فصل في اعتراض كلامه على الطاعنين على عثمان باحداثه

الصفحة 225 

إعلم أن هذا الباب مما لا يلزمنا الكلام عليه لأن إمامة الرجل لم تثبت عندنا وقتا من الأوقات فتؤثر في فسخها الأحداث المتجددة، وإنما يختص هذا الفصل بمن قال بإمامته قبل أحداثه، رجع عنها عند وقوع أحداثه، وهم الخوارج ومن وافقهم غير أنا نتكلف الكلام على ذلك، ونبين أن إمامته لو صحت فيما سلف لكان أحداثه ومتجدداته تبطلها وتفسخها.

قال صاحب الكتاب: (الأصل في هذا الباب أن من ثبتت عدالته، ووجوب توليه، إما على القطع وإما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول، يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن نبقى فيه على * هذه الطريقة وإن غاب عنا، وقد عرفنا أن مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا (1) * على حالته ويجوز أن يكون مستقلا ولم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه) ثم ذكر بعد أن أكد هذا الكلام وحققه (إن الحدث

____________

(1) كل عبارة تحت هذا الرقم وبين نجمتين ساقطة من " المغني ".

الصفحة 226 

الذي يوجب الانتقال عن التولي والتعظيم إذا كان من باب يحتمل لم يجر الانتقال له) وأطنب في تشييد ذلك إلى أن قال: (إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات والأحوال المعروفة فيمن يتولاه (1) ربما يكون أقوى في باب الإمارة من الأمور المتجددة (2) واستشهد بأن مثل فرقد السبخي (3) ومالك بن دينار (4) لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير والنكير، أو على وجه الاكراه والغلط، ولو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر ليجوز حضوره للفساد، بل كان ذلك هو الظاهر من حاله (5) وأشبع في ذلك الأمثال في هذا الباب ثم قال:

(واعلم أن الكلام فيما يدعي من الحدث والتغيير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين، أحدهما هل (6) علم ذلك أم لا والثاني مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا؟ ولا فرق بين أن لا يكون حادث أصلا وبين أن يعلم حدوثه، ويجوز أن لا يكون حدثا (7))، ثم ذكر إن كل واقع يحتمل لو أخبر الفاعل أن فعله على أحد الوجهين، وكان ممن يغلب على الظن صدقه، لوجب تصديقه، فإذا عرف من حالة المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك (8) جرى مجرى الاقرار بل ربما كان أقوى وقال:

____________

(1) غ " من حال من يتولاه في باب كونه إمارة ".

(2) غ " المتجددة أو المقارنة " المغني 20 ق 2 / 23 والزيادة بين المعقوفين منه.

(3) فرقد بن يعقوب السبخي نسبة إلى السبخة موضع بالبصرة يعد من زهاد البصرة مات سنة 131.

(4) مالك بن دينار يعد من الزهاد والوعاظ روى عن أنس بن مالك والحسن وابن سيرين توفي سنة 130.

(5) المغني 20 ق 2 / 34.

(6) غ " هل حدث ".

(7) غ " فيجب أن يجري في النفوس خلاف ذلك فيه " المغني 20 ق 2 / 35.

(8) غ " فيجب ".

الصفحة 227 

(ومتى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه ونعظمه أن يسلم حاله عندنا، واستشهد بأنا لو رأينا من نظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب أن لا نحول من توليه فكذلك إذا كان قد (1) تقدم في النفوس ستره وصلاحه، فالواجب أن نحمل على هذا الوجه) ثم قسم الأفعال إلى محتمل وما له ظاهر وشرح ذلك شرحا لا معنى لحكايته، ثم ذكر (إن قول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه أكد من غيره) وذكر (إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا به، ويؤثر في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم) ثم ابتدأ بذكر أحداث عثمان قال: (فمن ذلك قولهم: إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك. ولا يؤتمن عليه، ومن ظهر منه الفسق والفساد، ومن لا علم له مراعاة الحرمة والقرابة، وعدولا عن مراعاة حرمة الدين، والنظر للمسلمين، حتى ظهر ذلك منه وتكرر، وقد كان عمر حذر من ذلك فيه من حيث وصفه بأنه كلف (2) بأقاربه وقال له: إذا وليت هذا الأمر تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس، فوجد منه ما حذره، وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب فيه، وذلك نحو استعمال الوليد بن عقبة (3) وتقليده إياه حتى ظهر منه شرب الخمر، واستعماله سعيد بن العاص (4) حتى ظهرت منه من الأمور التي عندها أخرجه

____________

(1) غ " تقرر ".

(2) كلف بأقاربه أي مولع بهم، والكلام أورده الزمخشري في الفائق 2 / 420 وفي غ " كلف بأقاربه " ولا ريب أنه تحريف.

(3) الوليد بن عقبة بن أبي معيط - بضم الميم - أخو عثمان لأمه أسلم يوم الفتح، نشأ في كنف عثمان إلى أن استخلف فولاه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة 25 وعزل سنة 29 بسبب شربه الخمر (انظر الإصابة ق 1 حرف الواو بترجمته).

(4) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأموي من أشراف قريش وأجوادهم وفصحائهم وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان واستعمله على الكوفة بعد الوليد بن عقبة (انظر أسد الغابة 2 / 310).

الصفحة 228 

أهل الكوفة، وتولية عبد الله بن سعد بن أبي (1) سرح وعبد الله ابن عامر بن كريز (2) وحتى يروى عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر، وصرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته، فأبطن خلاف ما أظهر وهذا طريقة من غرضه خلاف الدين، ويقال أنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر وغيره ممن يرد عليه، وظفر بذلك الكتاب، ولذلك عظم التظلم من بعد وكثر الجمع، وكان سبب الحصار والقتل، وحتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه * وعلى أمور ما قتل بسبه وذلك ظاهر لا يمكن دفعه ومن * (3) ذلك رده الحكم ابن أبي العاص إلى المدينة، قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله سيره وطرده، وامتنع أبو بكر وعمر من رده فصار بذلك مخالفا للسنة، ولسيرة من تقدمه، مدعيا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاملا بدعواه من غير بينة [ وفي دون هذا يطعن في حاله (4) ] ومن ذلك أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي

____________

(1) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أسلم قبل الفتح وهاجر واستكتبه رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن استكتبهم فكان يحرف ما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم ارتد ورجع إلى مكة فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بقتله في جماعة سماهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة فغيبه عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله العفو عنه فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله طويلا ثم قال: نعم، فلما انصرف عثمان قال صلى الله عليه وآله لمن حوله: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه) فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله قال: (إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين) ولاه عثمان مصر وبسوء سيرته ثار المصريون على عثمان ثم لم يبايع عليا عليه السلام وانضم إلى معاوية يوم صفين وتوفي بعسقلان سنة 59 أسد الغابة 3 / 172.

(2) عبد الله بن عامر بن كريز ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري وهو ابن خمس وعشرين سنة (انظر طبقات ابن سعد 5 / 30).

(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(4) الزيادة من المغني.

الصفحة 229 

عدة للمسلمين (1) نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، وأعطى مروان مائة ألف على فتح إفريقية * ويروى خمس إفريقية * (2) وغير ذلك وهذا بخلاف سيرة من تقدم (3) في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق وإيثار الأباعد على الأقارب (4) ومن ذلك أنه حمى الحمى على المسلمين مع إنه عليه السلام جعلهم سواء في الماء والكلاء، وأعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرها وذلك مما لا يحل في الدين وجلد (5) بالسوط وقد كان من قبله يقع الضرب بالدرة، ومن ذلك أنه أقدم على كبار الصحابة بما لا يحل نحو إقدامه على ابن مسعود عندما أحرق المصاحف وإقدامه على عمار حتى روي أنه صار به فتق، وكان أحد من ظاهر المتظلمين (6) على قتله ويقول: قتلنا كافرا، وأقدم على أبي ذر مع تقدمه حتى سيره إلى الربذة ونفاه، بل قد روي أنه ضربه، ثم من عظيم ما أقدم عليه من جمعه الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف، وإبطاله ما شك (7) أنه منزل من القرآن، وأنه مأخوذ عن الرسول * عليه السلام ولو كان مما يسوغ لسبق إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولفعله أبو بكر * (2) وعمر ثم عطل الحدود الواجبة

____________

(1) غ " وهي من صدقة المسلمين ".

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) غ " وقد كان من سيرة أبي بكر وعمر ".

(4) غ " وإيثاره الأقارب وتقديمهم في العطاء ".

(5) غ " وحده ".

(6) المسلمين، خ ل.

(7) غ " لما شك ".

الصفحة 230 

به، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يطلبه قالوا: ولم لم يكن كل ما (1) قلنا أو بعضه يوجب خلعه، والبراءة منه، لوجب أن يكون الصحابة تنكر على من قصده من البلاد متظلما مما فعلوه، وأقدموا عليه، وقد علمنا أن بالمدينة المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة لم ينكروا ذلك، بل أسلموه ولم يدفعوا عنه، بل أعانوا (2) قاتليه ولم يمنعوا من قتله وحصره، ومنع الماء منه مع إنهم متمكنون من خلاف ذلك، وذلك أقوى الدليل على ما قلناه فلو لم يكن في أمره إلا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الله قتله وأنا معه كالحد في عبيد الله بن عمر (3) فإنه قتل الهرمزان (4) بعد إسلامه فلم يقده

____________

(1) غ " على ما قلناه ".

(2) غ " أعانوا عليه ".

(3) غ " لأنه ".

(4) الهرمزان: زعيم من زعماء الفرس وقائد من قادتهم أتي به أسيرا بعد انتصار المسلمين في القادسية فعرض عليه عمر الاسلام فأبي فأمر بقتله، فلما عرض عليه السيف قال: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على ظمأ، فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم فألقى الماء من يده، وقال: الوفاء - يا أمير المؤمنين - نور أبلج فقال: لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف، فلما رفع عنه قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده فقال له عمر: ويحك أسلمت خير إسلام فما أخرك قال: خشيت أن يقال إن إسلامي إنما كان جزعا من الموت فقال عمر: إن لفارس حلوما بها استحقت ما كانت فيه من الملك ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه (العقد الفريد 1 / 125 و 2 / 171) قال ابن كثير: " وحسن إسلام الهرمزان فكان لا يفارق عمر " فلما قتل عمر اتهم الهرمزان بممالاة أبي لؤلؤة فجاءه عبيد الله بن عمر فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا بالخيل - فخرج بين يدي عبيد الله فعلاه بالسيف فقتله، ثم قصد عبيد الله إلى جفينة - وهو رجل ذمي من النصارى من أهل الحيرة أقدمه سعد بن أبي وقاص المدينة ليعلم الناس الكتابة - فقتله، ثم قصد ابنة أبي لؤلؤة وهي طفلة صغيرة فقتلها وقد أعظم المسلمون فعله فحبس حتى يتم الاستخلاف فلما بويع عثمان استشار المسلمين في أمره فأشار عليه علي عليه السلام بقتله، وقال آخرون بالأمس قتل عمر واليوم تتبعوه بابنه فخلى عثمان سبيله، فلما بويع علي عليه السلام طلبه ليقتص منه فهرب إلى معاوية فكان معه إلى قتل بين يديه يوم صفين (انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 3 / 274).

الصفحة 231 

وكان في أصحابه من يصرح بأنه قتل عثمان ومع ذلك لا يقيدهم، ولا ينكر عليهم، وكان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين عليه السلام قتلة عثمان، ويجعلون ذلك من أوكد الشبه، ولا ينكر ذلك عليهم، مع إنا نعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لو أراد منعهم من قتله والدفع عنه مع غيره، لما قتل فصار كفه عن ذلك مع غيره من أدل الدلالة على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث، وأنهم لم يقبلوا وأما جعله عذرا، قال: (ونحن نقدم قبل الجواب عن هذه المطاعن مقدمات تبين بطلانها على الجملة، ثم نتكلم على تفصيلها ثم حكي عن أبي علي (إن ذلك لو كان صحيحا) (1) لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلبوا رجلا ينصب للإمامة، وأن يكون ظهور ذلك كموته، لأنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه، فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام كان بعد قتله ولم يكن من قبل والتمكن قائم فذلك من أدل الدلالة على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث) قال: (وليس لأحد أن يقول: لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم وقد حصروه ومنعوه التمكن من ذلك، خصوصا وهم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه والبراءة منه) قال: (ومعلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها وقتل، بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال، فلو كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان كبار الصحابة المقيمين بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد، لأن أهل العلم والفضل بالنكير في ذلك أحق من غيرهم) قال: (لقد كان يجب

____________

(1) غ " لو صح عند المسلمين ".

الصفحة 232 

على طريقتهم (1) أن تحصل البراءة والخلع من أول يوم حدث فيه منه ما حدث، ولا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا أن ينتظر غيره).

ثم ذكر: (إن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الخطأ إلى جميعهم والضلال، فلا يجوز ذلك) وقال: (ولا يمكنهم أن يقولوا: إن علمهم بذلك حصل في الوقت الذي منع، لأن في جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم هذه الحال بل كلها أو جلها، تقدم هذا الوقت، وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في الوقت بما يذكرون من حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل وما أوجب كون ذلك حدثا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل واحتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر، وبعده ليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة، أو من بعضهم، فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالاجماع لم يجز إبطالها بالخلاف، لأن الخطأ جائز على بعض الأمة، وإن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح، لأن من جملة الإجماع عثمان ومن كان ينصره، ولا يمكن إخراجه من الإجماع، بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك لما يثبت) قال:

(على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين، أما ينصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومعه الأنصار: ائذن لنا ننصرك وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، والباقون يمتنعون انتظارا لزوال العارض، لا لأنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه ما فعلوا بل المتعالم من حالهم ذلك) ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير

____________

(1) أي طريقة الخوارج لأنه قال قبل ذلك: إن هذه الأحداث حصلت في الست الأواخر.

الصفحة 233 

المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام إليه وإنه لما قتل لأمهما على وصول القوم إليه، ظنا منه بأنهما قصرا، وذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ستكون فتنة واختلاف وأن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى) وما روي عن عائشة من قولها قتل والله مظلوم) قال: (ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار آحاد في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم * وإن كان فيه رواية فمن جهة الآحاد وإذا تعارضت الروايات سقطت ووجب الرجوع إلى أمر ثابت وهو ما ثبت من أحواله السليمة ووجوب توليه) (1) * قال: (وليس يجوز أن يعدل عن تعظيمه، وصحة إمامته بأمور محتمله، فلا شئ مما ذكره إلا ويحتمل الوجه الذي هو صحيح).

ثم ذكر: (إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به. ويعمل فيها على غالب ظنه ظاهرا وقد يكون مصيبا، وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة) وأكد ذلك وأطنب فيه (2).

يقال له: أما ما بدأت به من قولك: (إن من يثبت عدالته وجوب توليته إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن) فخطأ لا إشكال فيه لأن من نتولاه على الظاهر أو ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن، يجب أن نرجع عن ولايته مما يقتضي غالب الظن دون اليقين. ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم أقوال الجارحين وإن كانت مظنونة غير معلومة، وما يظهر من أنفسهم من

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني.

(2) المغني 20 ق 2 / 38 - 44 وجميع كلام القاضي في هذا الباب لخصه المرتضى من الصفحات المذكورة.

الصفحة 234 

الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعد التهم وإن لم يكن كل ذلك متيقنا، وإنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع ووجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم والدلالة لا تقابل الإمارة.

فإن قال: لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن وإنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما، ولهذا يؤثر في عدالة من تقدمت عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب قبيح إذا كانوا عدولا وإن كانت أقوالهم. لا تقتضي اليقين، بل يحصل عندها غالب الظن وكيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية، ونحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي والتعظيم ألا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم، ويكرر تلاوة القرآن، ويدمن الصلاة والصيام والحج يجب أن نتولاه ونعظمه على الظاهر وإن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه وغرضه في فعله قبيحا فلم نتولاه إلا على الظاهر ومع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة، فأما من غاب عنا وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته، وإن جوزنا مع الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدنا ها منه، إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل.

وهو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر، وإن كان في كل واحدة من الأمرين تجويز، وقد أصاب في قوله: (إن ما يحتمل ألا يجوز أن ينتقل له عن التعظيم والتولي) إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له وأما ما له ظاهر ويجوز مع ذلك أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره، فإنه لا يسمى محتملا. وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه.

الصفحة 235 

فأما قوله: (إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها ويقتضي حمل أفعاله على الصحة والتأول له وتقويته ذلك وتأكيده له) فلا شك أن ما ذكره مؤثر: وطريق قوي إلى غلبة الظن، إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر، أن نتأول كلما نشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح، ونحمل الجميع على أجمل الوجوه وإن كان بخلاف الظاهر، بل ربما يبين الأمر فيما يرجع منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح إلى أن يؤثر في أحواله المتقررة ونرجع بها عن ولايته، ولهذا ما نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لم يثبت له في وقت من الأوقات عدالة، وإنما يكون ذلك بما يتوالى منهم ويتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة.

فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره للتغيير والنكير، أو على وجه الاكراه والغلط، وأن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه، لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت إمارات عدالته، وشواهد نزاهته، حالا بعد حال، لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح، بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله، ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه، وإنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة، فنجعلها قاضية على الفعل والفعلين، ومتى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة، وتكررت قدحت في حاله. وأثرت في ولايته، وكيف لا يكون كذلك وطريق ولايته في الأصل هو الظن والظاهر، ولا بد من قدح الظاهر في الظاهر وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه.

فأما قوله: (إن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو ممن يغلب على الظن

الصفحة 236 

صدقه أنه فعله على أحد الوجهين، لوجب تصديقه متى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك، وجرى مجرى الإقرار) فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال، والذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كون حسنا، ومثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية ولا عداوة وإنما يقتضي من الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل، ويقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح.

فإن قال: (أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره).

قيل له: ما ذكرته لا يسمى محتملا، فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها، ولا شك في أنه إذا كان ممن لو خبر بأنه فعل الفعل القبيح على أحد الوجهين لوجب تصديقه، وحمل الفعل على خلاف ظاهره، فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له، ونعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الفعل الحسن، والوجه الجميل، إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة، فلا بد من أن يكون مؤثره في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره، كما يكون مانعة من الابتداء بالتأول له، وضربه المثل بأن من يراه يكلم امرأة حسناء في الطريق، إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب، ولو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقرر له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد فيه من مراعاة ما تقدم ذكره، من أنه قد تقوى الأمر لقوة الإمارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه، ولا التأول له، ولولا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة، ولا من العداوة إلى خلافها، لأنه لا شئ مما يفعله الفساق المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر، ومع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز، يبين صحة ما ذكرناه، إنا لو رأينا من يظن به

الصفحة 237 

الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق، ويداعبها ويضاحكها، ظننا به الجميل مرة ومرات، ثم ينتهي الأمر إلى أن لا نظنه وكذلك لو شاهدناه وبحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط والاكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة، ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح ولا نصدقه في خلافه.

ثم يقال له: خبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو راكب فرج امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم، وإن لها في الحال زوجا غيره، وهو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ماذا يجب أن نظن به؟ وهل نرجع بهذا الفعل عن الولاية، أو نحمله على أنه غالط، ومتوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل، أو غير ذلك من الوجوه الجميلة فإن قال: نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام، وقيل له: وأي فرق بين هذا الفعل وبين جميع ما عددناه من الأفعال، وادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها، وما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل، فإن قال: لا أرجع بهذا الفعل عن الولاية، بل أتأوله على بعض الوجوه الجميلة، قيل له: أرأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار ومجالس اللهو واللعب، ونراه بشرب الخمر بعينها، وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها، وفي أنه القبيح بعينه غالطا، ما كان يجب علينا من الاستقرار على ولايته والعدول عنها فإن قال: نستمر ونتأول، ارتكب ما لا شبهة في فساده، والزم ما قدمناه ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد، ولو شاهدنا منه أعظم المناكير ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع، فكيف لا نرجع عنها بمثل هذا الطريق فلا بد إذا من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب.

الصفحة 238 

وأما قوله: (إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره) فلا معنى له، لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمونا باطنه وعلى مذهبه إنما ثبتت ولايته بالظاهر كما ثبتت ولاية غيره من سائر المؤمنين، وأي مزية له في هذا الباب؟

وأما قوله: (إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم) غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له وقد كان يجب أن يبين من أي وجه يكون أقوى.

فأما عده الأحداث التي نقمت عليه، فنحن نتكلم عليها، وعلى ما أورده من المعاذير فيها بمشيئة الله تعالى عند ذكره لذلك.

فأما ما حكاه عن أبي علي من قوله: (لو كان ما ذكروه من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة، لأن ظهور الحدث كونه) قال: (فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث) فليس ذلك بشئ معتمد، لأن تلك الأحداث وإن كانت مزيلة عندهم لإمامته وناسخة لها ومقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة، فإنهم لم يقدموا على نصب غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب، وأرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة، وينشط من يصلح للإمامة لقبول العقد، والتكفل بالأمر، وليس يجري ذلك مجرى موته، لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام، وليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده، وتبقى معه الشبهة في استمرار أمره، وليس نقول أنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه، بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم لحسم المواد، وإزالة الشبهة، وقطع أسباب

الصفحة 239 

الفتنة.

فأما قوله: (إنه معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها وقتل، بل كانت تقع حالا بعد حال، فلو كانت توجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان المقيمون بالمدينة من الصحابة بذلك أولى من الواردين من البلاد) فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه، حتى زاد الأمر وتفاقم، وبعد التأويل وتعذر التخريج ولم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا، وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره، من أن العدالة والطريقة الجميلة تتأول في الفعل والأفعال القليلة، بحسب ما تقدم من حسن الظن به، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل والعمل على الظاهر القبيح، على أن الوجه الصحيح في هذا الباب إن أهل الحق كانوا معتقدين لخلعه من أول حدث، بل معتقدين لأن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات، وإنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقية، ولأن الاغترار بالرجل (1) كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال، وأعرضت الوجوه عنه، وقل العاذر له، قويت الكلمة في عزله وهذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله، فليس يقتضي الامساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام في نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه.

فأما دفعه أن تكون الأمة أجمعت على خلعه بإخراجه نفسه، وخروج من كان في حيزه عن القوم، فليس بشئ لأنه إذا ثبت أن من

____________

(1) لأن الاعتذار بالوجل خ ل فإذا كانت كذلك يكون المعنى الاعتذار بالخوف.

الصفحة 240 

عداه وعدا عبيده والرهط من فجار أهليه وفساقهم كمروان، ومن جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه، فلا شبهة أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب وجميع الأمة مبطل، وإنما يدعي أنه على الحق من تنازع في إجماع من عداه، فأما مع تسليم ذلك فليس تبقى شبهة، وما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ عنه، والنفر القليل الخارجين منه، ألا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد (1)، وولده وأهله في بيعة أبي بكر لقلتهم، وكثرة من بإزائهم وكذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ويجعلونه شاذا لا تأثير له، فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان، وهل هذا إلا تقلب وتلون.

فأما قوله: (إن الصحابة بين فريقين أما من ينصره كزيد بن ثابت، وابن عمر وفلان وفلان، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض، لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه) فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار، يقاتلون عنه، ويدفعون الهاجمين عليه فقط.

 

فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا لا يعد ناصرا، وكيف يجوز ممن أراد نصرته وكان معتقدا لصوابه وخطأ الطالبين لخلعه (2) يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض، وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض وبعد زواله لا حاجة إليها؟ وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها، بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى أذنه فيها ولا يحفل نهيه عنها، لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى فيه بالنهي عنه، فليس يجتاح في إنكاره إلى أمر غيره.

____________

(1) يعني سعد بن عبادة الأنصاري وخلافه في حديث السقيفة مأثور مشهور.

(2) وخطأ المطالبين له بالخلع خ ل.

الصفحة 241 

فأما زيد بن ثابت فقد روى ميله إلى عثمان، فما يعني ذلك وبإزائه جميع الأنصار والمهاجرين. ولميله إليه سبب معروف قد روته الرواة فإن الوافدي قد روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير جاء إلى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا إليها وهي عازمة على الحج، فكلماها في أن تقيم وتذب عنه، فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت: وما منعك يا ابن ثابت ولك الأساويف (1) قد قطعها لك عثمان، ولك كذا وكذا، وأعطاك من بيت المال زهاء عشرة آلاف دينار قال زيد: فلم أرجع عليها حرفا واحدا قال: وأشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان وهو يقول متمثلا:

 

وحرق زيد علي البلا   د حتى إذا اضطرمت اجذما (2)

 

فنادته عائشة وقد خرج من العتبة يا ابن الحكم أعلى تمثل الأشعار!

قد والله سمعت ما قلت، أتراني في شك من صاحبك؟ والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة (3) من غرائري مخيطة عليها فألقيها في البحر الأخضر (4) قال: زيد فخرجنا من عندها على الناس (5).

وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار، وهو يدعوهم إلى نصر عثمان، فوقف عليها جبلة بن عمرو بن حية

____________

(1) الأساويف كذا في الأصل وفي شرح نهج البلاغة " الأشاريف قد اقتطعها " والمشارف: أعالي الأرض، ولعل المراد الاقطاع.

(2) البيت للربيع بن زياد العبسي، والأجذام: الإسراع، والمعنى: أنه أضرمها حتى استعرت، أسرع في الهرب، وذلك لأن قيسا أسعر الحرب في داحس فلما اضطرمت انتقل إلى عمان.

(3) الغرارة - بالكسر - واحدة غرائر؟؟ التبن. قال في مختار الصحاح: " وأظنه معربا ".

(4) رواية ابن أبي الحديد: " مخيط عليه، فألقيه في البحر الأخضر ".

(5) ش " على اليأس منها ".

 

 

الصفحة 242 

المازني (1)، فقال له جبلة: ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة آلاف دينار، وأعطاك حدائق من نخل لم ترث من أبيك مثل حديقة منها.

فأما ابن عمر فإن الواقدي يروي أيضا عن ابن عمر أنه قال: والله ما كان منا إلا خاذل أو قاتل، والأمر في هذا أوضح من أن يخفى.

فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعان من انتهاك حريمه، وتعمد قتله ومنع حرمه ونسائه من الطعام، والشراب، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع، كيف وهو مصرح بأنه باحداثه مستحق للخلع، والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون إليه ومعلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه، ونقض أمره لا سيما في المرة الأخيرة.

فأما ادعاؤه أنه لعن قتلته، فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي هي أظهر من هذه الرواية، وإن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا لقتله، قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم.

فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان، وغير معروف في الرواية، والظاهر المعروف، أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة يوم الدار ولا أغلظ، ولو حكينا من كلامه فيه ما قد روى لا فنينا به قطعة كبيرة من هذا الكتاب، وقد روى أن عثمان كان

____________

(1) لعله جبل بن عمرو الساعدي وهو أول من اجترأ على عثمان بالمنطق كما في كامل ابن الأثير 3 / 168.

الصفحة 243 

يقول يوم الدار: اللهم اكفني طلحة، ويكرر ذلك علما منه بأنه أشد القوم عليه، وروي أن طلحة كان عليه، يوم الدار درع، وهو يرامي الناس، ولم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل.

فأما ادعاؤه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله (إنه سيكون فتنة وإن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى) فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه وخذله، وكلام وجوه المهاجرين والأنصار فيه، وبإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي صلى الله عليه وآله وغيره مما يتضمن ضد ما تضمنته، ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار، وقد احتج عليهم بكل غث وسمين، وقيل ذلك لما خوصم وطولب بأن يخلع نفسه، ولأحتج عنه بعض أصحابه وأنصاره، وفي علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن، دلالة على أنها مصنوعة موضوعة.

فأما ما رواه عن عائشة من قولها: قتل والله مظلوما فأما فأقوال عائشة فيه معروفة معلومة، وإخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وهي تقول: هذا قميصه لم يبل وقد بليت سنته (1) وغير ذلك مما لا يحصى كثيرة.

فأما مدحها وثناؤها عليه، فإنما كان عقيب علمها بانتقال الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام والسبب فيه معروف وقد وقفت عليه، وقوبل بين كلامها فيه متقدما ومتأخرا.

____________

(1) في نقل ابن أبي الحديد " وقد أبلى عثمان سنته ".

الصفحة 244 

فأما قوله: (لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك، لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد) فواضح البطلان، لأن أطباق الصحابة وأهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه، وإنهم كانوا بين مجاهد ومقاتل مبارز، وبين خاذل متقاعد معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار، وكيف يدعي أنها من جهة الآحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة؟ وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة!.

فأما قوله: (إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة) فقد مضى الكلام في هذا المعنى، وقلنا: إن المحتمل هو ما لا ظاهر له، ويتجاذبه الأمور المختلفة.

فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا، وإن سماه بهذه التسمية فقد بينا إنه مما يعدل من أجله عن الولاية، وفصلنا ذلك تفصيلا بينا.

فأما قوله: (إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به، ويكون مصيبا وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة) فأول ما فيه أنه ليس للإمام ولا غيره أن يجتهد في الأحكام، ولا يجوز العمل فيها إلا على النصوص، ثم إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن ها هنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد، حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصدق وتفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الأعذار في أحداثه..

ثم ذكر صاحب الكتاب أن عثمان اعتذر مما ينسب إليه من الأحداث، وذكر عنه أعذارا نحن نتكلم عليها فيما بعد عند استقصاء صاحب الكتاب لشرحها، فإنه أشار في هذا الموضع إلى جزء من جملة ما سنذكره عنه، وأدخل في جملة الموافقة على الأحداث غيبة عثمان عن بدر، وهربه يوم أحد، وأنه لم يشهد بيعة الرضوان، وحكي عن عثمان.

الصفحة 245 

الجواب عن ذلك (1) وليس هذا من الأحداث التي نقمت عليه، وطولب بخلعه نفسه لأجلها، لأنهم نقموا عليه أمورا تجددت منه بعد العقد له، وليس ما ذكره من هذا الجنس، وإن واقفوا على ذلك إن كانوا وقفوه عليه، من حيث كان يقتضي نقضا وانحطاطا عن رتبة غيره ممن شهدها أعني هذه المواطن ولا طائل في تتبع ذلك.

قال صاحب الكتاب: (أما ما ذكروه من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعي أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر والصلاح، لأن الذي ثبت عنهم من الأمور حدث من بعد، ولا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده وإنما كان يجب تخطئته لو استعملهم وهم في الحال لا يصلحون لذلك فإن قال: لما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم. قيل له: كذلك فعل لأنه استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر منه، فلما شهدوا عليه بذلك جلده الحد وصرفه وقد روي مثله عن عمر لأنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر فأشخصه وجلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معائب عثمان، ويقال: إنه لما أشخصه أقيم عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام واعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد، بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد).

ثم قال: فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة وولى مكانه

____________

(1) ما أشار إليه المرتضى تحت قوله " ثم ذكر صاحب الكتاب " هو في المغني ج 20 ق 2 ص 43 - 46 والإشارة المذكورة لم ينقلها ابن أبي الحديد فيما نقله من الشافي في هذا الموضع.

الصفحة 246 

أبا موسى الأشعري، وكذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح عزله وولى مكانه محمد بن أبي بكر، ولم يظهر له في باب مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه، ولو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى، وقد علمنا أنه عليه السلام (1) ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث وحدث من بعض أمراء أمير المؤمنين عليه السلام الخيانة كالقعقاع بن شور (2) ولاه على ميسان (3) فأخذ مالها ولحق بمعاوية وكذلك فعل الأشعث ابن قيس بمال آذربيجان وولى أبا موسى الحكم (4) وكان منه ما كان، ولا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره فأما إذا لم يلحقه عيب في ابتداء الولاية فقد زال العيب فيما عداه (5) * فقولهم أنه قسم الولايات في أقاربه، وزال عن طريقة الاحتياط للمسلمين، وقد كان عمر حذره من ذلك، فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد، وأنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة، ولو قيل: إن تقديمهم أولى لم يمتنع ذلك إذا كان المولى لهم أشد تمكنا من عزلهم، والاستبدال بهم، لكان أقرب وقد ولى أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس البصرة وعبيد الله بن عباس اليمن وقثم بن العباس مكة حتى قال الأشتر عند ذلك على ماذا قتلنا الشيخ أمس، فيما يروى، ولم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده * (6).

____________

(1) الضمير في عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله.

(2) القعقاع بن شور الشيباني الوائلي وصف بالجود وحسن الجوار كان جليس معاوية (انظر الاشتقاق لابن دريد ص 351 والكامل للمبرد 1 / 120).

(3) خراسان خ ل.

(4) يقصد في أمر التحكيم.

(5) المغني 20 ق 2 / 47.

(6) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

الصفحة 247 

فأما قولهم: إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأن يقتله ويقتل أصحابه، فقد أنكر أشد الانكار حتى حلف عليه، وبين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه، ولا الغلام غلامه، ولا الراحلة راحلته، وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقبل عذره، وذلك بين لأن قول كل واحد مقبول في مثل ذلك وقد علم أن الكتاب قد يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب (1) ثم اعتذر عن قول من يقول قد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه الذي كان يكتب عنه فهلا أقام الواجب فيه؟ بأن قال: (ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك، لأنه وإن غلب ذلك في الظن، فلا يجوز أن يحكم به، وقد كان القوم يسومونه بتسليم مروان إليهم، وذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب، ولا يحل له تسليمه من غيره، فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد ليفعله به، وكان إذا لم يفعل والحال هذه يستحق التعنيف).

ثم ذكر أن الفقهاء ذكروا في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا حدا، فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل، وإن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت.

قال: (وقد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره، لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنه وبعد فإن هذا الحديث من (2) أجل ما

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 48.

(2) غ " من آخر ما نقموا ".

الصفحة 248 

نقموا عليه، فإن كان شئ من ذلك يوجب خلع عثمان وقتله فليس إلا ذلك، وقد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل، لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل لا سيما قبل وقوع القتل المأمور به (1)).

قال: (فيقال لهم: لو ثبت ذلك على عثمان أكان يجب قتله، فلا يمكنهم ادعاء ذلك، لأنه بخلاف الدين، ولا بد أن يقولوا: أن قتله ظلم، فكذلك في حبسه في الدار، ومنعه من الماء، فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك، وأن يقال: إن من لم يدفعهم وينكر عليهم يكون مخطئا، وفي ذلك تخطئة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم ذكر (إن مستحق القتل والخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب وإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين، وقد تمكن من منعهم) وأطنب في ذلك إلى أن قال:

(وكل ذلك يدل على كونه مظلوما، وإن ذلك كان من صنع الجهال، وأعيان الصحابة كارهون لذلك).

ثم ذكر: (إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس وإن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة وإذا صح إن قتله لم يكن لهم فمنعهم والنكير عليهم واجب).

ثم ذكر: (إنه لم يكن منه ما يستحق القتل من ردة أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 49.

الصفحة 249 

يتولاه الإمام، فقتله على كل حال منكر، وإنكار المنكر واجب (1)).

قال: (وليس لأحد أن يقول أنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم، لأنه لم يمتنع من ذلك، بل أنصفهم ونظر في حالهم، ولأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع (1)) قال: (والمروي أنهم أحرقوا بابه، وهجموا عليه في منزله وبعجوه بالسيف والمشاقص (2) وضربوا يد زوجته لما وقعت عليه، وانتهبوا متاع داره، ومثل هذه القتلة لا تحل في الكافر والمرتد، فكيف يظن أن الصحابة لم تنكر ذلك، ولم تعده ظلما حتى يقال: إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه (3)).

ثم قص شيئا من قصته في تجمع القوم عليه وتوسط أمير المؤمنين عليه السلام لأمرهم، وأنه بذل لهم ما أرادوه، وأعتبهم (4) وأشهد على نفسه بذلك حرفه ولم يأت به على وجهه وذكر قصة الكتاب الذي وجدوه بعد ذلك المتضمن لقتل القوم، وذكر أن أمير المؤمنين عليه السلام واقفه على الكتاب، فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به، فقال له: فمن تتهم؟ قال: ما أتهم أحدا، وأن للناس لحيلا، وذكر أن الرواية ظاهرة بقوله: إن كنت أخطأت أو تعمدت، فإني تائب مستغفر، قال: (فكيف يجوز والحال هذه أن تهتك فيه حرمة الاسلام، وحرمة البلد الحرام).

قال: * (ولا شبهة أن القتل على وجه الغيلة حرام لا يحل فيمن

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 49.

(2) المشاقص جمع مشقص - وهو النصل العريض.

(3) المغني 20 ق 2 / 50.

(4) أعتبهم: طلب رضاهم.

الصفحة 250 

يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه؟ ولولا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه بأن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثرة * (1) نصاره) وحكي أن الأنصار بذلت معونته ونصرته وأن أمير المؤمنين عليه السلام بعث إليه الحسن عليه السلام فقال له: قل لأبيك: فليأتني، وأراد أمير المؤمنين عليه السلام المصير إليه فمنعه من ذلك ابنه محمد، واستغاث بالنساء عليه حتى جاء الصريخ (2) بقتل عثمان، فمد يده إلى القبلة، وقال:

اللهم إني أبرء إليك من دم عثمان (3).

ثم قال: (إن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض، وإنه داخل تحت آية المحاربين، قيل لهم: فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل، لأن ذلك يجري مجرى الحد) قال: (وكيف يدعي ذلك والمشهور عنه إنه كان يمنع من مقاتلتهم، حتى روي أنه قال لعبيده ومواليه، وقد هموا بالقتال: من أغمد سيفه فهو حر، وقد كان مؤثرا للنكير لذلك الأمر إلا أنه بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء والفتنة، فلذلك لم يستعن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعانه [ ونصره من أدركه (4) ] لأن عند ذلك تجب النصرة والمعونة لا بأمره، فحيث وقفت النصرة على أمره امتنعوا وتوقفوا، وحيث اشتد الأمر كانت إعانته ممن أدركه دون من لم يقدر ويغلب ذلك في ظنه... (5)).

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(2) الصريخ: المستغيث.

(3) المغني 20 ق 2 / 50.

(4) الزيادة من " المغني " وفي كلام القاضي وما في الشافي تفاوت في الحروف لا في المعنى.

(5) المغني 20 ق 2 / 50 مع تفاوت في بعض الحروف لا في المعنى.

الصفحة 251 

يقال له: أما اعتذاره في ولاية عثمان من ولاه من الفسقة، بأنه لم يكن عالما بذلك من حالهم قبل الولاية، وإنما تجدد منهم ما تجدد فعزلهم، فليس بشئ يعول على مثله، لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا وحالهم مشهورة في الخلاعة والمجانة (1) والتحرم والتهتك، ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر، والاستخفاف بالدين، على استقبال ولايته الكوفة، بل هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه، وكيف يخفى على عثمان - وهو قريبه ولصيقه وأخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد؟ فلهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي وقد دخل الكوفة يا أبا وهب (2)، أميرا أم زائرا قال: بل أميرا فقال سعد: ما أدري أحمقت بعدك أم كيست (3) بعدي؟ قال: ما حمقت بعدي ولا كيست بعدك ولكن القوم ملكوا فاستأثروا، فقال سعد: ما أراك إلا صادقا.

وفي رواية أبي مخنف لوط بن يحيى أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف، فقال عمرو: يا معشر بني أسد بئس ما استقبلنا به أخوكم ابن عفان، من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص، الهين اللين السهل القريب، ويبعث علينا أخاه الوليد، الأحمق الماجن الفاجر قديما وحديثا واستعظم الناس مقدمه، وعزل سعد به، وقالوا: أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم! وهذا تحقيق ما ذكرناه من حاله كانت مشهورة قبل الولاية، لا

____________

(1) المجانة - بفتح الميم - والمجون - بضمها - ومعناهما واحدة، والفاعل ماجن: وهو الذي يا يبالي ما صنع.

(2) أبو وهب: كنية الوليد.

(3) الحمق - بسكون الميم وضمها - قلة العقل، يقال: حمق - بضم الميم - من باب ظرف فهو أحمق، وتكسر الميم أيضا، والكيس بوزن الكيل: ضده.

الصفحة 252 

ريب فيها على أحد، فكيف يقال: إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر؟ وفي الوليد نزل قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (1)) فالمؤمن ها هنا علي بن أبي طالب عليه السلام والفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل (2) وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (3)) والسبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وادعى أنهم منعوه الصدقة (4) ولو قصصنا مخازيه المتقدمة ومساويه لطال الشرح.

وأما شربه الخمر بالكوفة وسكره، حتى دخل عليه من دخل وأخذ خاتمه من أصبعه، وهو لا يعلم، فظاهر قد سارت به الركبان، كذلك كلامه في الصلاة والتفاته إلى من يقتدي به فيها وهو سكران، وقوله لهم: أزيدكم فقالوا: لا، قد قضينا صلاتنا، حتى قال الحطيئة في ذلك (5):

 

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه      إن الوليد أحق بالعذر

نادى وقد تمت صلاتهم         أأزيدكم ثملا وما يدري

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا لقرنت بين الشفع والوتر

 

____________

(1) السجدة / 18.

(2) انظر تفسير الطبري 21 / 68.

(3) الحجرات: 6.

(4) انظر تفسير الطبري 26 / 78.

(5) الذي في الأغاني 4 / 178 ط بولاق " إن الحطيئة قال بعد ما جلد الوليد يكذب عنه.

 

شهد الحطيئة... البيت   خلعوا عنانك... البيت

 

وبعده:

 

ورأوا شمائل ماجد أنف         يعطي على الميسور والعسر

فنزعت مكذوبا عليك ولم       تنزع إلى طمع ولا فقر

 

فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة:

نادى وقد تمت... إلى آخر الأبيات مع تفاوت يسير ولكن الذي يضعف هذه الرواية أنها من طريق الزبير بن بكار وهو معروف بالتلاعب بالروايات، وتحريف الكلم عن مواضعه، والذي تكلم في الصلاة... الخ فمن شعر الحطيئة الذي لا يشك فيه، انظر ديوانه ص 85.

الصفحة 253 

 

حبسوا عنانك إذ جريت ولو    خلوا عنانك لم تزل تجري

 

وقال أيضا فيه:

 

تكلم في الصلاة وزاد فيها       علانية وجاهر بالنفاق

ومج الخمر في سنن المصلى   ونادى والجميع إلى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني       فما لكم وما لي من خلاق

 

فأما قوله: إنه جلده الحد وعزله، فبعد أي شئ كان ذلك؟ ولم يعزله إلا بعد أن دافع ومانع، واحتج عنه وناضل، فلو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قهره على رأيه لما عزله، ولا مكن من جلده، وقد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم وتهددهم.

قال الراوي ويقال: إنه ضرب بعض الشهود أسواطا فاتوا أمير المؤمنين فشكوا إليه فأتى عثمان فقال: عطلت الحدود وضربت قوما شهودا على أخيك فقلبت الحكم، وقد قال عمر: لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين، وأن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا

الصفحة 254 

عداوة أقمت على صاحبك الحد، وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير وعائشة وقالوا أقوالا شديدة وأخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله ومكن من إقامة الحد عليه.

وروى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه، في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز وأدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه، قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين، فيكف، فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك أخذ السوط ودخل عليه، فجلده به، فأي عذر له في عزله وجلده بعد هذه الممانعة الطويلة، والمدافعة التامة؟

وقصة الوليد مع الساحر الذي يلعب بين يديه ويغر الناس بمكره وخديعته، وإن جندب بن عبد الله الأزدي، امتعض من ذلك ودخل عليه، فقتله وقال له أحي نفسك إن كنت صادقا وإن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه وطال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة (1).

فإن قيل: فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة صدقة بني المصطلق وولى عمر الوليد أيضا صدقة تغلب (2) فكيف يدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة؟

____________

(1) في سفينة البحار 1 / 183 مادة " جندب ": " جندب بن كعب هو الذي قتل الساحر الذي يلعب بين يدي الوليد بن عقبة ويرى أنه يقطع رأس رجل ثم يعيده، ويدخل في فم الحمار ويخرج من استه وبالعكس فلما قتله حبسه الوليد " وانظر الإصابة حرف الجيم ق 1 بترجمته.

(2) بني تغلب، خ ل.

الصفحة 255 

قلنا: لا جرم أنه غر رسول الله صلى الله عليه وآله وكذب على القوم حتى نزلت الآية التي قدمنا ذكرها فعزله وليس خطب ولاية الصدقة خطب ولاية الكوفة فأما عمر لما بلغه قوله:

 

إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ         فويلك مني تغلب ابنة وائل (1)

 

وأما عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لما ظهر منه الحدث كالقعقاع بن شور وغيره وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهدوا عليه، بشرب الخمر وجلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول الأمر إلا من هو حسن الظن عند توليته فيه، حسن الظاهر عنده وعند الناس، غير معروف باللعب، ولا مشهور بالفساد، ثم لما ظهر منه ما ظهر لم يحام عنه، ولا كذب الشهود عليه وكابرهم، بل عزله مختارا غير مضطر وكل هذا لم يجر في أمراء عثمان، ولأنا قد بينا كيف كان عزل الوليد، وإقامة الحد عليه.

فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوله الحكم مختارا، لكنه غلب على رأيه وقهر على أمره ولا رأي لمقهور.

فأما قوله: (إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد، بل الأباعد أجدر وأولى أن يقدم الأقارب عليهم، من حيث كان التمكن من عزلهم أشد) وذكر تولية أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله وعبيد الله وقثما بني العباس، وغيرهم فليس بشئ، لأن عثمان لم تنقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب، بل من حيث كانوا أهل بيت الظن والتهمة، ولهذا حذره عمر منهم وأشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس، وأمير المؤمنين عليه

____________

(1) المشوذ: العمامة.

الصفحة 256 

السلام لم يول من أقاربه متهما ولا ظنينا، وحين أحس من ابن عباس بعض الريبة لم يمهله ولا احتمله، وكاتبه بما هو مشهور سائر ظاهر، ولو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه وشرط عليه يوم الشورى أن لا يحمل أقاربه على رقاب الناس، ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم، لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة، وطرائقهم القبيحة.

فأما سعيد بن العاص فإنه قال في الكوفة: إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت وتترك، حتى قالوا له: أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك! ونابذوه وأفضى ذلك الأمر إلى تسييره من سير من الكوفة والقصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها، وتكلموا فيه وفي عثمان كلاما ظاهرا، حتى كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة، وإنما صرفه أهل الكوفة عنهم.

فأما قوله: (إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر وأصحابه، وحلف إن الكتاب ليس كتابه، ولا الغلام غلامه، ولا الراحلة راحلته، وإن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره) فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه، لأن جميع من روى هذه القصة ذكر إنه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة، وإنما أنكر أن يكون أمر بالكتاب (1) لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة، فجمعوا أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وسعدا وجماعة الأصحاب، ثم

____________

(1) انظر العقد الفريد 4 / 289.

الصفحة 257 

فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، فدخلوا على عثمان والكتاب مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: هذا الغلام غلامك؟

قال نعم قال والبعير بعيرك قال نعم قال: فأنت كتبت هذا الكتاب قال:

لا وحلف بالله أنه ما كتب الكتاب ولا أمر به، فقال له: فالخاتم خاتمك؟ فقال: نعم قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك، ولا تعلم به؟

وفي رواية أخرى، إنه لما واقفه قال له عثمان: أما الخط فخط كاتبي، وأما الخاتم فعلى خاتمي قال: فمن تتهم؟ قال: اتهمك، واتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين مغضبا وهو يقول: بل هو أمرك، ولزم داره وقعد عن توسط أمره حتى جرى ما جرى من أمره.

وأعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين عليه السلام إني أتهمك، وتظاهره بذلك، وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول، مع بعد أمير المؤمنين عليه السلام عن التهمة والظنة في كل شئ ثم في أمره خاصة، فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخروه، حتى قام أمير المؤمنين عليه السلام بأمره وتوسطه، وأصلحه وأشار إليه بأن يقاربهم ويعتبهم، حتى انصرفوا عنه، وهذا فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن ولو كان عليه السلام وحوشي من ذلك متهما عليه، لما كان للتهمة مجال عليه في أمر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين عليه السلام مروان، وفي يد غلام عثمان، ومختوم بخاتمه، ومحمول على بعيره، فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان لولا العداوة وقلة الشكر للنعمة، ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة، لأنهم قالوا: إذا كنت ما كتبته ولا أمرت به فأنت ضعيف، من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك

الصفحة 258 

فيما يختمه بخاتمك، وينفذه بيد غلامك، على بعيرك بغير أمرك، ومن تم عليه مثل ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين، فاختلع عن الخلافة على كل حال، وقد كان يجب على صاحب الكتاب أن يستحيي من قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره) وكيف يقبل عذر من يتهمه ويشنعه وهو له ناصح، وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام بعد سماع هذا القول منه معروف.

وقوله: (إن الكتاب يجوز فيه التزوير) وليس بشئ لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب والغلام والبعير، وهذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير وقد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة وعمن زور الكتاب وأنفذ الرسول ولا ينام عن ذلك. ولا ينيم حتى يعرف من أين دهي وكيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها؟ ولا يغضى عن ذلك إغضاء خائف له ساتر عليه، مشفق من بحثه وكشفه.

فأما قوله: (إنه وإن غلب في الظن أن مروان كتب الكتاب، فإن الحكم بالظن لا يجوز، وتسليمه إلى القوم على ما ساموه إياه ظلم لأن الحد والتأديب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم) فتعلل (1) منه بالباطل، لأنا لا نعمل إلا على قوله: في أنه لم يعلم أن مروان هو الذي كتب الكتاب وإنما غلب في ظنه، أما كان يستحق بهذا الظن بعض التعنيف والزجر والتهديد؟ أو ما كان يجب مع وقوع التهمة وقوة الإمارات في أنه جالب الفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه، ويطرده من داره، ويسلبه نعمته، وما كان يخصه به من إكرامه؟ وما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه عليه.

____________

(1) التعلل: التلهي وفي ح " فتعلل بما لا يجدي ".

الصفحة 259 

وأما قوله: (إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا سيما قبل وقوع القتل المأمور به) فهب أن ذلك على ما قال أما يوجب على الآمر بالقتل تأديبا ولا تعزيرا ولا طردا ولا إبعادا؟.

وقوله: (لم يثبت ذلك) فقد مضى ما فيه وبينا أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث والكشف، وتهديد المتهم وطرده وإبعاده، والتبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها.

فأما قوله: (إن قتله ظلم، وكذلك حبسه في الدار ومنعه من الماء، وإن استحق القتل أو الخلع، لا يحل أن يمنع الطعام والشراب وأطنابه في ذلك وقوله: (إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا) وقوله: (إن قتله أيضا لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس) فباطل، لأن الذين قتلوه، لا ينكر أن يكونوا ما تعمدوا قتله، وإنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر من أحداثه، ويعتزل الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره، فلج وصمم على الامتناع، وأقام على أمر واحد، فقصد القوم بحصره إلى أن يلجئوه إلى خلع نفسه، فاعتصم بداره، واجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه، ثم يرمون من دنى من الدار، فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج. ثم إلى القتل، ولم يكن القتال ولا القتل مقصودا في الأصل، وإنما أفضى الأمر إليهما بتدريج وترتيب، وجرى ذلك مجرى ظالم غلب انسانا على رحله ومتاعه، فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص ماله من يده. ولا يقصد إلى إتلافه، ولا قتله، فإن أفضى الأمر إلى ذلك، بلا قصد كان معذورا وإنما خاف القوم في التأني به، والصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم، ويستقدم الجيوش إليه، ولم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه، فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى، والبلية

 

 

 

الصفحة 260 

العظمى.

وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليحرج ويحوج (1) إلى الخلع الواجب عليه، وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات، فتعذر إقامة الحد عليه، لمكان الحرم، على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء والطعام، وأنفذ من مكن من حمل ذلك. لأنه قد كان في الدار من النساء والحرم و الصبيان من لا يحل منعه الطعام والشراب، ولو أن حكم المطالبة بالخلع والتجمع عليه والتضافر (2) فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر لأنكره أمير المؤمنين عليه السلام ومنع منه كما منع من غيره، فقد روي عنه عليه السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا من في الدار من الماء قال عليه السلام لا أرى ذلك في الدار صبيان وعيال لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان، فصرح بالمعنى الذي ذكرناه، ومعلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك مشاورا فيه.

فأما قوله: (إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع) فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على هذا الوجه، لأن في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها، في حكم الظالم لهم، فمدافعته واجبة.

فأما ما قصه من قصة الكتاب الموجودة، فقد حرفها لأنا قد ذكرنا شرحها الذي وردت به الرواية وهو بخلاف ما ذكره.

وأما قوله: (أنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب إلى الله مستغفر) فقد أجابه القوم عن هذا فقالوا: هكذا قلت في المرة الأولى

____________

(1) ويجيب، خ ل.

(2) تضافروا على الشئ: تعاونوا.

الصفحة 261 

وخطبت على المنبر بالتوبة والاستغفار، ثم وجدنا كتابك بما يقتضي الاصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك واستغفارك؟

فأما قوله: (إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه؟) فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة، وأنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة.

فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته، وأقسم على عبيده في ترك القتال، فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر طلبا للسلامة، وظنا منه بأن الأمر يصلح، والقوم يرجعون عما هم عليه، وما هموا به، فلما اشتد الأمر ووقع اليأس من الرجوع والنزوع لم يمنع أحدا من نصرته، والمحاربة عنه، وكيف يمنع من ذلك وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره ويستصرخه! والذي يدل على ذلك أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره. أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر ويستدعي الجيوش، فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب، فأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد) فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه انصرف مغضبا عاملا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال.

فأما قوله في جواب سؤال من قال: إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض وآية المحاربين تتناوله (وقد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن يجري مجرى الحد) فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا، ولم يكن على مذهب أكثر القوم هناك إمام يقوم بالدفع عن الدين، والذب عن الأمة، جاز أن تتولى

الصفحة 262 

الأمة ذلك بنفوسها.

وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا كارهين لما جرى عليه، وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما، وهذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورة قبل النظر في الأخبار، وسماع ما ورد من شرح هذه القصة، لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم، وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم، لا يجوز أن يتم، ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة، وأن يغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ويفعلوا ما يكرهونه بإمامهم بمرأى منهم ومسمع، وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورات، قبل مجئ الآثار وتصفح الأخبار، وتأملها.

وقد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن ابن أبي جعفر القاري مولى بني مخزوم قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن ابن عديس البلوى (1) وكنانة بن بشر الكندي (2) وعمرو بن الحمق الخزاعي (3) والذين قدموا من الكوفة مائتين عليهم مالك بن الحارث الأشتر

____________

(1) عبد الرحمن بن عديس البلوي صحابي من أهل بيعة الشجرة، شهد فتح مصر واختط بها، وكان من الفرسان، وكان رئيس الخيل التي سارت إلى عثمان، ولما آل الأمر إلى معاوية سجنه بفلسطين فهرب من السجن فتبعه فارس فقتله سنة 36.

(انظر الإصابة، حرف العين ق 1).

(2) كنانة بن بشر بن عتاب له إدراك، قال في الإصابة حرف الكاف ق 3:

شهد فتح مصر وقتل بفلسطين سنة 36.

(3) عمرو بن الحمق الخزاعي صحابي دعا له النبي صلى الله عليه وآله أن يمتعه بشبابه فمرت له ثمانون سنة ما فيه شعرة بيضاء، سكن الشام ثم الكوفة وكان ممن قام على عثمان مع أهلها، وشهد مع علي عليه السلام حروبه، وكان من أعوان حجر بن عدي الكندي، فلما قبض زياد على حجر هرب عمرو إلى الموصل فقتله عامل الموصل وبعث برأسه إلى معاوية فكان أول رأس أهدي في الاسلام (انظر الإصابة حرف العين، ق 1).

الصفحة 263 

النخعي (1) والذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي (2) وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ بهم إلى القتل، ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا، وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها.

وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال:

قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن

____________

(1) مالك بن الحارث الأشتر من كبار التابعين ومن أشهر أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام، أما سبب تلقيبه بالأشتر فقد نقل الأمير أسامة بن منقذ الكناني في كتابه الموسوم ب " الاعتبار " ص 37 أنه لما ارتد العرب أيام أبي بكر (رض) جهز العساكر إلى المرتدين، فكان أبو مسيكة الأيادي مع بني حنيفة، وكان أشد العرب شوكة، وكان مالك في جيش أبي بكر فلما تواقفوا برز مالك بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة بعد الاسلام وقراءة القرآن رجعت إلى الكفر! فقال: إليك عني يا مالك إنهم يحرمون الخمر ولا صبر لي عليها، قال: فهل لك في المبارزة؟ قال: نعم، فالتقيا فضربه أبو مسيكة فشق رأسه وشتر عينه - وبتلك الضربة سمي الأشتر - (الشتر - بفتحتين -: انقلاب في جفن العين) فرجع وهو معتنق فرسه إلى رحله فاجتمع عليه قوم من أهله يبكون، فقال لأحدهم أدخل يدك في فمي فأدخل إصبعه في فمه فعضها مالك فالتوى الرجل من العضة فقال مالك: لا بأس على صاحبكم، يقال:

" إذا سلمت الأضراس سلم الرأس " احشوها - يعني الضربة - سويقا فحشوها وشدوها بعمامته ثم قال: هاتوا فرسي قالوا إلى أين؟ قال: إلى أبي مسيكة فبرز بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة فخرج إليه مثل السهم فضربه مالك بالسيف على كتفه فشقها إلى سرجه فقتله فرجع إلى رحله فبقي أربعين يوما لا يستطيع الحراك ثم أبل وعوفي، توفي مالك مسموما حيث دس إليه معاوية مولى لآل عمر عند توجهه إلى مصر فسقاه عسلا مسموما في قصة معروفة.

(2) حكيم - بضم أوله مصغرا - بن جبلة العبدي أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عثمان بعثه إلى السند ثم نزل البصرة وقتل بها يوم الجمل (انظر الإصابة حرف الحاء ق 3 بترجمته) ويعني بيوم الجمل يوم الجمل الأصغر الذي حدث قبل قدوم أمير المؤمنين عليه السلام البصرة راجع في تفصيل ذلك شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ح 9 ص 218 - 223.

الصفحة 264 

عثمان؟ قال إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.

وروي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم شهده ثمانمائة، وكيف يقال: إن القوم كانوا كارهين، وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه، وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الأمر لعثمان، وجالبه إليه، ومصيره في يده، يقول على ما رواه الواقدي قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ عثمان ذلك فبعث إلى بئر كان يسقى منها نعم عبد الرحمن فمنع منها، ووصى عبد الرحمن أن لا يصلي عليه عثمان، فصل عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وقد كان حلف لما تتابعت أحداثه ألا يكلم عثمان أبدا.

وروى الواقدي قال: لما توفي أبو ذر بالربذة (1) تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

هذا عملك، فقال له عبد الرحمن فإذا شئت: فخذ سيفك وأخذ سيفي أنه خالف ما أعطاني.

فأما محمد بن مسلمة (2) فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية: أردد عني، فقال: لا والله لا اكذب الله في

____________

(1) النعم واحدة الأنعام وهي الأموال الراعية وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.

(2) الربذة بين المدينة وبدر وتسمى اليوم " الواسطة " تقع على يمين الذاهب إلى المدينة بها قبر أبي ذر الغفاري والموضع معروف في تلك المنطقة وقد زرته مرارا عند العودة من الحج إلى المدينة.

(3) محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي أسلم قديما وشهد بدرا فما بعدها كان عند عمر معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد سكن الربذة بعد قتل عثمان واعتزل أيام علي عليه السلام وتوفي سنة 46 (الإصابة حرف الميم ق 1).

الصفحة 265 

سنة مرتين، وإنما عني بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى وضمن لهم عن عثمان الرضا.

وفي رواية الواقدي، إن محمد بن مسلمة كان يؤتى وعثمان محصور فيقال له: عثمان مقتول فيقول: هو قتل نفسه أما كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة واحدا واحدا، فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح، ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة، وما صرحوا به من خلعه والاجلاب عليه، فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه في هذا الباب.

قال صاحب الكتاب: (فأما رده الحكم بن أبي العاص (1) فقد روى عنه أنه لما عوتب في ذلك، ذكر أنه كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لأنه شاهد واحد، وكذلك روى عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فلم يقبلا فيه خبر الواحد، وأجرياه مجرى الشهادة، فلما صار الأمر إلى عثمان حكم بعلمه، لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخنا (2) ولا يفصلان بين حد وحق لا أن يكون العلم قبل الولاية، أو حال الولاية، ويقولان أنه أقوى في الحكم من البينة والاقرار (3) ثم ذكر عن أبي علي أنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في أذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رده، فلا بد من تجويز كونه معذورا ثم سأل نفسه في أن الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة، وأن التهمة كانت في رد الحكم

____________

(1) الحكم بن أبي العاص بن أمية عم عثمان (رض) (انظر ترجمته في أسد الغابة 3 / 34 / وانظر أسباب نفيه إلى الطائف بترجمته من الإصابة (حرف الحاء ق 1).

(2) يريد الكعبي والجبائي وقد تكرر ذكرهما في الكتاب.

(3) المغني 20 ق 2 / 51.

الصفحة 266 

قوية لقرابته، وأجاب (بأن الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه، لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه وحمل أفعاله على الصحة ولو جوزنا امتناعه للتهمة لأدى إلى بطلان كثير من الأحكام).

وحكي عن أبي الحسين الخياط (1) (إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد، لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات.

وتغير حال المنفي، وإذا جاز لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه، وإن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم (2).

قال: (وأما ما ذكروه من إيثار أهل بيته بالأموال، فقد كان عظيم اليسار كثير الأموال، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله، وإذا احتمل ذلك، وجب حمله على الصحة (2) وحكي عن أبي علي (إن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته مائة ألف دينار لكل واحد، إنما هو من ماله ولا رواية تصح في أنه أعطاهم ذلك من بيت المال، ولو صح ذلك كان لا يمتنع أن يكون أعطى من بيت المال ليرد عوضه من ماله، لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك، كما له أن يقرض غيره) ثم حكي عن أبي على (إن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يوجب قبوله وإنما يرويه من يقصد التشنيع على عثمان (2) وحكي عن أبي الحسين الخياط (إن ابن أبي سرح لما غزا البحر ومعه مروان في الجيش ففتح الله عليه، وغنموا غنيمة عظيمة

____________

(1) ما حكاه القاضي عن الخياط ساقط من " المغني ".

(2) كل ما رمزنا إليه، برقم (2) فمن المغني 20 ق 2 / 51 علما بأن المرتضى حذف ما لا يخل بالمعنى من كلام القاضي.

الصفحة 267 

اشترى مروان الخمس من ابن أبي سرح بمائة ألف، وأعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح، وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال، وللإمام فعل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور قال: وهذا الصنيع منه كان في السنة الأولى من إمامته، ولم يتبرأ أحد منه فيها، فلا وجه للتعلق به، وذكر فيما أعطاه لأقاربه إنه وصلهم لحاجتهم، ولا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا (1)) وذكر في إقطاعه بني أمية القطائع (إن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها من جهات ويعلمون أنه لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها فيؤدي عنها ما يجب من الحق، وله أن يصرف ذلك إلى من يقوم به، وله أيضا أن يزيد بعضا على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتآلف، وطريق ذلك الاجتهاد (1)).

قال: (وأما ما ذكروه من أنه حمى الحمى عن المسلمين، فجوابه:

أنه لم يحم الكلأ لنفسه، ولا استأثر به، لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها نعود على المسلمين، وقد روي عنه هذا الكلام بعينه، وأنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة، وقد أطلقته الآن، وأنا استغفر الله، وليس في الاعتذار ما يزيد على ذلك، فأما ما ذكروه من اعطائه من بيت مال الصدقة المقاتلة فلو صح فإنما فعل ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقات على طريق الاقتراض (2) وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يفعل مثل ذلك سرا (3) وللإمام في مثل هذه الأمور أن

____________

(1) كل ما رمزنا إليه برقم (1) فمن المغني 20 ق / 2 / 51.

(2) أي يعطيهم قرضا على عطاياهم وفي شرح نهج البلاغة " على سبيل الأفراض؟؟ ".

(3) كلمة " سرا " ساقطة من " المغني ".

الصفحة 268 

يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فبان يجوز أن يتناول من مال في يده ليرده من المال الآخر أولى (1)).

وحكي عن أبي علي في قصة ابن مسعود وضربه أنه قال: (لم يثبت عندنا ضربه إياه، ولا صح عندنا طعن عبد الله عليه، ولا إكفاره له، والذي يصح في ذلك أنه كره منه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت وإحراقه المصاحف، وثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه.

وقيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان [ فإما أن يكون هو الذي ضربه أو أمر بضربه فلم يصح عندنا (2) ] ولو صح أنه أمر بضربه لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود (3) لأن للإمام تأديب غيره، وليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان) وذكر (أن الوجه في جمع الناس على قراءة واحدة تحصين القرآن وضبطه، وقطع المنازة فيه والاختلاف) قال: (وليس لأحد أن يقول: لو كان واجبا لفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن الإمام إذا فعله صار كأنه فعله عليه السلام (4) ولأن الأحوال في ذلك تختلف.

وقد روي عن عمر أنه كان قد عزم على ذلك فمات دونه، وليس لأحد أن يقول أن إحراقه المصاحف إنما كان استخفافا بالدين وذلك لأنه

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 52.

(2) ما بين الحاصرتين من " المغني " علما بأن هذه الجملة في المغني أخرت عن التي بعدها وأقحمت بين " جمع الناس على رواية واحد " وبين الرواية عن عمر.

(3) عبارة المغني " لم يكن بأن يكون طعنا في ابن مسعود بأولى من أن يكون طعنا بعثمان " ولا ريب أن القاضي لا يريد هذا المعنى وما في المتن أوجه.

(4) الضمير " عليه السلام " لرسول الله صلى عليه وآله، والمعنى يصير فعل الإمام فعلا له عليه السلام.

الصفحة 269 

إذا جاز من الرسول صلى الله عليه وآله أن يخرب المسجد الذي بنى ضرارا وكفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف [ إذا كان في تركه مفسدة ] (1) وحكي عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه * ثم حكى صاحب الكتاب أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره ولما أحضره عطاه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني وجئتني به عند الموت لا أقبله وأنه طرح أم حبيبة عليه ليزيل ما في نفسه * (2) فلم يجب قال: وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم، ويوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما رووه من ضربه).

يقال له: أما ما ادعيته وبنيت الأمر في قصة الحكم من أن عثمان لما عوتب في رده ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله أذن له في ذلك فهو شئ ما سمع إلا (3) منك ولا يدرى من أين نقلته، وفي أي كتاب وجدته، وما رواه الناس كلهم بخلاف ذلك.

وقد روى الواقدي من طرق مختلفة، وغيره، أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي صلى الله عليه وآله إلى الطائف وقال لا تساكنني في بلد أبدا، فجاءه عثمان فكلمه فأبى، ثم كان من أبي بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك علي عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم ومن معه وقد كان

____________

(1) ما بين المعقوفين من المغني.

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " وكذا ما حكاه قبله عن الخياط.

(3) في شرح نهج البلاغة " فهو شئ لم يسمع إلا من قاضي القضاة، ولا يدري من أين نقله، وفي أي كتاب وجده ".

الصفحة 270 

النبي صلى الله عليه وآله أخرجه، وأبو بكر وعمر، وإنا نذكرك الله والاسلام ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة من قبلك. ولم يطمع أحد أن يكلمهم فيه، وهذا سبب نخاف الله تعالى عليك فيه، فقال: إن قرابتهم مني حيث تعلمون، وقد كان رسول الله حيث كلمته أطمعني في أن يأذن له، وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم. ولن يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم، فقال علي عليه السلام: " لا أحد شرا منه ولا منهم " ثم قال علي عليه السلام: " هل تعلم أن عمر قال: والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، والله لئن فعل ليقتلنه " قال: فقال عثمان ما كان منكم أحد يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال من المقدرة ما أنال إلا أدخله، وفي الناس من هو شر منه، قال: فغضب علي عليه السلام قال: " والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت. وسترى يا عثمان غب ما تفعل " ثم خرجوا من عنده.

 

وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب، لأن الرجل لما احتفل ادعى أن الرسول كان أطمعه في ردة، ثم صرح بأن رعايته فيه من القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله.

وقد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد الحكم أغلظا له وزبراه، وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأمرني أن أدخله، والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لئن أشق باثنتين كما تنشق الأبلمة (1) أحب إلي من أن أخالف لرسول الله صلى الله عليه وآله أمرا

____________

(1) الأبلم: خوص النخل، واحدته أبلمة - بضم اللام - والمثل يضرب في المساواة، ويريد لو أشق شقين.

الصفحة 271 

وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم، وما رأينا عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر أن عندي عهدا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه لا أستحق معه عتابا ولا تهجينا (1) وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معظم له بأن يأتي إلى عدو لرسول الله صلى الله عليه وآله، مصرح بعداوته والوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكي مشيته، فطرده رسول الله صلى الله عليه وآله وأبعده ولعنه، حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله فيؤويه ويكرمه ويرده إلى حيث أخرج منه، ويصله بالمال العظيم، ويصله إما من مال المسلمين، أو من ماله، إن هذا لعظيم كبير، قبل التصفح والتأمل، والتعلل بالتأويل الباطل.

فأما قول صاحب الكتاب: (إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد، وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص) فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشئ في باب الحكم، على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من الباب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين، بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد، وكيف يجوز أن يجري أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما ليس فيها؟

وقوله: (لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته، لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه) ليس بشئ لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه وآله إذنا، وإنما ادعى أنه أطمعه في ذلك، وإذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية، بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا.

____________

(1) تهجين الأمر: تقبيحه.

الصفحة 272 

فأما قوله: (الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يقضي إلى زوال التهمة) فأول ما فيه، أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة، والتهمة قد تكون لها إمارات وعلامات، فما وقع فيها عن إمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثرا وما لم يكن كذلك وكان مبتدئا فلا تأثير له، والحكم هو عم عثمان، وقريبه ونسيبه، ومن قد تكلم فيه وفي رده مرة بعد أخرى لوال بعد وال، وهذه كلها أسباب التهمة، فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة، لتطرق التهمة فيه.

فأما ما حكاه عن الخياط (من أن الرسول صلى الله عليه وآله لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، لأن الأحوال قد تتغير) فظاهر البطلان لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور، أو حظر المباح، ومن جوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا، لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه، ولو جوزنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم نأمن من أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة بأن يتغير الحال.

وهذا هدم للشريعة.

فأما استشهاده باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد، وقد مضى ما فيه.

فأما قوله في جواب ما يسأل عنه من إيثاره أهل بيته بالأموال (إنه لا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله) فالرواية بخلاف ذلك، وقد صرح الرجل أنه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه، ولما وقف على ذلك لم يعتذر منه بهذا الضرب من العذر، ولا قال إن هذه العطايا من مالي، ولا اعتراض لأحد فيه، وقد روى الواقدي بإسناده عن الميسور بن عتبة أنه

الصفحة 273 

قال: سمعت عثمان يقول: إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف (1) أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي وروي عنه أنه كان بحضرته زياد بن عبيد الله الحارثي مولى الحارث بن كلدة الثقفي، وقد بعث أبو موسى بمال عظيم من البصرة، فجعل عثمان يقسمه بين أهله وولده بالصحاف، ففاضت عينا زياد دموعا لما رأى من صنيعه بالمال، فقال: لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله وذوي أرحامه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي أهلي وقرابتي ابتغاء وجه الله، وقد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة.

وروى الواقدي بإسناده قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان. فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص.

وروي أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.

وروى أبو مخنف والواقدي جميعا أن الناس أنكروا على عثمان اعطاءه سعيد بن أبي العاص مائة ألف فكلمه علي عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك. فقال: إن لي قرابة ورحما، فقالوا: أما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في عطاء قرابتي، قال: فهديهما والله أحب إلينا من هديك.

وقد روى أبو مخنف أنه لما قدم على عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص (2) من مكة وناس معه أمر لعبد الله ثلاثمائة ألف.

____________

(1) الظلف - بالتحريك - المنع.

(2) العيص خ ل.

الصفحة 274 

ولكل واحد من القوم مائة ألف وصك (1) بذلك على عبد الله بن الأرقم (2) وكان خازن بيت المال فاستكثره ورد الصك به، ويقال: إنه سأل عثمان أن يكتب بذلك كتاب دين فأبي ذلك. وامتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم. فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا، فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازنا للمسلمين، وإنما خازنك غلامك والله لا ألي لك بيت المال أبدا، فجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر، ويقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى نائل مولاه، وروى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم، فلما دخل بها عليه، قال له: يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول لك: إنا قد شغلناك عن التجارة، ولك ذو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم، واستعن به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه حاجة، وما عملت لأن يثبتني عثمان، والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي على أن أعطى ثلاثمائة ألف درهم ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه (3) من ماله شيئا وما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه.

____________

(1) صك: كتب، والصك: الكتاب.

(2) عبد الله بن الأرقم القرشي الزهري كانت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمة أبيه الأرقم أسلم عام الفتح وكتب للنبي وأبي بكر وعمر استعمله عمر على بيت المال وعثمان بعده ثم إنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه، ولما استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن إليه ووثق به وكان إذا كتب إلى بعض الملوك يأمره أن يختمه ولا يقرؤه لأمانته عنده، وقد ذكر ابن الأثير قريبا مما نقله المرتضى عن الواقدي (انظر أسد الغابة / 3 / 115).

(3) أرزأه: أي أصيب منه، كأنه مأخوذ من قولهم: رزأته رزيئة: أي أصابته مصيبة.

الصفحة 275 

وأما قوله: (لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض) فليس بشئ لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره، وقد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض، وأنا أرد عوضه، ولا يقول ما تقدم ذكره، من إنني أصل به رحمي، على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة، يعود عليهم نفعا، أو في سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها، فإما أن يقترض المال ليتسع (1) ويمرح فيه مترفي بني أمية وفساقهم فلا حد يجيز ذلك.

فأما قوله حاكيا عن أبي علي: (إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان، ليس بمحفوظ ولا منقول) فتعلل منه بالباطل، لأن العلم بذلك يجري مجرى الضروري مجرى العلم بسائر ما تقدم ومن قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه لك كما يعلم نظائره.

وقد روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله ابن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم، وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على الخمس ويتجاوز إلى إعطاء الكل.

وروى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور (2) قالت: لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه، وكان

____________

(1) لينتدح، خ ل والمعنى واحد لأن المندوحة: هي السعة.

(2) أم بكر هي بنت المسور بن مخرمة الزهري صحابي معروف ومن جملة من روى عنه ابنته هذه ذكر ذلك ابن عبد البر في الإصابة حرف الميم ق 1 بترجمة المسور.

الصفحة 276 

المسور ممن دعاه، فقال مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور: لو أكلت طعامك وسكت كان خيرا لك. لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا ثقلا، فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية، وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين.

وروى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف، أو بمائة ألف دينار، وكلم عثمان فوهبها له، فأنكر الناس ذلك على عثمان.

وهذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر ب (أن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب) وهذا الاعتذار ليس بشئ.

ثم قال: (والذي رويناه في هذا الباب خال من البشارة، وإنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه، أو ابتدأ هو بصلته، ولو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين، وتلك البشارة لا يستحق أن يبلغ البشير بها مأتي ألف دينار ولا اجتهاد في مثل هذا ولا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله، ومن جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، ومن ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى جواز إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب).

وأما قوله: (إنه فعل ذلك في السنة الأولى من أيامه ولم يتبرأ أحد منه) فقد مضى الكلام فيه مستقصى.

الصفحة 277 

فأما قوله: (إنه وصل بني عمه لحاجتهم، ورأى في ذلك صلاحا) فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الحاجة والخلة، وأنه كان يصل منهم المياسير وذوي الأحوال الواسعة، والضياع الكثيرة، ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو من أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه، فإن كان على المسلمين، فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مأتي ألف دينار، والحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم، إلى غير ذلك ممن هو مذكور، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر، وإن أراد الصلاح العائد على الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين وبنفعهم بما يضر به المسلمين.

فأما قوله: (إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين، لأنها كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها، ويؤدي الحق فيها) فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره ولم يكن هذه القطائع على سبيل الصلة والمعونة لأقاربه لما خفى ذلك على الحاضرين، ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه، ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه، ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه لهم بخلاف ما روي من جوابه، لأنه كان يجب أن يقول لهم: وأي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم وإيصال المنافع إليهم؟ وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم، وما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي، وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكروه.

فأما اعتذاره في الحمى (إنه حماه الإبل الصدقة التي منفعتها تعود

 

 

 

الصفحة 278 

على المسلمين، وإنه استغفر منه واعتذر) فالمروي أولا بخلاف ما ذكره لأن الواقدي روى بإسناده قال: كان عثمان يحمي الربذة والشرف (1) والنقيع (2) فكان لا يدخل في الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية، حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله، وكانت ألف بعير، ولإبل الحكم، وكان يحمي الربذة لإبل الصدقة، ويحمي النقيع لخيل المسلمين، وخيله وخيل بني أمية، على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا، لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله أحلا الكلأ وأباحاه وجعلاه مشتركا، فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة، ولو كان في هذا الفعل مصيبا، وإنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين، لما جاز أن يستغفر منه ويعتذر، لأن الاعتذار إنما يكون من الخطأ دون الصواب.

فأما اعتذاره من إعطائه المقاتلين (3) من بيت مال الصدقة، بأن ذلك (إنما جاز لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقة عنه، وإن الرسول صلى الله عليه وآله فعل مثله) فليس بشئ لأن المال الذي جعل الله له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل عن جهته بالاجتهاد ولو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه تعالى أعلم بالمصالح واختلافها منا، ولكان لا يجعل لأهل

____________

(1) الشرف - كما في معجم البلدان بهذه المادة عن الأصمعي - كبد نجد وكانت من منازل بني آكل المرار ملوك كندة، قال: وفيه الربذة وهي الحمى الأيمن.

(2) النقيع -: كما في معجم البلدان - نقيع الخضمات موضع حماه عمر بن الخطاب (رض) لخيل المسلمين وهو من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة يسلكه العرب إلى مكة.

(3) المقاتلة خ ل.

الصفحة 279 

الصدقة منها القسط مطلقا.

فأما قوله: (إن الرسول صلى الله عليه وآله فعله) فهو دعوى مجردة من غير برهان وقد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك فأما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما وقف عليه؟.

فأما ما حكاه عن أبي علي (من أن ضرب ابن مسعود لم يصح ولا طعن ابن مسعود عليه وإنما كره جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وأنه قيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان) فالمعلوم المروي خلافه، ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود عليه. وقوله فيه أشد القول وأعظمه، وذلك معلوم كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة.

وقد روى كل من روى السير من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول: ليتني وعثمان برمل عالج (1) يحثي علي وأحثي عليه حتى يموت الأعجز مني ومنه ورووا أنه كان يطعن عليه فيقال له: ألا خرجت إليه لنخرج معك؟ فيقول: والله لئن أزاول جبلا راسيا أحب إلي من أزاول ملكا مؤجلا، وكان يقول في كل يوم جمعة، بالكوفة جاهرا معلنا: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنما يقول ذلك معرضا بعثمان،

____________

(1) عالج - كما في معجم البلدان -: رمال بين فيد والقريات، ينزلها بعض بنو بحتر من طي متصلة بالثعلبية على طريق مكة.

الصفحة 280 

حتى غضب الوليد من استمرار تعرضه، ونهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه.

وروي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه، وقالوا: يا أبا عبد الرحمن ارجع، فوالله لا يوصل إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك، فقال: أمر سيكون، ولا أحب أن أكون أول من فتحه.

وقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب وتعاطي شرح ما روى عنه في هذا الباب يطول، وهو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه وأنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما بها، فسكت القوم، وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر: فأنا أقبلها، فقال: ابن مسعود لا يصلي على عثمان، فقال ذلك لك، فيقال: إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك، فقال له قائل: إن عمارا ولى هذا الأمر، فقال لعمار: ما حملك على أن لم تؤذني؟ فقال له: إنه عهد إلي ألا اؤذنك، فوقف على قبره وأثني عليه ثم انصرف وهو يقول: رفعتم والله بأيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر:

 

لأعرفنك (1) بعد الموت تندبني        وفي حياتي ما زودتني زادي

 

ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائدا، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا آمر لك بعطائك؟

____________

(1) ويروى " لألفينك " والبيت لعبيد بن الأبرص.

الصفحة 281 

قال: منعتنيه، وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه، قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله، قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن، فقال أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي، وصاحب الكتاب قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكيناه من كلامه، قال: (يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر) وهذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر، وإنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب الكتاب اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول؟ وإذا جاز ما ذكره لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره.

فأما قوله: (إن عثمان لم يضربه، وإنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه) فالأمر بخلاف ذلك وكل من قرأ الأخبار، علم أن عثمان أمر بإخراجه من المسجد على أعنف الوجوه، وبأمره جرى ما جرى عليه، ولو لم يكن بأمره ورضاه، لوجب أن ينكر على مولاه كسره لضلعه، ويعتذر إلى من عاتبه على فعله (1) بأن يقول إنني لم آمر بذلك، ولا رضيته من فاعله، وقد أنكرت على من فعله، وفي علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلناه.

وقد روى الواقدي بإسناده وغيره، أن عثمان لما استقدمه المدينة دخلها ليلة جمعة، فلما علم عثمان بدخوله، قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقئ ويسلح (2) فقال ابن مسعود لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم

____________

(1) على فعله بابن مسعود خ ل.

(2) السلاح - بالضم - النجو وهو ما يخرج من البطن.

الصفحة 282 

بدر، وصاحبه يوم أحد، وصاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين، قال: فصاحت عائشة: أيا عثمان. أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: عثمان اسكتي ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ابن قصي (1): أخرجه إخراجا عنيفا، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه، فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان، وفي رواية آخر أن ابن زمعة مولى لعثمان أسود وكان مسدما (2) طوالا وفي رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان، وفي رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله أنشدك الله أن تخرجني من مسجد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الراوي: فكأني أنظر إلى حموشة ساقي (3) عبد الله بن مسعود ورجلاه يختلفان على عنق مولى عثمان، حتى أخرج من المسجد، وهو الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله (لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل واحد).

وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان

____________

(1) المعروف أن عبد الله بن زمعة شيعة لعلي عليه السلام فيبعد أن يفعل ذلك بابن مسعود، وقد نص على تشيعه الشريف الرضي في نهج البلاغة وابن أبي الحديد في شرح النهج رغم أن أباه وعمه وأخاه قتلوا يوم بدر وشارك علي عليه السلام في قتلهم (انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده (2 / 177 و 178) والصحيح ما ذكره المرتضى في الرواية الأخرى أن ابن زمعة عبد أسود من عبيد عثمان.

 

وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى    ولـكـنـمـا قـد مـيــزوا بـالخـلائـق

 

(2) المسدم - كمقدم -: الأهوج.

(3) الحموشة: دقة الساقين.

الصفحة 283 

ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر، وهذه قصة أخرى وذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة، وليس معه إلا امرأته وغلامه (1) عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلوا ذلك. وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق عمارا (2) فلم ترعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، قد كادت الإبل تطاؤها، فقام إليهم العبد، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فأعينونا على دفنه، فأنهل ابن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله، قال له: (تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك) ثم نزل هو وأصحابه فواروه.

وأما قوله: (إن ذلك بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود) فواضح البطلان، وإنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود، لأنه لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود، وفضله وإيمانه، ومدح رسول الله صلى الله عليه وآله وثنائه عليه وأنه مات على الجملة المحمودة منه، وفي كل هذا خلاف بين المسلمين في عثمان، فلهذا طعنا فيه.

فأما قوله: (إن ابن مسعود سخط جمعه الناس على قراءة زيد

____________

(1) الصحيح أن أبا ذر لم يكن معه حين حضرته الوفاة إلا ابنته وأن امرأته توفيت قبله وإذا صح أن غلامه كان معه فالمراد به جون الشهيد يوم الطف رضي الله عنه فقد انضم إلى الحسن عليه السلام بعد وفاة أبي ذر ثم انضم بعد وفاة الحسن عليه السلام إلى الحسين عليه السلام إلى أن استشهد بين يديه على ما ذكره المترجمون لأنصار الحسين عليه السلام.

(2) معتمرين خ ل.

الصفحة 284 

وإحراقه المصاحف) واعتذاره من جمع الناس على قراءة واحدة: (بأن فيه تحصين القرآن، وقطع المنازعة، والاختلاف فيه) ليس بصحيح ولا شك في أن ابن مسعود كره إحراق المصاحف كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا فيه، وذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا، وما كره عبد الله من تحريم قراءته، وقصر الناس على قراءة غير إلا مكروها، وهو الذي يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد).

وروى عن ابن عباس أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعرض عليه القرآن في كل سنة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عليه السلام عرض عليه دفعتين، وشهد عبد الله ما نسخ منه، وما صح فهي القراءة الأخيرة.

وروى شريك عن الأعمش قال: قال ابن مسعود: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وآله سبعين سورة، وأن زيد بن ثابت لغلام يهودي في الكتاب له ذؤابة.

فأما اختلاف الناس في القراءة والأحرف فليس بموجب لما صنعه عثمان لأنهم يروون أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف) فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح؟ فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي صلى الله عليه وآله في الأصل إلا القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته، من حيث كان

الصفحة 285 

مؤيدا بالوحي، موفقا في كل ما يأتي ويذر، وليس له أن يقول: (حدث من الاختلاف في أيامه ما لم يكن في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا من جملة ما أباحه، وذلك أن الأمر لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة، والأمر المبتدع، ولا يحمله ما حدث من القراءة على تحريم المتقدم المباح بلا شبهة.

وقول صاحب الكتاب: (إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول صلى الله عليه وآله فعله) فتعلل بالباطل منه، وكيف يكون ما ادعى وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما نهى عنه؟ فلو كان سببا لانتشار الزيادة في القرآن وفي قطعه تحصين له لكان عليه السلام بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره اللهم إلا أن يقال: إنه حدث اختلاف لم يكن، فقد قلنا: (إن عمر كان قد عزم على ذلك فمات دونه) فما سمعناه إلا منه فلو فعل ذلك أي فاعل لكان ذلك منكرا.

فأما اعتذاره من (أن إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين) بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار والكفر فبين الأمرين بون بعيد، لأن البنيان إنما يكون مسجدا وبيتا لله تعالى بنية الباني وقصده ولولا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض، ولما كان قصده في الموضع الذي ذكره غير القربة والعبادة، بل خلافها وضدها من الفساد والمكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا وإن سمي بذلك مجازا، وعلى ظاهر الأمر فهدمه لا حرج فيه، وليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف، فأي نسبة بين الأمرين؟

فأما حكايته عن الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه،

الصفحة 286 

فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة، وأنه لم يكن فيمن يحرج دينه، ويطعن في إيمانه بأمر يعود إلى منفعة الدنيا، وإن كان عزله بمن لا يشبهه في دين ولا أمانة عيبا لا يشك فيه أحد من المخلصين.

قال صاحب الكتاب: (فأما ما طعنوا به من ضربه عمارا حتى صار به فتق، فقد قال شيخنا أبو علي: إن ذلك غير ثابت ولو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يجب أن يكون طعنا، لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك، ومما يبعد صحة ذلك، أن عمارا لا يجوز أن يكفره، ولما يقع منه ما يستوجب الكفر، لأن الذي يكفر به الكافر معلوم، ولأنه لو كان قد وقع ذلك منه لكان غيره من الصحابة أولى بذلك، ولوجب أن يجتمعا على خلعه، ولوجب أن لا يكون قتله لهم مباحا، بل كان يجب أن يقيموا إماما يقتله على ما قدمنا القول فيه، وليس لأحد أن يقول إنما كفره من حيث وثب على الخلافة ولم يكن لها أهلا، لأنا قد بينا القول في ذلك ولأنه كان مصوبا لأبي بكر وعمر على ما قدمنا من قبل، وقد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان وروي أن عمارا نازع الحسن عليه السلام في أمره فقال عمار: قتل عثمان كافرا، وقال الحسن عليه السلام: قتل مؤمنا وتعلق بعضهما ببعض، فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال ماذا تريد من ابن أخيك؟

فقال: إني قلت كذا، وقال الحسن عليه السلام كذا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام أتكفر برب كان يؤمن به عثمان؟ فسكت عمار (1)).

وحكي عن خياط (2) (إن عثمان لما نقم عليه ضربه لعمار

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 54.

(2) ما حكاه عن الخياط ساقط من " المغني ".

الصفحة 287 

احتج لنفسه، فقال:

جاءني سعد وعمار، فأرسلا إلي أن ائتنا، فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها، فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعدكما يوم كذا، فانصرف سعد، وأبى عمار أن ينصرف، فأعدت الرسول إليه، فأبى أن ينصرف، فتناوله بعض غلماني بغير أمري، ووالله ما أمرت به ولا رضيت، وها أنا فليقتص مني، قال وهذا من أنصف القول وأعدله) وحكي عن أبي علي في نفي أبي ذر إلى الربذة (أن الناس اختلفوا في أمره فروي عنه أنه قيل لأبي ذر: عثمان أنزلك الربذة؟ فقال: لا بل اخترت لنفسي ذلك، وروي أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام فكتب إليه عثمان أن صيره إلى المدينة (1) فلما صار إليها:

قال: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأني سمعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها) فلذلك خرجت، قال: فأي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ فقال:

الربذة فقال: صر إليها، وإذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة ولو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرج إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين، فلا يكون ظلما لأبي ذر، بل ربما يكون إشفاقا عليه وخوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه، فقد روي أنه كان يغلظ في القول ويخشن في الكلام، ويقول: لم يبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على ما عهدهم وينفر عنهم بهذا القول، فرأى أن إخراجه أصلح لما يرجع إليهم وإليه من المصلحة وإلى الدين، وقد روي أن عمر أخرج عن المدينة

____________

(1) في المغني " أن صيره إلى الخدمة " ولا أدري كيف غفل المحقق والمراجعون والمشرفون عن هذا التصحيف!!

الصفحة 288 

نصر بن حجاج (1) لما خاف ناحيته) قال: (وندب الله تعالى إلى خفض الجناح للمؤمنين، وإلى القول اللين للكافرين، وبين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله، فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر وما كان يورده مما يخشى منه التنفير فعل ما فعل (2)).

قال: (وقد روي عن زيد بن وهب (3) قال: قلت: لأبي ذر وهو بالربذة، ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: أخبرك أني كنت بالشام فتذاكرت أنا ومعاوية وقد ذكرت هذه الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا

____________

(1) نصر بن حجاج السلمي من أولاد الصحابة، كان من أحسن الناس شعرا، وأصبحهم وجها فأمره عمر - لما سمع امرأة تتغنى به - أن يطم شعره ففعل فظهرت جبهته فازداد حسنا، فأمره أن يعتم فازداد حسنا فصيره إلى البصرة مخافة أن تفتن به النساء، فهوته بالبصرة امرأة مجاشع بن مسعود خليفة أبي موسى الأشعري والي البصرة فلما علم أبو موسى يره إلى بلاد فارس، فخرج وكان عليها عثمان بن أبي العاص، وأراد عثمان أن يخرجه من ولايته فقال: " والله لئن فعلتم بي هذا لألحقن بأرض الشرك فكتب بذلك إلى عمر فكتب: احلقوا شعره، وشمروا قميصه وألزموه المسجد (انظر الإصابة حرف النون ق 2) واتخذ من ذلك الطاعنون على عمر (رض) ذريعة للنقد وزعموا: إن في ذلك نوعا من الظلم وكيف لم يخش على نساء البصرة كما خشي على نساء المدينة، وإنه لو بقي تحت مراقبته لكان أولى من إبعاده وعلى كل حال فهو أدرى بما فعل، وإلى الله مثال الأمور.

(2) المغني " فأورده ما أورده ".

(3) زيد بن وهب الجهني أدرك الجاهلية والاسلام، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهاجر إليه فبلغته وفاته في الطريق فهو معدود من كبار التابعين سكن الكوفة وكان في الجيش الذي مع علي عليه السلام في حربه الخوارج وهو أول من جمع خطب علي عليه السلام في الجمع والأعياد وغيرهما توفي سنة 96 وقد عمر طويلا (اتقان المقال ص 192، أسد الغابة 2 / 42 الإصابة 1 / 597، حرف الزاي ق 3).

الصفحة 289 

ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (1) فقال معاوية: هذه في أهل الكتاب فقلت: فيهم وفينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلى أن أقدم علي، فقدمت عليه، فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني وقال: إن أحببت انزل حيث شئت فنزلت (2) الربذة) وحكي عن الخياط قريبا مما تقدم من أن خروج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره قال: * (وأقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح ونرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله) * (3) يقال له: قد وجدناك في قصة عثمان وعمار بين أمرين مختلفين بين دفع لما روي من ضربه، وبين اعتراف بذلك، وتأول له واعتذار منه، بأن التأدب المستحق لا حرج فيه، ونحن نتكلم على الأمرين: أما الدفع لضرب عمار فهو كالانكار لوجود أحد يسمى عمارا، ولطلوع الشمس ظهورا وانتشارا وكل من قرأ الأخبار وتصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة، وهذا الفعل يعني ضرب عمار لم يختلف الرواة فيه، وإنما اختلفوا في سببه، فروى عباس عن هشام الكلبي عن أبي مخنف في إسناده قال كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه، فخطب فقال:

لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام، فقال له علي عليه السلام: " إذا تمنع ذلك ويحال بينك وبينه " فقال عمار: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك، فقال عثمان أعلي يا ابن ياسر وسمية تجترئ؟

____________

(1) التوبة: 34.

(2) المغني 20 ق 2 / 55.

(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

الصفحة 290 

خذوه فأخذوه فدخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج فحمل إلى منزل أم سلمة زوج النبي رحمة الله عليها فلم يصل الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله، فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته، وأما نحن فاجترأت علينا، وضربت أخانا حتى أشفيت به (1) على التلف، أما والله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم السيرة، فقال عثمان: وإنك لها هنا ابن القسرية قال: فإنهما قسريتان وكانت أمه وجدته قسريتين بجيلة، فشتمه عثمان، وأمره به فأخرج، فأتي به أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار، وبلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله ونعلا من نعاله، وثوبا من ثيابه، وقالت: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه، ونعله لم يبل بعد.

وروى آخرون: أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل: عبد الله بن مسعود، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق.

وروى آخرون: أن المقداد وطلحة والزبير وعمارا وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان، وخوفوه ربه، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع، فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأه منه صدرا، فقال عثمان: أعلي تقدم من بينهم؟

فقال: لأني أنصحهم لك، فقال: كذبت يا ابن سمية، فقال أنا والله ابن سمية (2) وأنا ابن ياسر فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه، فضربه

____________

(1) أشفيت به: أشرفت به على الهلاك.

(2) سمية بنت حناط - بالنون بعد الحاء المهملة، أو بالباء بعد الخاء المعجمة - أم عمار بن ياسر كانت من السابقين إلى الاسلام، وممن يعذب في الله أشد العذاب، طعنها أبو جهل بحربة فقتلها فكانت أول شهيدة في الاسلام وكان ذلك قبل الهجرة (انظر أسد الغابة 5 / 481).

الصفحة 291 

عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق، وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه، فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة، وإنما اختلفوا في سببه، والخبر الذي رواه صاحب الكتاب وحكاه عن الخياط ما نعرفه، وكتب السير المعروفة خالية منه، ومن نظيره، وقد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذه منه، فإن قوله وقول من أسند إليه ليسا بحجة، ولو كان صحيحيا لكان يجب أن يقول بدل قوله: ها أنا فليقتص مني وإذا كان ما أمر بذلك ولا رضيه، وإنما ضربه الغلام: هذا الغلام الجاني فليقتص منه، فإنه أولى وأعدل، وبعد فلا تنافي بين الروايتين ولو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال أخرى، والروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شئ منها.

فأما قوله: (إن عمارا لا يجوز أن يكفره، ولم يقع منه ما يوجب الكفر) فإن تكفير عمار له معروف، قد جاءت به الروايات، وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أن عمار كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع، وأنا شر الأربعة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (1)) وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله.

وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة، إنه قيل له بأي شئ أكفرتم عثمان؟ قال: بثلاثة جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة من حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله، وروي عن حذيفة أنه كان

____________

(1) المائدة / 44.

الصفحة 292 

يقول ما في عثمان بحمد الله أشك، لكنني أشك في قاتله أكافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله؟ وهو أفضل المؤمنين إيمانا.

فأما ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عمارا في ذلك وترافعهما فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل هو شاهد من قوله بذلك، وإن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا أعلم من لحن كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وعدوله عن أن يقضي بينهما بصريح القول، أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار لما فهم من غرضه، فأما قوله: (لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبي بكر وعمر ولما تقدم من كلامه في ذلك) (1) فلا بد إذا حملنا تكفير عمار للرجل على الصحة من هذا الوجه أن يكون عمار غير مصوب للرجلين على ما ادعى وقد تقدم من الكلام في هذا المعنى ما يأتي على ما أحال عليه صاحب الكتاب من كلامه.

فأما قوله عن أبي علي (إنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقول فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك) فقد كان يجب أن يستوحش صاحب الكتاب، أو من حكى كلامه من أبي علي وغيره من أن يعتذر من ضرب عمار ووقذه (2) حتى لحقه من الغشى ما ترك له الصلاة، ووطئه بالأقدام امتهانا واستخفافا - بشئ من العذر فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال فيه: (عمار جلدة ما بين العين والأنف ومتى تنكأ (3) الجلد تدم

____________

(1) في شرح نهج البلاغة " فإنا لا نسلم له أن عمار كان مصوبا لهما ".

(2) وقذه: ضربه حتى استرخى، وأشرف على الموت، ومنه الموقوذة وهي:

الشاة التي تقتل بالخشب.

(3) نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.

الصفحة 293 

الأنف) وروي أنه قال: (ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (1)) وروى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عادى عمار عاداه الله، ومن أبغض عمار أبغضه (2) الله) وأي كلام غليظ سمعه من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم، الذي يتجاوز المقدار الذي فرضه الله تعالى في الحدود وإنما كان عمار وغيره أثبتوا عليه إحداثه ومعائبه أحيانا على ما يظهر من سئ أفعاله، وقد كان يجب عليه أحد الأمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال، أو أن يبين عذره فيها أو براءته منها ما يظهر وينتشر ويشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه وتفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره ولا يقدم على ما تفعله الجبابرة والأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى، وحكم به.

فأما قوله: (إن الأخبار متكافئة في أمر أبي ذر وإخراجه إلى الربذة، وهل كان ذلك باختياره أو بغير اختياره) فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك، بل المعروف الظاهر، أنه نفاه من المدينة إلى الشام فاستقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة، وقد روى جميع أهل السيرة على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص

____________

(1) يظهر مما أخرجه ابن هشام في السيرة 2 / 115 أن هذا الحديث والذي قبله حديث واحد، أو أنه صلى الله عليه وآله قال ذلك في أكثر من موطن كما يبدو من المسانيد الأخرى.

(2) في الإصابة ق 1 من حرف العين بترجمة عمار: عن خالد بن الوليد قال:

كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وآله فجاء خالد فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه فقال: (من عادى عمارا عاداه الله...

الحديث).

الصفحة 294 

ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: بشر الكافرين بعذاب أليم ويتلو قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (1) فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه، أن انته عما يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير من أن أرضي عثمان بسخط الله فاغضب عثمان ذلك واحفظه، فتصابر.

وقال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضاه؟

فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهوديين (2) أتعلمنا ديننا! فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي إلحق بالشام، فأخرجه إليها، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة. وإن كان من مالك فهو الإسراف، وكان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيى وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن

____________

(1) التوبة / 34.

(2) يا بن اليهودي، خ ل.

الصفحة 295 

مسلمة الفهري (1) لمعاوية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله إن كانت لكم فيه حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد، فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه به مع من سار به الليل والنهار، وحمل على شارف (2) ليس عليها إلا قتب (3) حتى قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان بأن الحق بأي أرض شئت، فقال: بمكة؟ قال: لا، قال:

فببيت المقدس؟ قال: لا، قال: فبأحد المصرين (4) قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات رحمه الله.

وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان، فقال له: لا أنعم الله عينا يا جنيدب، فقال أبو ذر: أنا جندب وسماني رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله، فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول: إن يد الله مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء، فقال أبو ذر: ولو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا (5) وعباد الله خولا ودين الله دخلا، ثم يريح الله العباد منهم)

____________

(1) حبيب بن مسلمة الفهري الحجازي، نزل الشام، قال البخاري: له صحبه، يقال له: حبيب الروم لكثرة جهاده فيهم، قال ابن سعد: لم يزل مع معاوية في حروبه، ووجهه إلى إرمينية واليا فمات بها سنة 42 ولم يبلغ الخمسين (انظر الإصابة حرف الحاء ق 1).

(2) الشارف: البعير المسن الهزيل.

(3) القتب: الأكاف الصغير على قدر سنام الناقة.

(4) أي الكوفة والبصرة.

(5) الدول " ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك ويطلق على المال والغلبة.

والحديث.

 

 

 

 

الصفحة 296 

فقال عثمان لمن حضره أسمعتموها من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال أبو ذر لمن حضره أما تظنون أني صدقت؟ فقال عثمان ادعوا لي عليا، فلما جاء، قال عثمان لأبي ذر:

أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فحدثه فقال عثمان لعلي عليه السلام هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال علي عليه السلام: لا، وقد صدق أبو ذر، فقال عثمان: كيف عرفت صدقه؟ قال: " لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

(ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (1) "، فقال: من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله جميعا: صدق أبو ذر، فقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تتهموني، ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان (2) مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟ قال أبو ذر: إني نصحتك، فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني، فقال عثمان: كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد قلبت الشام علينا، فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكون لأحد عليك كلام، فقال له عثمان: مالك ولذلك لا أم لك؟ فقال أبو ذر: والله ما

____________

(1) حديث (ما أظلت الخضراء...) تقدم تخريجه.

(2) صهبان لعله مولى العباس بن عبد المطلب (انظر تاريخ البخاري 4 / 316).

الصفحة 297 

وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان، وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من الأرض فتكلم علي عليه السلام وكان حاضرا فقال: " أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون (فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (1)) فأجابه عثمان بجواب غليظ لم أحب أن أذكره، وأجابه علي عليه السلام بمثله.

ثم إن عثمان حظر (2) على الناس يقاعدوا أبا ذر ويكلموه، فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به، وقف بين يديه، قال: ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر، هل رأيت هذا هديهم إنك تبطش بي بطش جبار! فقال اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر: فما أبغض إلى جوارك، قال: فإلى أين اخرج، قال: حيث شئت. قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد، فقال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفاردك إليها قال: أفأخرج إلى العراق، قال: لا، قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبه، وطعن على الأئمة، قال: فأخرج إلى مصر؟ قال: لا قال أين أخرج؟ قال: حيث شئت، فقال أبو ذر: وهو أيضا التعرب بعد الهجرة. أخرج إلى نجد، فقال عثمان: الشرف الشرف (3) الأبعد، أقصى فأقصى فقال أبو ذر قد أبيت ذلك علي، قال: أمض على وجهك هذا ولا تعدون الربذة،

____________

(1) غافر: 28.

(2) حظر عليهم: منعهم.

(3) الشرف: كبد نجد وقد تقدم.

الصفحة 298 

وروى الواقدي عن مالك بن أبي الرحال عن موسى بن ميسرة، أن أبا الأسود الدؤلي، قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت به الربذة، فقلت له: ألا تخبرني خرجت من المدينة طائعا أو أخرجت قال أما إني كنت في ثغر من الثغور أغنى عنهم، فأخرجت إلى مدينة الرسول فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت منها إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضربني برجله فقال: (لا أراك نائما في المسجد) فقلت: بأبي أنت وأمي غلبتني عيني فنمت فيه، فقال: (كيف تصنع إذا أخرجوك منه)؟ فقلت: إذا الحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض بقية الاسلام، وأرض الجهاد، فقال: (كيف بك إذا أخرجوك منها)؟

قال: فقلت: أرجع إلى المسجد، قال: (كيف تصنع إذا أخرجوك منه) قلت: آخذ سيفي فأضرب به، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله:

(ألا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع) فسمعت وأطعت، وأنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي، وكان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا، وكان يقول فيها:

ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.

والأخبار في هذا الباب أكثر من أن نحصرها. وأوسع من أن نذكرها. وما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر، ولسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب الكتاب من أنه خرج مختارا قد روي، إلا أنه من الشاذ النادر، وبإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها ومن تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب الكتاب، وكيف يجوز خروجه عن تخيير؟ وإنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب، وقبح السير به للوجد عليه، ثم لما قدم منع الناس من كلامه، وأغلظ له في القول، وكل هذا

الصفحة 299 

لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الربذة باختياره، وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يحب أن يختار الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات؟ ولم يكن بمنزل مثله.

فأما قوله: (إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه، من حيث كان يغلظ له القول) فليس بشئ يعول عليه لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله، عاتبا بمثل عتبه، إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه، ومخف ما عنده، وما في أهل المدينة إلا من رثى مما حدث على أبي ذر واستفظعه، ومن رجع إلى كتب السير عرف ما ذكرناه.

وأما قوله: (إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج) فما بعد ما بين الأمرين، وما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر وهو وجه الصحابة وعينهم، ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا، وبين نصر ابن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به وبشبابه، ولاحظ له في فضل ولا دين، على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه، وإذا كان من أخرج نصر بن الحجاج مذموما، فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه الله تعالى؟!

فأما قوله: (إن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله ندبا إلى خفض الجناح، ولين القول للمؤمن والكافر، فهو كما قال، إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر، ولا يقابله بالتكذيب، وقد قطع الرسول صلى الله عليه وآله على صدقه، ولا يسمعه مكروه الكلام، وإنما هو نصح له، وأهدى إليه عيوبه، وعاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا والآخرة، وهذه جملة كافية.

الصفحة 300 

قال صاحب الكتاب: (فأما جمعه الناس على قراءة واحدة، فقد بينا أن ذلك من عظيم ما خص (1) بها القرآن، لأنه مع هذا الصنيع قد وقع فيه من الاختلاف، ما وقع، فكيف لو لم يفعل ذلك، ولم لم يكن فيه إلا إطباق الجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا، لكان كافيا).

ثم ذكر ما نسب إليه من تعطيل الحد في الهرمزان وحكي عن أبي علي (إنه لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه، والإمام ولي من لا ولي له، وللولي أن يعفو كما له أن يقتل، وقد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا إلى ذلك).

قال: (وإنما أراد عثمان * بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين، لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله، فيقال قتلوا إمامهم وقتلوا ولده ولا يعرفون الحال في ذلك، فيكون شماتة (2) * وحكي عن الخياط (3) أن عامة المهاجرين أجمعوا على ألا يقاد بالهرمزان، وقالوا: هو دم سفك في غير ولايتك، فليس له ولي يطلب به، وأمره إلى الإمام، فاقبل منه الدية، فذلك صلاح المسلمين).

قال: (ولم يثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله بالهرمزان، لأنه لا يجوز قتل من قد عفى عنه ولي المقتول، وإنما كان يطلبه ليضع من قدره ويصغر من شأنه).

____________

(1) غ " خص ".

ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) حكاية الخياط ساقطة من " المغني ".

الصفحة 301 

قال: (ويجوز أن يكون ما روي عن علي عليه السلام أنه قال:

" لو كنت بدل عثمان لقتلته " يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد أو أقرب إلى التشدد في دين الله).

قال: (فأما ما يروون (1) أن عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن، وجعلهم ذلك طعنا (2) فليس بثابت، ولو صح ذلك لكان طعنا على من لزمه القيام به) وحكي عن أبي علي (أنه لم يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام خوفا على الاسلام من الفتنة فيؤخر وقته) قال: (وبعيد مع حضور قريش وقبائل العرب وسائر بني أمية ومواليهم أن يترك عثمان فلا يدفن في هذه المدة، ويبعد أن يكون أمير المؤمنين لا يتقدم بدفنه فلو مات في جواره يهودي أو نصراني ولم يكن له من يواريه ما تركه ألا يدفن، فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان، وقد روي أنه دفن في تلك الليلة وهو الأولى) قال: (فأما تعلقهم، بأن الصحابة لم تنكر على القوم، ولا دفعت عنه، فقد بينا ما يسقط كل ذلك، وبينا أن الصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام تبرؤه عن (3) قتل عثمان، ولعنه قتلته في البر والبحر، والسهل والجبل (4) وإنما كان يجري من حديثه (5) هذا القول على وجه المجاز، لأنا نعلم أن جميع من كان يقول: نحن قتلناه، لم يقتله، لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك، والذين دخلوا عليه وقتلوه هم نفسان أو ثلاثة وإنما كانوا يريدون بهذا القول احسبوا أنا قتلناه فما بالكم وهذا الكلام لأن الإمام هو الذي يقوم بأمر الدين

____________

(1) غ " ما يروى ".

(2) في المغني " فعلى ما بيناه إن صح كان طعنا على من لزمه القيام به ".

(3) غ " من ".

(4) " السهل والجبل " ساقطة من المغني.

(5) حيث خ ل.

الصفحة 302 

في القود وغيره، وليس للخارج عليه أن يطالب بذلك ولم يكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن يقتل قتلته، ولو عرفهم ببينة أو إقرار، وميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم [ فأما على جهة الابتداء فلم يكن ] (1) والذين كانوا أولياء الدم لم يكونوا يطالبونه، ولا كانت صفتهم صفة من يطالب، لأنهم كلهم، أو بعضهم يدعون أن عليا عليه السلام (2) قتله، وأنه ليس بإمام، ولا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود، فلذلك لم يقتلهم [ أمير المؤمنين (3) ] هذا لو صح أنه كان يميزهم. فكيف وذلك غير صحيح.

فأما ما روي عنه من قوله عليه السلام (قتله الله وأنا معه) فإن صح فمعناه مستقيم، يريد أن الله أماته ويميتني (4) معه، وسائر العباد.

ثم قال: (وكيف يقول ذلك وعثمان مات مقتولا من جهة المكلفين).

ثم أجاب: (بأنه وإن قتل فالإماتة من قبله تعالى (2) ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة، فإذا مات صحت الإماتة (6) على طريق الحقيقة).

يقال له: أما ما اعتذرت به من جمع الناس على قراءة واحدة فقد مضى الكلام عليه مستقصى وبينا أن ذلك ليس تحصينا للقرآن ولو كان

____________

(1) الزيادة من المغني.

(2) لفظة " قتله " ساقطة من نقل ابن أبي الحديد.

(3) الزيادة من المغني.

(4) ش " سيميتني ".

(5) غ " من فعل الله تعالى " (-).

(6) غ " الإضافة ".

الصفحة 303 

تحصينا لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبيح القراءات المختلفة.

وقوله: (لو لم يكن فيه إلا إطباق الجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا) ليس بشئ، لأنا نجد الاختلاف في القراءة والرجوع فيها إلى الحروف مستمرا في جميع الأوقات التي ذكرها إلى وقتنا هذا وليس نجد المسلمين يوجبون على أحد التمسك بحرف واحد، فكيف يدعي إجماع الجميع على ما أتاه عثمان؟

فإن قال: لم أعن بجمعه الناس على قراءة واحدة إلا أنه جمعهم على مصحف زيد، لأن ما عداه من المصاحف كان يتضمن من الزيادة والنقصان مما عداه ما هو منكر.

قيل له: هذا بخلاف ما تضمنه ظاهر كلامك أولا، ولا تخلو تلك المصاحف التي تعدو مصحف زيد من أن تتضمن من الخلاف في الألفاظ والكلم، ما أقر رسول الله صلى الله عليه وآله عليه، وأباح قراءته، فإن كان كذلك، فالكلام في الزيادة والنقصان يجري مجرى الكلام في الحروف المختلفة، وأن الخلاف إذا كان مباحا ومرويا عن الرسول ومنقولا فليس لأحد أن يحظره، وإن كانت هذه الزيادة والنقصان بخلاف ما أنزل الله تعالى، وما لم يبح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلاوته فهو سوء ثناء على القوم الذين يقرءون بهذه المصاحف كابن مسعود وغيره، وقد علمنا أنه لم يكن منهم إلا من كان علما في القراءة والثقة والإماتة والنزاهة، عن أن يقرأ بخلاف ما أنزل الله، وقد كان يجب أن يتقدم هذا الانكار منه ومن غيره ممن ولي الأمر قبله، لأن إنكار الزيادة في القرآن والنقصان لا يجوز تأخيره.

فأما الكلام في قتل الهرمزان، وفي العدول عن قتل قاتله، واعتذاره من ذلك بما اعتذر به من أنه لم يكن له ولي لأن الإمام ولي من لا ولي له،

الصفحة 304 

وله أن يعفو كما له أن يستوفي القود، فليس بشئ لأن الهرمزان رجل من أهل فارس، ولم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه وقد كان يجب أن يبذل الانصاف لأوليائه ويؤمنوا متى حضروا حتى إن كان له ولي يطالب حضر وطالب، ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه، وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم يقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينه أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة ابن شعبة بقتله، وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى، فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا وكذا مما ذكرناه، فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عنها، وعللهم، فلو كان هو ولي الدم على ما ذكره، لم يكن له أن يعفو، وأن يبطل حدا من حدود الله تعالى وأي شماتة للعدو في إقامة حدود الله تعالى، وإنما الشماتة كلها من أعداء الاسلام في تعطيل الحدود، وأي حرج في الجمع بين قتل الأب والابن حتى يقال: كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام وابنه قتلا، وإنما قتل أحدهما ظلما والآخر عدلا، أو أحدهما بغير أمر الله والآخر بأمر الله تعالى.

وقد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق، عن أبان ابن صالح أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله، ولم يكلمه أحد غيره، فقال: اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل امرءا مسلما، فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس واقتله اليوم، وإنما هو رجل من أهل الأرض، فلما أبي عليه مر عبيد الله على علي عليه السلام فقال له: (يا فاسق إيه أما والله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك) فلذلك خرج مع معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام.

وروى القناد، عن الحسن بن عيسى بن زيد، عن أبيه، أن

الصفحة 305 

المسلمين لما قال عثمان: إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر، قالوا:

ليس لك أن تعفو عنه، قال: بلى إنه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الاسلام، وأنا أولى بهما لأني ولي أمر المسلمين، وقد عفوت فقال علي عليه السلام: " أنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين، وإنما قتلهما في إمرة غيرك، وقد حكم الوالي الذي قبلك الذي قتلا في إمارته بقتله، ولو كان قتلهما في إمارتك، لم يكن لك العفو عنه، فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا " فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وابتنى بها دارا وأقطعه أرضا، وهي التي يقال لها كويفة (1) بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه.

وروي عن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله ابن عمر، حيث لم يقتله بالهرمزان.

فأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله، بل ليضع من قدره) (2) فهو بخلاف ما صرح به عليه السلام من أنه لم يكن إلا لضرب عنقه.

وبعد فإن ولي الدم إذا عفى عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به، ويضع من قدره، كما ليس له أن يقتله.

____________

(1) ما تقدم من كلام القاضي في هذا الباب نقله المرتضى بحذف ما لا يخل بالمعنى أو لا يرى طائلا في نقله ولا حاجة في إيراده (انظر المغني ج 2 ق 2 / 54 - 57).

(2) في معجم البلدان 7 / 304: كويفة ابن عمر منسوبة إلى عبيد الله بن عمر بن الخطاب، نزلها حين قتل بنت أبي لؤلؤة والهرمزان، وجفينة العبادي.

الصفحة 306 

وقوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه) فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا وقد بينا أنه غير مؤثر.

وقوله: (يجوز أن يكون عليه السلام ممن يرى قتله أقوى في الاجتهاد، وأقرب إلى التشدد في دين الله) فلا شك أنه كذلك. وهذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب، وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك. وإذا كان اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه.

وأما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن ليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة وليس يخالف في مثله أحد يعرف الرواية به. وقد ذكر ذلك الواقدي وغيره، وروي أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حيث حمل حتى حمل بين المغرب والعشاء، ولم يشهد جنازته غير مروان وثلاثة من مواليه ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة، وذكروه بأسوء الذكر، ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين عليه السلام المنع من دفنه وأمر أهله بتولي ذلك منه.

فأما قوله: (إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره) فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا عليه من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة، وفيها وجوه الصحابة من دفنه والصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح، ولأن أكثرهم وجمهورهم يعتقد ذلك. وهذا طعن لا شبهة فيه واستبعاد صاحب الكتاب لذلك، مع ظهور الرواية لا يلتفت إليه، فأما أمير المؤمنين عليه السلام واستبعاد صاحب الكتاب منه ألا يتقدم بدفنه، فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة ومراوضة (1).

____________

(1) غ " بعد مماكسته ومراوضته " وما في المتن أوجه.

الصفحة 307 

وأعجب من كل شئ قول صاحب الكتاب: (إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام) وأي شغل في البيعة يمنع من دفنه، والدفن فرض على الكفاية إذا قام به البعض وتشاغل الباقون بالبيعة لجاز، وليس الدفن ولا البيعة مفتقرة إلى تشاغل جميع المدينة بها، وبهذا الكلام من الضعف ما لا يخفى على متأمل.

فأما قوله: (إنه روي أن عثمان دفن في تلك الليلة) فما نعرف هذه الرواية، وقد كان يجب أن يسندها ويعزوها إلى راويها، والكتاب الذي أخذها منه، والذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه.

فأما إحالته على ما تقدم من كلامه في أن الصحابة لم تنكر على القوم [ المجلبين على عثمان (1) ] فقد بينا فساد ما أحال عليه ولا معنى لإعادته.

فأما روايته عن أمير المؤمنين تبروءه من قتل عثمان، ولعنه قتلته في البر والبحر والسهل والجبل، فلا شك في أنه عليه السلام كان بريئا من قتله، وقد روي أنه قال: " والله ما قتلته ولا مالأت في قتله " والممالاة هي المعاونة والموازرة، وقد صدق عليه السلام في أنه ما قتل ولا وازر على القتل.

فأما لعنه قتلته، فضعيف في الرواية، وإن كان قد روى فأظهر منه ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت، عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، قال: رأيت عليا عليه السلام على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قتل عثمان، وهو يقول: " ما أحببت قتله ولا كرهته ولا

____________

(1) ما بين الحاصرتين من (شرح نهج البلاغة).

الصفحة 308 

أمرت به ولا نهيت عنه " وقد روى محمد بن سعد عن عفان عن جوين بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا عليه السلام يقول وهو يخطب فذكر عثمان وقال: " والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته ولا مالأت على قتله، ولا سائني " ورواه ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا عليه السلام يقول: " من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه " وقد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة، وقد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال:

قلت لابن عباس: إن أبي أخبرني أنه سمع عليا عليه السلام يقول:

" ألا من كان سائلي عن دم عثمان، فإن الله قتله وأنا معه " فقال: صدق أبوك، هل تدري ما يعني بقوله، إنما عني أن الله قتله وأنا مع الله؟.

فإن قيل: كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار؟

قلنا: لا تنافي بين الجميع لأنه تبرأ من مباشرة قتله والمؤازرة عليه، ثم قال: " ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه " يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي ولم يكن مني قول في ذلك ولا نهي.

فأما قوله: " الله قتله وأنا معه " فيجوز أن يكون المراد الله حكم بقتله وأوجبه وأنا كذلك لأن من المعلوم أن الله لم يقتله على الحقيقة، فإضافة القتل إلى الله لا تكون إلا بمعنى الحكم والرضا، وليس يمنع أن يكون مما حكم الله به ما لم يتوله بنفسه، ولا آزر عليه، ولا شايع فيه.

فإن قال: هذا ينافي ما روي عنه " ما أحببت قتله ولا كرهته " وكيف يكون من حكم الله وفي حكمه بأن يقتل وهو لا يحب قتله.

قلنا يجوز: أن يريد بقوله: ما أحببت قتله ولا كرهته، أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل ولا خطر لي ببال، وإن كان على سبيل الجملة يجب قتل من غلب على أمور المسلمين، وطالبوه بأن يعزل لأنه بغير حق

الصفحة 309 

مستول عليهم، فامتنع من ذلك ويكون فائدة هذا الكلام التبروء من مباشرة قتله، والأمر به على سبيل التفضيل، أو النهي، ويجوز أن يريد إنني ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل، ولم يقع على سبيل الممانعة، وهو غير مقصود ويريد بقوله: ما كرهته، إني لم أكرهه على كل حال ومن كل وجه.

فأما لعنه قتلته فقد بينا أن ذلك ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه، فإن صح وهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له، وقصد إليه وغير ذلك، على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي (1) وسودان بن حمران المرادي (2) وما منهما من كان غرضه في القتل صحيحا، ولا له أن يقدم عليه فهو ملعون به.

فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله، وإنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته، قال يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد، فقال محمد: إن أبي لو كان حيا ثم رآك تعمل هذا العمل لأنكره عليك، ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فخزت في جلده، ولم تقطع وبادره من ذكرناه بما كان فيه القتل.

فأما تأول صاحب الكتاب ما روي من قوله عليه السلام: " الله قتله وأنا معه " على (أن المراد به الله أماته وسيميتني معه) فبعيد من الصواب لأنه لفظة " أنا " لا تكون كناية عن المفعول وإنما تكون كناية عن

____________

(1) كنانة بن بشير التجيبي له إدراك شهد فتح مصر وقتل بفلسطين سنة 36 (انظر الإصابة حرف الكاف ق 1).

(2) سودان بن حمران المرادي (ممن شرك في قتل عثمان رضي الله عنه (انظر التاريخ لابن الأثير 3 / 155 و 158 و 178.

الصفحة 310 

الفاعل، ولو أراد ما ذكره لكان يقول: وإياي معه، وليس له أن يقول إنما يجعل قوله وأنا معه مبتدأ محذوف الخبر، ويكون تقدير كلامه وأنا معه مقتول، وذلك لأن هذا ترك للظاهر، وإحالة على ما ليس فيه، والكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقبل ظاهره به من غير تقدير وحذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف، على أنهم إذا جعلوه مبتدأ وقدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه، وجعل بدلا من لفظ المقتول المحذوف لفظ معين أو ظهير فإذا تكافأ القولان في التقدير وتعارضا سقطا ووجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا، وكيف يقال: إن الله أماته، والقتل كاف في انتقام الحياة، وليس يحتاج معه إلى ناف لحياة يسمى موتا.

وقول صاحب الكتاب: (ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة) فليس ذلك بجائز لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود حديد عظيم، وأن أحد قتلته قال: جلست على صدره فوجأته تسع وجاءات (1) علمت أنه مات في ثلاث منهن، ولكن وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق والغيظ.

وبعد، فإذا كان ذلك جائزا من أين علمه أمير المؤمنين عليه السلام حتى يقول: الله أماته وإن الحياة لم تنتف بما فعلت القتلة، وإنما انتفت بشئ زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على التفصيل إلا الله علام الغيوب تعالى وهذا واضح لمن تأمله (2).

____________

(1) ش " طعنات ".

(2) كلام القاضي في أمر عثمان (رض) ورد المرتضى عليه، نقله ابن أبي الحديد عن الشافي في شرح نهج البلاغة ج 2 / 324 فما بعدها و ج 3 ص 3 - 69 ولكنه قطع كلام القاضي فصولا جعل في قبال كل فصل نقض المرتضى له مع اختلاف في بعض الحروف والكلمات.