أن عليا عليه السلام قال: كنت رجلا مذاء، فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم - وفي مسلم، أنه المقداد بن الأسود - لمكان ابنته فسأله فقال (توضأ واغسل ذكرك) والمرتضى وأن وجه المسألة على وجه الفرض ولكن هذا محال لأن معنى " مذاء " أن تلك الحالة كانت تعاوده مرة بعد أخرى فكيف يجهل أمير المؤمنين حكما يتعلق بالطهارة التي هي شطر الإيمان وكيف كان يعمل في الأيام التي سبقت اليوم الذي أرسل فيه المقداد؟ وكيف أهمل السؤال عن مسألة تتعلق بالصلاة، مضافا إلى أن المعروف من فقه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أن المذي إذا عرف لا يلزم غسله، ولا يجب له الوضوء، وقد روى الشيخ قريبا من هذه الرواية في الاستبصار 1 / 92 بعدة وجوه وكان جوابه صلى الله عليه وآله: (ليس بشئ).

(3) يعني صفية بنت عبد المطلب، وذلك أنها أعتقت عبيدا لها فمات العبيد ولم يخلفوا فطلب الزبير ميراثهم لأن أمه أعتقتهم فولاؤهم لها وهو وارثها، وطلب علي عليه السلام ميراثهم لأن المعتق إذا كان امرأة فولاء مولاها لعصبتها مطلقا، وهذا الرأي منقول عن علي عليه السلام في كتب الفريقين يقول ابن رشد في بداية المجتهد باب الولاء: " وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي إذا ماتت امرأة ولها ولاء وولد وعصبة لمن ينتقل الولاء؟ فقالت طائفة لعصبتها لأنهم الذين يعقلون عنها، ولا ولاء للولد، وهو قول علي بن أبي طالب، وقال قوم لابنها وهو قول عمر بن الخطاب، وعليه فقهاء الأمصار ".

الصفحة 35   

اختصامه مع الزبير - وقوله: نحن نعقلهم ونرثهم، وقول الزبير: أنا أرثهم - إلى عمر، لأنه قال (1): إن النبي صلى الله عليه وآله قال: " إن الميراث للابن والعقل (2) على العصبة " وثبت عنه أنه كان يرجع في السنن التي لم يسمعها إلى خبر غيره نحو قوله: " كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به ما شاء، وإذا حدثني عنه غيره أستحلفه فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر (3)، فكيف يقال مع

____________

(1) أي الزبير.

(2) العقل - بفتحتين -: مصدر عقل يعقل وبابه ضرب، والعاقلة: هم العصبة - بفتحتين أيضا، وعصبة الرجل أولياؤه الذكور، هذا لغة، أما في اصطلاح الفقهاء، هم الذين ليس لهم سهم مقدر في الميراث، والتعصيب صحيح عند فقهاء السنة، وعرفوا العصبة بأقرب ذكر لا تتوسط بينه وبين الميت أنثى فخرج بذلك الخال، والأخ لأم، لأنهما يدليان للميت بأنثى، ولهم أدلة على ذلك تطلب من مظانها، واجمع فقهاء الإمامية على بطلان التعصيب، وقالوا لا يستحق الميراث في موضع من المواضع، وإنما يورث بالفرض المسمى أو القربى أو الأسباب التي يورث بها من زوجية أو ولاء، واستثنوا من ذلك إذا كان المعتق امرأة فولاء مولاها لعصبتها دون ولدها سواء كانوا ذكورا وإناثا عملا برواية موالي صفية وروايات أخرى مضافا إلى أدلة أخرى تطلب من مظانها في كتبهم.

(3) رواه الترمذي 2 / 167.

الصفحة 36   

ذلك: أن الإمام يجب أن يكون عالما بجميع الأحكام، والإمام الأول (1) الذي هو أعلاهم رتبة حاله ما ذكرنا، وثبت عنه عليه السلام أنه كان يجتهد فيرجع من رأي إلى رأي وكل ذلك يبطل تعلقهم بما ذكروه، (2)... ".

يقال له: قد جمعت بين أشياء ما كنا نظن أن مثلك يجعلها شبهة في هذا الموضع.

أما خبر المذي ورجوع أمير المؤمنين عليه السلام في الحكم إلى مراسلة النبي صلى الله عليه وآله بالمقداد على ما ثبتت به الرواية، فلا شبهة في أنه ليس بقادح فيما ذهبنا إليه من كونه عالما بجميع الأحكام، لأنا لا نوجب ذلك في الإمام من لدن خلقه وكمال عقله، وإنما نوجبه في الحال التي يكون فيها إماما، وسؤال أمير المؤمنين عليه السلام في المذي إنما كان في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الحال لم يكن إماما فيجب أن يكون محيطا بجميع الأحكام، ولا فرق بين حكم المذي الذي لم يعرفه ثم عرفه، وبين غيره من الأحكام التي استفادها من جهة النبي صلى الله عليه وآله وعلمها بعد أن لم يكن عالما بها فالاقتصار على ذكر المذي وحكم سائر الدين حكمه ليس له معنى.

فأما القول في موالي صفية فأكثر ما وردت به الرواية أنه نازع الزبير في ميراثهم واختصما إلى عمر في استحقاق الميراث فقضى بينهما بما هو مذكور، والاختصام في الشئ لا يدل على فقد علم المخاصم، وكذلك

____________

(1) يعني بالإمام الأول عليا عليه السلام ويريد أول الأئمة الاثني عشر عليهم السلام.

(2) المغني 20 ق 1 / 108.

الصفحة 37   

الترافع إلى الحكام لا يدل أيضا على ارتفاع العلم بحكم ما وقع الترافع فيه، وقد تخاصم الحكام وترافع إلى حكمهم من هو أعلم منهم بالحكم، وليس يدل أيضا قضاء عمر بينهما بما قضى به على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن محقا فيما ادعاه، ولا يدل صبره تحت القضية (1) وإظهاره الرضا بها على الرجوع عن اعتقاده الأول لأنه لا شبهة في أن أحدنا يلتزم من حكم الحاكم عليه ما لا يعتقده، ولا يدين الله بصحته، ولم يرجع أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمر على سبيل الاستفادة والتعلم، بل على طريقة الحكومة فمن أين يظن أنه صلوات الله عليه لم يكن عالما بالحكم في تلك الحال الحادثة؟ والظاهر من مذهبه عليه السلام أن عصبة المرأة المعتقة من قبل أبيها أحق بالولاء والميراث من ولدها ذكورا أو إناثا، وقد روي أنه مذهب عثمان (2) أيضا.

فأما ما رواه من الخبر في الاستحلاف فأبعد من أن يكون شبهة فيما نحن فيه مما تقدم لأن استحلافه لمن يخبره عن النبي صلى الله عليه وآله بالأخبار في الأحكام لا يدل على أنه غير عالم بها، بل جائز أن يكون سبب استحلافه ليعلم عليه السلام وليغلب على ظنه أن الخبر صادق عن النبي صلى الله عليه وآله فيما رواه، وإن كان الحكم بعينه مستقرا عنده، وقد يمكن الشك في الخبر المروي وصدق رواية مع العلم بصحة الحكم الذي تضمنه الخبر، لأن الحكم وإن كان على ما تضمنه الخبر فجائز أن يكون المخبر لم يسمع ذلك الحكم من النبي صلى الله عليه وآله وليس المعرفة

____________

(1) خ " القضاء ".

(2) لم أعثر على رأي عثمان في المسألة مع التتبع، ولكن ذكر أن هذا رأي أبان بن عثمان، ولا جرم أن المرتضى أدرى بما نقل أو لعل " أبان بن " سقطت وانظر المغني لابن قدامة 6 / 372، والمحلى لابن حزم 9 / 300.

الصفحة 38   

بالحكم تابعة لتصديق الراوي في الخبر على أنه ليس في الخبر تاريخ وبيان الوقت الذي كان يستحلف عليه السلام المخبرين فيه، وإذا لم يكن فيه بيان الوقت أمكن أن يكون استحلافه إنما وقع في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام على ما تقدم، وليس بمنكر أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله في حياته لأن ذلك متعارف بين الصحابة وغير مستنكر.

وليس لأحد أن يقول: إذا كان عليه السلام عالما بالحكم فأي فائدة في أن يعلم أو يغلب على ظنه صدق الراوي وهو إذا صدق لم يزده معرفة؟

لأنه وإن لم يزده معرفة بنفس الحكم، وأنه من دين الرسول فإنه يعرف أو يغلب في ظنه أن الرسول صلى الله عليه وآله نص عليه في مقام لم يكن يعلم بنصه عليه السلام فيه ويجري ذلك مجرى تكرار الأدلة وتأكدها، لأنه غير ممتنع أن ننظر في دليل بعد تقدم العلم لنا بمدلوله من جهة دلالة أخرى، وأن ننظر في الخبر هل هو صحيح أو فاسد وإن تقدم لنا العلم بمخبره من جهة أخرى.

فأما التعلق بقوله: " وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر " ففي غير الوجه الذي كلامنا الآن فيه فيمكن أن يقال فيه إن تصديقه له من حيث سمع ما سمعه على الوجه الذي سمعه عليه، وليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يحدثه بما قد اشتركا في سماعه؟ لأن ذلك جائز بأن يكون أبو بكر نسي مشاركته له في السماع أو لم يكن عالما في الأصل بسماعه عليه السلام له جملة فقد يمكن أن يسمع الحاضرون في مجلس واحد خبرا ولا يكون كل واحد عالما بمشاركة الآخر له في سماعه، إما بأن يكون بعيدا منه، أو في غير جهة مقابلة له أو لغير ما ذكرناه من الأسباب، وهي

الصفحة 39   

كثيرة، على أن هذا الخبر الذي حكاه عندنا باطل لا يرجع في نقله إلا إلى آحاد متهمين في الرواية والاعتقاد، ومذهبنا في أخبار الآحاد إذا كانوا من ذوي الثقة والعدالة معروف، فكيف إذا لم يكونوا بهذه الصفة وبمثل هذا الخبر لا يعترض على ما هو معلوم بالأدلة وإنما لم نقدم ما عندنا في بطلان الخبر وسقوطه وبدأنا بتأويله وتخريجه على ما يصح لأن طريق دفعه معلوم وإلا ظهر في إقامة الحجة، وحسم الشبهة ما فعلناه من التأويل الذي أوضحناه أن الخبر لو كان صحيحا لم يكن منافيا لمذهبنا.

فأما ما ادعاه على أمير المؤمنين عليه السلام من الاجتهاد والرجوع من رأي إلى رأي فقد تقدم فساده فيما مضى من الكلام وبينا أن الذي تعلق به عليه السلام من توهم رجوعه عن رأي إلى رأي لا يقتضي ما توهمه فلا حاجة بنا إلى إعادته (1).

قال صاحب الكتاب: " ولا فرق بين من قال إن من جهة العقل يجب في الإمام أن يكون عالما بكل الأحكام وبين من قال: إنه يجب من جهة العقل في كل من يقوم بأمر يتصل بمصالح الدين والدنيا ذاك حتى يقوله في الأمراء والعمال والأوصياء والوكلاء (2) على أنه إذا جاز أن يرد التعبد برجوع العامي إلى العالم في الفتوى مع تجويز الغلط عليه (3) فما الذي يمنع مثله في الإمام والحاكم وإنما نمنع نحن الآن من ذلك سمعا لأن العقل كان يمنع منه... " (4).

يقال له: أما القول في الأمير والحاكم فقد مضى وأما الأوصياء

____________

(1) أنظر ج 1 ص 144 من هذا الكتاب.

(2) غ " والوكلاء وغيرهم ".

(3) أي على العالم.

(4) المغني 20 ق 1 / 108.

 

 

 

الصفحة 40   

والوكلاء فيجرون عندنا مجرى الأمراء والحكام في أنهم يجب أن يكونوا عالمين بما فوض إليهم ومضطلعين به وأي عاقل يخفى عليه أن أحدنا متى أراد أن يوكل وكيلا يسند إليه تدبير ضيعته وأمواله فإنه لا يختار إلا من يثق منه بالكفاية وحسن البصيرة والاضطلاع، فإنه متى استكفى أمر وكالته من لا معرفة عنده بها أو بأكثرها، ومن يحتاج إلى أن يتعرفها ويتعلمها كان سفيها مهملا لأمواله معرضا لها للضياع والتلف، فأما العامي ورجوعه إلى العالم في الفتوى فإنما ساغ من حيث لم يكن العامي متوليا للحكم فيما استفتى فيه ولا له رئاسة وإمامة في شئ منه، وليس هذه حالة الإمام لأنه المنصوب للحكم في جميع الدين، فلا بد من أن يكون عالما به، وهذا أيضا مما قد مضى على أنا لم نمنع في الإمام من الرجوع إلى العلماء في الأحكام لأجل جواز الغلط عليهم، وإنما منعناه لما تقدم ذكرنا له، فلا معنى للاعتراض علينا بأن العامي يرجع إلى العالم في الفتوى مع جواز الغلط عليه.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: إذا نصب للقيام بهذه الأمور كلها فيجب في الحكيم (1) أن ينصبه على أقوى الوجوه وأقربها إلى أن لا يغلط ويقوم بذلك على حقه، وذلك لا يكون إلا مع العلم بالأحكام كلها.

قيل لهم: فلا يكون ذلك إلا مع العلم ببواطن الأحكام، وبأحوال من يحكم له وعليه وبأحوال الشهود... " (2).

____________

(1) قال المعلق على " المغني " لعلها " العقل " مع أن الأمر واضح لا يحتاج إلى التعليل، فإن القاضي يحكي عن الإمامية: أن الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى ينصب الإمام على أقوى الوجوه الخ، وكم لهذا المعلق من أمثالها، سنتعرض لبعضها إذا اقتضى المقام.

(2) المغني 20 ق 1 / 108.

الصفحة 41   

يقال له: لسنا نرتضي ما حكيته عنا من السؤال ولا نعتل بما تضمنه من الاعتلال وعلتنا قد تقدمت، ومضى أيضا فرقنا بين العلم بالظاهر وبين العلم بالباطن، وبينا أن الإمام إذا جهل بعض الأحكام المدلول عليها المتعبد بإقامتها فلا بد من أن يكون غالطا، وليس كذلك إذا لم يعلم بواطن الأمور، ومغيب الشهود، فبطل قولك في جواب السؤال " ولا يكون ذلك إلا مع العلم ببواطن الأحكام ومع العلم بأحوال من يحكم له وعليه ".

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، وربما قالوا: من حق الإمام أن يكون أفضل من في الزمان وذلك لا يستدرك إلا بالنص عليه (1) لأنه لا يعلم أنه أفضل إلا بأن يعلم سلامة طاعته (2) وثوابها وأنه أكثر (3) ثوابا من غيره ولا مدخل للاجتهاد في ذلك، فيجب أن يكون الإمام منصوصا عليه من جهة العقل، فإن أوجبوه سمعا فللكلام عليهم موضع سوى هذا الفصل، فإن قالوا: إنه من جهة العقل، قيل لهم فأي دليل في العقل يقتضي ما ذكرتموه.... " (4).

يقال له: الذي يدل على أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته في الثواب والعلوم وسائر ضروب الفضل المتعلقة بالدين، الداخلة تحت ما كان رئيسا فيه ما نعلمه وكل العقلاء من قبح جعل المفضول في شئ بعينه إماما ورئيسا للفاضل فيه ألا ترى أنه لا يحسن منا أن نعقد لمن كان لا يحسن من الكتابة إلا ما يحسنه المبتدئ المتعلم رياسة في الكتابة على من

____________

(1) " عليه " ساقطة من " المغني ".

(2) غ " طاعاته ".

(3) غ " أكبر ".

(4) المغني 20 ق 1 / 109 وفيه " بأي دليل في العقل يقتضي ما أوجبوه عقلا؟ ".

الصفحة 42   

هو في الحذق بها والقيام بحدودها بمنزلة ابن مقلة (1) حتى نجعله حاكما عليه فيها، وإماما له في جميعها وكذلك لا يحسن أن نقدم رئيسا في الفقه وهو لا يقوم من علوم الفقه إلا بما يتضمنه بعض المختصرات على من هو في الفقه بمنزلة أبي حنيفة (2) وهذه الجملة ليس مما يدخل على أحد فيها (3) شبهة وإن جاز أن تدخل في ضروب من تفصيلها وإلحاق غيرها بها، وما نعلم عاقلا يتمكن من دفع العلم بقبح تقديم من ذكرناه في الكتابة، ومن وصفنا حاله في الفقه، وإذا كان ما ادعيناه معلوما متقررا في العقول ولم نجد بقبحه علة إلا كون المرؤوس أفضل من الرئيس في الشئ الذي كان رئيسا فيه بدلالة ارتفاع القبح عند ارتفاع العلة بأن يكون المقدم هو الفاضل والمؤخر هو المفضول، وثبوته عند ثبوتها وجب قبح كل ولاية كان المتولي لها أنقص منزلة في الشئ الذي تولاه من المتولى عليه، وإذا ثبت أن الإمام لنا في جميع الدين وعلومه وأحكامه وجب أن يكون أفضل منا في جميع ذلك وفي ثبوت كونه أفضل وأكثر ثوابا وجوب النص عليه لأن ذلك مما لا طريق إلى معرفته بالاختيار.

____________

(1) ابن مقلة هو محمد بن علي بن الحسين بن مقلة ولد ببغداد سنة (272) وكان من الشعراء الأدباء واشتهر بحسن الخط حتى ضرب به المثل وهو أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى الخط المألوف اليوم ولي جباية الخراج في بعض أعمال فارس ثم استوزره المقتدر والقاهر والراضي، وتخلل ذلك عزل ونفي واختفاء وسجن، وكان إذا عاد إلى الوزارة يقول للناس: عودوا فقد عادت الدنيا إلينا، وأخيرا اتهمه الراضي بممالاة الخوارج فقطع يده اليمنى ثم بانت براءته فعاد إلى الوزارة فكان يشد القلم على ساعده فيكتب بها وأخيرا غضب عليه فقطع لسانه بعد أن سجنه فمات سنة 328،.

(2) هو النعمان بن ثابت إمام المذهب المشهور توفي سنة 150 وذكره له هنا من باب الالزام.

(3) في الأصل " فيه ".

الصفحة 43   

فإن قال قائل: ليس يجئ مما ذكرتموه لو سلم كون الإمام أكثر ثوابا من رعيته، وأكثر ما يجب إذا كان إماما لهم في العبادات أن يكون أفضل منهم فيها، بمعنى أنه أحسن ظاهرا وأفضل حالا فيما يظهر من طاعاته وعباداته، وكون تلك العبادات مما يستحق عليه أكثر من ثوابنا أو مما عليه ثواب في الجملة ليس بمعلوم ولا دليل عليه، فمن أين لكم أن الإمام يجب أن يكون أكثر ثوابا من رعيته؟

قيل له: إذا وجب بما ذكرناه أن يكون الإمام أفضل من رعيته في العبادات التي كان إماما لهم فيها، وأن يكون ظاهرة أفضل من ظاهرهم وجب أن يكون أكثرهم ثوابا لأنه لا يخرج عن أن يكون أكثرهم ثوابا مع فضل طاعاته وعباداته وكثرتها إلا لأن باطنه يخالف ظاهره، والدلالة على عصمته تمنع من ذلك، فإذا وجب بدليل عصمته أن يكون ظاهره كباطنه، وكان أفضل ظاهرا في العبادات من رعيته وجب أن يكون أكثرهم ثوابا.

فإن قال: إذا كنتم ترجعون في العلم بأن الإمام أكثر ثوابا من رعيته إلى عصمته وكان هذا العلم الذي هو علم بأنه أكثر ثوابا لا يثبت إلا بعد ثبوت العصمة والعصمة إن ثبتت دلت بنفسها على وجوب النص فأي حاجة بكم إلى الاستدلال بكون الإمام أكثر ثوابا على وجوب النص، وذلك لا يعلم إلا بعد العلم بما يقتضي وجوب النص وهو العصمة؟ وهذا يوجب أن الطريقة الصحيحة هي طريقة العصمة، وأن طريقة الفضل وكثرة الثواب لا فائدة فيها.

قيل له: هذه الطريقة وإن كانت مبنية على دليل العصمة، فقد يمكن أن يعلم بها المستدل في الأصل وجوب النص لأنه إذا علم أن الإمام

الصفحة 44   

لا بد أن يكون أفضل من رعيته في العبادات والطاعات، وأنه لا بد أن يكون سليم الباطن بدليل عصمته، علم أنه أكثر ثوابا وهو إذا علم أن الإمام لا بد أن يكون معصوما فليس بواجب أن يعلم أن العصمة لا يمكن المعرفة بها من طريق الاختيار، وأنه لا بد فيها من النص لأن هذا مما لا يعلم إلا بنظر مستأنف، وضرب من الاستدلال مفرد فليس يمتنع أن يعلمه معصوما وأكثر ثوابا ثم ينظر في كونه أكثر ثوابا، وهل هو مما يصح أن يعرف بالاستنباط أم لا يعرف إلا بالنص؟ فإذا عرف أنه مما لا يعلم إلا بالنص خلص له بهذا الطريق العلم بوجوب النص وإن كان لا يعلم أن كثرة الثواب لا تعلم بالاختيار وأنها لا تعلم إلا بالنص إلا بما يعلم به أن العصمة بهذه المنزلة، وهذا لا يخرجه من أن يكون في الأصل إنما علم وجوب النص بطريقة كثرة الثواب وبعد حصول العلم هو مخير بين أن يستدل على المخالف في وجوب النص بطريقة كثرة الثواب وبين أن يستدل بطريقة العصمة لاشتراكهما في امتناع دخول الاستنباط فيهما، وإن كان الاستدلال بالعصمة مع تقدم العلم الذي ذكرناه أخص وأولى لأنه يزيح في الاعتماد عليها رتبة من الكلام ثانية يحتاج في تصحيحها إلى ضرب من الكلفة، ولهذا الموضع مثال في الأصول صحيح وهو أنا نستدل على وجود الفاعل القديم جلت قدرته تارة بكونه قادرا، وتارة بكونه عالما لأن الطريقتين جميعا تشتركان فيما يقتضي كونه موجودا، ونحن نعلم أنا لا نعلمه عالما إلا بعد أن نعلمه قادرا، ومنزلة كونه عالما في الرتبة تالية لكونه قادرا، وليس يصح أن يقدح في الاستدلال على وجوده بكونه عالما بأن يقال إذا كنتم لا تعلمونه عالما إلا بعد أن تعلموه) قادرا وكان كونه قادرا يدل بنفسه على وجوده فلا فائدة من الاستدلال بكونه عالما لأن الذي يبطل به هذا القدح هو ما ذكرناه في جواب السؤال أو قريب منه.

الصفحة 45   

فإن قال: فيجب على ما أصلتموه أن يكون الأمراء والحكام والقضاة وجميع خلفاء الإمام منصوصا عليهم بمثل طريقتكم، لأنهم إذا كانوا رؤساء في كثير من أمور الدين، وأن لم يكونوا رؤساء في جميعه على حسب ما تدعونه وتفرقون به بينهم وبين الأئمة فيجب أن يكونوا أكثر ثوابا من رعاياهم، ويجب النص عليهم لذلك.

قيل له: الذي يجب فيمن ذكرت من الأمراء والحكام أن يكونوا أفضل من رعيتهم فيما كانوا رؤساء فيه، وما كانوا رؤساء فيه من جملة الدين فلا بد أن يكونوا أفضل ظاهرا من رعيتهم فيه، وكثرة الثواب ليس يدل على (1) الفضل في الظاهر، وإذا كانت عصمتهم غير واجبة بما تقدم في كلامنا لم يجب أن يكونوا أكثر ثوابا لأن ذلك إنما وجب في الأئمة من حيث علم أن بواطنهم كظواهرهم، والاستناد إلى العصمة التي لا تجب في الأمراء.

فإن قال: فكيف السبيل للإمام الذي يختار الأمراء والحكام إلي أن يعلم أنهم أفضل من رعاياهم في ظاهر العبادات، وفي العلم بسائر ما كانوا رؤساء فيه، فإنه متى لم يثبتوا أن للأئمة إلى العلم بذلك سبيلا يتوصل إليه بالاختيار وجب النص فيهم كوجوبه في الأئمة.

قيل: لا شبهة في أن الأفضل في الظاهر فيما يتعلق بالعبادات يمكن العلم به من غير نص وارد من جهة الله تعالى على عينه لأنا نعلم من أحدنا أنه أفضل أهل بلده (2) عبادة وأحسنهم ظاهرا وأظهرهم زهدا حتى أنا

____________

(1) في الأصل " عليه ".

(2) زمانه، خ ل.

الصفحة 46   

نشير إليه بعينه، ونميزه من غيره، وإنما المستحيل أن يعلم باطنه واستحقاقه للثواب على أفعاله، فأما ما يرجع إلى الظاهر فلا شك في أنه معلوم لمن هو أدون مرتبة في المعرفة من الإمام.

فأما الأفضل في العلوم وما يجري مجراها فجار مجرى ما ذكرناه في أنه معلوم أيضا بالاستنباط والاختيار لأنا نعلم حال من هو أفضل أهل بلدنا في العلم بالفقه والنحو واللغة، وما جرى مجرى ما ذكرناه من العلوم، وربما اتضح ذلك حتى لا يشكل على أحد، وربما التبس، وفي الجملة فحال المتقدمين في ضروب الفضل والعلوم معروفة عند من خالطهم وجاورهم وتميزهم ممن لا يدانيهم في فضلهم وعلومهم ظاهر، وربما عرفنا أيضا من طريق الخبر حال الأفضل في فن من العلم وإن نأى بلده عن بلدنا حتى لا نشك في فضله وتميزه من غيره، وتقدمه لأهل بلده، وإذا كان طريق المعرفة بذوي الفضل على هذا الحد من الوضوح فأي حاجة بالإمام في اختيار الأمراء والحكام إلى نص من قبل الله تعالى وهو المعصوم الموفق في كل ما يأتي ويذر؟

فإن قال: إذا أوجبتم الإمامة لمن كان أفضل في الشئ الذي كان إماما فيه من رعيته وضربتم لإبطال ما خالف ذلك الأمثال التي تقدمت فهذا دخول في مذهب من قال في الإمامة بالاستحقاق الذي أنكرتموه.

قيل له: أما الإمامة إذا أريد بها التكليف وإلزام الإمام القيام بالأمور التي يقوم بها الأئمة فليست مستحقة لأن المشاق والكلف (1) لا يجوز أن تكون ثوابا ولا جارية مجرى الثواب، والقول في الإمامة على هذا الوجه كالقول في الرسالة وأنها غير مستحقة وإن أشير بالإمامة إلى الحال

____________

(1) الكلف جمع كلفة: وهو ما يتكلفه الانسان من نائبة.

الصفحة 47   

التي يحصل عليها الإمام بعد ثبوت رئاسته وإمامته وتكلفه بالقيام بما أسند إليه، والى ما يجب له من التعظيم والتبجيل فذلك مستحق، ولا بد أن يكون أفضل فيه من رعيته لما ذكرناه والإمامة من هذا الوجه تجري مجرى النبوة إذا أشير بها إلى ما يستحقه النبي صلى الله عليه وآله من الرفعة والتبجيل في أن ذلك لا يكون إلا مستحقا، وهذه الطريقة التي سلكناها في الدلالة على أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته أقوى ما يعتمد في هذا الباب، وإن كان لأصحابنا رضوان الله عليهم طرق معروفة إلا أن جميعها معترض، وأكثرها يلزم عليه أن يكون الأمراء وجميع خلفاء الإمام أفضل من رعيتهم على الحد الذي يوجبونه في الإمام، ولولا أن كتابنا هذا موضوع للنقض على المخالف دون الاعتراض على الموافق لأوردنا جملا من الطرق المسلوكة فيما ذكرناه، وأشرنا إلى جهة الاعتراض عليها.

ولعلنا أن نفرد للكلام في أن الإمام يجب أن يكون أكثر ثوابا من رعيته موضعا نستوفيه أن شاء الله تعالى، فلنا في تلخيص الدلالة على هذا الموضع نظر، ويمكن أن يعتمد في الاستدلال على أن الإمام أكثر ثوابا من رعيته على أن يقال: قد ثبت أن الإمام حجة في الشرع بالأدلة المتقدمة، ومن كان حجة فيما يجب قبوله منه، والانتهاء إلى أمره فيه، فالواجب أن يجتنب كل ما يكون معه المكلفون من القبول منه انفر، ويكون على الأحوال التي يكونون عندها إليه أسكن.

وقد علمنا أن المكلفين لا يكونون إذا جوزوا في إمامهم أن يكون كل واحد منهم أكثر ثوابا عند الله منه، وأعلى رتبة وأرفع منزلة فيما يرجع إلى السكون والنفور على ما يكونون عليه إذا لم يجوزوا ذلك، وقطعوا على أنه أكثرهم ثوابا وأولاهم بكل تعظيم وتبجيل، وليس نعني بالتنفر ها هنا

الصفحة 48   

ما يمنع من قبول القول ولا يصح معه امتثال الأمر فيعترض علينا بمن امتثل وانقاد مع تجويزه في الإمام أن يكون أنقص ثوابا، والذي أردناه أن حالهم في السكون والقرب إلى قبول القول لا يكون كحالهم إذا لم يجوزا ذلك، وأكثر ما يجب فيما يقضى عليه بالتنفير أن يكون له حكم الصارف، وليس يمنع أن يقع الفعل مع ثبوت بعض الصوارف إذا غلبت الدواعي وقويت، ولا يخرج مع هذا الصارف عن حكمه، وقد مثل ما ذكرناه بما هو معلوم من أن قطوب (1) من استدعى قوما إلى دعوته وعبوسه لهما حكم الصارف عن حضور دعوته كما أن للبشر حكم الداعي، ومع هذا فلا يمتنع أن يقع الحضور ممن دعي مع ثبوت ما قررناه من العبوس، ولا يخرج بوقوع الحضور عنده من أن يكون له حكم الصارف، وليس لأحد أن يقول إن هذه الطريقة التي استأنفتموها ليست مبنية على مجرد العقل لأنكم عولتم فيها على كون الإمام حجة في الشرائع، والعقل يجوز ارتفاع التعبد بجميعها، وكلامنا معكم إنما هو فيما يقتضي من طريق العقل كون الإمام أكثر ثوابا، لأن الأمر وإن كان على ما قاله من بناء دلالتنا على العبادة بالشرائع وتجويزنا في الأصل أن لا تقع العبادة بها فلم نضع الدلالة إلا في موضعها لأن قصدنا بها كان إلى أن العقل يدل بعد العبادة بالشرائع على أن الإمام لا يكون إلا الأفضل بالاعتبار الذي ذكرناه من غير رجوع في أنه أفضل، مع أنه مؤد للشرع إلى السمع، فصار كلامنا بهذا الاعتبار متناولا لخلاف جميع من فارق مذهبنا ممن قال بإمامة الفاضل والمفضول معا، لأن من قال إمامة المفضول لا شبهة في تناول الكلام له، ومن قال بأن الإمام لا يكون إلا الأفضل إنما رجع في قوله إلي الإجماع، وفعل

____________

(1) قطوب - كجلوس - يقال: قطب بين عينيه أي جمع بينهما فهو قاطب وقطوب أي عابس، وهي من باب ضرب وجلس.

الصفحة 49   

الصحابة وما جرى مجرى ذلك، ولم يذهب قط إلى أن فيما يقوم به الإمام يقتضي كونه أفضل، فتناول كلامنا له من هذا الوجه، وصاحب الكتاب حيث قسم في الفصل الذي حكيناه عنه الكلام، وهل ترد خصومة الدلالة على كون الإمام أفضل إلى السمع والعقل لم يعن إلا ما بيناه من السمع من الرجوع إلى الإجماع وفعل الصحابة.

ولو قيل لنا مع هذه الجملة التي أوضحناها: ما الدليل على أن من شروط الإمامة وصفات الإمام العقلية التي يدل العقل على أن الإمام لا ينفك منها كونه أفضل بمعنى أنه أكثر ثوابا؟ لم نعتمد هذه الطريقة.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: لأنه يحل محل الرسول فإذا وجب فيه أن يكون هو الأفضل، وكذلك القول في الإمام. قيل لهم، ومن أين ذلك واجب في الرسول عقلا فتقيسوا (1) عليه الإمام؟ ومن قولنا إن الرسول يجوز أن يكون مفضولا أو أن يكون مساويا لغيره في الفضل وإنما يرجع إلى السمع في أنه يكون أفضل بعد أن يصير رسولا، ولولا السمع كنا نجوز أن لا يكون هو الأفضل وأن يكون في أمته من يساويه في ذلك فيجب أن يكون هذا حال الإمام من جهة العقل أيضا... " (2).

يقال له: قد ذكرنا الطريقة المعتمدة في كون الإمام أفضل من رعيته وهي متناولة للرسول أيضا، ودالة على وجوب كونه أفضل من أمته في جميع ما كان إماما لهم فيه، ولا حاجة بنا إلى حمل الإمام على الرسول مع كون الدلالة على وجوب الفضل يجمعهما وإن كنت قد ارتكبت في كلامك هذا ما كان يحيد عنه سلفك، ويمتنعون من إطلاقه، لأنهم كانوا إذا

____________

(1) غ " لتقيسوا ".

(2) المغني 20 ق 1 / 109.

الصفحة 50   

ألزمهم أصحابنا رضوان الله عليهم تجويز كون الرسول مفضولا قياسا على الإمام تعاطوا الفرق بينهما، وسلكوا في ذلك طرقا مشهورة، وما علمنا أحدا منهم يقبل الالزام وسوى بين الرسول والإمام، ولم نذكر هذا ونبثه على سبيل الاقتصار عليه في الحجة، بل حجتنا هي المتقدمة، وإنما أردنا أن نبين مفارقة هذا القول المذكور لما كان يظهر من مذهب سلف خصومنا.

قال صاحب الكتاب: " وبعد فلو ثبت في الرسول ما قالوه لم يجب في الإمام لأن الذي أوجب (1) ذلك فيه كونه (هو) (2) حجة فيما يؤديه فلا بد من أن يكون منزلته في الفضل عالية حتى لا يقع النفور عن القبول (3) عنه * ويقع السكون إلى ذلك وليس كذلك حال الإمام فلماذا سويتم بينه وبين الرسول، بل ما أنكرتم أن يكون بالأمير أشبه لأنه إنما يقوم بالأحكام التي يقوم بها الأمير والعامل والحاكم * (4)... " (5).

يقال له: بأمثال هذا الفرق الذي ذكرته كان يفرق شيوخك بين الإمام والرسول، وقد بينا كون الإمام حجة فيما يؤديه من الشرائع وأنه إذا كان مؤديا لها وجب أن يكون أفضل من رعيته ليقع السكون إلى قبول قوله، ويرتفع النفور وأن حاله في باب الأداء مفارقة لحال جميع خلفائه وإن كانت علتك في الرسول صحيحة ففي الإمام مثلها، هذا إذا عملنا

____________

(1) " ذلك " ساقطة من المغني.

(2) التكملة من المغني.

(3) غ " منه ".

(4) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " وكم في المغني من سقط لو رجع محققوه إلى " الشافي " لتلافوه.

(5) المغني 20 ق 1 / 110.

الصفحة 51   

على نصرة كلام من حمل الإمام على الرسول في باب الفضل فإننا إذا لم نفعل ذلك فالدلالة التي ذكرناها أولا تتناول الأمرين وتغني عن تكلف غيرها.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: إذا لم يجز عندكم على الأمة المعصية والخطأ فيما اتفقت عليه لأنها تؤدي عن الرسول وتقوم بحفظ الشرع فالإمام بذلك أولى لأنه يقوم بما كان يقوم به هو عليه السلام. قيل لهم: إنا لم نعلم صحة الإجماع عقلا فيكون لك بذلك التعلق، بل لا يمتنع من جهة العقل أن يتفقوا على خطأ، وإنما رجعنا في ذلك إلى السمع فقل بمثله في الإمام... " (1).

يقال له: من طريف الأمور وبديعها تجويزك على الأمة مع أنها مؤدية للشرع وحافظة له الاتفاق على الخطأ، واعتذارك بأن ذلك يجوز عليها عقلا لا سمعا وكيف يمكن أن تكون الأمة مؤدية عن الرسول، وحافظة لشرعه وهي بهذه الصفة. التي أجزتها عليها؟ أم كيف يجوز أن يكل الله تعالى إليها أداء الشرع مع جواز تضييعه وإهماله منها؟ وأي فرق بين ما أجزته وبين أن يكل الله تعالى في الأصل الأداء عنه جل اسمه إلى من يجوز عليه ما جاز على الأمة؟ وأي علة يمكن أن تذكر في عصمة النبي لأجل كونه مؤديا للشرع إلينا لا يمكن أن تنقل إلى الأمة إذا كانت مؤدية للشرع؟ وهل مستقبل هذا الأمر إلا كمستدبره؟ وليس يخفى ما في هذا الكلام من الفساد ولا يجري الحوالة في الأمان من خطأ الأمة مع كونها مؤدية للشرع على السمع مجرى الحوالة المتقدمة على السمع في كون الرسول عليه السلام أفضل من أمته، لأن الأول مما يجوز أن يخفى ما يلزم

____________

(1) كذلك.

الصفحة 52   

عليه ويشتبه والثاني لا شبهة فيما يلزم عليه من تجويز مثل ما جاز على الأمة على الأنبياء عليهم السلام، وهذا الموضع من كلامك يدل على أنك لم تعن بالرجوع إلى السمع إلا ما فسرناه فيما سلف من كلامنا من الرجوع إلى الإجماع أو ما يجري مجراه من الأمور السمعية ولم ترد بذكر السمع الرجوع إليه فيما يقوم به الإمام ويتولاه، لأنك لو أردت ذلك لقلت في جواب السؤال: إن كون الإمام مؤديا عن الرسول وقائما بما كان يقوم به ليس بمعلوم عقلا عندكم، والعقل يجوز على مذهبكم وجود إمام (1) غير مؤد لشرع، ولا ناقل عن رسول، وكلامنا إنما هو في العقل فلما لم تقل ذلك علمنا أن مرادك بالسمع ما فسرناه وصح احتجاجنا عليك بالطريقة التي تعلقنا فيها بكون الإمام حجة في الشرائع، ومؤديا لها لأنها غير مبنية على السمع الذي عينته ومنعت من الرجوع إليه.

قال صاحب الكتاب: " * قد ثبت من جهة السمع أنه عليه السلام قد ولى عمرو بن العاص وخالد بن الوليد (2) على أبي بكر وعمر وغيرهما من الفضلاء فما الذي يمنع مثله في الإمام *.. (3).

يقال له: قد تقدم في كلامنا أن ولاية المفضول على الفاضل في غير ما كان الفاضل فاضلا فيه لا يمتنع، ولو ثبت أن أبا بكر وعمر كانا أفضل من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في حال ولايتهما عليهما في الدين وكثرة الثواب لم يمنع ذلك من أن يوليا عليهما في إمرة الحرب وسياسة الجيش، فليس بمنكر أن يكون عمرو وخالد أفضل منهما فيما ذكرناه، بل

____________

(1) في الأصل " الإمام " والتصحيح من المخطوطة.

(2) أنظر سيرة ابن هشام 4 / 200 - 201 وشرح نهج البلاغة 6 / 320.

(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

الصفحة 53   

هذا هو الظاهر من أحوالهما فإن شجاعة خالد وتقدمه في معرفة الحروب وتدبيرها مما لا إشكال فيه، ودهاء عمرو ولطف حيلته وخفاء مكيدته أيضا معروف.

وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا الكلام بأن قال: ليس ينكر أن يكون عمرو وخالد في تلك الحال التي وليا فيها على أبي بكر وعمر أفضل منهما فيما يرجع إلى الدين، وليس يمنع من هذا جواب صحيح، وإن كان الأول أقوى في النفس وأبعد من الشغب.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم (1) وربما سلكوا قريبا من هذه الطريقة فيقولون: لا يجوز في العقل أن يجعل الإمام ممن يجوز أن يكون كافرا منافقا جاهلا بالله تعالى ملحدا زنديقا إلى غير ذلك ومتى جوزتم أن يكون اختياره إلى الأمة وهم لا يعلمون باطنه أدى إلى ما ذكرناه فلا بد في إثباته من نص من قبل من يعرف الباطن " قال: " وهذا كالأول في أنه غير واجب من جهة العقل كما لا يجب مثلة في الأمراء والعمال والحكام، وإنما نقول في الرسول أنه مأمون الباطن لكونه حجة فيما يؤديه عن الله تعالى على ما بيناه في باب النبوات... " (2).

يقال له: هذا الاستدلال الذي حكيته عنا هو الاستدلال بالعصمة بعينه، وإنما غيرت الآن العبارة والمعنى واحد لأن الذي يؤمن من كون الإمام في باطنه على الصفات التي ذكرتها هو العصمة، فمتى ثبت فلا بد من أن يكون مأمونا منه جميع ما ذكرته، وإنما تجوز هذه الأمور عليه مع

____________

(1) هذه الشبهة ساقطة من المغني أيضا.

(2) باب النبوات في الجزء الخامس عشر من المغني حيث يشتمل هذا الجزء على النبؤات والمعجزات.

الصفحة 54   

فقد العصمة وقد مضى الكلام في دليل العصمة مستقصى فأما الفرق بين الإمام والأمراء والحكام في سلامة البواطن فقد مضى أيضا حيث فرقنا بينهم في وجوب العصمة.

فأما اعتصامك في سلامة باطن الرسول صلى الله عليه وآله بكونه حجة فيما يؤديه فغير نافع، ولا واقع موقعه، لأنه لا يمتنع أن تثبت سلامة باطن الرسول بكونه حجة فيما يؤديه وتثبت سلامة باطن الإمام بغير هذه العلة، وإنما يصح كلامك لو ثبت مع أن العلة في سلامة باطن الرسول ما ذكرته أن لا علة تقتضي سلامة باطن أحد غيرها، ولم تورد كلامك مورد الانفصال، أو على سبيل الفرق بين الرسول والإمام لأنك لم تلزم ها هنا حمل الإمام على الرسول بل أوردته على سبيل الطعن في قول من ادعى أن الإمام لا بد أن يكون سليم الباطن، وليس بطعن في هذا المذهب ذكرك علة عصمة الرسول لأنه ليس بمنكر أن تكون علتك صحيحة، ومذهب من اعتقد أن الإمام لا بد من أن يكون سليم الباطن صحيحا لعلة أخرى.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فلو وجب أن يقطع على ذلك لكان إنما يجب لأمر يرجع إلى الأمور التي يقوم بها لكي لا يخطئ فيها ولا يغلط، وقد بينا أن ذلك غير واجب وأنه إن أخطأ في ذلك لم يوجب فسادا ولأن ذلك لو وجب وجب مثله في الأمير وقد بينا أنه لا يمكنهم التعلق بأنه أوسع عملا بأن يكون الإمام مقهورا مغلوبا دونه... " (1).

يقال له: ليس الأمر كما توهمت من أن سلامة باطن الإمام لو

____________

(1) هذا الايراد ساقط من المغني.

الصفحة 55   

وجبت لكانت إنما تجب لكيلا يخطئ في الأمور التي يقوم بها، بل الذي له وجبت سلامة باطنه كونه معصوما وإنما وجب كونه معصوما لبعض ما تقدم من الأدلة.

فأما الفرق بين الأمير والإمام بسعة العمل فمما لا نعتمده ولا نرتضيه، على أنك قد ظننت في سعة العمل خلاف المراد بهذه اللفظة لأن المراد بالعمل وسعته وضيقه الأماكن التي لصاحب العمل أن يتصرف فيها أو يدبر أهلها، وليس بمنكر أن يحول بين صاحب العمل وعمله حوائل تقطعه عن التصرف، ولا يخرج بذلك العمل من أن يكون عملا له، فالإمام وإن جاز أن يحول بعض الظالمين بينه وبين كثير من أعماله ويقطعوه عن تدبير أهلها وسياستهم، فليس يخرج فعلهم تلك الأعمال من أن تكون أعمالا له من حيث كان له التصرف فيها وتدبير أهلها.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: إن جوزنا عليه الغلط لم يصح أن تلزم طاعته والتأسي به، لأن طاعة العاصي تكون خطأ، وكذلك التأسي بالعاصي.

قيل لهم: أوليس كان عليه السلام إذا أمر أميرا يوجب طاعته والتأسي به أفيجب من ذلك القطع على باطنه؟ وادعاء كونه فاضلا لا يجوز أن يغير ويبدل فلا بد من القول بأن ذلك غير واجب فيلزمهم مثله في الإمام وقد بينا أن طاعته فيما يعلم قبحه لا تجب وأنه بمنزلة الإمام في الصلاة وقد بينا أن وجوب التأسي به لا يمتنع وإن كان عاصيا (1)... ".

يقال له: قد مضى الفرق بين الإمام وخلفائه من الأمراء والعمال والحكام في معنى الاقتداء والتأسي وبينا أن الذي يجب للأئمة من الاقتداء

____________

(1) وهذا الايراد ساقط من المغني أيضا.

الصفحة 56   

المخصوص لا يجب لأحد من رعيتهم، فليس يلزم ما أوردته من عصمتهم قياسا على عصمة الأئمة فأما التأسي بالعاصي مع كون المتأسي مطيعا أو غير عاص فإنه غير صحيح، لأن التأسي لا يصح إلا مع وقوع فعل المتأسي على الوجه الذي وقع عليه فعل المتأسى به، وإذا كان لا بد من اعتبار وجوه الأفعال لم يصح أن يكون المطيع متأسيا بالعاصي وما لا نزال نقوله من نصر هذا المذهب من أن المصطحبين في طريق واحد يكون أحدهما متأسيا بصاحبه في سلوكه وإن كان أحدهما ذاهبا إلى البيعة (1) والآخر متوجها في طاعة أو مباح، وقولهم: إن زيدا قد يتأسى بعمرو وكان أحدهما آكلا من حل والآخر آكلا من حرام غير صحيح، لأن المعتبر في التأسي إذا كان بالوجوه التي يقع عليها الأفعال لم يكن الآكل من حل متأسيا بآكل الحرام، ولا الساعي في طاعة متأسيا بالساعي إلى البيعة، ولو كان ما ذكره صحيحا لوجب أن يكون كل فعل وافق ظاهره فعل آخر واقعا من فاعله على جهة التأسي بالفاعل الآخر، وهذا يوجب أن يكون الآخذ من غيره ما لا على جهة الغصب أو القرض متأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله متى أخذ مثل مبلغ ذلك المال منه على جهة الزكاة أو العشر لأن المعتبر عند من نحن في الرد عليه إنما هو بظاهر الفعل، وقد اتفق ظاهر الفعلين اللذين ذكرناهما في باب أخذ المال فيجب أن يثبت فيه معنى التأسي، وهذا مما لا شبهة في بطلانه قال صاحب الكتاب بعد أن ذكر طريقتين في وجوب النص إحداهما تعود إلى معنى بعض ما تقدم وأحال في الكلام عليها على ما مضى من كلامه والأخرى متعلقة بالاختيار والكلام في صفة المختارين وعددهم،

____________

(1) البيعة - بكسر الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح العين المهملة -:

كنيسة النصارى وجمعها بيع. وفي المخطوطة " إلى البغي، خ ل ".

 

 

 

الصفحة 57   

وآخر الكلام فيها إلى باب الكلام في الاختيار: " * شبهة أخرى لهم، قالوا: إن الإمامة من أركان الدين فإذا لم يجز في أركان الدين أن يثبت إلا بنص كالصلاة والزكاة والصيام وما شاكلها وجب مثله في الإمام، وربما قووا ذلك بأن وجه الصلاح فيه يعم الكل كما أن التعبد بالصلاة يعمهم * (1) ".

قال: " واعلم أنه كان لا يمتنع عندنا في الصلاة والزكاة والصيام أن يكون طريق التعبد بها الاجتهاد، وإنما نمنع (2) الآن ذلك لأن السمع بذلك ورد فيجب مثله في الإمام، لأن كلامنا في مجوز العقل لا في واجب السمع (والثابت فيه) (3)... ".

يقال له: هذه الطريقة التي حكيتها ليس يصح الاعتماد عليها إلا بعد أن تبين علة الجمع بين الإمامة وما ذكرته من الأركان وإذا حققت العلة الجامعة بين الأمرين لم يكن بد من الرجوع إلى ذكر بعض ما تقدم من صفات الإمام.

إما كونه معصوما أو فاضلا أو ما يجري مجرى ذلك مما لا مجال فيه للاجتهاد لأن العلة التي من أجلها أحلنا ثبوت الأركان المذكورة بالاجتهاد هي قيام الدليل على أن جهة وجوبها ما يعود بها علينا من الصلاح في فعل الواجبات العقلية، والامتناع من المقبحات، وأن اختيار ما هذه صفته من جملة الأفعال لا سبيل إليه فإذا حملنا اختيار الإمام في الفساد على اختيار هذه العبادات احتجنا إلى أن نبين في الإمام صفة لا يكون فيها الاجتهاد،

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(2) غ " يمتنع " وكذلك في حاشية المخطوطة.

(3) المغني 20 ق 1 / 110. والتكملة بين المعقوفين منه.

الصفحة 58   

وصفاته التي هذه سبيلها قد تقدم الكلام فيها.

فأما قولك في الصلاة والصيام: (أن الاجتهاد فيهما لا يمتنع أن يجب عقلا) فهذا انما هو بنيته على مذهبك في جواز الاجتهاد وصحته وقد تقدم طرف مما يبطل ذلك، ومن ارتكب في الصلاة وما أشبهها ما ارتكبه صار الكلام عليه في الإمامة وهذه الأركان واحدا، وبطل أن يحمل أحد الأمرين على الآخر وآل الأمر معه إلى الموافقة على أن الصلاة والإمامة تختصان بصفتين لا مجال للاجتهاد فيهما.

قال صاحب الكتاب: " وبعد فإن الصلاة إنما وقع النص منه عليه السلام على صفتها، ولذلك يجوز في كل صلاة معينة أن تكون واقعة على وجه الغلط ولا يجوز ذلك في الصفة والشرط فكأنه عليه السلام بين صفتها وشروطها (1) ثم ألزم المكلف اختيارها على الوجه الذي يحصل معه إصابة صفتها وشروطها، وكذلك نقول في الإمام لأنه لا يمتنع منه عليه السلام أن يبين صفته وشروطه ثم يلزم المكلف على وجه يصيب الصفة والشرط، فإن كانت الصفة والشرط حاصلين في جماعة اختير الواحد منهم كما أن صفة الصلاة وشروطها إذا صحتا في أفعال فهو مخير فيها فقد بان بما قدمناه أنا لو جعلنا الصلاة أصلا لما نقوله في الإمامة لكانت (2) أقرب مما ذكروه (3)... ".

يقال له: إنما جاز ما ذكرته في الصلاة من حيث أمكن المكلف أن يصيب صفتها وشروطها ويميز صحيحها من فاسدها من جملة أفعاله، والإمام لا يمكن مثل ذلك فيه، لأن من صفاته ما لا يمكن أن يستدرك

____________

(1) غ " وشرطها ".

(2) غ " لكان ".

(3) المغني 20 ق 1 / 110.

الصفحة 59   

بالاجتهاد والاختيار، ولا سبيل للمكلف في تميزه، ولو كانت جميع صفات الإمام كصفات الصلاة في إمكان إصابتها من جهة الاختيار لجوزنا اختيار الإمام على الوجه الذي قررته في اختيار الصلاة ومدار الكلام على هذا الوضع فإن أمكن الخصوم أن يبينوا أنه لا صفة للإمام إلا وللمكلفين سبيل إلى إصابتها وتمييز المختص بها فقد صح مذهبهم في جواز الاختيار، وبطل مذهبنا في وجوب النص والتشاغل بعد أن يثبت لهم ما ذكرنا بغيره لا معنى له، فإنه إذا لا ينفعنا بعد ثبوت هذا الموضع لهم شئ في باب وجوب النص ولا يضرهم، وإن لم يثبت لهم هذا وكان الثابت ما نذهب إليه من اختصاص الإمام بصفات لا سبيل إلى العلم بها إلا من جهة النص، فقد وجب النص وبطل الاختيار وصار كل ما يتكلفه الخصوم بعد صحة ما ذكرناه لا ينفعهم في إبطال وجوب النص ولا يضرنا في إثباته، على أن الصلاة لا يمكن فيها إلا النص على الصفة دون العين لأنها فعل المكلف، ولها أمثال في مقدوره فلا يتميز له صحيحها من فاسدها إلا بالصفة والشرط، والإمام يمكن النص على عينه على وجه يتميز به من غيره فليس يجب أن يكون حكم الإمام حكم الصلاة، بل الواجب أن تكون الصلاة مشبهة للانقياد للإمام والاقتداء به في هذا الوجه، من حيث رجع كل ذلك إلى أفعالنا فكما نجيز في الصلاة النص على صفتها وشروطها، ونجعل اختيار ما له تلك الصفة إلى المكلف فكذلك نجيز أن ينص للمكلف على صفة ما يلزمه من الانقياد للإمام والاقتداء به، ويفوض اختيار ماله تلك الصفة إلى اجتهاده.

فإن قيل: النص في الإمام وإن أمكن على سبيل التعيين، ولم يمكن في الصلاة فما المانع من جواز النص على صفة الإمام دون عينه كما جاز في الصلاة وإن أمكن في الإمام النص على العين ولم يمكن في الصلاة؟.

الصفحة 60   

إنما أردنا بما ذكرناه أن نبين اختلاف حكم الصلاة والإمام في هذا الباب وأن الذي أوجب النص على الصفة دون العين في الصلاة غير حاصل في الإمام، والذي يمنع من أن يكون في الإمام ما جوزناه في الصلاة وإن كان ممكنا خلافه في الإمام ما تقدم ذكره من اختصاص الإمام بصفات وشروط لا تتميز للمكلف ولا سبيل له إليها بالاجتهاد على أن الذي ذكرته يقتضي دخول الاختيار في جميع العبادات والأحكام على التأويل الذي تأولته لأنه لا شئ من العبادات إلا وحكمه حكم الصلاة في تناول النص لصفته دون عينه، وتفويض اختيار ما له تلك الصفة إلى اجتهاد المكلف، وهذا يؤدي إلى بطلان قول جميع المتكلمين والفقهاء:

إن العبادات الشرعية تنقسم قسمين منصوص عليه، وآخر موكول إلى الاجتهاد.

فإن قلت: إنما صحت القسمة التي حكيتموها من قبل إن في الأحكام ما وقع النص على صفته وشرطه كالصلاة فجعل من باب النص، وفيها ما لم يحصل نص على صفته فجعل من باب الاجتهاد.

قلنا لك: هذا خلاف أصلك في الاجتهاد لأن أحكام الاجتهاد عندك بمنزلة ما وقع النص على صفته من صلاة وغيرها، لأن من مذهبك أن الصفة التي إذا تعلق ظن المجتهد بها لزم الحكم قد تناولها النص فكأن المكلف قد قيل له: إذا ظننت شبه بعض الفروع ببعض الأصول فقد لزمك الحكم، وهذا نص على صفة ما يلزمه من الأحكام كما كان ما أوردته نصا على صفة ما يلزمه من صلاة وغيرها فيجب على موجب قولك أن يكون جميع العبادات الشرعية منصوصا عليها على تأويل أنها منصوص على صفاتها أو تكون بأسرها من باب الاختيار على تأويل أن المكلف مأمور

الصفحة 61   

باختيار ما له الصفة التي تناولها النص من جملة أفعاله ويبطل انقسامها على قسمين.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فقد ثبت أنه عليه السلام قد نص على الأحكام على وجوه مختلفة بحسب المصلحة، ففيها ما عينه وفيها ما خير المكلف (1) فيه كالكفارات وفيها ما فوضه إلى الاجتهاد (2) كالنفقات، وقيم المتلفات، وجزاء الصيد إلى غير ذلك، وكل ذلك من باب الدين، فما الذي يمنع في الإمامة من أن يكون طريقها الاجتهاد والاختيار كالكفارات أو الاجتهاد كجزاء الصيد، * والتوجه إلى الكعبة * إلى غير ذلك... " (3).

يقال له: ليس يمتنع في الإمامة عقلا أن يجري النص عليها مجرى النص على الكفارات لأن النص لما تناول الكفارات الثلاث على سبيل التخيير (4) علمنا أن صلاحنا متعلق بالجميع، وأن لكل واحدة منها صفة الوجوب، وأنا مخيرون بين الثلاث فمتى فعلنا إحداهن سقط عنا وراءها (5) ومثل هذا جائز في الإمامة من جهة العقل لأنه غير ممتنع أن ينص الله تعالى لنا على إمامة نفسين أو ثلاثة بأن يبين وجوب طاعة كل واحد منهم، وما يحصل لنا من اللطف في الدين، والمصلحة بالاقتداء والانقياد له، ويخيرنا في الاقتداء بكل واحد من الثلاثة فمتى اقتدينا

____________

(1) " المكلف " ساقطة من " المغني ".

(2) الاجتهاد والاختيار خ ل وكذلك في " المغني " لكن بحرف التخيير بينهما وما في المتن أوجه.

(3) المغني 20 ق 1 / 110 وما بين النجمتين ساقط منه.

(4) مثل كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان عمدا أو خالف عهدا.

(5) لعله " ما وراءها ".

الصفحة 62   

بأحدهم في بعض الأفعال سقط (1) عنا الانقياد لغيره به في ذلك الفعل، وليس كذلك أن تقول إنما ألزمت أن يكون طريق الإمامة الاختيار بمعنى أن نكلف اختيار الإمام، لأن هذا إذا أردته ليس بمشبه لأمر الكفارات، لأنا لم نكلف اختيار ما هو مصلحة لنا من عرض الأفعال ليكون كفارة، بل نص لنا على أفعال ثلاثة بأعيانها، وأعلمنا أن المصلحة فيها، وخيرنا بين فعل كل واحد والآخرين، فقياس ذلك أن ينص لنا على أئمة ونخير بين اتباع كل واحد واتباع الآخرين لا أن نكلف اختيار الإمام في الأصل وإنما ألزمت دخول الاختيار والتخيير في الإمامة قياسا على الكفارات فيجب أن يكون ما ألزمته مطابقا لها.

وأما الاجتهاد في جزاء الصيد وجهة الكعبة فإنما ساغ من حيث أمكن المكلف وجود طريقه وكانت عليه أمارات لائحة وقد بينا أن الإمام يختص بصفات لا سبيل إلى إصابتها من جهة الاجتهاد لأنه لا دلالة عليها ولا أمارة ففارق حكم الإمامة جميع ما ذكرته.

قال صاحب الكتاب: " وإنما أتى القوم في ادعاء النص من جهة العقل من الوجوه التي قدمناها وهي زعمهم أن الإمام حجة لله تعالى في الزمان كالرسول (أو أنه يجب أن يكون قيما يحفظ الدين الذي شرعه الرسول) (2) وأنه يجب أن يكون معصوما فيما فوض إليه فتسلقوا بذلك إلى أنه لا بد من أن يكون منصوصا عليه أو معينا بالمعجز ونحن لا نخالف في ذلك لو كان صفة الإمام ما ذكروه، وإنما يقع الكلام بيننا وبينهم في صفة الإمام وفيما جعل إليه وقد بينا (3) من قبل أن قائلا لو قال في الإمام: إنه

____________

(1) في الأصل " سقطت ".

(2) ما بين المعقوفين من " المغني ".

(3) غ " وقد قدمنا ".

الصفحة 63   

يجب أن يكون خالق الإمام (1) لكنا نوافقه في أنه يستحق العبادة ويخرج الكلام بيننا وبينه عن الإمامة (2)... " (3).

يقال له: قد اعترفت بأن الإمام لو وجب له من الصفات ما ذهبنا إليه وكان قيما بما نذهب إلى أنه القيم به والمتولي له لوجبت إبانته بالنص أو بالمعجز وبطل اختياره.

وقد دللنا بحمد الله فيما تقدم على صحة ما نذهب إليه في صفاته، وما يقوم به بما لا شبهة فيه ولا اعتراض عليه، فقد وجب بإقرارك النص على الإمام أو إبانته بالمعجز وبطل اختياره.

ولهذا قلنا قبيل هذا الفصل: أن التشاغل في وجوب النص أو إبطاله يجب أن يكون بالكلام في صفات الإمام، وهل في جملتها ما لا يستدرك إلا من جهة النص أم لا على أنا نقول لك: إنما أتيت وأتي من يذهب إلى مذهبك في دفع النص والقول بالاختيار من جهة اعتقادكم أن الإمام يجري مجرى الوكيل والوصي والشاهد، وأن اتباعه والاقتداء به غير واجبين، وأن الذي يجب من الاقتداء به ما يجب في إمام الصلاة ومن جرى مجراه فتسلقتم بإنزاله هذه المنزلة إلى تصحيح اختياره وإبطال وجوب النص عليه، ونحن لا ننكر مذهبكم فيه لو صح أنه يجري مجرى من ذكرتموه كما أن قائلا لو قال في الإمام أنه كالأجير أو العبد لكنا نوافقه في أن قوله لو صح في صفته لم يجب علينا شئ من تعظيمه وتبجيله ولجاز أن يكون اختياره مردودا إلى الجهال من الأمة فضلا عن العلماء.

____________

(1) غ " خالق الأنام ".

(2) غ " عن الإمام ".

(3) المغني 20 ق 1 / 111.

الصفحة 64   

الصفحة 65